الاثنين، 1 نوفمبر 2010

حوار رائع مع المستشار طارق البشرى- ج1


في 1 نوفمبر 2010 الساعة: 10:58 ص


حاوره أسامة حافظ، محمد يس 
قدم له عصام دربالة
"بعد نكسة 5 يونيو 1967م تركت المرجعية التي كنت أرد إليها الأمور وانتقلت إلي مرجعية أخري.. فأصبحت أشبه بمن غادر كوكباً له جاذبية تضعف مع مرور الوقت بالبعد عنه إلي كوكب أخر له جاذبية تزداد كلما اقتربت منه".
بهذا التعبير الجميل الموحي أنهي المستشار طارق البشري سرد قصة تحوله من المرجعية العلمانية إلي المرجعية الإسلامية وسألناه على الفور: من أين يبدأ الطريق إلي الله؟ فأجاب: "كيف يبدأ.. سؤال صعب".
كان لقاؤنا بالمستشار طارق البشري فرصة قد لا تتاح كثيراً؛ لأنك قد تلتقي برجل مهذب فتسعد به ويسعد بك.. وقد تلتقي بشخصية متميزة في أحد جوانب الحياة فتقضي معه وقتاً جميلاً تنتفع فيه بعلمه.. أما أن تلتقي برجل مهذب ومتميز في جوانب متعددة وله مواقف رائعة ولديه بجانب ذلك حكمة العمر التي امتصها من رحيق الحياة بأزهارها وأشواكها.. فأنت أمام الفرصة النادرة التي يجب ألا تفلت من بين يديك.
مع المستشار طارق البشري أنت أمام قاضٍ ومؤرخ ومفكر إسلامي وحكيم في آن واحد.. وكل هذا متسربل في ثوب قشيب من الأدب والتواضع الجم الذي يثبت أن الإنسان كلما ازداد علمه ازداد تواضعه.


وأمام شخصية بهذا الثراء تزداد الشهية لطرح الأسئلة وطرق الموضوعات وهو ما دفع الشيخ أسامة حافظ لأن يقول له:
لدينا أسئلة قد لا تنتهي وهو ما حدا بالحكيم البشري – على حد تعبير بعض حواريه – بأن يفسح لنا من وقته زهاء ثماني ساعات على جلستين في يومين استقبلنا فيها بود وترحاب وإكرام وودعنا بذات الابتسامة الجميلة على أمل اللقاء.. وسمح لنا بالطواف معه والغوص في حياته من الطفولة إلي اللحظة الراهنة والتجول معه في حدائقه الثلاثة التي له في كل منها ظلال ممدودة وأزهار يانعة.
وبدأنا بحديقة التاريخ فحلق بنا في سمائها مقيماً لأحداث كثيرة وشخصيات عديدة تارة يستفيض وتارة يختصر ويوجز، سألناه عن سعد زغلول، الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، جمال عبد الناصر، وقاسم أمين الذي قال عنه باختصار: ليس صديقي وطلبنا رأيه في: ثورة 1919، حريق القاهرة، ثورة 23 يوليو، محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية في 1954م، وفاة المشير عامر بين الانتحار والقتل.
ثم انتقلنا إلي عالم حديقته الثانية حيث عالم القضاء والمشاكل التي يمر بها اليوم وكيف يتحقق له الاستقلال ودور نادي القضاة في ذلك.
ثم طفنا معه في حديقته الثالثة كمفكر إسلامي وأجابنا عن القضايا المتعلقة بالمرأة ودورها وأهل الكتاب وحقوقهم، والنظام السياسي الإسلامي وقضاياه والحركة الإسلامية ما لها وما عليها، وحاضرها ومستقبلها، ومبادرة الجماعة الإسلامية.
واليوم ننشر الحلقة الأولي من حوار "رحيق العمر" مع المستشار طارق البشري والتي تدور حول حياته ونشأته والتحولات التي مر بها ولعلك سوف تقف أمام عبارات كثيرة استوقفتنا مثل:
* أهم ما تعلمته من جدي وأبي وأعمامي أن الإنسان لا يُقيم بمنصب ولا بشهرة إنما بعلم.
* هناك فارق بين تطوير الثقافة السائدة وبين تغييرها أو تدميرها.
* أعمال الفقهاء وإن كانت أعمالاً بشرية فهي تمثل جهدا ً عبقريا ً في استخلاص الأحكام من النصوص.
* نكسة يونيو 1967م جعلتني أضع قبل كل مسلماتي السياسية سؤال.
* ثورة يوليو لم تكن في تقديري معادية للإسلام لكنها كانت معادية للحركة الإسلامية بسبب منافستها لها على السلطة.
* في فترة تحولي توقفت عن نشر ما أكتبه ثلاث سنوات، كنت فيها أكتب لنفسي كي أعيد اكتشافها حتى استقرت الأفكار.
وقبل أن نتركك أيها القارئ العزيز مع هذا الحوار الثري الذي أدارة مع المستشار طارق البشري كل من: الشيخ أسامة حافظ، الشيخ محمد يس، وكاتب السطور السابقة نذكر لمن لا يعرف المستشار البشري نبذة عنه وعن مسيرته:
من هو "الحكيم البشري":-
"نقلاً عن موسوعة ويكبيديا"
ولد المستشار طارق عبد الفتاح سليم البشري في 1 نوفمبر 1933 في حي الحلمية في مدينة القاهرة في أسرة البشري التي ترجع إلى محلة بشر في مركز شبراخيت في محافظة البحيرة في مصر.
عرف عن أسرته اشتغال رجالها بالعلم الديني و بالقانون، إذ تولى جده لأبيه سليم البشري، شيخ السادة المالكية في مصر - شياخة الأزهر، و كان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951م، كما أن عمه عبد العزيز البشري أديب.
تخرج طارق البشري من كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1953م التي درس فيها على كبار فقهاء القانون و الشريعة مثل عبد الوهاب خلاف و علي الخفيف و محمد أبي زهرة، عين بعدها في مجلس الدولة و استمر في العمل به حتى تقاعده سنة 1998 من منصب نائب أول لمجلس الدولة و رئيسا للجمعية العمومية للفتوى و التشريع.
بدأ تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967م و كانت مقالته "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في هذا الاتجاه، و هو لا زال يكتب إلى يومنا هذا في القانون و التاريخ و الفكر.
هو متزوج و له ولدان هما عماد و زياد، و يقيم في منطقة المهندسين في الجيزة.
من أهم مؤلفاته:
1. الحركة السياسية في مصر 1945 - 1952م، صدر سنة 1972م.
2. الديمقراطية والناصرية، صدر 1975م.
3. سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية - البريطانية 20 - 1924م، صدر سنة 1977م.
4. المسلمون و الأقباط في إطار الجماعة الوطنية، صدر سنة 1981م.
5. الديمقراطية و نظام 23 يوليو 1952 - 1970م، صدر سنة 1987م.
6. دراسات في الديمقراطية المصرية، صدر سنة 1987م.
7. بين الإسلام و العروبة - الجزء الأول، صدر سنة 1988م.
8. بين الإسلام و العروبة - الجزء الثاني، صدر سنة 1988م.
9. شارك في وضع منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي بورقة عنوانها: نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة، صدرت سنة 1988م.
10. منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، صدر سنة 1990م.
11. مشكلتان و قراءة فيهما، صدر سنة 1992م.
12. شخصيات تاريخية، صدر سنة 1996م، لكنه يحوي دراسات كان قد كتبها في فترات زمنية متباعدة سابقة على ذلك التاريخ (أولها عن شخصية سعد زغلول في سنة 1969م، و آخرها عن مصطفي النحاس سنة 1994م ).
 سلسلة كتب بعنوان رئيسي "في المسألة الإسلامية المعاصرة " بدأ صدورها سنة 1996م بالعناوين التالية:
1. ماهية المعاصرة.
2. الحوار الإسلامي العلماني.
3. الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.
4. الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي تلاها في سنة 1998 إعادة إصدار الجزء الأول من كتاب "بين العروبة والإسلام"، ثم الجزء الثاني الذي ضُمت إليه دراستان، و صدر تحت عنوان "بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي".

حوار "رحيق العمر" مع المستشار البشري:-
 عصام دربالة: معالي المستشار سعادتنا كبيرة ونحن في ضيافتك لأكثر من سبب:
 السبب الأول: أننا بحضرة شخصية ثرية تتنوع جوانب الثراء فيها بين القضاء والتاريخ والفكر الإسلامي.
 السبب الثاني: إننا أمام صاحب مواقف مشهودة في زمن ندر فيه وجود صاحب موقف.
 السبب الثالث: أننا أمام صاحب خبرة عريضة بالحياة عبر سنوات العمر الطويلة، وأمتع الحوارات تلك التي تكون مع أصحاب الخبرة والحكمة.
 السبب الرابع: إننا أمام شخصية شهدت تحولاً لقناعتها من العلمانية إلي الفكر الإسلامي واليوم سعادتكم تعد من كبار المفكرين الإسلاميين.
 السبب الخامس: إننا في ضيافة شخصية دمثة الأخلاق والتواضع عنوان لها، وهو ما يشجعنا للتطفل على مائدتكم شاكرين مواقفكم لإجراء هذا الحوار معنا.
 أسامة حافظ: نشكركم سعادة المستشار على هذا الوقت الذي منحتنا فيه فرصة اللقاء بك ولدينا أسئلة لا تنتهي نريد توجيهها لكم، بعضها نحاول من خلاله الاقتراب من عالمكم الشخصي، والبعض الأخر نطرح فيه ما يتعلق بالتاريخ والقضاء والفكر الإسلامي والحركة الإسلامية فاعذرنا إن أطلنا واسمح لنا أن نبدأ بمعرفة بعض الأمور عن بطاقتكم الشخصية:
 المستشار: مرحباً بكم وأنا تحت أمركم، ولقد ولدت في عام 1933 وكان والدي يعمل بالقضاء ولي ولدان عماد وزياد أحدهما يعمل بالقضاء والأخر مهندس.
عصام دربالة: ولدت في بيت كان الوالد فيه قاضياً وأحد أبنائك يعمل أيضاً بالقضاء فهل أنتم من مؤيدي ممارسة الأبناء لمهنة الآباء ؟
المستشار: إن صادف العمل بذات المهنة هوى في قلوبهم وكانوا قد تعلموا من أبائهم شيئاً يتعلق بآداب المهنة يكون أمراً طيباً.. ولكن لا نستطيع أن نقول أنها قاعدة تلتزم خصوصاً إذا كان التوريث هنا ليس عن طواعية.. وأنا توفي أبي وأنا في الجامعة في الصف الثاني من كلية الحقوق وتخرجت بعد قيام الثورة التي قررت عدم تعيين أبناء المستشارين في القضاء لمجرد بنوتهم ومن ثمَّ تم تعيني بناء على الكفاءة بعيداً عن القرابة.
أما ابني عماد فقد ضغطت عليه لكي يدخل قسم رياضة وعندما نجح في الثانوية وظهرت نتيجة التنسيق وجد نفسه قد التحق بكلية الهندسة في أحد الأقاليم وهو ما جعله يغير وجهته إلي الالتحاق بكلية الحقوق.
محمد يس: للأسف ظاهرة توريث المهن صارت موجودة على كل المستويات حتى بين الفنانين واللاعبين وغيرهم ؟
المستشار: إذا كان هذا التوريث نتيجة لاستغلال النفوذ أو كأثر لوجود الأب في مكان معين فهذا حتما يؤدي إلي تدهور هذه المهنة.
أما إذا كان ذلك يحقق مزيداً من التعليم والتربية فهذا أمر طيب والجانب الأخلاقي هو الذي يحكم هنا.. فيجب أن تحاط هذه المسألة بعدد من الضوابط الأخلاقية التي تمنع من توريث الابن غير المستحق مهنة الأب المستحق.
محمد يس: ماذا عن نجلكم الثاني الأستاذ زياد ؟ 
المستشار: حقيقة أنا ضغطت عليه لكي يدخل كلية الهندسة ودخل قسم العمارة وتخرج منها ويعمل مع بعض أصدقائه في هذا المجال.
عصام دربالة: لابد أن تكون هناك فكرة تقف وراء ضغطكم على ابنكم لدخول مجال الهندسة ؟
المستشار: كنت أخشي أن يكون متأثراً بي وكنت مقتنعاً بمقولة والدي رحمه الله إن المستقبل في الميكانيكا والسيارات والهندسة وكان يقول هذا رغم أنه كان مستشاراً وهذه كانت نظرة صائبة في ذلك الوقت.
عصام دربالة: أحسب أن كل من عاش فترة الستينات من القرن الماضي وعاش زهو ثورة 23 يوليو التي كانت تدعو إلي التصنيع الثقيل وتقيم المشروعات الهندسية الكبرى كالسد العالي وتدعو إلي تعمير الصحراء كان يتأثر بهذا الجو ويسعي للالتحاق بركب الهندسة والمهندسين ولكن أسمح لي سعادة المستشار أني قد درست الهندسة أولاً ثم درست الحقوق في فترة لاحقه أثناء تواجدي بالسجن فوجدت أهمية هذه الدراسة الحقوقية لكل أحد فما رأيكم؟
المستشار: نعم يجب أن تشيع هذه الدراسة ويجب أن تكون ثقافة سائدة؛ لأنها توقف الناس على حقوقهم وواجباتهم كما أنها تحقق لهم التدريب على الأخذ بالمعايير الموضوعية وليست الأوصاف الذاتية لأننا عندما نبدأ دراسة كلية الحقوق نتعلم أن القاعدة القانونية قاعدة عامة مجرده أي تدرك بالأوصاف وليس بالذوات وأساسها أفعال وليس أشخاصاً وهذا هو المدخل الصحيح في التفكير . 
أسامة حافظ: في حوار من حواراتك ذكرتم انك تأثرت كثيراً بجدك الشيخ سليم البشري رغم إنه توفى قبل ولادتك بسبع عشرة سنة فكيف ذلك؟
المستشار: جدي كان له أحد عشر ابنا تسع ذكور واثنان إناث، بعض من أبنائه كانوا مطربشين والباقي معممين أي من رجال الأزهر، وجدي لأمي كان معيناً في الأزهر وكان يشتغل في الزراعة.
والحقيقة أني نشأت بين المدينة والقرية ولكني كنت أمكث كثيرا في قرية الدير، وبين الطربوش والعمة نشأت بينهما فوجداني تربي بين القرية والمدينة وثقافتي خليط بين الثقافتين، وكان المسجد يمثل المكان المقدس الذي ترددت عليه. 
والمدرسة والقضاء الحديث يقال عنه اليوم القاعة المقدسة وهذا تعبير مأخوذ من وظيفة المسجد قديماً وهي التعليم والتشريع والقضاء وهي وظائف المسجد القديم التي رأيناها في المساجد آنذاك وتأثرنا بها.
وجدي رحمة الله عليه نشأ فقيراً ومات فقيراً ولما مات كان لا يملك سوي المنزل الذي يسكن فيه.
وأهم حاجة تأثرت بها ووجدت أبي وأعمامي عليها أن الإنسان لا يقيم لا بمنصب ولا بشهرة إنما بعلم وهذا ما قصدته بقولي إنني تأثرت بجدي وهذه نقطة لا تؤخذ بالتعليم ولكن تؤخذ بالتربية وبأن يصاغ وجدان الإنسان على مثل هذه القيم.
محمد يس: لماذا انعدم تأثير الأزهر في أيامنا هذه.. أنت تأثرت بجدك شيخ الأزهر لماذا فقد الأزهر تأثيره على المجتمع والناس والحياة بشكل عام داخل مصر ؟
المستشار: هذه المسألة أوضحتها في أحد كتبي وأبنت أن الأزهر كان فيما مضي يمثل اتجاه الثقافة الوحيدة وكانت الثقافة الأزهرية تتسع لما تطرحه الحكومة والمعارضة في نفس الوقت؛ لأن الجميع كان يصدر وينطلق من المرجعية الإسلامية التي كان يصوغها الأزهر والتعليم الأزهري.
ثم في فترة لاحقة ظهر التعليم الحديث وحدثت تغيرات ثقافية أدت لظهور مرجعية جديدة واتجاه جديد قائم على فصل الدين عن الدولة بدأ يُزاحم الأزهر وأدي إلي الاختلاف بين أهل الحكم والمعارضة لصدورهم عن مرجعيات مختلفة وبدأت سياسة التوظيف تعتمد على المنتمين لهذا الاتجاه الجديد ومن ثمًّ ضعف تأثير الأزهر في الأمور.
محمد يس: هل بدأ ذلك التغيير في عهد محمد على؟
المستشار: لا لم يكن ذلك في عهد محمد على لكن بدأ في عهد الخديوي إسماعيل ثم الخديوي توفيق فالتعليم كان في أيام محمد على يعتمد على الأزهريين في التدريس لهذه العلوم المستجدة.
وكانت الدراسة نصف عدد ساعاتها في ذلك الوقت مخصصة للغة العربية والدين وفي تقديري أن محمد على لم يرغب في السير في اتجاه أخر غير اتجاه الثقافة السائدة لكن بدأت عملية التغيير في نهاية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر أيام الخديوي إسماعيل وتوفيق حيث كان يراد تغيير الثقافة السائدة وليس تطوير الثقافة السائدة.
ففي عهد محمد على كان يرسل البعثات لتعلم الطب والهندسة وأيضاً الطب البيطري والعسكرية بينما في عهد إسماعيل كان ما يناظر كلية الحقوق اليوم يسمي بمدرسة الألسن والإدارة رغم أنها كانت تدرس المواد الحقوقية التي نعرفها اليوم وإن كانت أبقت على تدريس الأبواب الإسلامية مثل قانون المعاملات والأمور التجارية وترجمت القوانين الوضعية الأوروبية إلي اللغة العربية لتشجيع هذه الثقافة الوافدة من عام 1868 تقريباً.
تحولت الثقافة والتعليم في عهد إسماعيل إلي تدريس الأدب وعلم النفس والفلسفة رغم أننا كنا نحتاج إلي استقدام العلوم الخاصة بالنظم الإدارية والدستورية والاقتصادية والمالية التي لم يكن لها نظير لدينا لكن المسألة كان الغرض منها تغيير الثقافة وليس تطوير الثقافة.
هذا الأمر عمل ازدواجية في التفكير بحيث نشأ اتجاهان في كل المستويات الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية:
1. اتجاه إسلامي يمثله الأزهر.
2. واتجاه وضعي غرضه كما كانت سياسة (دانوب) فصل الدين عن الدولة تماماً.
ثم أصبح التوظيف في وظائف الحكومة كله يأتي من هذا الاتجاه.
ومن خلال إطلاعي على بعض الصحف التي كانت تصدر في هذه الفترة أثناء إعدادي لأحدي دراساتي كان هناك اعتراض من خريجي الأزهر على سياسة التوظيف التي قلصت أمامهم الفرص في الحصول على وظيفة مناسبة حيث أصبح الأزهري ليس أمامه فرصة في التعيين سوي التعيين في القضاء الشرعي لمن كان حنفي المذهب فقط أو في الوعظ.
ومن ثم ضعف تأثير خريجي الأزهر في مجريات الأمور وبدأت أعداد المعاهد الأزهرية تقل واستمر ذلك حتى أيام الشيخ عبد الحليم محمود.
وأذكر أن الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الذي كنت أقدره قال لي: إنه عرض على الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء المصري في فترة التسعينات من القرن الماضي أن يبني أكثر من خمسين معهداً أزهرياً سنوياً من تبرعات الصالحين وقال له: وكل ما أرجوه الحصول من الدولة على مرتبات الموظفين والعاملين فيها فقط ولكنه لم يوافق على ذلك فالأزهر في الحقيقة قد ضيق عليه. 
محمد يس: أم أن الأزهر هو الذي ضيق على نفسه ؟
المستشار: فكرة أن الأزهر كان جامداً ومن ثم انصرف الناس عنه ليست صحيحة.. فالجمود هو ألا تفُعل الفكر في الواقع.. فالقاضي أو المفتي إذا حضر له من يسأله عن حكم الله في أمر معين فلابد أن يجيبه وفقاً لأصول الشرع الإسلامي ويقدم له حلاً لمشكلته.. وطالما النصوص يتم تطبيقها في الواقع فهذا يعطي تجدداً للفقه وهو ما تعلمناه من قواعد أصول الفقه التي تساعدنا في معرفة دلالة النصوص حتى نصوص القوانين الوضعية فنميز فيها ما بين العام والخاص والمطلق.
فالأزهر كان جامداً لأن المجتمع بأسرة كان جامداً.. ومما يبين أن الأزهر قابل للتجديد أن الأزهر لم يعارض ما فعله محمد على لأن في عهد محمد على كان الأزهريون يتفاعلون مع طموحاته.
حتى أن أحد الباحثين وجد كتاباً في عهد محمد على كتبه أحد شيوخ الأزهر عن التشريح وأحكامه والشيخ العروسى كان من الشيوخ الذين ظهروا في عهد محمد على وكان له وزنه وهؤلاء عندما تفاعلوا مع محمد على لم يكن ذلك عن ضعف ولكن كان ذلك انطلاقاً من فهمهم وقابليتهم للتجدد.
وحتى اعتراض الشيخ عمر مكرم على محمد على كان على خلفية الأوقاف ويغلب عليه الطابع السياسي أكثر منه الطابع الشرعي.
أسامة حافظ: ويمكن أن نذكر في هذا المقام الشيخ رفاعة الطهطاوي؟
المستشار: نعم فهو ذهب إلي الخارج مع المبعوثين ولم يكن خائفاً من الثقافة الغربية بل كان منفتحاً للنظر إليها ومستعداً للأخذ منها ما يتوافق مع إسلامه دون ما يتعارض معه ، وقد كان يتعامل مع هذا الأمر من خلال ثقته في النفس ودون خوف على إسلامه ونحن الآن الشخص اللي جامد فينا (متشدد) تلاقيه خايف على إسلامه عندما يتعامل مع أي شيء وافد. 
أسامة حافظ: ذكرت أن معاليك قد تأثرت في أثناء دراستك بكلية الحقوق بفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ على الخفيف والشيخ عبد الوهاب خلاف وكان لهم أثر في تكوينك فكنا نريد إطلاله على هذه المرحلة؟
المستشار: نعم هؤلاء من أساتذتي الذين تأثرت بهم وهذا جزء من تأثير النشأة الدينية في تكويني ففي كلية الحقوق كانت الشريعة الإسلامية عبارة عن علم من ستة علوم والباقي كانت علوماً وضعية كالجنائي والتجاري والمدني … الخ    
ولكن كان تأثير دراسة الشريعة الإسلامية في الكلية أقوي من تأثير كل هذه العلوم لما تملكه الشريعة من إحكام في الصياغة وتحديد للأمور التي بينها توافق والأمور التي بينها فروق وهو ما يسهم في إحكام صياغة تفكير الدارس.
ولمعرفة مثل هذا الأثر فعلى سبيل المثال قام النائب العام الأسبق بدر المنياوي بعمل دراسة عن أثر الفقه الإسلامي في أحكام محكمة النقض وتفسيرها وأبان أن القضاة وهؤلاء كانوا يفسرون القانون الوضعي وفقاً لما تعلموه من قواعد أصول الفقه وللأسف لم تطبع هذه الدراسة.
وكذلك في مجلس الدولة عندنا الأحكام الصادرة من القضاة وصياغتها المحكمة أثر من أثار دراسة الشريعة الإسلامية ولذا فإن أعمال الفقهاء وإن كانت أعمالاً بشرية فهي تمثل جهداً عبقرياً في كيفية استخلاص الأحكام من النصوص وأثرت تأثيراً كبيراً في صياغة تفكير الكثير منا.
عصام دربالة: ألا يوجد أي موقف بينك وبين هؤلاء المشايخ الثلاثة ما زال محفوراً في ذاكرتك ؟
المستشار: كان الشيخ على الخفيف يدرس لنا المعاملات في السنة الأولي وكان الشيخ أبو زهرة يدرس لنا الزواج والطلاق والمواريث وأحكامه في السنة الثانية والثالثة والشيخ خلاف كان يدرس لنا أصول الفقه فنحن تربينا على أيديهم.
عصام دربالة: يقال أن الشيخ أبو زهرة كان خفيف الظل ومما يذكر في هذا المقام أنه دخل أحد الطلبة المدرج بعد بدء المحاضرة ومعه وردة في يده وأراد الشيخ أبو زهرة أن يبدي له تبرمه من دخوله متأخراً وبهذه الطريقة، فقال له: أدخل يا أبا ورده فرد عليه الطالب على الفور حاضر يا أبا زهرة فانفجر الشيخ أبو زهرة ضاحكاً ونزل صوب الطالب واحتضنه وقبله في ظل بهجة سادت كل الحاضرين واعتذار الطالب.
المستشار: نعم كان خفيف الظل وجميل الفكاهة.
أسامة حافظ: في مجال التأثر ذكرت سعادتكم أنكم تأثرتم كثيراً بكتاب الشيخ محمد الغزالي عن العقيدة الإسلامية رغم أنك هذه الفترة كانت لك ميول يسارية فكيف يمكن فهم ذلك ؟
المستشار: الفترة التي كان لي فيها توجه يساري وعلماني كان متعلقاً بالجانب السياسي.. أما الجانب العقيدى فكان الإيمان راسخاً في النفس والوجدان ولذا كان طبيعياً أن اقرأ هذا الكتاب.. فقد كنا في هذه الفترة نفكر في هل الدين يمكن أن يكون أحد العناصر المشاركة في التقدير السياسي أم أن هذا الأمر يستقل به الإنسان كيفما يراه؟.
ولذلك في هذه الفترة كان يوجد من هو وطني علماني كالوفد في 1919م كان وطنياً علمانياً.
وكان الموقف الوطني هو الذي يجذب الناس كلهم وهو الذي كان يتعلق بإخراج الإنجليز والحصول على الاستقلال.. وأنا في فترة الجامعة كنت أميل للوفد ودخلت الجامعة في 1949 وتخرجت 1953.
والوفد كان حزباً علمانياً ووطنياً بمعني أنه يريد أن يحقق الاستقلال ويبني مجتمعاً على نمط الحياة الغربية وهذا الذي صنع مشكلة.
بعد ذلك جاءت ثورة 23 يوليو وحققت الاستقلال وفي رأيي أن ثورة 23 يوليو لم تكن معادية للإسلام ولكنها كانت معادية للحركة الإسلامية بسبب منافستها لها على السلطة فموقفها هنا كان أقرب للموقف السياسي منه من العداء العقيدي للإسلام.
وعبد الناصر لم يكن ماركسياً بمعني الإلحاد ولكن كان يميل إلي معاني الاشتراكية والعدالة وكان لديه فكرة لإصلاح الأزهر ولكنها لم تنفذ وهي أن يرسل مبعوثين للأزهر مهندسين وفي نفس الوقت دعاة على غرار ما يفعل المبشرون.
فلما حدثت نكسة 67 وكان الاستقلال السياسي قائماً والاقتصاد يتم بناؤه والوضعية الدولية والإقليمية لمصر في مكانه عالية فثار في النفس السؤال أين يكمن الخطأ الذي أدي لحدوث النكسة؟ وهو ما أدي إلي أن يراجع الإنسان نفسه ومسلماته السياسية، ويضع قبل كل مسلماته السياسية علي المحك؟.
فتبين لنا أشياء كثيرة: - وجدنا أن العنصر الناقص لدينا هو المزج بين العقيدة وبين الأوضاع القائمة.
وتبين لنا أن لا ديمقراطية بدون حركة إسلامية؛ لأن الإسلام هو الثقافة السائدة التي تحرك الناس في المجتمع.  
وأيضاً تبين لنا أن العلمانية هي عنوان للاستبداد وهذه هي فكرة مالك ابن نبي المفكر الإسلامي .. وهو الذي طرح فكرة الفرق ما بين الفكرة المشخصنة والفكرة المجردة.
والفكرة المشخصنة هي التي ترتبط بوجود شخص أو زعيم فتستمر طالما وجد هذا الزعيم وتندثر بغيابه كما حدث مع عبد الناصر.
أما الفكرة المجردة فهي تلك التي لها درجة من القبول والشيوع بين الناس بحيث أنها لا تعتمد في نموها وبقائها على شخص.
ولن تجد أفكاراً مجردة على هذه الصورة إلا الفكرة الدينية وهي التي تجعل أي مجموعة من الناس إذا ما عرضت عليها قضية معينة تتناولها بذات الطريقة التي تتناولها مجموعة أخري بعيدة عنها وفي أي مكان أخر.
فعلي سبيل المثال إذا ما توفي رجل في واحة الفرافرة فستجد من بين الناس هناك من يدلهم على كيفية تقسيم ميراث هذا الرجل ويحدث نفس الشيء إذا ما حدث ذلك الموقف قريباً منا في القاهرة.
ولذلك عندما تُناقش أي قضية في المجلس التشريعي وتمس أمر إسلامي فإننا نجد الكثيرين من كافة الأعمار والمستويات يقومون بمناقشتها لإحساسهم بأن ذلك يمس شاناً خاصاً بهم.
أما في العلمانية فالشرعية فيها شرعية إجرائية بمعني أن أي نص تشريعي لكي ينال الموافقة عليه يحتاج إلي نسبة عددية هي 50% وواحد من عشرة وهذا معناه استبداد هؤلاء برأيهم دون الآخرين.
عصام دربالة: إذا سمحت لي يمكن القول: إن الفكرة العلمانية عندما قررت استبعاد الدين عن الدولة فهي بذلك رفضت قبول من يري أن الدين جزء من الدولة ومنعتهم من حقهم في العمل السياسي وهذه ممارسة استبدادية أليس كذلك؟
المستشار: بالضبط كده.
عصام دربالة: ما أوضحته سعادتك يعبر عن تحليل دقيق للعلمانية يبين ما تحمله من عوار يتمثل بأنها تحمل استبداداً بداخلها خفياً يتستر في ثوب الحرية وذلك عندما يراد من أمة بأكملها أن تتخلي عن ثقافتها السائدة وقيمها كي يتاح لها فرصة الحصول على حرية العمل السياسي.
المستشار: عود إلي قضية تحولي إلي مربع الفكر الإسلامي هذه الأمور دفعتني إلي ضرورة إعادة النظر في ما هو مستقر وجوهري وأيضاً فيما يعد من قبيل ألأحكام التفصيلية مثل رأيك في الشيخ على عبد الرازق والدكتور طه حسين إلي أخره وهو ما دفعني إلي التوقف عن الكتابة لمدة ثلاث سنوات وكنت أكتب لنفسي فقط لكي أكتشف نفسي حتى استقرت الأفكار.
أسامة حافظ: كتبت سعادتك مقدمة جديدة لكتاب الحركة الوطنية من سنة 1946 إلي 1952 في سنة 1971 نشرت في بداية الثمانينات فلماذا تأخرت كل هذا؟
المستشار: نعم قد حدث ذلك وأيضاً حدث مثل ذلك في كتاب المسلمون والأقباط الذي كنت شرعت في كتابته كدراسات منفصلة أنشرها في مجلة الكاتب فعندما حدثت نكسة 67 توقفت لإعادة النظر فيما كتبت وما سأكتبه بناء على التغير الذي كان يحدث لدي على مستوي المعايير المرجعية التي يمكن أن أحكم بها على الأشياء.
فالذي حدث أني قد تركت المرجعية التي كنت أرد إليها الأمور وانتقلت إلي مرجعية أخري فأصبحت أشبه بمن غادر كوكباً له جاذبية تضعف مع مرور الوقت بالبعد عنه إلي كوكب أخر له جاذبية تزداد كلما اقتربت منه.
عصام دربالة: بعد هذه التجربة العميقة التي عشتها من أين يبدأ الطريق إلي الله؟
المستشار: كيف يبدأ.. سؤال صعب في الحقيقة تختلف الإجابة باختلاف الحالات بالنسبة للطفل يبدأ بالتربية وبالنسبة للعلماني يبدأ بطرح مسلماته كلها على مائدة البحث الموضوعي.. والعلماني يغش نفسه أحياناً في الحقيقة فعندما يقول ليس عندي مقدسات كالسياسة فهو عنده مقدسات.
وفي إحدى الندوات التي أقامها مركز الوحدة العربية في مدينة الإسكندرية قال بعض العلمانيين إن مشكلتنا فقط مع المقدس فلو تكلمنا على أساس بالدين فلن استطيع أن أعترض.. فقلت لهم وأنتم أيضاً عندكم مقدسات فالمقدس هو أصل مرجوع إليه يستمد منه التمييز ما بين الخطأ والصواب وبين الباطل والصحيح وبين الحسن والقبيح.. فقال العلماني: لكني يمكن أن أتركه فقلت له ستتركه إلي مقدس أخر.
عصام دربالة: يتهم بعض العلمانيين الإسلاميين بأنهم نصوصيون أي ينطلق تفكيرهم من نص الكتاب والسنة بينما العلمانيون بهذا الفهم من جملة النصوصيين عندما يقيدون أنفسهم بنص دستوري أو بنص من الفكر الإنساني.
المستشار: نعم الأمر كذلك.    
وهنا نكتفي بإيراد هذا الجزء من الحوار الثري مع المستشار طارق البشري على أمل اللقاء في الحلقة التالية من هذا الحوار ونستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق