الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

الإمام البنا.. قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (3/4)...إبراهيم الهضيبى

الإمام البنا.. قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (3/4)
عن التنظيم.. قضايا عالقة في فكر الإمام البنا
إبراهيم الهضيبى 6-5-2009
 كان الإنجاز الأساسي للإمام الشهيد حسن البنا هو بناء تنظيم الإخوان المسلمين ليكون مؤسسة جماهيرية حامية للفكرة الإصلاحية الإسلامية ومعبرة عنها، وكانت الفكرة الأساسية التي قام عليها التنظيم هي (شمولية الإسلام)، التي جاءت لتبشر بيقظة إسلامية تعيد ربط الإسلام بمجالات الحياة المختلفة، فكانت الأهداف النهائية له –بحسب الإمام المؤسس- هي أن "يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة".
 وقامت الجماعة- في سبيل ذلك- بأدوار متعددة؛ فأدت أدوارا دعوية، واجتماعية، وثقافية، وخدمية، وإعلامية، وسياسية، وجهادية عسكرية، كل ذلك في سبيل خدمة مشروعها الإصلاحي الإسلامي الذي قامت من أجله. وقد كان ذلك أمرا طبيعيا لجماعة جعلت نفسها (حضَانة) لمنهج الإصلاح والتجديد، فكانت تزرع البذرة وتحرسها، ثم تخرجها للمجتمع. والواقع أن تلك الأخيرة تحديدا (إخراج الفكرة من الجماعة إلى المجتمع) كانت تمثل نقطة عالقة في فكر الإمام البنا، الذي اتسم بقدر كبير من عدم الحسم حيالها  في الناحية التطبيقية، وإن اختلفت الدرجة من مجال لآخر. ولأجل تبسيط الورقة، نشير إلى مجالات ثلاثة، كلها موجودة في أصل الفكرة الإسلامية التي نادى بها البنا، ولكن التجربة العملية أكدت ما ذهب إليه المفكرون من صعوبة تناسقها في تنظيم واحد بشكل فعال، تلك هي الجوانب الدينية الدعوية، والسياسية المدنية، والجهادية العسكرية، نشير إليها باعتبارها نماذج للفارق بين الجانب الفكري والجانب التنفيذي للدعوة.

1- في البداية: الأفكار والأهداف النهائية

السؤال الأساسي الذي لابد أن تنطلق منه كل الأسئلة المتعلقة بتنظيم الإخوان هي الأهداف التي أسس من أجلها البنا الجماعة، ذلك لأنه إذا كان التقييم يتم بمعزل عن الأهداف صار التنظيم في ذاته هدفا، أو صار (صنما) يعبد ويحافظ عليه تقربا إلى الله، كما كان المشركون من بعد نوح يتعبدون بصور الصالحين من قومه تقربا إلى الله، ثم جاءت من بعدهم أقوام لم تفهم ما ذهبوا إليه، فتعلقوا بالأصنام ونسوا أن آباءهم لم يكونوا يعبدوها وإنما كانت صورا للصالحين تذكرهم بأهدافهم في عبادة الله.
وأهداف التنظيم لا يمكن فهمها إلا بكلام الإمام المؤسس، فقد حدد الرجل أهدافا ثم أسس التنظيم كوسيلة من ضمن وسائل أخرى لتحقيقها، وقد انضم للتنظيم من اتفق معه على الهدف، ومن اتفق معه على بعض الهدف، ومن أساء فهم الهدف، فكان منهم من رأى في الإخوان الجماعة الوعظية الدينية، ومنهم من رأى فيها (خلاصا روحيا) يتقرب بما فيها من روحانيات إلى الله، ومنهم من رأى فيها بديلا اجتماعيا عما في المجتمع من فساد، ومنأى آمن عن ذلك ، فأراد الانضمام إلى الجماعة، أو بالأحرى الهروب إليها مما في المجتمع، وربما الانعزال بها عن خضم الحياة، وكل هؤلاء لا يمثلون حجة على أهداف الجماعة إلا بقدر اقترابهم من أهداف المؤسس الإمام الشهيد حسن البنا.
وفي كتابات الإمام البنا في رسائله المطبوعة ما يسمن ويغني من جوع عن أهداف جماعته الكلية والنهائية. ولابد من فهم أهداف البنا في سياقها، فهو أسس الإخوان حينما اتجه التيار العام للحركة الوطنية للعلمانية، فقدم "فكرا شيد وتراصت لبناته تحت خط النار، وبنيت قلاعه وسط قصف مدافع الخصوم"  وكانت أهداف حركته كلها تهدف إلى إعادة البناء الإسلامي المهدم، تهدف إلى الوقوف في "وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي جرفت الشعوب الإسلامية فأبعدتها عن زعامة النبي وهداية القرآن وحرمت العالم من أنوار هديها" .
كان (الإحياء بالقرآن) هو المحور الأساسي لهذه الدعوة، فكانت الإخوان في نظر مؤسسها "دعوة القرآن الشاملة الجامعة"  إحياؤه حتى يصير موجها للعرف العام في الأمة، وكتب البنا في ذلك أكثر من رسالة، منها (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن)، ومنها كلمات هامة قالها في رسائل (بين الأمس واليوم) وفيها كتب يوصف دور الإخوان فقال "أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد. ولكنكم روح جديد يسري في قلب الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله"  واستخدام لفظتي (روح) و(نور) في هذا الإطار هو استخدام له دلالاته، فكلتا اللفظتين وردتا في القرآن تعبيرا عن القرآن نفسه، كما في قول الله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) وقوله (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)، ولعل استخدام الإمام لهما تأكيد على أن الأصل هو ربط الناس بالقرآن، وفهم منه بأن الجماعة دروها حمل رسالة القرآن.
وفي رسالة (هل نحن قوم عمليون) يقول الإمام " كان القرآن فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم، وكانت واسطة العقد في الخطب والعظات فصار واسطة العقد في الحلي والتميمات" ، فأقام دعوته لعلاج هذا الأمر؛ ليعود القرآن يزين الصدور بدلا من الجدران، وينظم شؤون الأحياء بدلا من قراءته على الأموات.
وفي رسالة (المؤتمر الخامس) يشير إلى أن الاتفاق بين مؤسسي الجماعة والعهد بينهم "كان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة نظر إسلامية صالحة"  وإضافة كلمة (صالحة) إلى إسلامية توضح أن البنا لم يكن يهدف إلى ربط الناس بالقرآن فحسب؛ فالقرآن فهمه أقوام بأفهام مختلفة، وإنما قصد اعتماد إسلوب ومنهج في الأخذ من القرآن، وفي تنزيله على الواقع، وهو منهج المدرسة الإصلاحية الإسلامية التي سبق الإشارة إليها، وهو المنهج الذي يرسم الإمام البنا بعضا من ملامحه في الأصول العشرين في رسالة التعاليم.
ومما سبق يمكن فهم دعوة الإمام البنا، ودعوة الإخوان المسلمين لا باعتبارها دعوة تنفيذية لها آهداف آلية محددة، وإنما باعتبارها دعوة تشكيل مرجعية، تسعى لتشكيل وعي المجتمع وفق رؤية إصلاحية إسلامية معتدلة، لا إفراط فيها ولا تفريط، تطبعت بطباع القرآن الذي (فيه آيات بينات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) فعنت بالأصول الفكرية ولم تتدخل في التفصيلات ولا في التنفيذ إلا حيث اقتضت الضرورة العملية ذلك، وعنت بالخطوط العامة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي من دون الدخول في التفصيلات، فقدمت رؤية فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية، ولم تقدم بالضرورة برامج مفصلة لهذه المجالات تطبعت بالقرآن فكانت دعوة منفتحة، "عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أي دعوة إلا ألمت به" وكانت روحا تسري في المجتمع، محفوظة أصولها في التنظيم لكن بقاؤها في داخله حياد عن هدفها، تماما كما بقاء القرآن بين دفتي المصحف.
وقامت جماعة الإخوان بذلك على دعوة لـ(لفكرة) وليس لتنظيم، قامت على أن "نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة"  وليس على أن تقوم هي على التنفيذ، فهي دعوة تتخطى الحدود التنظيمية وتسعى لإشراك المجتمع في "إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعا ووتجه نحوه الأمة جميعا ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغير والتبديل،"  ودور التنظيم في هذا الإصلاح الشامل واضح ومحدد، وهو الاهتمام بتربية النشئ "فأحسنوا دعوته، وجدوا في تكوينه، وعلموه استقلال النفس والقلب، واستقلال الفكر والعقل، واستقلال الجهاد والعمل، واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن"  بحيث تتكون لديه "إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع لا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره" ، وبناء النشئ على هذا الأساس هو السبيل للنهضة، "فالرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها."

بهذا المفهوم كانت جماعة الإخوان في نظر مؤسسها (مدرسة) للفكر الإسلامي، تهتم بالتربية الروحية والأخلاقية، وبإرساء أسس الإصلاح الفكري، لتخرج إلى المجتمع رجالا يحملون فكرا إسلاميا وسطيا إصلاحيا، وأخلاقا إسلامية، فيتناغم فيهم العقل والقلب حتى يتمكنون من إحداث التغيرات الاجتماعية المطلوبة لبناء نهضة إسلامية، والإخوان تقدم لهم في ذلك الأصول الفكرية والأخلاقية لمنهج الإصلاح الإسلامي، وتترك لهم الاختلاف حول الفرعيات والجزئيات والتنفيذيات والوسائل التي تختلف من (خريج) لآخر، وتبقى جميعها تناجا لمدرسة الإصلاح الإسلامي.

والحقيقة أنه بالنظر إلى واقع الحركة الإسلامية اليوم يمكن القول بأن مهمة (التخريج) هي أكثر المهمات تأثيرا في المجتمع، فـ(خريجو) مدرسة الإخوان إلى المجتمع كانوا ذوي تأثير كبير على الاتجاهات العامة في المجتمع، سواء في النواحي الفكرية أو الفقهية أو الدعوية، ذلك على قلتهم العددية، التي تسبب فيها انشغال التنظيم عن ذلك بمهام أخرى.

2- الأسباب الواقعية: لماذا التنظيم الشامل؟
والواقع أن كل هذا يخبرنا بأن الإمام البنا لم يكن يسعى لبناء تنظيم شامل يقوم على إصلاح كافة مناحي الحياة على المستويات المختلفة: المرجعي والفكري والتنفيذي، بل أراد بتنظيمه أن يركز على لب الإصلاح، لتخرج من الجماعة فكرة أساسية تقول: القرآن دستورنا؛ أي مرجعيتنا الفكرية التي نستقي منها، وليس الدستور المكتوب، فالقرآن ليس كذلك لأنه كما سبق "جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، خصوصا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون ".
فكان المراد هو أن تُحَمِل الجماعة المجتمع الفكرة التي رأى البنا في صلاحها ما يشجع كل "مخلص غيور" ولو من خارج الإخوان على حملها، فهي فكرة تشمل "كل نواحي الإصلاح في الأمة" ، والحديث عن (الفكرة) هنا في غاية البلاغة، فهو يبين قدرة الإمام الشهيد على التمييز بين الفكرة، وبين التنظيم الذي يحملها، إدراكا منه بثقل الحمل الذي لابد أن يقوم به مجتمع وأمة لا تنظيم وجماعة، بل إن التنظيم غايته أن يفنى لإحياء الفكرة فـ"الفناء في الحق هو عين البقاء" ، وانتقال الفكرة من التنظيم للمجتمع ونهاية دور التنظيم وفنائه أعلى درجات نجاحه.
بيد أن ظروفا تتعلق بواقع الإمام الشهيد حالت دون الفصل بين الدور الفكري والدور التنفيذي وقت لإنشاء التنظيم، لعل أهمها أن "الروح العام الذي يهيمن على الحاكمين والمحكومين ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها وكل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام" ، وكان الإسلام قد تقوقع داخل المساجد فلم يعد له تأثير على مناحي الحياة العامة من سياسة واقتصاد واجتماع. وبالتالي فلم يكن هناك بدا من وجود تنظيم شامل يؤسس لتوجه إسلامي في كل هذه المناحي ويزرع بذور صحوة إسلامية جديدة في كل منها، فقد "يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذا لأحكامه،"  أما إذا كان أهل التنفيذ متغربون، فمن الطبيعي أن يقوم أحد أبناء المشروع الإسلامي بكفاية غيره في هذا الفرض، ولما كانت الفكرة الإسلامية لا تزال في مرحلة تكوين الوعي العملي، وكان المنتمين إليها قلة، فلم يكن من الممكن توزيع الأدوار على تنظيمات مختلفة.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى الفارق بين دوري الوعظ والإرشاد؛ فأما الوعظ فهو تذكير الناس بالآخرة، وبالثواب والعقاب، وبالجنة والنار، وليس فيه جانب فكري عملي، وليس له منهجيات واضحة تحكمه، وأما الإرشاد فهو الخطوة التالية للوعظ، وهو رسم العلامات الأساسية لطريق النجاة في الآخرة، وهو يختلف من مدرسة لأخرى، وهو ما يطلق عليه في أدبيات الإخوان اليوم (الجانب الدعوي)، والذي تحدث عنه الإمام البنا في علاقته بالسياسة مثلا فقال:" أما أننا سياسيون حزبيون نناصر حزبا ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه" ذلك لأن هذا هو الدور السياسي التنفيذي، وأضاف "وإما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشؤون أمتنا ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه…فنحن كذلك،"  فالمقصود بالجانب الدعوي هو ترسيخ القناعات الأساسية فيما الجانب التنفيذي (العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غير ذلك) فهو النزول بهذه الآراء إلى ساحة التنفيذ، وهو أمر مهم من دون شك، ولكنه يختلف عن الرؤية العامة، ويقوم في إطارها فكريا ولكن ليس بالضرورة تنظيميا.

هذه الفروق كانت واضحة إلى حد كبير عند الإمام البنا، حيث إنه عندما نمت الفكرة الإصلاحية الإسلامية بنشاطه في المجتمع، فنشأ في الجانب السياسي حزب (مصر الفتاة)، تعامل معه الإمام بشكل إيجابي، وبمنطق (الجماعة الإصلاحية) التي تسعى لإصلاح الفكرة ولا تنافس على مكاسب سياسية وتنظيمية، فرأى في وجودهم "انتصار جديد لمبادئ الإخوان المسلمين،" مؤكدا أن الإخوان لن يحاربوا وجودهم "بل إنه ليسرنا أن يوفق عامل للخير وإلى الخير" ، وفي هذا تقديم واضح للفكرة على التنظيم مبني على إدراك للفارق بينهما، ولأهداف التنظيم وطبيعته الوسيلية.

بل إن الإمام الشهيد كان شديد الوضوح في حديثه مع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد حينما نادى باحترام التخصصات، واشترط ليكون التخصص مفيدا أن تتكامل التخصصات، وذلك بأن "يدفع من يهيمنون على تربية النفوس أتباعهم إلى خدمة المجتمعات، وهؤلاء ينبهون من معهم إلى أن صلاح المجتمع بصلاح الحكم، حتى يتآزر الجميع على الإصلاح العام"  كل ذلك في إطار جهة تأخذ بأطراف الإصلاح وتجمع حواشيه، ربما قصد بها الإخوان، ولعل ذلك كان الخيط الذي جر الإخوان إلى العمل التنفيذي.

3- بداية الأزمة بين الفكري والتنفيذي
والواقع أن المشكلة الحقيقة في العلاقة بين الدورين (الفكري) و(التنفيذي) إنما وقعت في منتصف الرحلة التاريخية للإمام البنا مع الجماعة؛ أي في نهايات الثلاثينات من القرن العشرين. حيث أنه في تلك الفترة كانت (الفكرة الإسلامية) قد بدأت في استعادة مكانها في ساحات العمل العام، وأصبحت تزاحم التيارات التغريبية في المجالات المختلفة، حيث ظهرت –كما سبق- أحزاب كمصر الفتاة وغيره سياسيا، وكان هناك (نموا تنظيميا) للإخوان يسمح بقدر أكبر من التخصصية التي نادى بها البنا؛ إلا أن تردد الإمام البنا بدى واضحا في تعامله مع قضية طبيعة التنظيم، فظل يتأرجح بين الطبيعة الحزبية السياسية، والطبيعة الدينية الصوفية، والطبيعة الجهادية العسكرية، والطبيعة المدنية الإصلاحية، يجمع بينها أحيانا ويفصل بينها حينا.

ففي رسالة (هل نحن قوم عمليون) يتحدث الإمام البنا عن مفهوم الجهاد فيحرره ويعرفه في ميادينه المختلفة، بدوافعه ووسائله وشروطه، ويقدم  رؤية فكرية شبه مكتملة عما يقصده بذلك، ولكنه لا يقدم أي رؤية تنفيذية، وهو هنا يتحدث عن رؤية جماعة إصلاحية لا عن أجندة تنظيم عسكري، وفي بعض فقرات رسالة المؤتمر الخامس (كما في رسالة نظام الحكم) يتحدث عن رؤية فكرية للنظام السياسي الإسلامي، ويرفض الغوص في التفصيلات والتنفيذيات لأن "الإسلام جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصا في الأمور الدنيوية البحتة"  إلا أنه وبعد ذلك بصفحات قليلة يقدم رؤية تنفيذية، دينية وعسكرية، تتمثل في الكتائب (التي أرادها للتربية الصوفية فكان بذلك تنظيما دينيا)، وفرق الكشافة (التي أرادها للإعداد للجهاد فكان بذلك تنظيما عسكريا)، وهناك كذلك الدروس الهادفة للتنمية الفكرية، وهي من أدوار الجماعة الإصلاحية المدنية، ثم يدفع الإخوان للعمل السياسي المباشر، والرؤية (الحزبية) للإخوان وإن لم يسمها كذلك عندما يطلب منهم أن يكتبوا للصحف، ولو كان الأمر كلاما عن الأفكار فحسب لما كانت دعاية سياسية، ولكنه طلب أن يعلنوا عن المنهج والوسائل وعن الأعمال التي قام بها الإخوان.
وهو يتحدث عن صلة القيادة بالقاعدة في الجماعة بأشكال مختلفة؛ فهي أحيانا صلة الشيخ بالمريدين، وأحيانا صلة القائد بالجنود، وأحيانا صلة الأستاذ بالتلميذ، وتلك علاقات صوفية، وعسكرية، ومدرسية لكل منها طبائع مختلفة، وإن غلب عليها جميعا بعدها عن (مدنية العلاقة) التي أوضحها في حق الحاكم باعتباره "أجير وعامل" لدى الشعب أكثر مما أوضحها بحق قيادة الإخوان!

4- الجماعة الإصلاحية والحزب السياسي
تتأرجح رؤية الإمام البنا كثيرا بين الجماعة الإصلاحية والحزب السياسي. فهو أحيانا يركز على الجانب الفكري بتوضيح أبعاده مع الإشارة إلى ضرورة وجود من يحمل العبء العملي التنفيذي، وإلا صار صوته "صرخة في واد ونفخة في رماد".
يغلب على خطاب الإمام الشهيد إزاء (المسألة السياسية) مواربة وعدم حسم، فهو يرفض أن تسمى دعوته بـ(السياسية) أحيانا، ويراها إصلاحية إسلامية تهدف لتغيير كافة أوجه الحياة، وفي أحيان أخرى يرى أن "الإخوان ما كانوا يوما من الأيام غير سياسيين"،  وفي أحيان ثالثة يقرر بأن ما يدعو إليه هو "الإسلام، وتعاليم الإسلام، وأحكام الإسلام، وهدي الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا،"  "فإن قيل لكم هذه سياسة فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام"  ويؤكد حينا أن الإخوان ليسوا حزبا سياسيا "وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا،"  ويؤكد على رفضه الممارسة الحزبية باعتبارها مورثة للبغضاء والخلاف والانقسام في الرأي، ويوجه أشد عبارات النقد لها، ثم يؤيد حرية الرأي ونقد الحاكم إن أخطأ من دون تقديم آلية واضحة لذلك،  ثم يقدم برنامجا سياسيا تفصيليا لعلاج مشكلات محددة في الواقع المصري بإحصائياتها وأرقامها،  ويعود ليأخذ موقفا فكريا بعيدا عن الممارسة السياسية باعتبار الإخوان "الناصح الشفيق" وليس المعارض للحكومة المصرية، ويعود بعد ذلك مباشرة اتوجيه خطاب ينتقد فيه مواقف سياسية للحكومة المصرية، فيعود بنفسه إلى خانة السياسي،  بل ويصف الجماعة بأنها "حزب سياسي نظيف".

والحقيقة أنني أقف إزاء هذا الالتباس بين الفكري والتنفيذي في السياسة من قبل الإمام البنا أمام تفسيرين؛ أما الأول فهو أن الإمام الشهيد كان يدرك الفارق بين المجالين، ولكن قراره السياسي كان بتأجيل توصيف الجماعة أو الفصل بين مهامها المختلفة، لأسباب تتعلق بظروف الواقع السياسي في وقته، وإن كان الأمر كذلك فهو في نظري قرار سياسي خاطئ، حيث أن الأفكار يجب أن تقدم على السياسي، ولا يجوز تأخير فكرة لقرار سياسي، ونتائج القرار تمثلت في استمرار هذا الالتباس بين الفكري والتنفيذي في الإخوان، ومن ثم في التيار العام للحركة الإسلامية حتى اليوم، فلا يكفي أبدا أن تكون الرؤية الكاملة منضبطة وواضحة لدى من يقود المشروع، وإنما يجب نقل هذه الرؤية بأكمل وأوضح صورة ممكنة إلى أكبر قطاع من أبناء المشروع، وإلا اندثرت الفكرة، أو تشوهت.

وأما الخيار الثاني فهو أن إدراك الإمام البنا بالفارق بين هذه وتلك لم يكن مكتملا، وهذا يعضده عندي بعضا من كتاباته دلت على ذلك؛ فهو حينما وضع خطته التنفيذية ذات الخطوات السبع (تبدأ بالرجل المسلم وتنتهي بتبليغ الدعوة للعالم) لم يدرك –فيما يبدو- الفارق بين (الفكرة) الإسلامية و(المنهج التنفيذي) الذي اختاره، فقال إن "كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له من الإسلام، فليبحث عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها،"  كان عدم إدراكه الكلي للفارق بين الفكرة والتنظيم أكثر وضوحا حين قال "نحن الإسلام أيها الناس، فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه، فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون"

وأعتقد أن مثل هذا الخلط بين (الفكرة) و(التنظيم) من جهة، وبين (الفكرة) و(التنفيذ) من جهة أخرى هو أخطر ما يمكن أن يواجه حركة إسلامية، إذ أن نواقصها البشرية تنسب إلى الشريعة وهي منها براء، وأعضاؤها يفقدون القدرة على نقد أنفسهم باعتبارهم صوابا مطلقا، ومن ثم يفقدون القدرة على التجديد والتطور، وذاك أمر بدا واضحا في كلام الإمام الشهيد حين اعتبر أن الإخوان هي "الجماعة التي وقع عليها اختيار القدر لإنقاذ العالمين"  بما تحويه هذه الكلمة من تقديس للنفس يصعب معه قبول النقد.
بيد أن الإنصاف هنا يوجب التأكيد على أن هذه الرؤية لم تكن الأصل عند الإمام البنا؛ فالرجل كتب في غير موضع عن أهمية قبول النقد، والسعي وراء الحق، كقوله في رسالة دعوتنا أن الإخوان "يرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به" وقوله عنهم في رسالة هل نحن قوم عمليون إنهم "قوم يعلمون أن فوق كل ذي علم عليم، وأن لكل ذي رأي حقا في إبداء رأيه"  ولكن هذا الخلط سببه عدم وضوح الرؤية حول مكانة التنظيم من الفكرة.

5- الإصلاح السياسي والتنظيم الخاص
لم تكن رؤية الإمام البنا فيما يتعلق بموقع التنظيم بين الرؤية الفكرية والتنفيذية لمفهوم الجهاد أكثر استقرارا من تلك المتعلقة بالجانب السياسي. فما بين التأصيل للمفهوم الجهادي والتأسيس التنفيذي له كان خطاب الإمام الشهيد يفتقر إلى الحسم، إلا أن الأضرار هنا كانت أشد خطورة وأكثر فتكا.
ذلك أن ثلاثية العمل السياسي-الديني-العسكري أضفت بعدا دينيا على الخصومات السياسية للجماعة، فتعامل معها العسكريون من أبناء التنظيم الخاص بمنطق جهادي، ولعل حادثتي مقتل القاضي الخازندار، والنقراشي باشا رئيس الوزراء المصري تمثيل واضح لخطورة هذا الخلط، فالخصومة في الحالتين كانت سياسية، ولكن البعد الديني داخل التنظيم أضفى عليها وجها عقائديا، ومن ثم تحرك أفراد من التنظيم الخاص بمفهوم جهادي، وبمعزل عن (الإرادة السياسية) للجماعة ونفذوا عمليات اغتيال، دفعت ثمنها الجماعة بعد ذلك باغتيال الإمام البنا الذي كان قد أدان هذه الاغتيالات.

وواقع الأمر أنه في المجتمعات المعاصرة فإن دور الحركات الإسلامية لابد وأن ينحصر على توضيح رؤيتها لمفهوم الجهاد، بمجالاته المختلفة، المدني منها والقلبي والعسكري. أما الجانب التنفيذي للجهاد العسكري فلا يصح أن تقوم به غير أجهزة الدولة المعنية، وهذا ليس أبدا تنازلا عن فكرة الجهاد في الإسلام، فهي موجودة في الجانب الفكري، وإنما هو من باب التنظيم في المسؤوليات وحتى يتم حفظ أمن المجتمع، وهو أمر للحاكم الحق في أن يقرره كونه من المصالح المرسلة، والمصلحة في ذلك واضحة. أما قيام مؤسسات غير الجيوش النظامية بممارسة الجهاد العسكري فذلك لا يجوز إلا في حالة احتلال البلاد، التي لا يكون للدولة فيها دور، ويكون قيامها بسد الكفاية في هذا الدور معطلا فيقوم به غيرها.

وتبقى الإشارة إلى نقطة أخيرة ولكنها من الأهمية بمكان، وهي أن التطورات السريعة في السنة الأخيرة من عمر الإمام البنا جعلته يدرك –فيما يبدو- وبصورة كلية ونهائية الفارق بين الجانب الفكري والجانب التنفيذي من دعوته، بل وجعلته يحسم خياراته باختيار الاتجاه إلى الجانب الفكري والتأسيسي، وترك الجانب التنفيذي إلى غيره من أبناء المجتمع، أو من (خريجي) مدرسة الإخوان ليكفوا الأمة القيام به.

تعضد هذه القناعة عندي شهادة الأستاذ فريد عبد الخالق التي نقل فيها عن الإمام البنا قوله "لو استقبلت من أيامي ما استدبرت لعدت إلى ما كنت عليه أُعلّم الإسلام وأربي عليه الناس، " وتلك الكلمات هي إدراك واضح لأن ما كان يفعله لم يكن تعليما للإسلام وحسب، وإنما كان كذلك دورا تنفيذيا قرر التنازل عنه، بل ورأى في إقدامه عليه من البدائة خطئا.
تعضد هذه القناعة أيضا كلمات كتبها الأستاذ فتحي رضوان رئيس الهيئة العليا للحزب الوطني في من جريدة الاهرام المصرية بتاريخ 29 / 5 / 1950 (والحزب الوطني هو الذي أسسه مصطفي كامل في مطلع القرن العشرين، وهو حزب ذا توجه إسلامي، كان يسعى لإيجاد صيغة إستقلال وطني مصري في إطار جامعة سياسية إسلامية أعم هي الخلافة العثمانية، وهو غير الحزب الوطني الديمقراطي الذي يحكم مصر منذ تأسيسه في عصر الرئيس السادات) قال فيها إنه "في شتاء عام 1948 كنت دائم الاتصال بالمرحوم البنا وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكير البنا - رحمه الله - جديا في أن يكل نشاط الاخوان المسلمين السياسي الي الحزب الوطني وأن يقتصر عمله هو علي الناحية الدينية البحتة".

إلا أن القدر لم يمهل الإمام الشهيد، فكان قدر الله أسبق من تنفيذه لما أراد، وإن بقيت شهادته التي نقلت عنه دليلا على إدراك أعمق كان لابد للإخوان أن يلتفتوا إليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق