الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

حسن البنا.. رائد النقد الذاتي...... عصام تليمة

حسن البنا.. رائد النقد الذاتي


لقد دفعني للكتابة في هذا الموضوع، عدة أمور أجملها فيما يلي:
أولا: أننا للأسف معاشر الإسلاميين ـ إلا ما رحم ربي ـ نلقي دوما بالتبعة في الأخطاء على الغير، فإذا أخفقنا في عمل ما فلا شك أن عوامل خارجية ومخططات جهنمية هي التي أفشلتنا وألحقت بنا كل هزيمة وفشل، وأن كل إخفاق في عمل من أعمال الدنيا أو أعمال الدعوة فلا شك أننا مبرأون من التقصير فيه، ولكن أعداءنا أحكموا العوائق والموانع مما جعلنا نقف مكتوفي الأيدي أمام مخططاتهم، وهكذا تأتي الأعذار التي تبرئ الإنسان من التقصير والخلل، والتي ترفع المسؤولية عن الإخفاق أو النجاح.


ثانيا: إذا قمنا بعملية الوقوف مع التراث الإسلامي والنصوص الإسلامية نقف لنأخذ العبر والدرس، فكلنا يقرأ غزوة أحد، ويقرأ كل الغزوات وما فيها من قصص وعبر، ومراجعة للنفس، ما بين انتصاراتها وإخفاقاتها، ولكننا نقف عند هذا الحد، ولا نسقط ذلك كله على واقعنا المعيش، بمعنى: أننا نحفظ عن ظهر قلب النصوص الدالة على محاسبة النفس، ومراجعة الأعمال، ومستعدون لأن نلقي عشرات الخطب والمحاضرات في ذلك، ونسطر الكتب والبحوث وفقط، أما أن يتحول ذلك إلى واقع عملي ملموس في تفكيرنا وحياتنا فهيهات هيهات.

ثالثا: ادعاء البعض من رموز الحركة الإسلامية، بأن كل نقد ذاتي منشور، يعد صراخا وضجيجا ضد الحركة، وأنه يعوق مسيرتها، وأنه نشر لغسيلها، وأنه ليس مقبولا، وهو أمر أعتبره غير صحيح، بل هو ظاهرة صحية يجب المحافظة عليها، وتشجيعها، بدلا من تسرب ظاهرة النفاق الدعوي للحركة، وأن يعلن الناس خلاف ما يبطنون، أو أن يسكتوا على مضض على أوضاع لا يقبلونها، أو لا يتفهمونها.

رابعا: ما حدث ـ سواء أنكر من أنكر، أو اعترف بشجاعة من اعترف ـ ويحدث أحيانا من محاكم تفتيش دعوية للأسف، لأصحاب الفكر، وأرباب القلم، وبخاصة من يكتبون ناقدين لأوضاع معينة في الحركة، وبدل أن يرد عليهم بفكر مماثل، رحنا نستعير من السلطة الغاشمة: ثقافة قصف الأقلام، وتكميم الأفواه، لكنهم يكممونها باسم السلطة، ونحن نكممها باسم الله، ونقصفها باسم الحرص على الدعوة، وكأنها صارت ملكا شخصيا، وسيفا مسلطا على كل كاتب، والدعوة براء من كل كبت للتعبير عن الرأي.

وقد أردت بتناول هذا الجانب المهم في حياة رجل من أعظم رجالات الإسلام، العاملين به، والداعين إليه، إنه الإمام الشهيد حسن البنا، لنرى هذه المزاوجة بين النظرية والتطبيق في جانب حري بالدعاة والحركات الإسلامية أن تجعل له نصيبا كبيرا في عملها الدعوي، وفكرها وخططها، كما أن كثيرا من أهل الحركة لا يرضون ـ بعد كتاب الله وسنة رسوله ـ حكما إلا بتراث البنا، فمرحبا فهاهو الرجل الذي ارتضيناه وارتضيتموه، فلنتأمل معا واقعه الدعوي، وواقع من حوله آنذاك، وماذا كان موقفهم من النقد الذاتي، والنقد بوجه عام.

حسن البنا والنقد الذاتي
كان حسن البنا دائم النقد لذاته، يراجعها وتراجعه، ولو لم يكن يجري مراجعة ذاتية، بينه وبين نفسه، وبينه وبين إخوانه، ليرى الخلل في جماعته أين هو؟ وماذا تحتاج في المرحلة المقبلة، ولماذا أخفق في كذا، ولماذا نجح، وكيف يتجنب الإخفاق السابق، وكيف يجعل الأمور تجري في جماعته مؤسسيا، لا فرديا، كل هذه المراجعات يلاحظها بجلاء من وقف على حياة حسن البنا موقف الراصد المحلل لكل مواقفه الفكرية والدعوية والسياسية على حد سواء.

النقد الذاتي عمل دعوي مؤسسي عند البنا:
لم يقف البنا بالنقد للذات أو للآخرين، عند حد الوعظ والإرشاد، بل دعا لذلك وجعل له منظومة عملية تسير فيه، فقد وضع البنا وسيلة للتربية لها مكانتها وبرامجها في جماعة الإخوان المسلمين، وهي (الأسرة)  وجعل من الأمور التي من حقوق الأفراد على بعضهم بعضا: النصح والتسديد، والنقد البناء، وقد جعل لهذا البناء التربوي أركانا ثلاثة: التعارف، والتفاهم، والتكافل، فقال عن الركن الثاني منها: التفاهم: (وهو الركن الثاني من أركان هذا النظام، فاستقيموا على منهج الحق، وافعلوا ما أمركم الله به، واتركوا ما نهاكم عنه، وحاسبوا أنفسكم حسابا دقيقا على الطاعة والمعصية، ثم بعد ذلك لينصح كل منكم أخاه متى رأى فيه عيبا، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، وليشكر له ذلك، وليحذر الناصح أن يتغير قلبه على أخيه المنصوح بمقدار شعرة، وليحذر أن يشعر بانتقاصه، أو بتفضيل نفسه عليه، ولكنه يتستر عليه شهرا كاملا، ولا يخبر بما لاحظه أحدا إلا رئيس الأسرة وحده إذا عجز عن الإصلاح، ثم لا يزال بعد ذلك على حبه لأخيه وتقديره إياه مودته له، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وليحذر المنصوح من العناد والتصلب، وتغير القلب على أخيه الناصح قيد شعرة، فإن مرتبة الحب في الله هي أعلى المراتب، والنصيحة ركن الدين: (الدين النصيحة) والله يعصمكم من بعض، ويعزكم بطاعته، ويصرف عنا وعنكم كيد الشيطان).

صور من نقد البنا ذاته
كان الأستاذ البنا كثير الوقوف بين نفسه وربه، يحاسب نفسه على ما قصرت، فقد كان له ورد محاسبة يحاسب فيه نفسه على ما قصرت فيه في جنب الله، بل وحث أفراد جماعته على ذلك، ولم يقف به الأمر عند حدود محاسبة نفسه ونقده لها، عند أمر العبادات الفردية التي يؤديها مع نفسه، أو العبادات الجماعية التي يؤديها أمام الناس، بل يشمل ذلك أيضا: نقده لحركته ومسيرته العلمية والدعوية بما ذلك مسيرة جماعته.

فكثيرا ما كان يكتب الإمام البنا رحمه الله مقالات يحاسب فيها نفسه وجماعته، ماذا قدمت؟ وفيم نجحت؟ وفيم أخفقت؟ وما المطلوب منها؟ وكل هذه وقفات لمحاسبة النفس، ففي مجلة النذير كتب الإمام البنا مقالا بعنوان (كشف الحساب.. ما علينا، ما لنا، ما يجب أن نفعله) فبين ما عليهم كجماعة وكأمة أن يفعلوه ولم ينجحوا بعد في أداء هذه المهمة، من ذلك: وجود المستعمر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: وجود العصاة بينهم بكثرة، وبخاصة الشهوانيين منهم والإباحيين من المسلمين، والذين ذهبوا إلى نشر الإلحاد في مصر وفي كثير من الدول العربية والإسلامية. ومن ذلك: وجود المبشرين والمنصرين في البلاد الإسلامية، وبين الإمام البنا تقصيرهم في أداء واجبهم نحو هذه الأمور. وبين في بقية مقاله ما يجب عليهم عمله تجاه هذا التقصير في هذه الواجبات.
وكتب كذلك بعدها بعام في مجلة (التعارف) بمناسبة حلول شهر المحرم، وبداية عام هجري جديد، كتب مقالا بعنوان: (عامان في الميزان.. عام مضى، وعام في ضمير الغيب) وقد خاطب فيها نفسه والإخوان المؤمنين معه بدعوته، بهذه الأسئلة ليوجهوها لأنفسهم في نهاية هذا العام الهجري، فقال:
(أيها الإخوان: إن الخطوة الأولى من خطواتنا: صلاح النفس، فهل اطمأننا على صلاح أنفسنا؟ أنفسكم أولا أيها الإخوان، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا.
فحاسبوا أنفسكم لتعلموا أين هي من التمس بمبادئ الحق والقوة والإسلام.
هل أنت مؤد للفرائض كاملة؟ هل أنت بعيد عن المعصية؟
هل تحب الخير وتعمله؟ ماذا قمت من أنواع الخير لنفسك أو للناس؟ هل أنت مستعد للعمل في سبيل فكرتك فجسمك صحيح، وفكرك صحيح، ووجدانك طاهر سليم؟ هل حاولت أن تبث فكرتك في المحيط الذي يتصل بك؟ وهل آمن بدعوتك إليها أحد أو أكثر من أصدقائك؟
بمثل هذه الأسئلة يجب أن يحاسب الأخ المسلم نفسه أولا، حتى يتأكد أين هو من طريق الإخوان.

ثم المجتمع بعد ذلك، وهذه ليست مهمتكم وحدكم، ولكنها مهمة المكتب العام ومهمة الهيئات الإدارية للإخوان قبل أن تكون مهمة الأفراد.
ماذا قدمت هيئة الإخوان من الخير لمن يحيط بها من الناس؟ وكم فردا أقنعتهم بالدعوة، وثقفتهم بمبادئها وتعاليمها؟ وكم مشروعا من مشروعات الخير نجح على يديها؟ وبمثل هذه الأسئلة نريد أن تزن هيئات الإخوان وسائل جهادها ونواحي عملها.
ثم النظام العام بعد ذلك كله، وهذه مهمتنا مجتمعين، ومعنا كل مسلم يؤمن بالله ورسوله فعلينا أن نسأل أنفسنا دائما في التغيرات الجديدة التي حدثت في نظام حياتنا العام فقربنا بها أو بعدنا عما رسمه الإسلام، فإن رأينا أننا نقترب ولو قربا ضئيلا فهو النجاح بعينه، وإن رأينا أننا نحرف انحرافا يسيرا فهو الإخفاق بعينه.

وعلينا إذن ألا يبعث النجاح في أنفسنا القناعة والخمود فإن الطريق طويلة والمسالك متشعبة، وألا يبعث الإخفاق في أنفسنا اليأس والقنوط فإن رحمة الله قريب من المحسنين، بل واجبنا دائما أن نستمد من النجاح قوة تدفعنا إلى الأمام، ومن الإخفاق درسا يدعونا إلى مضاعفة الجهود، هذا هو المقياس الذي أحببت أن أضعه بين أيديكم أيها الإخوان في عامكم الجديد لتظلوا دائما إلى الأمام).

نقده الضعف العلمي في الإخوان 
فقد لاحظ الأستاذ البنا الضعف العلمي الذي أصاب الجماعة في نهاية الأربعينيات، ومن باب نقده الذاتي للجماعة، وبعد كثير من الشكاوى من بعض العاملين في الصف الإخواني، راح يعالج هذا الخلل عمليا، فأنشأ مجلة (الشهاب) الذي وضع لها الأستاذ البنا منهجية للكتابة يبرز منها: أنه قصد إلى علاج هذا النقص العلمي، فقد جعل لها أبوابا علمية ثابتة، كباب التفسير، وبدأ بمقدمة في علوم القرآن، ثم بتفسير سورة الفاتحة، ثم بدأ يفسر سورة البقرة، ثم يلي باب التفسير باب الحديث، وقد عهد به إلى والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (الساعاتي) الذي بدأ بأحاديث في باب الجهاد، ثم يليه باب مصطلح الحديث، ويليه باب عن النظام الاجتماعي الإسلامي، وهكذا كانت تسير المجلة على هذه الخطى. فهو بذلك ينقد ثقافة الإخوان، ويعالج ما يراه من ضعف علمي في الجوانب الشرعية والثقافية.
نقده العنف غير المبرر من التنظيم الخاص:
من ذلك أيضا: نقده رحمه الله لسلوك التنظيم الخاص في آخر أيامه، بعد انتشار حوادث القتل والعنف، فقال رحمه الله ـ فيما نقله عنه الشيخ الغزالي ـ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ولرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات. يريد بذلك أنه يتمنى أن يعود بالجماعة إلى أيام التربية الروحية، والتربية التي ينبغي أن تسبق حمل السلاح جيدا، وقد رتب البنا مراتب القوة من قبل التي ينبغي أن تسير بها الدعوة، فقال: قوة العقيدة، وقوة الأخوة، وقوة الساعد والسلاح، فقد جعل قوة الساعد والسلاح آخر مرتبة، فإن سبقت مرحلة من المراحل أدت إلى خلل ومشكلات لا يعلم مداها إلا الله، وما ذكره الشيخ الغزالي رحمه الله من نقد البنا لذاته وجماعته في مسألة التنظيم الخاص والجنوح بالقوة واستخدامها في غير ما هو مراد منها، هو نفس ما نقله عنه كريم ثابت عن الإمام البنا، وكريم ثابت من رجال القصر الملكي على عهد الملك فاروق، يقول عن هذه الأحداث:
(اتصل بي الأستاذ مصطفى أمين أحد صاحبي دار (أخبار اليوم) في ذات يوم ـ وكنا في منتصف شهر ديسمبر سنة 1948م ـ وقال لي: إنه رتب اجتماعا بيني وبين الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين في مساء الغد.
وفي الساعة السابعة من مساء اليوم التالي التقيت بالشيخ حسن البنا عند مصطفى أمين في داره بالروضة وكانت هذه أول مرة أجتمع فيها بالمرشد العام للإخوان المسلمين.

وكان النقراشي قد أصدر أمره العسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وفروعها بالأقاليم، ومصادرة أموالها، وأخذ في تنفيذ التدابير التي يقتضيها هذه الإجراءات، وامتدت موجة الاعتقالات بين المنتمين إلى الجماعة.
وطفق الشيخ حسن يحدثني عن قسوة تلك التدابير واتساع نطاقها، وأفاض الشكوى منها.
ثم استطرد يقول: إن انحراف الإخوان المسلمين إلى الاشتغال بالسياسة كان خطأ كبيرا، وإنه كان أحرى بهم أن يتجنبوها، وأن يصونوا أنفسهم عن الانزلاق في معمعانها، وأن يقصروا رسالتهم على خدمة الدين، ويصرفوا جهودهم في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والهداية إلى آداب الإسلام، وهو الأصل في تكوين الجماعة).

وهذه الوقفة النقدية كي لا يشكك أحد فيها، لم ترد فقط عن الشيخ الغزالي، وكريم ثابت، بل وردت على لسان محب الدين الخطيب في مقال كامل له، ووردت في مذكرات الشيخ أبي الحسن الندوي نقلا عمن سمعها رأسا من البنا، بل نقل الشيخ عبد المعز عبد الستار حفظه الله: أن الأستاذ عبد الحليم أبو شقة مؤلف كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) ذهب وشكا للأستاذ البنا الضعف العلمي والروحي للتنظيم الخاص، وأنه صار قوة بدنية، بلا قوة شرعية ولا روحية، وأن هذا ينذر بخطر شديد.

كتابات نقدية للإخوان
بل في عهد البنا، أفسح البنا المجال الواسع للنقد الذاتي للجماعة، فقام الدكتور عبد العزيز كامل، مسؤول قسم الأسر آنذاك، بالطواف على شعب الإخوان، ومناطقهم في أغلب محافظات مصر، أو مديريات مصر ـ حسب تسميتها آنذاك ـ ورصد الخلل التربوي لديها، والعيوب التي لاحظها، وراح يكتب سلسلة مقالات وصلت إلى أكثر من ثلاثين مقالا، بعنوان: حديث إلى الإخوان العاملين، وهي سلسلة منشورة في مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، ولعل الله يقيض لها باحثا يقوم بجمعها وتحقيقها ونشرها لأهميتها.

بل قام د. محمد فتحي عثمان حفظه الله، بكتابة مقالات نقدية ذاتية، وقد كان أوكل إليه الأستاذ البنا مسؤولية صفحة من صفحات مجلة الإخوان النصف شهرية، فكتب مقالا ينقد فيه بعض عيوب في قسم الطلبة، وقد كان مسؤولا عنه آنذاك الأستاذ فريد عبد الخالق (الدكتور الآن)، وكتب المقال بعنوان (إلى الطلبة) وكتب تحته: بعد إذن الأستاذ فريد عبد الخالق. وعندما كتب الدكتور عبد العزيز كامل مقالا بعنوان: (مهندسو السطوح ومهندسو القاع) يمجد فيه رجال التنظيم الخاص بأنهم مهندسو القاع، والعمق، ولهم أهمية كبيرة، تفوق أهمية مهندسي السطوح، ويشير بمهندسي السطوح إلى عموم الإخوان في الدعوة، فقام ورد عليه محمد فتحي عثمان، بمقال مطول في مجلة الإخوان أيضا.

إذن تاريخ حسن البنا، وأدبياته العامة والخاصة، ومجلاته وصحفه، مملوءة بصفحات من النقد الذاتي لا حصر لها، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه: أن النقد الذاتي عند حسن البنا كان عملا مؤسسيا، وكان عملا رسميا معلنا معترفا به، ومرحبا بمن يقوم به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق