الخميس، 9 يونيو 2011

طبائع الاستبداد، طبائع الاستملاك، وطبائع الاستهلاك …. هبة رؤوف عزت


كتبت سابقا منذ أسبوعين عن فوائض الثروة والقوة والوهم، وانعكاساتها في السياسة والاقتصاد، وأجد أنه يمكن أن نرد هذه المفاهيم لمقولات أعمق تنفك عن الأيدلوجيات المعاصرة التي أشرت لها من رأسمالية وماركسية، أو نظم كالاستبداد، هذه المقولات ترتبط برؤية العالم ولا تنفك عن تجليات ذلك في الاجتماع السياسي، فواقع الناس تصوغه أفكارهم عن الكون الحياة وفلسفة الوجود، حتى وان لم يفلحوا في التعبير عن ذلك بمصطلحات فلسفية أو خطابات فكرية معقدة.
والنظريات تنبني على هذا الواقع كي تتمكن - عبر التظير والتجريد - من تفسير تحولات الواقع، ما بين اليومي والتاريخ، والواقع المُعاش وعالم الفكر تتولد المعاني.

وقد نظرت في أمر الاستبداد الذي يتحرك في فراغ يخلقه تراجع الناس عن ممارسة حقوقهم والدفاع عنها، فيملأ بالقوة مساحات الاجتماع والسياسة، فهو لا يكتفي بالحكم والجبروت بل يخلق ثقافة تستخف بالقوم فيطيعوا كما ذكر القرآن.
من هنا كان من أهم الكتب التي رصدت هذا التوازي بين نظم الاستبداد وثقافة الشعوب المستبد بها كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي الذي توفي رحمه الله مع مطلع القرن العشرين. وقد رصد أنواع الاستبداد التي تسري في الأمم، منها استبداد القوي بالضعيف، واستبداد الجهل على العلم، والنفس على العقل.

ورصد كيف يمكن أن يستخدم الدين غطاء للاستبداد، فقد وجد أن التاريخ يدلنا على أن البعض استبد حتى كاد يزعم الألوهية بقدراستعداد أذهان الرعية، لذا وجد اصلاح الدين أول خطوة لاصلاح السياسة لأنه يغير الوعي، وكذلك العلم، فالاستبداد يرتع حيث تستشري الجهالة. وقد ربط بين الاستبداد والمال، وخلق نخب حول الساسة، فالأغنياء أعداء الاستبداد فكرا لكنهم أعوانه عملا، فالمال يذل الغني طمعا في الحفاظ عليه وهو يذل الفقير طمعا في تحصيله. واعتبر التربية مفتاح الاستبداد، فمن ينشأ على الخضوع والهوان في المجتمع يسهل عليه تقبل الهوان في السياسة. ورأى الحل في الأخلاق والتربية وبث الوعي ثم التغيير في الأنظمة كي تتحقق الحرية عبر آليات الشورى الدستورية.
لكن كتاب الكواكبي لم يدلني على تفسير كاف لأنظمة الاقتصاد الرعوي التي تقوم على كفاية حاجات الناس فينصرفون عن مقاومة الاستبداد، فهو استبداد بخيوط حريرية تارة وبقبضة حديدية تارة أخرى، جاهزة للتنكيل وقادرة على التحكم، توظف الدين تارة والعصبيات تارة أخرى، وتخلق طائفية وتدير نوازع جاهلية.

كنت أبحث عن المفهوم المفتاح، الذي ينظم شتات ظواهر متنوعة في عالم أكثر تعقيدا من عالم الكواكبي بعد مرور قرن وصعود مدن واكتشاف النفط وطغيان العولمة.
لذا قرأت باهتمام كتاب الصديق البحريني الفذ الدكتور نادر كاظم «طبائع الاستملاك»، وأنا أرى أن هذا من أفضل الكتب التي أنتجها العقل العربي في القرن الأخير، ليس لاحاطته بظواهر عدة ولا لطول واطنابه، فالكتاب متوسط الحجم متوفر على موضوع محدد، وهذا منبع عبقريته، فقد وضع يده على ذلك المفهوم الناظم الذي يحمله العنوان، هذا المفهوم الذي يبني على الكواكبي… ويكمل المعنى… ويمكننا من الفهم والتفسير.

والكتاب على رغم انطلاقه من الحالة البحرينية إلا أنه قد أفلح في الامساك بتلابيب فكرة مركزية منطق الهيمنة من ناحية وأدواتها من ناحية أخرى، والاستملاك هنا هو الدافع وراء التنافس بين الجماعات، ووراء هيمنة نخب سياسية على غيرها من الجماعات والفرق والطوائف التي يضمها وطن ما، واستملاك «ما هو غير قابل للاستملاك» على وجه التحديد، ليس الثروة فقط بل المجال العام والخطاب العام والقيم العامة، واحتكارها، ودائرة الحقوق الانسانية والقيم المشتركة والدولة ذاتها وكل ما هو عام.
ومن هنا تمثيل الآخر بصورة مشوهة تقتضي عدم أحقيته في التواصل الاجتماعي أو الشراكة السياسية. والأمر يتجاوز الاستئثار الاقتصادي بالثروة إلى ما هو أبعد، إلى الطبائع والثقافة، كي يتمكن الاستبداد من تحقيق ذلك عبر تكريس هذه الطبائع، فيتم التصنيف الأيديولوجي والعقائدي والمذهبي والقبلي والطائفي.
عبقرية نموذج التحليل الذي قدمه نادر كاظم أنه يأتي من أصغر وحدات العالم العربي حجما، لكنه يبني تصورا يصلح لتفسير تحولات كثير من الدول الكبرى، ويفكك الملتبس ويربط التجليات المتناثرة في عقد فريد.

ولعل هذا دأب التحليل الثقافي الذي يقوم على الملاحظة والولع بالأنثروبولوجيا الذي لدى نادر كاظم، فعينه لاقطة وعقليته قادرة على أن تركب من التفاصيل رؤية كلية جلية، وهو بتخصصه في اللغة يضع الأفكار وينظم منها رؤية كلية كما تنظم حروف اللغة كلمة ثم جملة ثم نصا… فيتضح المعنى.
وقد تأملت في طبائع الاستبداد وطبائع الاستملاك، فوجدت الثلاثية تكتمل بطبائع الاستهلاك، فصورة استملاك ما لا يمكن استملاكه والاستبداد بمن لا ينبغي الاستبداد به يكملها استهلاك ما لا يحل استهلاكه… وبالأساس مساحات الوطن. وهو استهلاك يجعل الأرض سلعة، ويحول الوطن لمشروع استثماري، ولحساب جارٍ، فإن وقف شيء في وجه ذلك تم تجريفه، بما في ذلك التاريخ.

وكي يمكن تسويغ ذلك وتمريره تنتشر طبائع الاستهلاك المباشرة، وتغمر الأسواق مساحات الاجتماع، وتضحى هي نقاط التلاقي الأساسية بين الناس ومحور حياتهم اليومية، لا ليشهد الناس منافع لهم، بل ليدوروا حول ذواتهم المحدودة ويشبعوا نهمهم وشهواتهم، فينصرفون بذلك عن التمدن والعمران، وتحصيل الحقوق بالنضال و»الدفع»، ويركنون إلى التسوق و»الدفع».
وحين تكتمل حلقات طبائع الاستبداد وطبائع الاستملاك وطبائع الاستهلاك، وتتلاقى مع ثلاثية فائض القوة والثروة والوهم التي ذكرتها في مقال سابق، يكون الحال هو ما نراه في الواقع العربي اليوم، من تردي في الأحوال وغياب لهمة التغيير وانصراف للشأن الفردي وانشغال بما هو شخصي.

يستمر الاستبداد ويتم تسويق كل شيء ويصبح كل شيء قابلا للاستهلاك، حتى العلاقات الانسانية تصبح خاضعة لاستهلاك المرة الواحدة، من الجنس للعمل للاعلام للصداقة… وغيرها.
إنها الحداثة المشوهة التي لا نهضة قطعت ولا حضارة أبقت ولا دينا حفظت ولا إنسانا رعت ولا مجتمعا صانت.
والتغيير يبدأ من فك تلك الحلقات واحدة بعد الأخرى، وتغيير تلك الطبائع بالتوازي مع تغيير المنظومات الحاضنة لها.
من هنا نبدأ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق