الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

البشري: التعددية مثلت مدخل تجديد الفقه الإسلامي المعاصر (1/2)


العراك حول المدنية مفتعل وصحافي ولا وجود له مجتمعيا

 حوار راااااائع مع المستشار طارق البشرى
في خضم حوارات الإصلاح والتغيير ومشهد الانتخابات التي تشهدها مصر، تحدث المستشار طارق البشري في هذا الجزء الأول من حوار أون إسلام.نت معه؛ عن قيمة التعددية معتبرا أنها مثلت مدخل الفقه الإسلامي للتجدد ولاستيعاب ظرف الدولة القومية. وفي إطار حديثه عن المدنية أوضح أنه لم يوجد في القوانين المصرية على مدى القرن العشرين قانون يميز بين المواطنين على أساس ديني. ونفى أن تكون المصادمات حيال المدنية حالة مجتمعية أو ثقافية حقيقية. وشدد على أن علاج تراجع المدنية في الممارسة المصرية الراهنة هو باندماج الأقباط لا انعزالهم. ولفت إلى أن النموذج الذي يطالب فيه البعض بأن تكون القوانين ذات مرجعية إسلامية، هو نموذج لدولة مدنية.
وفيما يتعلق بالحركة الإسلامية، أشار المستشار البشري لحركة الإسلامية؛ كحركة منظمة وليس كتيار شائع؛ دائمًا تظل قدراتها أقل كثيرا من حجمها. وأفاد حديثه أن الديمقراطية ستؤدي إلى مزيد من المزج بين الدعاوى السياسية المختلفة وبين المرجعية الإسلامية، وأن الديمقراطية ستتيح لهذا المزيج أن ينمو وأن يكون أكثر فعالية في المجتمع المصري. وأكد على أن عدم وجود حركة شعبية في الشارع مؤثرة وقوية؛ لا يفهم منها ضعف الحالة الفكرية الإسلامية، لافتا إلى أن الحركة الإسلامية أنتجت تأثيرا ثقافيا قويا بالنسبة للشعب المصري. وفسر المحدودية السياسية للحركة الإسلامية بأن الامتدادات التنظيمية لهذه الحركة ليست موجودة كلها، وغيابها يؤثر على مدى الانتشار الشعبي.

نص الجزء الأول من الحوار:
* في إطار المراجعات التجديدية التي تشهدها الساحة الفكرية والفقهية نتساءل: هل استطاع الفقه الإسلامي أن يستوعب فكرة الدولة القومية، وأن يتعامل معها؟ وهل يمكن إسقاط رؤية حضرتك على قضية مثل قضية الولاية العامة؟
المستشار البشري: برأيي أنه استطاع أن يستوعبها. فقديمًا؛ كان الخطاب الفقهي مفاده أنه لا بد وأن تكون ثمة دولة واحدة تجمع المسلمين مع بعضهم البعض، ولم يكن ثمة نظر لاحتمال تعدد الدول الإسلامية. وعندما نقرأ للفقهاء الذين بادروا بالضبط الفقهي في مجال الأحكام السلطانية، نجد أن الأساس بالنسبة لهم تمثل في أن التعدد غير متصور بالنسبة للدولة. ومنذ بداية القرن العشرين؛ أصبح ثمة كثرة من الدول الإسلامية تحدد وجودها وفقا لظروف تصنيفات قومية، أو تصنيفات جغرافية، أو تصنيفات تاريخية، وعبر التاريخ شهدت أقاليمها حركية تاريخية معينة، نشأت في إطارها هذه الدول. ولذلك نجد أن الفقهاء المحدثين في القرن العشرين بدأوا يتفهمون هذا الوضع، وشرعوا ينظرون بعين الاعتبار إلى ظاهرة التعدد.
قديمًا، كان يُنظر إلى التعدد في الدولة على أنه تنازع على سلطان دولة واحدة، فلم يوجد تصور لاحتمال أن تكون ثمة أكثر من دولة واحدة تجمع مسلمين. وكان ثمة تصور ثان يفترض ضرورة اجتماع المسلمين في دولة واحدة. وكان ذلك التعدد في وجود الدول لدى فقهاء الأحكام السلطانية يعني تنازعا. وقد وجد الفقهاء المحدثون أن الأمر المستجد لا يتضمن تنازعًا. ولذلك نجد مثلاً عند رشيد رضا وعند الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في أيام الدولة العثمانية، وبعض فقهاء الهند، يقولون: إذا اتسعت الأصقاع وترامت البلاد فيجوز إنشاء دولة أخرى. بمعنى آخر؛ صار ثمة إيمان بأن فكرة التعددية لا تعني التنازع، ولا تعني الصراع المضعف للأمة، هذه مستوى يتعلق بالكيانات السياسية المعبرة عن الأمة.
وفي مستوى آخر: مستوى إدارة الدولة، نجد أن تشكيلات الهيئات في الدولة الحديثة أصبحت تشكيلات جماعية وليست تشكيلات فردية. فالسلطة قديمًا كانت للشخص، وأوضاع الحكم كانت لأشخاص، ثم أصبحت الآن لمجالس وهيئات، وأصبح ثمة نوع من أنواع الجماعية في اتخاذ القرار، فظهرت فكرة الولاية العامة للهيئة وليس للشخص. فما دلالة الهيئة هنا؟ دلالتها أنه لم يعد يُشترط موافقة جميع أعضاء هذه الهيئات على القرار الذي يصدر عنها؛ حيث تكفي أغلبيتهم، برغم أن الناتج النهائي لن ينسب إلى الأغلبية فقط، بل ينسب إلى المجموع كله وإلى الهيئة كلها. وطالما أن الهيئة أصبحت متمايزة ومستقلة تقريبًا عن الأفراد المكونين لها، فهذا مؤشر ولا شك على أن التعددية قد تم استيعابها وقبولها في الفقه الإسلامي؛ من فقهاء القرن العشرين على الأقل، وهم فقهاء معتبرين ومعتد بهم. كما صارت عملية إنفاذ الولاية العامة لهيئات جماعية كذلك وليست لأفراد مثلما كان من قبل، وهذا له دلالته في استيعاب الفقه الإسلامي لفكرة الدولة القومية وأفكار فرعية أخرى مرتبطة بها كالمواطنة وغيرها
* عندما تثير بعض الجماعات الإسلامية قضية الخلافة وما تستدعيه من أحكام متعلقة بولاية المرأة وغير المسلمين؛ نجد أن مثل هذه الأطروحات لا يزال النقاش في سياقها يتم عبر استحضار الفرد وليس في إطار الهيئة. ما رأيكم؟
المستشار البشري: بالنسبة للخلافة عندنا الاجتهاد الخاص بالدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي يتعاطى مع الخلافة في صورة عصبة أمم إسلامية. وهذا المفهوم: الخلافة مفاده أنه إذا حدث وصارت التعددية في الجماعات/الشعوب الإسلامية، فإنه من الممكن جمعها في إطار من التناسق في السياسات المتبعة في إطار عصبة أمم، أو هيئة أمم، أو مجلس مثل جامعة الدول العربية، أو أي شيء من هذا القبيل ينسق بين هذه السياسات ويجعل لها نظر للصالح المشترك العام. هذا على الصعيد الدولي.
أما على مستوى الفقه السياسي الداخلي؛ فإن الفقه الذي يناقش شرطية أن يكون رئيس الدولة ذكرًا ومسلمًا، فمثل هذه المعالجة تصدر عن اتجاه في الفقه لا يزال يتعامل مع الولاية العامة باعتبارها لا تزال لأفراد. هذا الاتجاه ليس منفردا بالحضور. ثمة اتجاه آخر يعتبر الولاية العامة للهيئات. وإذا نظرنا للولاية العامة من هذا المنظور ستجد أنه لا محل لهذا الاشتراط (الذكورة والإسلام). فلو نظرنا للماوردي – كمثال - وكيفية علاجه لمثل هذه القضية؛ سنجد أنه قد ميز بين منصبين: وزير التفويض ووزير التنفيذ. وفيما يتعلق بوزير التفويض: الذي يفوضه الإمام في جل سلطاته؛ فقد اشترط الماوردي له أن يكون مسلمًا. وأما وزير التنفيذ؛ فهو ذلك الوزير الذي يؤدي للسلطان، ويؤدي عن السلطان، ويشارك في الرأي؛ فلم يشترط فيه أن يكون مسلمًا.
بإمكاننا اليوم أن نصوغ الدولة على هذا الأساس، أن تجعل جميع من فيها ممن يساهمون في الولاية العامة، كل منهم كفرد يؤدي لسلطان الهيئة ويؤدي عنها ويشارك في الرأي داخلها، ومن ثم لا يشترط فيها الذكورة أو الإسلام.
* في هذا السياق، كيف ينظر المستشار البشري لمفهوم الدولة المدنية في ضوء ما يطرحه فريق من الإسلاميين حول مفهوم الدولة المدنية القائمة على مرجعية الشريعة، وطرح الأطراف المختلفة حول ضرورة تحفيق مدنية الدولة المدنية بدون مرجعية للشريعة؟
المستشار البشري: أنا حقيقة لا أفهم جدوى ما يثار حول هذه المسألة. هل يعني من يطالبون بالدولة المدنية، هل يعنون أن ما نعيش فيه دولة إسلامية مثلاً؟ أو يرون أن الوضع الحالي للدولة بمثابة تعبير عن الدين؟ هذا الطرح محير؛ لأن غاية ما تطالب به أي من الحركات الإسلامية في مصر هو أن تعاد صياغة المرجعية الخاصة بقوانين هذه الدولة صياغة إسلامية. وغلاة الإسلاميين يطالبون بأن تصاغ بنية الدولة نفسها صياغة إسلامية. هذا يعني أنها ليست دولة تمثل تعبيرا عن الدين بأي حال؛ تلك التي نعيش فيها.
* لكن أطروحات الإسلاميين لا تقتصر على مساحة القانون فقط، فهم يطالبون بمساحات أكبر؟
المستشار البشري: أريد أن أبدأ بتحليل الوضع القانوني. فلا يوجد في مصر قانون يفرق ما بين الناس على أساس الدين.
ومثل هذا القانون قد يوجد في حدود التخصص العلمي المطلوب لمنصب من المناصب، مثل أن يكون الأستاذ في مجال الإكليركية مسيحي أرثوذكسي قبطي، ويكون شيخ الأزهر مسلم. وشرائط تولي الوظائف بالتخصص في تقاطعها مع الدين، تمثل مراعاة للتخصص فكريا لا أكثر.
لكن لا يوجد أبدًا في أي قانون من القوانين المصرية، ولم يوجد في القوانين المصرية على مدى القرن العشرين قانون بهذا الشكل؛ إلا قانون واحد فقط هو المرسوم الخاصة بتولي العرش. وفي هذا القانون لم يكن مذكورا كشرط في تولي العرش، لكن كان مذكورا في باب الحديث عن تعيين أوصياء في حالة الملك القاصر، حيث اشترط في الأوصياء أن يكونوا مسلمين. هذا هو النص الوحيد. وما أقوله هنا ليس رأيا؛ بل قام على استقراء بحثي في القوانين المصرية.
الأصل الفكري والثقافي القائم في مرجعية القوانين المصرية هو مشاركة الجميع، دون تمييز، في وظائف الولاية العامة موجودة، سواء في تولي السلطات التنفيذية، أو في تولي القضاء، أو في انتخابات مجلس الشعب.
الشعور بالنقصان وتراجع الحالة المدنية سببه الحراك السياسي الآني. ومعالجة هذا النقصان في الحالة المصرية الراهنة لا يحتاج إلى الدخول من مدخل الدولة المدنية؛ لأنها قائمة بالفعل. الوضع في مصر يحتاج إلى نوع من أنواع تنشيط الإطار القانوني القائم، سواء من جانب الأقباط عندما يكونون أكثر اندماجًا في الشعب، والمسلمون يكونوا أكثرة قدرة على استيعاب هذا الاندماج. وهذه حركية سياسية وثقافية لا بد وأن نرعاها.
أما فيما يتعلق بالمرجعية الشرعية للدولة المدنية، فالمطلوب – في هذا الإطار - أن تكون للعملية التشريعية بالدولة مرجعية إسلامية. ومن قال بالمرجعية الشرعية الإسلامية للتشريعات أناس وفقهاء ليسوا من الأزهر، وليسوا من الحركة الإسلامية. فقد قالها أناس كثيرون من خارج هذا المجال من كليات الحقوق المختلفة العلمانية الموجودة في البلد، مثل المستشار السنهوري، والمستشار عبد الحليم الجندي، والدكتور عبد المنعم فرج الصدا.
وهذه المسألة مطلب ثقافي أكثر منها مطلب سياسي إذا نظرنا لها بشكل عام. البعض يستخدمها سياسيًّا، لكنها أساسًا مطلب ثقافي. وعندما نبقيها ثقافية تجد أنها تشمل شرائح من المصريين أكثر كثيرًا. وأتصور أن هذا المطلب باعتباره كثقافي، ومن يطالبون به، ومن يمارسون الاقتراح بشأنه: مشروعات قوانين وغيرها، كل هذه الفعاليات المرتبطة به لم تستبعد المسيحيين، ولم يرد الاستبعاد بأذهانهم أبدًا، إنما كانت في أذهانهم دائمًا الجماعة الوطنية بالمعنى الشامل الموجود في مصر حاليًّا: وجود المسلمين والمسيحيين في وشيجة واحدة في مصر الآن، وهم ينتهجون في تفسيراتهم ما تسعه النصوص الإسلامية من مساواة بين المسلمين والمسيحيين بتولي الوظائف العامة، وغيرها من المبادئ. هذه الحالة الواقعية يثار عكسها صحفيًا، وبشكل غير متعمق.
فالدولة القائمة دولة مدنية، وحتى النموذج الذي يطالب فيه البعض أن تكون القوانين ذات مرجعية إسلامية، هو نموذج لدولة مدنية.
وإذا أردنا إدراك الفارق الجوهري بين المدني والديني فلن نعرفه إلا بالحديث عن معنى الدولة الدينية. إن مفهوم الدولة الدينية لا يعني المرجعية. فكل دولة لها مرجعية، وفي أوروبا ثمة دول مرجعيتها مسيحية ومع ذلك تدار إدارة مدنية. المدنية أو عدم المدنية تتعلق بالمؤسسة الحاكمة، أو الهيئة ذات الولاية. هل هذه الهيئة تُعتبر وسيطا بين الله سبحانه وتعالى وبين البشر أم لا تعتبر؟ إن لم تعتبرها وسيطًا بين الله والبشر أصبحت مدنية، اجتهاد ضمن الاجتهادات الموجودة.
ولذلك أؤكد أنه حتى الدولة عندما كانت مرجعيتها إسلامية كاملة في القرون الوسطى، وحتى آخر حضور الدولة العثمانية، كانت هذه الدولة دولة مدنية؛ لأن الحاكم كان يحكم باجتهاد في إطار الإسلام، والمعارض الذي يريد إقصاء هذا الحاكم وإحلال غيره محله يقول كلمته باجتهاد في إطار الإسلام أيضًا، لا ولاية لأحد عليه. فلم توجد ولاية مؤسسية ثقافية حصرية للإسلام في تنظيم معين. وما دامت لا توجد ولاية مؤسسية حصرية للإسلام تكون الدولة مدنية.
* ألذلك كان الخارج عن الحاكم يسمونه باغيا وليس كافرا؟
المستشار البشري: نعم.
وتصنيف العلوم السياسية للدولة المدنية يقصد به الدولة غير الدينية؛ أي التي لا توجد فيها مؤسسة دينية تحكم باسم الله. فالبابا في روما يحكم باسم الله. وقد قرأت اليوم تصريح في الجرائد لأحد الشخصيات المسيحية في أوروبا يقول: أنا أقبل يد رجل الدين لأنه يمثل الله، وهذا مفهوم مسيحي، وهو غير موجود عندنا في الإسلام. فمن يقبل يد شيخ الأزهر أو أي عالم دين؛ هل يقبله لأنه يمثل الله؟ لا توجد فكرة تمثيل الله عندنا في الإسلام. فعالم الشريعة بشر عندنا. والأزهر أمامنا. لم يقل يوما إنه يحكم باسم الله ولا فتواه تصدر باسم الله، ولا المفتي الرسمي قال يوما أنه يفتي باسم الله. كلها اجتهادات بشرية في إطار الشريعة.
* يتبقى في فكرة الدولة المدنية محكان يتعلق أولهما الخبرة الإيرانية التي كانت تتحدث عن دولة إسلامية، كان للمرجعية الإسلامية في خبرة الدولة الإيرانية انعكاس مؤسسي، فكنا مثلاً وجدنا مجلس الخبراء، مجلس صيانة الدستور، كان فيه انعكاس لهذه المرجعية، هذا واحد. والثاني يتعلق بمدى استقرار الأطر القانونية المستمدة من الشريعة في حالة قبول الحركة الإسلامية لتداول السلطة وحدث أن خسرت في إحدى العمليات الانتخابية؟
المستشار البشري: المؤسسات القانونية والقوانين نفسها هي مراكز قانونية تنشأ وفقًا للأوضاع التي أنتجتها. عندنا هذه القوانين للناس عامة، وللمواطنين وإن اختلفت أديانهم، هذان هما المعياران اللذان يحكمان عملية إصدار القوانين، ومنها تلك التي تتعلق بالمؤسسات. أما عن المؤسسات التي قد تتأسس وفق مرجعية الشريعة فمدنيتها تتعلق بالصيغة التي تعمل وفقها. فإن ادعت أن ما تقوله هو حصرا رؤية الدين في صدد ما تتصدى له فهذه الصيغة ليست مدنية. أما الصيغة المدنية فتعني أن ما تقدمه هذه المؤسسة هو اجتهاد بشري؛ لا تتحدث باسم الله حصريا في إصداره وقوله.
* ربما ينصرف السؤال السابق في أحد أبعاده إلى وجود كيان مؤسسي يراقب من مدخل الشريعة؟
المستشار البشري: ما بقي التشكيل المؤسسي في إطار الثقافة العامة ولم يعن النطق حصريا باسم الدين والإلزام بهذا النطق فإن المؤسسة تكون مدنية. ونحن نجد في المؤسسات الاقتصادية الإسلامية – كمثال خارج التجربة الإيرانية – نجد لجنة للرقابة الشرعية التي تقول إن مسلكا اقتصاديا ما شرعي أو غير شرعي، لكنه في النهاية رأي خبير. والمفتون المختلفون يفتون في القضايا المختلفة وفتواهم نسبية وغير ملزمة؛ بل وتتعدد الفتاوى وأحكامها في المسألة الواحدة. وباستقراء التاريخ، لم توجد في تاريخنا السني لا قديما ولا في الوقت الراهن ما يجعل لمؤسسة دينية بعينها في مجالات الفكر أو الرأي أن تتحدث باسم الدين حصريا وأن تقول رأيا تراه رأي الإسلام وحده في قضية من القضايا.
هذا لا يخالف مرجعية الشريعة التي طالب بها مفكرون وعمالقة في مجال القانون قبل الحركة الإسلامية. ولو استقرأنا الخبرات المختلفة سنجد أن كل مفهوم أو رؤية قانونية لها مرجعيتها. فلوائح ونصوص حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة لها مرجعيتها من الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية وقرارات الأمم المتحدة، فهذه الأحداث تحولت إلى مرجعية نصية. ولكل مبدأ مرجعيته التي ينظر لها بعين التقدير، ولا يوجد مبدأ بدون مرجعية؛ وإلا فمن أين أتى؟!
* يمكن القول في إطار مبدأ الجماعة الوطنية أن تلك الجهة الرقابية التي تتفاعل بمنطق الرقابة هي المحكمة الدستورية كما في مصر مثلا؟
المستشار البشري: نعم، هذا هو الحادث بالفعل، وليس كما الخبرة الإيرانية التي تمثل الرقابة الشرعية فيها جماعة من العلماء.
* هل نخلص من هذا تاريخيا إلى أن شكل الدولة ومؤسساتها لا علاقة لها بالقول بمدنيتها من عدمه، فقط المبدأ الحاكم هو احتكار الحديث باسم الله؟
المستشار البشري: نعم، لكن عدم وجود هذا الاحتكار هذا أحد معيارين لتمييز الدولة المدنية،ولابد من وجود معيار آخر هو معيار قبول الآخر الديني داخل مؤسسات الدولة، والتعامل معهم على حد سواء؛ وإن اختلفت أديانهم، باعتبار أن ما يصدر عن هذه الدولة ينشئ مراكز قانونية موحدة لشعب هذه الدولة بدون تمييز بينهم على أساس من الدين.
* هذا يجرنا في الحقيقة لمساحة أخرى ترتبط بمشاركة الحركة السياسية الإسلامية في مصر في الانتخابات والصراع السياسي. البعض يطرح ضرورة وجود مزيد من المشاركة، ويثار أيضا في نفس الإطار جدل وصراع شديد ينتقل من كونه صراعا سياسيا بين أطراف وأحزاب سياسية إلى صراع حول مفاهيم أساسية تتعلق بالدين نفسه، وأصبح الدين كدين في بؤرة الصراع أو من القضايا المحورية في قضايا الصراع، رغم أن الخبرة التاريخية التي تفضلت بالإشارة إليها في التجربة المصرية أبانت أنه ليس هناك شكل من أشكال التصادم مع فكرة الدين أو خروج عليه أو شيء من هذا القبيل، وأصبح أنه فيه حالة من حالات الصراع الشديد حول قضايا متعلقة بالدين في جوهره بشكل أو بأخرى، ومن ضمن هذه القضايا الصراعية مسألة الدولة المدنية.
المستشار البشري: أنا لا أتصور أن هذه المصادمات والحالة الصراعية حالة مجتمعية حقيقية؛ وهي حتى غير قائمة فعلا على الصعيد الثقافي على أرض الواقع. وبرأيي أن هذه الظاهرة ظاهرة صحفية أكثر منها ظاهرة عامة في المجتمع. أنا لم أكن أجد لدى الناس من المسلمين والمسيحيين مسألة متعلقة بالتمييز وإشكالية المدنية. هذه الدعاوى صحافية وأدت إلى التأثير على الموقف المسيحي العام؛ بما في ذلك موقف الكنيسة.
فعندما نقرأ الصحف نجد هذا الموضوع مشتعل، وعندما نمارس حياتنا العادية وسط الناس لا نجد له تأثيرًا كبيرًا. ليس هذا وحسب، بل إننا نجد أن أوضاع الوفاق أو التداخل، أو نقط الاتفاق بين الناس وبعضها البعض أوسع كثيرًا جدًّا مما يحاول أن يضعه الكتاب الظاهرين في الصحف. نحن أيضا نحيا في هذا البلد، ونحن شهود على هذا البلد، ولا نجد الظواهر المثارة في الصحف بمثل تلك الهوة التي تتحدث عنها الصحف!؟
* لو انتقلنا للحركة الإسلامية ودخولها منذ منتصف الثمانينيات لساحة المشاركة السياسية والانتخابية، فبعد حوالي يمكن خمسة وعشرين سنة تقريبًا أو أكثر، ما التقييم الإجمالي لهذه التجربة التاريخية؟
المستشار البشري: هي حركة أولاً لا بأس بها. وهي ثانيا حركة تمثل انعكاسا حتميا لوجود اجتماعي وسياسي. لكن القضية التي تتراءى لي مهمة أن الحركة الإسلامية؛ كحركة منظمة وليس كتيار شائع؛ دائمًا تظل قدراتها أقل كثيرا من حجمها. فحجمها التنظيمي أكبر من قدراتها الفعالة والمؤثرة في المجتمع. وهذه ليست ظاهرة حديثة في مصر، بل قديمة، وأصحاب الشأن هم الذين يملكون معرفة سببها وليس أنا.
* هل يرتبط هذا التفاوت بين الحجم والتأثير بنظرة هذه الحركة للمشاركة باعتبار أن غرضها الأساسي ذو بُعد ثقافي وليس بُعدا سياسيا، بمعنى أنها تريد نشر أفكارها ودعوتها في المجموع العام، وليس المقصود بها أن يكون لها تأثير سياسي في العملية السياسية المباشرة؟
المستشار البشري: من ناحية الأثر الثقافي فهذا الأثر حاصل وموجود، لكن هذه الحركة تحاسب سياسيًا على فعل ثقافي في الأساس. وهذا يتصل ببعد آخر قوامه أن ثمة قضية مهمة لم تحسم بعد؛ هي علاقة الدعوي/الثقافي، بالسياسي.
* هل ترى أنه يجب الفصل بينهما؟
المستشار البشري: ليس عندي إجابة محددة على هذا السؤال. أعني أنني لا أستطيع أن أقول لشخص أن عليه أن يضع قدميه بعيدا عن يديه ودماغه. لكن الإشكال أنها فعلاً قضية على مدى عقود من التاريخ لم تحسم، وبقيت هكذا. الحركة الإسلامية تقوم بدور ثقافي مؤثر، وبدور خدمي مؤثر، لكن هذا الذي تنجزه يؤدي لحالة حراك سياسي، ويظل هذا السؤال محيرا. طبعًا ثمة أناس - بحكم تكوينها - يعملون سياسيين، وآخرين - بحكم تكوينهم - يعملوا دعاة فقط. وهذه المسألة تحتاج لتأمل وحسم. وأهل الأمر هم أولى بمعرفة شعابه.
* إذا؛ ما تقييمكم المجمل لخبرة مشاركة الإسلاميين؟ هل هذه المشاركة التي امتدت قرابة سبعة وعشرين عاما كان لها تأثير إيجابي فيما يمكن أن نطلق عليه زيادة مساحة الديمقراطية في النظام السياسي المصري؟ وهل كان التأثير متبادلا؟ أي هل تأثرت الحركة نفسها بالمناخ الديمقراطي والقيمة الديمقراطية؟
المستشار البشري: هي طرحت موضوع الجوانب الإسلامية، بحيث أصبحت عنصرا من عناصر التكوين السياسي، وأدت إلى انعكاسات معينة بالنسبة حتى الأحزاب السياسية المختلفة.
والحركة الإسلامية نفسها أصبحت أكثر انفتاحًا على الجوانب الديمقراطية وأضحت أكثر استهدافًا لها مما كانت من قبل. ففي الأربعينيات والخمسينيات لم تكن هكذا حقيقة. الآن أصبحت أكثر انفتاحًا على جوانب الديمقراطية. وأنا متصور بالنسبة لمصر أن الديمقراطية ستؤدي إلى مزيد من المزج بين الدعاوى السياسية المختلفة وبين المرجعية الإسلامية، وأن الديمقراطية ستتيح لهذا المزيج أن ينمو وأن يكون أكثر فعالية في المجتمع المصري.
* هل تعنون أن تبني المشروع الديمقراطي للحركة الإسلامية يفيد الثقافة الإسلامية أكثر من غيرها؟
المستشار البشري: طبعًا؛ وأؤكد على أنه لن توجد ديمقراطية حقيقية وتتحقق فعلاً بدون امتزاج الدعاوى السياسية بالمرجعية الإسلامية بشكل كامل، القائم حاليا هو ديمقراطية النخب. وهي نخب مميزة ونخب حرة جدًّا وديمقراطية جدًّا؛ لكن كان ينقصها هذا العنصر: عنصر امتزاجها بثقافة الشعب. الآن يستطيعون أن يؤثروا في المجتمع تأثيرا شعبيا كاملا. وما كان لهذا المزيج أن يخلق لولا ظهور حركة الإخوان.
* هل ثمة قيمة مضافة حققها الوجود الإسلامي بممارساته للعملية الديمقراطية وسط الناس؟ عندما نقارن الفترة الراهنة بفترة أواخر السبعينيات وانتفاضة 1977، وهذه الحيوية التي كانت موجودة في الشعب حيال القضايا التي تمس حياته، هل اليوم تراجع هذه الحيوية يعطي مؤشرات لدور سلبي أم لحالة استبدال ثقافي، استبدلنا ثقافة الاحتجاج بثقافة المشاركة، أم أن ما حدث هو انسحاب وتآكل في الرغبة العامة الشعبية في المشاركة؟ نحن نشعر أن المشاركة خلال الفترة الماضية لم تفض إلى إعطاء الشعب حيوية واستعداد لكي يتحمل التكلفة الاجتماعية للتغيير. بل على العكس. فما رأيكم في هذا؟
المستشار البشري: قضية الحركية الشعبية مختلفة قليلا عن قضية المشاركة. قضية الحركية الشعبية مرتبطة أساسًا بالتشكلات التنظيمية، حيث يكون للحركة قدرة على بناء تشكلات تنظيمية قادرة على التحريك الواسع للجماهير، وحين لا يكون لك هذه التشكلات فلن تستطيع تحريك الجماهير؛ مهما عظم نفوذك الثقافي. الحركية الشعبية تحتاج إلى تنظيم يؤدي إلى تحريك الناس. أنا لا أستطيع أن أحرك يدي هذه من أسفل لأعلى إلا إذا كان ثمة شبكة شرايين، وشبكة أعصاب تسري وتتولى تحريك اليد.
الحركية محتاجة لأمر آخر هو الفاعلية والحضور التنظيمي. التشكلات التنظيمية هذه مضروبة، نراها في النقابات العمالية، وفي النقابات المهنية، وفي الجمعيات المختلفة، وفي الامتدادات المفترضة للأحزاب التي يفترض أن تقود تحركات الناس، هذه الامتدادات التنظيمية ليست موجودة كلها، وهي التي تؤثر على مدى الانتشار وعدم الانتشار الشعبي.
ومع ضربة عبد الناصر للإخوان المسلمين في الخمسينيات والستينيات، ضربهم كقوة سياسية، لم يكن المشروع السياسي يعتمد على المرجعية الإسلامية آنذاك، ولكن كان ثمة انتشار للإسلام، وكان ثمة حضور ثقافي له، بدليل أن أكثر حركة شبان خرجت إسلامية وتزعمت ودعمت الحركة الإسلامية بعد ذلك في السبعينات، هم الشبان الذين تربوا في مدارس وإعلام عبد الناصر في الستينيات، وهؤلاء قاموا بتشكيل الحركة الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات بعد ذلك. آنذاك تجد كتب التراث وقد أتيحت بشكل شعبي رخيص التكلفة جدًّا، وكانت تباع على الأرصفة أيام عبد الناصر. وكان ثمة أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ السيد سابق والناس هذه كان متاح لهم الكلام بكل الإمكانات في هذه المساجد، وكانوا يخطبون الجمعة.. إلخ، كانوا موجودين، فلم يكن ثمة موقف معاد أو مخاصم للإسلام. وثمة أيضا أناس من قيادات الحركة الإسلامية اليوم تربوا في منظمة الشباب في الحقبة الناصرية، رغم أن هذه الفترة كان فيها حضور قوي للاتجاه الماركسي. ما أريد أن أبينه هنا أن الإسلام أكبر كثيرا في مصر من أن تحاول معاول الهدم هدمه. وفي نفس الوقت أغلب المهنيين المصريين، الذين تكونت منهم الطبقة الحاكمة في مصر في الخمسينيات والستينيات، هذه الطبقة كانت مسلمة، وكان الإسلام عنصرا ثقافيا ثابتا غير هين لديهم.
وبالنسبة للحركة الإسلامية فقد أنتجت تأثيرا ثقافيا بالنسبة للشعب طبعًا، وجهدها في هذه المساحة ليس بقليل حقيقة. وظاهرة التأثير الثقافي هذه عايشناها بأنفسنا. وقد عاصرنا في السبعينيات والثمانينيات، عندما كان الناس بشكل صامت يتأثرون ويتغيرون، فتجد السيدات يرتدين الحجاب، وتجد الرجال يخلعون خواتم الزواج المصنوعة من الذهب ويلبسون الخواتم الفضية، ولم يكن أولئك في الحركة الإسلامية، كان هذا التحول بفعل وبتأثير هذا الزخم. أنا كنت أراها في العمل، وبدأت ألاحظ هذه الحركة في تمددها. وهذا مسجد الطريقة الشاذلية الذي بجانبنا، كنا نصلي فيه التراويح، فتجد فيه صفا أو صفا ونصف بالكثير، واليوم صار لا يسع الناس. هذه ظواهر حدثت أمام أعيننا، ونحن كشهود على الحياة نفسها.
* تساءلنا أيضا عن الثقافة السياسية الناجمة عن هذه المشاركة. هل أسهم حضور الحركة الإسلامية في الشارع المصري تاريخيًا في تعزيز وتطوير الثقافة السياسية للشارع المصري باتجاه أكثر اعتناقا للديمقراطية وأكثر استعدادًا لتحمل التكلفة الاجتماعية للتغيير.
المستشار البشري: نعم في تصوري. لقد حصل أمران في الناحية الفكرية الثقافية. ففي أوائل القرن العشرين كان هناك انشقاق بين أهل المحافظة الإسلامية وبين أهل التجديد الإسلامي. وكان المحافظون الإسلاميون مسيطرين على الأزهر، ويشعرون أن الثقافة القادمة من الغرب والفلسفات القادمة من الغرب مصدر تهديد لمعتقدات الناس، وكانت بواباتها صحف الغرب التي تنطق بالعربية مثل صحيفة المقطم وغيرها. وبدأ هؤلاء يدخلون في المعالجات الفلسفية في محاولة لاجتثاث الإسلام من أصوله، وكانت مقاومة المحافظين متمثلة في أن يحافظوا على الثوابت وعلى الأصول. وساد شعار: لا تجديد وأنت تدافع. وكان المنطق في هذا التوقيت بدون حرج: وأنت تدافع ثبت قدميك أكثر مما تحركها، فإن حركتها فمن الممكن أن تعود للوراء. كان هذا فكر المحافظين. وإلى جانبهم؛ كان ثمة المجددون، وكانت مقولتهم أنه لكي يكون للإسلام حضور؛ فلابد وأن يتجدد، فقاموا بدور ثان، لكن هذا الحضور المزدوج أدى إلى تصارع المجددين والمحافظين برغم أن كليهما كان يخدم الإسلام ويذود عنه.
انتهى هذا الصراع وأصبح التجديد والحفاظ على الأصول شيء واحد في النصف الثاني من القرن العشرين على يد أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ السيد سابق، والدكتور يوسف القرضاوي والمجموعة هذه. وبتنا نرى التجديد والمحافظة لحمة واحدة لدى هؤلاء العلماء والمفكرين.
الخطوة التالية التي شهدها آخر الثلث الثاني من القرن العشرين، أن العلماء اتجهوا للتخصصات، وبدأنا نرى الاقتصاديين الإسلاميين، وعلماء الاجتماع الإسلاميين، وحتى كلية الاقتصاد والعلوم سياسية بها اليوم اتجاه إسلامي معتبر أكاديميا يعرف علوم الغرب تمامًا، ويتخصص في هذه العلوم السياسية مستوعبا ضمن توجهاتها ذلك التوجه الإسلامي الحضاري. والمطالع للمشهد الثقافي اليوم يجده أكثر تنوعًا وأكثر ثراءً مما كان عليه الأمر في بداية القرن العشرين على الصعيد الفكري الإسلامي. وجيلكم هو من يمثل هذه الخطوة، يستوعب كل الأفكار العالمية والداخلية الحديثة، وينتج من هضمها هذا المزج الثقافي.
ما أقصده أن عدم وجود حركة شعبية في الشارع مؤثرة وقوية؛ لا يفهم منها ضعف الفكرية الإسلامية، هذا لا يعود إلى ضعف الفكرة الإسلامية، إنما يعود إلى جانب تنظيمي في تقديري.
والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق