الأحد، 7 نوفمبر 2010

حوار عن الدستور والمرجعية الإسلامية.... طارق البشري

المستشار/ طارق البشرى
حوار: حسام تمام

فجأة؛ احتلت قضية هوية الدولة المصرية صدارة الجدل في موضوع التعديلات الدستورية المنتظر إقرارها. قبل فتح النقاش كان المتوقع والمنتظر أن تحوز قضايا الحريات وإقرار التعددية وضمانات التداول السلمي للسلطة الاهتمام الأكبر في نقاشات التعديلات المنتظرة؛ لكن انقلبت الحال وتغير مسار النقاش ليصبح ما كان محسومًا طوال عمر الدولة المصرية الحديثة هو موضوع الساعة. 

لقد علت أصوات تدعو إلى إلغاء المادة الثانية من الدستور التي تقول بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، بل طالب البعض برفع الهوية الإسلامية للدولة التي ظلت كل دساتيرها تؤكد على: دين الدولة هو الإسلام.. وكان الجديد هذه المرة ألا ينفرد التيار العلماني بهذه الدعوة، بل دخلت الكنيسة فيها علي الخط لتؤكد -بحسم- اعتراضها على هذه الهوية. 
حملنا القضية الشائكة وتفاصيلها الملغومة إلى الأستاذ طارق البشري المفكر الإسلامي المعروف وأدرنا معه مقابلة موسعة حولها. 
وفي هذه المقابلة تناول طارق البشري القضية من موقع يجتمع فيه المفكر والمنظر للمسألة وهو صاحب الاجتهاد المهم في التأصيل الإسلامي لمبدأ المواطنة، مع القاضي الذي مارس المهام التشريعية وكانت له فيها أحكام وفتاوى تاريخية، من أهمها جواز تأسيس الأحزاب على أساس المرجعية الإسلامية، مع المؤرخ الذي تعمق في دراسة نشأة النظام السياسي والتشريعي في مصر وتطوره طوال القرن الماضي.. فكان حوارًا ثريًّا هذا نصه: 


لم يكن بحاجة إلى جدل 
** يدور الجدل الآن حول موقع الإسلام المفترض في التعديلات الدستورية المنتظرة.. لأول مرة -ربما- تصبح هوية الدولة التي تنص على الإسلام: موضع خلاف، وهو خلاف امتد إلى المادة الثانية التي تنص على أن مبادئ الشريعة المصدر الأساسي للتشريع.. كيف ترى هذا الجدل كقاض ومفكر معني بالشأن الإسلامي وأيضًا كمؤرخ متابع لنشأة وتطور الدولة المصرية الحديثة؟ 
لجنة الثلاثين كانت تضم شخصيات مسيحية كنسية، وأخرى يهودية، وأخرى عالمانية.. ولم يثبت أن أحدا اعترض على النص بأن الإسلام دين الدولة، مما يؤكد أن الموضوع في وقتها لم يكن بحاجة إلى جدل 
- من المهم أن نقوم بالتتبع التاريخي لقضية النص الدستوري علي كون الإسلام دين الدولة من أجل فهمها في سياقها الحقيقي وتخليصها من التوتر السياسي الحالي …ربما كانت البداية الأولي مع دستور عام 1923 الذي هو أول دستور وضع لمصر بعد إعلان استقلالها عام 1922 .. وتقول مضابط النقاش الذي واكب صياغة هذا الدستور إنه كانت قد شُكلت لجنة من ثلاثين عضوا عرفت بلجنة الثلاثين كان مهمتها الإعداد للدستور، وإذا دققنا في عضوية هذه اللجنة سنخرج بملاحظات مهمة في فهم هذه القضية بالغة الخطر.. فلن نجد فيها- مثلا- أي شخص يمثل تيار الإسلام السياسي بالمعني الذي نقول به الآن.. بل شارك معظم أعضاء اللجنة إما بصفتهم الحزبية ( مثل أعضاء حزب الأحرار الدستوريين ) أو بحكم وظائفهم أو بحكم كونهم شخصيات عامة لها علاقات طيبة مع الملك وهو ما يقطع الطريق علي القول إن القضية لها صلة بتيار الإسلام السياسي… 
بل سنجد أن في هذه اللجنة عددًا من المسيحيين مثل توفيق باشا دوس ويوسف سابا باشا وإلياس عوض وقلّيني فهمي باشا، بل كان فيها أيضًا الأنبا يؤانس نائب البطريرك كيرلس الخامس الذي صار بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية بعد وفاة الأخير عام 1927.. وكان هناك يوسف أصلان قطاوي من اليهود… ولم يكن بها من ذوي المناصب المتعلقة بالدين الإسلامي إلا الشيخ محمد بخيت المطيعي المفتي السابق وعبد الحميد البكري شيخ الطرق الصوفية نقيب الأشراف… أما بقية أعضاء اللجنة الآخرين فكانوا ممن ينتمون إلي المؤسسات الحديثة وإلى الثقافة الآخذة من الغرب، مثل علي ماهر باشا وعبد اللطيف المكباتي وعبد الحميد بدوي ومحمد علي علوي… وكان رئيسها حسين باشا رشدي رئيس الوزراء الأسبق. 
إذا رجعنا إلى هذه المضابط، خاصة التي تسجل نقاشات لجنة وضع المبادئ العامة للدستور (وكانت تتألف من ثمانية عشر عضوًا من الثلاثين) فسنجد أن الشيخ محمد بخيت المطيعي المفتي السابق وقتها كان صاحب الاقتراح بالنص على هوية الدولة الجديدة والقول بأن دينها الإسلام فقال بالنص في جلسة 19 مايو 1922 (أريد أن أعرض على الهيئة طلب النص على أن دين الدولة الإسلام) فتقرر بالإجماع قبوله، ثم عرض علي اللجنة العامة الموسعة لصياغة الدستور (لجنة الثلاثين) مرتين في جلسة 14 أغسطس 1922 ثم 3 أكتوبر 1922 فوافقت عليه مجددًا، وبالإجماع دون أن يرفضه أحد أو يتحفظ عليه.. فصدر النص الدستوري على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية. 
حدث ذلك إبان ازدهار الليبرالية في مصر وقبل ظهور تيار الإسلام السياسي، ولم يجد أحد في ذلك حرجًا ولا قلقًا ولا عنتًا على الأقليات الدينية.. كما لم يعترض أحد رغم أنه كان هناك في عضوية هذه اللجنة شخصيات مثل عبد العزيز باشا فهمي صاحب فكرة كتابة العربية بالأحرف اللاتينية والمحامي الشهير إبراهيم الهلباوي.. وغيرهم من الشخصيات التي لا يمكن تصنيفها بأنها إسلامية بالمعنى الذي نقصده الآن. 
لقد كان الجميع على وعي بأنهم بصدد وضع دستور يصوغ التوجه الأساسي للدولة الحديثة ويحدد المبادئ التي ترسم هويتها الحضارية؛ لذلك انتهوا إلى أن دين الدولة هو الإسلام ولغتها الرسمية هي العربية قولاً واحدًا لم يكن بحاجة إلى جدل.. وهو تقرير لأمر واقع واضح. 
** وماذا يعني برأيكم وصف كيان معنوي مثل الدولة بصفة دينية؟ 
- هذا يعني أن على الدولة حين تضع سياستها أن تراعي كون مرجعيتها وهويتها الحضارية إسلامية وأن يكون النظام العام الذي تنص عليه القوانين مشمولاً بقيم الإسلام وما تتوافق عليه الجماعة طبقًا لهذه القيم؛ فتراعي -مثلاً- أن تكون المناسبات الإسلامية الكبرى أعيادًا رسمية وإذا اختارت إجازتها الأسبوعية يكون يوم الجمعة… وهكذا من حيث تدبير مصالح الناس أخذًا بالاعتبار أن الهوية الحضارية إسلامية؛ إذ لا ينفصل دين الدولة عن مرجعيتها التي تحدد هويتها. 
وسنلاحظ تاريخيًّا أن تأثير هذا النص (دين الدولة الإسلام) لم يكن ظاهرًا في الفترة الأولى من عمر الدولة المصرية بعد الاستقلال ظهورًا كاملاً؛ وذلك بسبب تأثير الامتيازات الأجنبية التي كانت تتيح للأجانب قوانين ومحاكم خاصة بهم يحتكمون إليها حتى في نزاعاتهم مع المصريين.. فلم يكن هناك استقلال تشريعي بالمعنى المعروف حاليًّا.. ولم يتحقق هذا الاستقلال إلا مع معاهدة مونترو عام 1937 التي أنهت الامتيازات الأجنبية وإن لم تنته المحاكم المختلطة حتى عام 1949… 
بعد هذه الاتفاقية بدأ أساطين القانون المصري في إعداد مجموعات من القوانين لاستكمال السيادة القانونية لمصر علي مواطنيها، من أشهرها القانون المدني الذي نص في أول نصوصه (المادة 1) على أنه في غياب النصوص التشريعية يرجع القاضي إلى العرف، ثم مبادئ الشريعة ثم مبادئ القانون الطبيعي والعدالة.. ولا يجب أن نفهم خطأ فكرة تقديم العرف على أنه مقدم على الشريعة الإسلامية هنا؛ ففي بلد مثل مصر يستحيل وجود عرف يخالف مبادئ الشريعة إذا علمنا أن العرف ليس عادات الناس فقط وإنما أيضًا إحساسهم بالالتزام الاجتماعي تجاه هذه العادة. 
سنجد أن من أعاد فاعلية الشريعة في المجال القانوني هم مجموعات من فقهاء وعلماء القانون وعلي رأسهم القانوني الشهير عبد الرزاق السنهوري وتلامذته وهم من خريجي كليات الحقوق ممن لم تكن لهم صلة بالأزهر الشريف.. فلم تكن القضية قضية مؤسسة دينية كما لم تكن أيضًا قضية تيار سياسي إسلامي.. وفي كل الأحوال لم تكن خاصة بجيل من الأجيال دون غيره. 
لقد ظل هذا مرعيًّا ضمن التراث الدستوري الأصيل للدولة المصرية فلم يكن بدعًا ولم تخرج عليه يومًا ما في كل الدساتير التالية اللهم إلا مشروع الدستور المؤقت الذي اقترح لدولة الوحدة مع سوريا عام 1958 والذي خلا من النص على أن الإسلام دين الدولة… وهو لا يرقى إلى أن يكون دستورًا مكتملاً، بل صاغته جهات إدارية غير منتخبة من الشعب جُعل المجلس النيابي فيه بالتعيين بقرار من رئيس الجمهورية من بين أعضاء مجلسي الأمة المصري والسوري السابقين. 
هكذا كانت هوية مصر طوال عمرها إسلامية فلم تكتشف ذلك فجأة أو بمجرد أن طرح السادات- كما يزعم البعض- فكرة الاستفتاء علي جعل مبادئ الشريعة المصدر الأساسي - وليس مصدرا - للتشريع عام 1980.. 
طرح السادات لفكرة الاستفتاء على جعل مبادئ الشريعة المصدر الأساسي للتشريع عام 1980.. لم يكن ابتداعا لوضع جديد، لكنه كان استجابة للرأي العام وتنازلاً له.. وإن كان للسادات وقتها أهداف أخرى.. 
فلم يكن السادات ينشئ وقتها وضعا جديدا كما لم يكن ما فعله إقحاما للفكرة علي بلد لم يعرفه..ما يقال من أن السادات فعل ذلك لتسويغ جعل مدة التجديد للرئيس مفتوحة من " مدتين " إلي " مدد أخري " صحيح لكنه كان استجابة للرأي العام وتنازلا له وليس ابتداعا للفكرة نفسها أو خلقا لها لدي الناس..لقد استجاب السادات لمطلب كان قائما وإن كان سوّغ به هدفا خاصا به وهو ما يمكن أن نري فيه التقاء المطلب العام مع المطلب الذاتي…كما أن من يطالب باستقلال بلده مثلا إنما يحقق هدفا عاما ويحقق سمعة شخصية ولا يقال إن الاستقلال الوطني كان مجرد استهداف مصلحة شخصية لزعيم ما . 

لماذا الجدل؟ 
** إذن ما الذي جدّ حتى تصبح هذه "المسلمة" الدستورية موضوعًا متفجرًا لدى التيار المنطلق من المرجعية العلمانية ولدى الأقباط أيضًا الذين طالبت قطاعات منهم، ومن بينها الكنيسة (وهذه ربما المرة الأولى)، بتعديل المادة الثانية للدستور التي تنص على أن مبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع؟ 
مشكلة التيار العلماني في أنه يصدر عن مرجعية غريبة تفقده الإحساس بالواقع والنظر السليم إلي الأصول الحاكمة لتاريخ وثقافة شعب ومعايير الاحتكام لديه 
- هذا التوتر والرفض من ناحية العلمانيين سببه أنهم يصدرون عن مرجعية خاطئة تري أن هوية المجتمع المصري ليست في الإسلام وأنه لا يجوز أن يخضع للمرجعية الإسلامية.. 
إنهم تيار يفتقد الوجهة السليمة في النظر إلي تاريخ المجتمع المصري وتطوره؛ فهو يبدأ من مسلمة وافدة من الخارج تقول: إن الدين لا صلة له بالسياسة ثم يحاكم عليها المجتمع وتاريخه..ونحن لا نسلم لهم بهذه المسلمة، بل ونراها دعوى غربية لا تصمد في مجتمعنا المصري بل ولم تكن تطرح علي هذا النحو حتى لدي آباء العلمانية الأوائل في مصر كما يظهر من مناقشات دستور 1923. 
إن مشكلة التيار العلماني في أنه يصدر عن مرجعية غريبة تفقده الإحساس بالواقع والنظر السليم إلى الأصول الحاكمة لتاريخ وثقافة شعب ومعايير الاحتكام لديه.. وستجد هذا في قراءة التيار العلماني لتطور الفكر السياسي في مصر التي لا ترى في مصر الحديثة إلا حركة علمانية تبدأ من لطفي السيد فطه حسين… إلخ وتمتد جيلاً فجيل في المسلسل العلماني.. ويعجز أن يرى أن في هذه الحقبة نفسها كان هناك أمثال محمد شاكر ويوسف الدجوي وفريد وجدي وطنطاوي جوهري وبخيت المطيعي والمراغي وشلتوت.. وغيرهم يملئون الدنيا وأنه كان هناك مثلاً شيخ اسمه محمود خطاب السبكي أسست جمعيته -الجمعية الشرعية- أكثر من أربعة آلاف مسجد!.. 
إنها عملية سلخ لتاريخ مصر تري أجزاء من الشجرة دون أن تراها في كمالها وتعدد فروعها. 
أما بالنسبة للأقباط، فالحاصل أنه لم تكن لديهم مشكلة من قبل.. وكانوا كثيرًا ما يتحدثون عن أنه لا مشاكل لديهم في قضية الشريعة، بل كان بعضهم يرى فيها ميزة وضمانة.. ولم أجد في مطالعاتي للجدل الذي صاحب صياغة أول دستور لمصر أي اعتراض ذي شأن في هذه المسألة.. كان أقصى ما وجدته بعض النقاشات حول فكرة التمثيل النسبي للأقباط وهل تجوز أم أن ضررها أكبر من نفعها.. وأذكر أنه كان من أساتذتي في كلية الحقوق الدكتور شفيق شحاتة وهو فقيه متميز عميق الفكر كانت كتاباته في القانون المدني شديدة التأثر بالفقه الإسلامي وكانت رسالته للدكتوراة عن نظرية الالتزام في الفقه الحنفي وأشرف عليه الفقيه العظيم الشيخ أحمد إبراهيم.. 
لكن الذي جدّ هو ما جرى على الأقباط أنفسهم؛ سنرى في الفترة الأخيرة التأثير المتصاعد للمهجر وأقباط المهجر في الوعي القبطي وفي موقف الكنيسة نفسها… لقد صار أقباط المهجر أصحاب السبق في إثارة مثل هذه الاعتراضات وتزكيتها لدى القبط في مصر وتعبئتهم وراءها. كما امتد تأثيرهم في الوعي القبطي إلى داخل الكنيسة نفسها التي صار جزء منها مرتبطًا بالمهجر ومتأثرًا به في مقولاته وأفكاره، وانعكس ذلك عليها كتكوين مؤسسي وعلى سياساتها القائمة الآن؛ فصارت تجنح للغلو معتمدة على ضعف الدولة وتسعى للحصول منها على تنازلات تأخذ بها ما يطاق وما لا يطاق. 
** لكن ألا يمكن أن نتكلم كذلك عن أن الممارسة السياسية للتيار الإسلامي تتحمل جزءًا من المسئولية عما جرى حين حوّل هذا التيار قضية المرجعية الجامعة للدولة إلى موضوع للتنافس السياسي مع الفرقاء السياسيين يرفع فيه كشعار انتخابي ويطرح ضمن سياق التنافس والسجال؟ 
- أتصور أن التيار الإسلامي الذي لجأ إلى العنف في السبعينيات وبعدها قد أخاف الأقباط كثيرًا كما أخاف المسلمين كثيرًا أيضًا، ولكن هذا التيار ضعف الآن ولم يَعُد له وجود الآن تقريبًا في مصر.. ومن حيث المبدأ فإن التيار الإسلامي السلمي كان هو الذي أشاع على نطاق واسع فكرة الشريعة وتطبيقها ووسع فيها ونقلها من جيل إلى جيل.. ولكن فكرة أن دين الدولة ومرجعيتها هو الإسلام فكرة قديمة، بل أقدم من تاريخ وجود التيار الإسلامي نفسه ولا تتعلق به حصرًا وإنما تتصل بالتكوين الثقافي لدى الشعب المصري. 
فكرة أن دين الدولة ومرجعيتها هو الإسلام فكرة قديمة بل وأقدم من تاريخ وجود التيار الإسلامي نفسه ولا تتعلق به حصرا وإنما تتصل بالتكوين الثقافي لدي الشعب المصري. 
كما أنني أختلف مع القول بأن هذا التيار كان سببا في توتر هذه القضية..فقضية المرجعية الجامعة يمكن أن تكون شعارا حزبيا وسياسيا بامتياز دون أن يكون ذلك مدعاة للتفريط بها تجنبا للمزايدة أو اعتبارها سببا للتوتر.. 
تماما مثل قضية الاستقلال إذ يمكن لأي حزب سياسي أن يجعل علي رأس أجندته شعار استقلال مصر وحماية أمنها القومي وتحرير إرادتها السياسية من هيمنة الخارج دون أن يتهم بتسييس مطلب إجماع وطني..ولو أنه جري تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة لفقد التيار الإسلامي هدفا من أهدافه السياسية..لكن الذي حدث أن الباقين تخلوا عن هذا وبقي التيار الإسلامي من يحمل هذا المطلب ويدافع عنه. 
السؤال الأساسي الذي يجب أن نسأله: هل هناك احتياج حقيقي للمطالبة بتطبيق المرجعية واقعا أم لا؟ ومن حق أي تيار بعد ذلك أن يتبني هذا المطلب..ولو اتفق الجميع علي ذلك ما انفرد به الإسلاميون.. المطالبة لا تعني الاحتكار بل ترك الآخرين لهذا المطلب هو ما سهل الاحتكار. 

ما المقصود بالمرجعية الإسلامية؟ 
** سؤال بديهي لكنه يبدو ملحا: ما المقصود بالمرجعية الإسلامية في الدستور؟ 
- هي مرجعية فلسفية عقدية وليست مبدأ سياسيا جازما ومغلقا… أي هي الأصول الفكرية المرجوع إليها والتي يرتد إليها ما يتحاكم إليه الناس من نظم ومعاملات وقيم سلوك وأخلاق وهي ما يربط بين نظرة الإنسان للكون والأساس النظري لمعارفه الدنيوية والكونية وبين ما يحكم به على الأمور من صواب وخطأ. 
والمرجعية قد تتحول إلى مبدأ سياسي حين تُفتقد أو تُخالف أو يُطالب بتنحيتها، ولكن حين تمارس فهي تمارس بوصفها أصلا فكريا وثقافيا واعتقاديا.. وبهذا المعنى يمكن أن تتفرع منها العديد من التيارات السياسية ذات المشارب والأفكار والأهداف المختلفة والمتباينة، سواء في تنظيم الحكم أو إدارة الاقتصاد أو غيرها من المجالات، وهي في هذا الشأن مثلها مثل المرجعية العلمانية التي يمكن أن يظهر منها تيار ديمقراطي وآخر استبدادي، وقد حصل ذلك فعلا (فالفاشية والنازية خرجتا من رحم العلمانية مثلا).. ونظام رأسمالي حر وآخر اشتراكي تعاوني. 
النظر إلى المرجعية له مستوى تجريدي أعلى من النظر إلى الأمور والمسائل السياسية.. لذلك فمن الممكن في تصوري أن تيارين سياسيين ذوي مرجعية مختلفة يلتقيان على أهداف سياسية متقاربة والعكس. فمثلا ينحدر من المرجعية الإسلامية في وقت ما الأزهر والطرق الصوفية والإخوان المسلمون وغيرهم.. كما ينحدر من المرجعية العلمانية الوفد في وقت ما والأحرار الدستوريون خصومه في ذات الوقت وشخصيات سياسية تختلف عن الاثنين ثم الشيوعيون!. 
** لو قلنا إن للمرجعية العلمانية سمات مثل العقلانية ومركزية الإنسان وغيرها.. فما سمات المرجعية الإسلامية وكيف يمكن تشغيلها في الإطار السياسي؟. 
- لو أجملناها في كلمات فهي: أن يكون القرآن والسنة هما المصدر الأساس للحسن والقبح في النظر للأمور بتعبير علماء الكلام.. المصدر فيما يتعلق بقيم الأخلاق والسلوك وقواعد المعاملات ونظم الحكم.. أن يكون القرآن والسنة مصدر القيم العليا التي تنحدر منها وترد إليها الأحكام التفصيلية في هذا الشأن، وهي ستكون متعددة ومتباينة ومغايرة بحسب اجتهادات المكان والزمان والناس لحلول مشكلاتهم الاجتماعية والسياسية؛ فينحدر منها مذاهب وفرق. 
** لكن الرجوع إلى المرجعية الأصل (القرآن والسنة) يفترض اختلاف الناس؛ فأي تجليات للمرجعية يكون الرجوع؟. 
- المرجعية متداخلة مع اجتهادات الناس.. هي الأصل المرجوع إليه والمورود منه.. وهي تحتمل، بل تفترض قبول الاختلاف والتنوع والتغير بحسب الزمان والمكان. وكما قيل: الحكم صلة بين نص ثابت وواقع متغير.. والاختلاف في الأحكام، ولكن الاتفاق يكون في مرجعية واحدة. 

ماذا عن المختلفين معها؟ 
** وكيف تدار العلاقة -في الواقع السياسي والاجتماعي - بين هذه المرجعية وبين من لا يؤمنون بها ويصدرون عن مرجعيات أخرى؟ هل تتيح هذه المرجعية (وهل في سماتها) للمختلفين معها حرية التنظيم السياسي؟. 
- المرجعية الإسلامية ثقافية مفتوحة ولا تطرح كعقيدة مغلقة على أصحابها.. ورغم ذلك فإن من لا يوافق على هذه المرجعية لا يخضع لها كمرجعية.. وهذا حقه فلسفيا وثقافيا؛ مع العلم بأنها لا تُطرح كعقيدة على غير أصحابها.. لكن يمكن أن يخضع لما يصدر عنها من أحكام وقوانين تفصيلية طالما كانت لا تخل بمبدأ المساواة اللازمة بين المواطنين.. فإذا سأل البعض: كيف سيتعامل غير المسلم مع أحكام مردودة فكريا إلى المرجعية الإسلامية التي قد يرفضها من الأساس؟ قلنا: إنه سيتعامل هنا معها كأحكام ولا يتعامل مع مرجعيتها.. وطالما كانت الأحكام تقبل بالمساواة بين المواطنين جميعا فهو سيتساوى مع المسلمين على وفق هذا المظهر وبموجب المساواة الآتية من حكم مردود إلى هذه المرجعية. 
تماما مثل المسلم في فرنسا العلمانية.. فهو يتعامل مع أحكام مرجوع فيها إلى مرجعية وضعية علمانية.. وتعامله معها لا يتعلق بالمرجعية وإنما بهذه الأحكام التي تنحدر من هذه المرجعية وتمس نشاط حياته وتحكمه. 
** ألا تفتئت فكرة المرجعية الإسلامية وترجمتها في المادة الثانية من الدستور (الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع) على مبدأ المواطنة الذي هو أساس الدولة الحديثة؟. 
- في تصوري أن المادة الثانية من الدستور هي التي بموجبها يمكن أن تلتقي المواقف كاملة بين من يصدر عن المرجعية الإسلامية وبين من يصدر عن غيرها من المواطنين في أحكام متعلقة بالمساواة الكاملة بين المواطنين وإن اختلفت أديانهم. 
أولاً نحن نريد أن نستمد من المرجعية الإسلامية ما يسند المساواة الكاملة بين المسلمين وغيرهم ممن يشملهم مفهوم المواطنة من داخل الفكر الإسلامي.. قديما كانت المساواة لا يمكن تحقيقها فكريًّا إلا من داخل الفكر العلماني، والمراد الآن هو معرفة هل يمكن تحقيق هذه المساواة من داخل الفكر الإسلامي وهو ما سيجعلها أوثق وأضمن في التطبيق وأبعد عن التوترات العقائدية؟. 
الفكرة هنا أساسها أن المساواة بين المسلمين وغيرهم كانت متحققة في الفقه الإسلامي بالنسبة للحقوق الخاصة، وتقوم المشكلة فيما يتعلق بالولاية العامة (تولي المناصب الرئاسية في الدولة أو القيادية في الجيش أو القضاء)، ويقوم الاجتهاد الذي أنادي به في هذا الشأن على أن الولاية العامة التي كان الفقه التقليدي يشترط فيمن يمارسها الإسلام انتقلت من الأشخاص إلى الهيئات فلم تعد مرتبطة بالإرادة الشخصية أو القرار الشخصي، وإنما انتقلت إلى هيئة معنوية جماعية تحتكم إلى دستور ثابت أو إطار مرجعي وتصدر فيها القرارات بأغلبية التصويت أو بالمشاركة بين عدد من الأشخاص والهيئات.. القاضي مثلا صار يحكم بقانون مكتوب كما لم يعد يحكم منفردا، إنما ضمن مجلس من ثلاثة قضاة -وربما زادوا- يتداولون ويصدرون في النهاية حكما واحدا. 
لقد صارت الولاية العامة للهيئات وليست للفرد.. ولما كان الفقه التقليدي يقبل بولاية غير المسلم للولايات التنفيذية ثم جاء هذا الاجتهاد ليحل مشكلة الولايات العامة جميعا: تنفيذا وتفويضًا فصارت المساواة بين المسلم وغيره كاملة بعدما انتقلت الولاية من الأشخاص إلى الهيئات. 
بقي مشكل آخر يتعلق بالهيئة: ما دينها؟ وهذا هو الإبداع الفقهي والفكري الذي قام به الشيخ محمد بخيت المطيعي؛ إذ اقترح -وأقره الجميع في لجنة صياغة الدستور كما اقره علماء المسلمين خارج اللجنة- أن يكون دين الهيئة/ الدولة هو الإسلام.. فالدين ليس من خصائص الشخص الطبيعي فقط، وإنما يمكن أن يكون من خصائص الشخص المعنوي والهيئات. وكيف يكون للهيئة دين؟ يكون للهيئة بأن تكون مرجعيتها إسلامية.. وبهذه الطريقة تكون المادة الثانية في الدستور بصيغتها الحالية لازمة لكي يتحقق السياق النظري من داخل الفقه الإسلامي الذي يحقق المساواة الكاملة بين المسلمين وغيرهم في المشاركة واتخاذ القرارات التي تنسب للهيئة… 
والمساس بهذا النص سيفقد هذا التسلسل المنطقي معناه، وسيفقدنا القدرة على أن نستمد من داخل الفقه الإسلامي ما يدعم المساواة بين المواطنين في تولي الولايات العامة. 

السياسي والديني 
** المستقر لدى مَن تكلموا عن الدولة القومية الحديثة أنها دولة يجب أن تكون محايدة دينيًّا، الدولة الحديثة هي مرجعية ذاتها وليس لها مرجعية من خارجها!. 
- هذا استدعاء بل واجترار للخبرة الغربية في بناء الدولة الحديثة، ولا يلزمنا بالضرورة.. حداثتي غير حداثتهم.. حداثتي موصولة بأصولي وتراثي أو يفترض أن تكون هكذا.. وحداثتهم موصولة بأصولهم وتراثهم، ثم إن هذا الكلام يحول الدولة الحديثة إلى أيدلوجيا، بل وإلى عقيدة ودين جديد وأنا ضد ذلك تماما.
** الجدل في هذا الموضوع -مرجعية الإسلام والشريعة- يتوجه في كثير منه أيضا إلى حدود العلاقة بين الديني والسياسي في مصر الحديثة: كيف ترى المادة المقترحة بمنع تأسيس الأحزاب على أساس ديني؟. 
- تأسيس حزب سياسي علي أساس المرجعية الدينية لا مشاكل فيه طالما كان تحت سقف المرجعية الكلية.. مرجعيتنا إسلامية بنص الدستور وبموجب اعتقاد غالبية الشعب..لكن المشكل في أن يكون هذا التأسيس قائمًا علي تأسيس العلاقة مع الحزب أو سياساته علي أساس التفرقة بين المواطنين وفق عقائدهم الدينية، وهذا مرفوض وضد الدستور.. مرفوض تماما التمييز دينيًّا بين المواطنين في دخول الحزب أو سياساته المستقبلية علي أساس ديني.. فلا يجب أن يفرق الحزب بين المواطنين واقعًا أو مستقبلاً على أساس ديني فلا بد من المساواة في العضوية والأهداف والسياسات.. 
والمرجعية الإسلامية لا تفرق - كما أسلفنا- بين مسلم وغير مسلم.. وأرى أن المادة المقترحة بمنع تأسيس الأحزاب علي أساس ديني هي لغو مقصود به باطل.. العبارة في ذاتها لا تفيد ولا تضر ولكن أحسب أن المقصود به باطل وهو منع كل من له مرجعية إسلامية من أن يكون له تنظيم سياسي. 
** هل ترى أن هذا الالتباس يتعلق بالاستحضار غير الواعي للخبرة الغربية في علاقة الدين بالسياسة ووجود سلطة دينية تحتكر الدين؟. 
- الإسلام قائم علي فكرة الاجتهاد وأن القول بالدليل وأنه ليس هناك قرار ديني .. حتى الفتوى هي اجتهاد وليست قرارا دينيا. 
نعم.. الخبرة الغربية سلبية في هذا الصدد وهي متأثرة بطبيعة المسيحية.. فجزء من المسيحية أنها ذات قرار ومن ثم سلطة دينية يمكن أن تتمدد ومن ثم ينبغي تحجيمها.. وهذا غير موجود في الإسلام، فالإسلام قائم علي فكرة الاجتهاد وأن القول بالدليل وأنه ليس هناك قرار ديني .. حتى الفتوى هي اجتهاد وليست قرارا دينيا. 
وأظن أن من أهم أسباب تحبيذ الأنظمة للعلمانية هو أنها تريد إرادة مطلقة في صياغة كل شيء؛ وهي تعلم أنها إذا أعلنت تقيدها بالإسلام سيقيدها ويحد من إرادتها المطلقة.. وهو سيقيدها شعبيا لأن من حق كل إنسان أن يجتهد ويراجع اجتهاد الدولة من دون أن تستطيع الدولة احتكار القرار الديني أو سلبه من الناس بعكس المسيحية.. وهذا سبب لجوء الحكام للعلمانية رغم أن كثيرا منهم متدينون..هم يلجئون للعلمانية برجماتيا؛ لأن بها لا يصبح النص مصدر الحسن والقبح ولا مصدر الشرعية في التعامل، بل يتحدد الحسن والقبح وتنحدر الشرعية في التعامل حسب قرار الحاكم الذي يفرضه علي الجماهير!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق