الأحد، 21 نوفمبر 2010

ولا يزالون مختلفين—- إبراهيم الهضيبي

حدثني شيخي ذات يوم عن الفارق بين مجتمع القرية ومجتمع المدينة؛ فقال إنه يعود إلى قريته التي نشأ فيها كل فترة، فيخرج مع أصدقائه هناك ليمضي معهم وقتا طويلا، وهؤلاء الأصدقاء ما هم إلا زملاء فصله أثناء دراسته المدرسية، وهم شديدو التنوع: فمن بينهم الآن مجموعة من (السلفيين)، ومجموعة من (الإخوان)، ومجموعة من (الصوفيين)، ومجموعة من أصحاب فكر السلفية الجهادية، بالإضافة إلى اثنين من الأقباط المسيحيين، وتنوعات أخرى.
وتلك المجموعة نالت أقساطا مختلفة من التعليم، فمنهم من خرج من المدرسة بعد التعليم الابتدائي، ومنهم من حصل على الإعدادية أو الثانوية ثم اتجه إلى العمل إما في الحقل أو في التجارة مع أهله، ومنهم من حصل على شهادة جامعية، ومنهم من نال الماجستير أو الدكتوراه.
وعلى هذا القدر الكبير من التنوع -سواء على المستوى الثقافي أو على المستوى الديني أو الفكري- فإن المجموعة كلها تملك قدرا كبيرا من التسامح والمودة فيما بينها، فهم يقضون ساعات طويلة سويا يتحدثون في أمور مختلفة، ويظهر بلا شك الاختلاف الكبير في وجهات النظر بينهم، ولكنهم مع ذلك يتحلون بأدب الاختلاف، ذلك الموروث الشعبي المصري الذي حافظت عليه القرية بعض الشيء؛ لأنها لم تفكك قيمها بفعل منظومة العلمنة (العولمة) التي أكلت المدن.

أزمة انضباط الفكر
ومنذ أيام استمعت للداعية يتحدث في المسجد فيقول كيف أنه في العصور السابقة كان القوم يختلفون ويتنافسون في التجارة وفي الحياة، ثم يرفع الأذان للصلاة فيلبون جميعا وتأتلف قلوبهم في المسجد، ويشعرون بوحدتهم وجماعيتهم عندما يتلو الإمام قول الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهكذا فقد كانت خلافات الحياة تحل بأخوة المسجد.
ثم كيف تحول حالنا فأصبح المسجد عندنا هو منبع الخلاف لا منبع الحل، وليست المشكلة في المسجد بطبيعة الحال، وإنما هي في بعض أهله الذين فقدوا أدب الاختلاف، تماما كما أن مشكلة التعصب ليست إطلاقا في الإسلام، وإنما في بعض المنتسبين إليه الذين عجزوا عن رؤيته بأبعاده الكاملة المتعددة، وألوان طيفه المتنوعة، ورأوا من ذلك لونا واحدا فاعتبروه (الصواب) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنكروا على غيرهم أشد الإنكار.
رحت أتأمل في تلك الأزمة، وقد ألحت علي بشكل كبير في الفترة الأخيرة بسبب كثرة ما رأيت من أناس يملأ الإخلاص قلوبهم، ولكن غياب الفهم يوقعهم في مشكلات كبرى، فتذكرت حوارا مع أحد الأصدقاء، قلت له فيه: إن الفارق بين انضباط الفكر ونضج الفكر هو أن صاحب الفكر الناضج ليس فقط يكوّن وجهات نظر سليمة ومنطقية وعميقة، وإنما يستطيع كذلك أن يتقبل وجهات النظر الأخرى، ويأخذ بأحسنها ويناقشها ويستمع إليها لا ليرد وإنما ليتعلم.. ربطت ذلك بما قاله غير واحد من علماء الصحوة الإسلامية من أن الصحوة لابد أن تنتقل إلى تلك المرحلة من النضج، فقد كتب الدكتور القرضاوي مثلا كتابا قيما بعنوان: "الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد"، وكتب الأستاذ جاسم سلطان: "من الصحوة إلى اليقظة إستراتيجيات الإدراك للحراك"، وكتب غيرهم الكثير في تلك المسألة.

أسباب المشكلة
1- التعليم
رحت أتفكر في أسباب المشكلة فوجدتها متنوعة، بعضها يتعلق بالمجتمع وظروفه المعاصرة، وبعضها يتعلق بالخطاب الديني السائد، فأما مشكلات المجتمع فعلى رأسها التعليم الذي يعلمنا أن هناك دوما صوابا واحدا، فما زلت أذكر كيف كنا في التعليم الابتدائي (في مرحلة تكوين الوعي) نتعلم نصوص العربية فنتعلم معها (مواطن الجمال في التعبير)، وبدلا من أن تكون تلك مساحة للإبداع والتفكير عند الطالب، يرى فيها التنوع من خلال ما يعرضه زملاؤه، ويتعلم فيها أن هناك مساحة لا يوجد فيها صواب وخطأ مطلق، مساحة نسبية في إطار مطلقات الشريعة الواسعة والعامة، بدلا من ذلك يكون مطلوبا من الطالب أن يحفظ مواطن الجمال في التعبير التي نص عليها الكتاب، التي كتبها مؤلف الكتاب، وهكذا يصبح تفاعل مؤلف الكتاب مع النص هو (الصواب) الذي لابد من حفظه، ويصبح الجمال (وهو مفهوم شديد الخصوصية والشخصية) أمرا عامّا، يدخل فيه الصواب والخطأ، كما في النموذج العلماني للجمال (وإن كان الجمال فيه ماديّا) الذي يعقد مسابقات لملكات الجمال فيضع للجمال أصولا ومعايير تقضي على الذاتية والخصوصية فيه.
وفي التعليم أيضا المطلوب دوما هو الكم، كحفظ المعلومات في أغلب المواد، وكم الإنتاج الكتابي في أمور كالتعبير وخلافه، وهذا الصراع الكمي ينتج ما يسميه الدكتور المسيري رحمه الله (الذئب المعلوماتي)، وهو ما يعجز العقل عن تكوين أي رؤى نقدية حقيقية، وهو ينتج كذلك عقلا أداتيا سطحيا ذا بعد واحد، وبالتالي فمن الطبيعي ألا يرى إلا وجهة نظر واحدة.

2- الأزمة الاقتصادية الطاحنة
ومن الأسباب المتعلقة بالمجتمع أيضا الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها مصر، فهي كفيلة بأن تضع كما هائلا من الضغوط على أكتاف الأغلبية، يؤثر على علاقات الجميع، فمن الطبيعي أن من يناقش قضية فيختلف وهو هادئ البال غير من يناقش وهو محمل بكم من أعباء الحياة يجعله مهيأ للانفجار في أي لحظة.

3- تفكك منظومة القيم
ولعل تفكك منظومة القيم الحضارية للمجتمع بفعل النموذج العلماني (وهو في جوهره نموذج تفكيكي يهتم بالتفكيك لا التركيب) أضاف بعدا خطيرا لذلك الأمر، فقد جرد المختلفين -أو كاد- من الأسباب الاجتماعية أو القيمية التي تدفعهم للتعامل مع هذا الخلاف باحترام، ولعل القصة التي بدأت بها المقال تعبر عن ذلك، وإن كنت أرى في الحقيقة أن المنظومة لم تتفكك بالكامل، وأن بعضا من بقاياها لا تزال موجودة في شكل احترام المختلف إذا كنت تعرفه، ودليلي على ذلك ما لاحظته على مدى أكثر من عام من أن نوع التعليقات التي تأتيني على ما أكتبه عبر الإنترنت هي دوما أكثر تجريحا إذا اختلفت معي في الرأي، في حين أن النقد ممن أعرفهم من أساتذتي أحيانا يكون أكثر عمقا، ولكنه بكل تأكيد أكثر أدبا، وتغلفه دوما مساحة الاحترام الإنساني، واحترام الاختلاف.

4- الخطاب الديني
أما ما يتعلق من أسباب الخطاب الديني فلعل من أهمها:
أننا اختصرنا خمسة في اثنين، أي اختصرنا الأحكام الخمسة (فرض- مندوب- مباح- مكروه- حرام) في ثنائية صلبة هي ثنائية الحلال والحرام، فحجرنا بذلك واسعا،

ثم ازداد الأمر سوءا بأن أصبحنا نقيم أنفسنا حجة على العلماء فنقرر متى يكون خلافهم معتبرا ومتى لا يكون، بل ونصحح بينهم أحيانا، فننتهي بالأمر إلى حق واحد، أو حق أعلى وحقوق أدنى، وبالتالي يصبح من الصعب تقبل الخلاف، ويصبح من الصعب على المرء أن يعتبر رأيه (يحتمل الخطأ)، أو رأي غيره (يحتمل الصواب)، كما قال الشافعي رضي الله عنه، وبالتالي يصبح الهدف من المناقشة هو انتصار لوجهة النظر، باعتبار أن المناقشة هي معركة تنتهي بانتصار وجهة نظر وهزيمة الأخرى فلا يستطيعان العيش معا، وذلك أمر غير صحيح؛ فالأئمة الأربعة مثلا تتلمذوا على يد بعضهم البعض، وخالف بعضهم بعضا في الرأي من دون أن ينكر عليه أو حتى يناظره إلا في قليل القليل، ومن أمثلة بقاء الحياة للفكرتين بعد النقاش ذلك الخلاف بين الجنيد وأستاذه على مفهوم التوبة؛ فقد قال أحدهما: التوبة ألا تنسى الذنب، وقال الآخر: بل التوبة أن تنسى الذنب، وانتهى النقاش، وبقي الأمران كلاهما يحمل معاني من الصحة.

مشكلة أخرى في الخطاب الديني أغفل وجودها ميادين مختلفة للنقاش، فميدان العقيدة غير ميدان الفقه التشريعي غير ميدان الاجتماع غير ميدان الفقه السياسي أو الفكر بأنواعه،وعدم وضع الخلاف في إطاره الصحيح يورث كوارث حقيقة لم نسمع بها من قبل، كالتكفير بسبب رأي سياسي، أو تدمير المجتمع بالنظر إليه من منظور خاطئ، ومن ذلك ما قرأته في مقال منذ أسابيع يعتبر إنكار نظرية المؤامرة (وهي نظرية سياسية قد نختلف أو نتفق عليها) إنكارا لمعلوم من الدين بالضرورة، هكذا بتلك الجرأة على دين الله ننقل الحديث من دائرة الفكر السياسي الواسعة إلى دائرة ضيقة تقع ما بين أصول العقائد وأساسيات العبادات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولعل من أسباب عدم إحسان تعاملنا مع الخلاف تعاملنا معه باعتباره مصدر شقاء لا مصدر ثراء، مع أن تنوع البشرية من أجمل ما فيها، {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، وهذا التنوع معيار التفاضل عند الله فيه التقوى، وتلك محلها القلب لا يطلع عليها إلا الله، وبالتالي لا يمكن أن تدخل ضمن معايير التفاضل في الدنيا، ولا يمكن أن يدعي أحد معرفة بها وإلا كان ذلك اجتراء منه على الله جل شأنه.
وأذكر أنني كنت ذات يوم أزور أحد أساتذتي من الإخوان، وتناقشنا في مسألة سياسية اختلفنا حولها، فلما هممت بالانصراف في نهاية اللقاء قال: إن الاختلاف نعمة، فزاوية الرؤية 360 درجة، تمثل كل منها وجهة نظر مختلفة، وكلما تعددت وجهات النظر تعمقت الرؤية.. كان هذا مفهومه لوجهات النظر، وقد حكى لي ضاحكا يومها كيف أنه يحاول أن يأخذ بنصيحة أستاذه وألا يتزوج أفكاره، بل أن يترك بينه وبينها إن استطاع مساحة تمكنه من رؤية محاسنها ومساوئها، وهكذا فإنه إذا انتقد أحد أفكاره فلن يشعر بالإهانة التي تجعله يرد بشكل شخصي، وأتصور أن مشكلتنا -أو جزءا منا- هي أن البعض تزوج أفكاره فأبى أن تنتقد، والبعض ظن كل شخص وفكره زوجين، فكان إذا اختلف مع الفكر سب الشخص، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

5- شخصنة الخلاف الفكرى
ثم إننا أخيرا في تعاملنا مع الخلاف اعتبرنا أن خطأ شخص ما في فكرة سبب كاف للهجوم عليه كشخص، وأذكر تلك الرسالة التي وصلتني بالبريد الإلكتروني تحمل عنوان (الكافر ابن الكافرة)، تسب شخصا غير مسلم لتصريح أدلى به، فلما لمته على لغته قال إنه إنما يصف ذلك الرجل، فهو كافر لأنه لا يؤمن بما أنزل على محمد، فرددت على صاحبها موضحا أن الكفر وإن كان وصفا محايدا فإن استخدامه للسباب لا يليق، فالقرآن الذي اعتبر غير المسلمين كفارا في ميدان العقيدة (كونهم لم يؤمنوا بما نزل على رسول الله من الحق) اعتبرهم أهل كتاب، وأهل ذمة، وإخوة لأقوامهم ولأنبيائهم، وللإسلام لغة في الخلاف لابد من التزامها {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}، ثم قلت له: إنك عندما تقول عنه ابن كافرة فإن ذلك سب لا وصف؛ إذ لو كان وصفا لاكتفيت بقول كافر، أو ابن كافر، ولكن وصله بأمه هنا لا داعي له إلا من قبيل السب، وأذكر أن شيوخنا علمونا من قديم أنه لا يجوز أن تنادي الكلب بأن تقول له (يا بن الكلب) مثلا إن كنت تقصد بذلك سبا، وتلك من أخلاق المسلم، الذي لا يكون طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا بذيئا.

أما أكثر ما تأثرت به من أدب الاختلاف فكان ما حكاه لي أستاذي من رثاء الشافعي لمالك رضي الله عنهما، فقبل وفاته سأل الناس مالكا أين يطلبون العلم بعده؟ فلم يدلهم على طلبته ممن هم على مذهبه، وإنما قال: إذا أردتم العلم النفيس فعليكم بالشافعي بن إدريس، فلما سمع الشافعي بذلك قال: وكيف يكون ذلك وأنا تلميذ مالك، ثم لما جاء خبر وفاة مالك للشافعي -وكان في مجلسه بعد العشاء- سكت طويلا، ومن هيبته لم يقم أحد من الحضور، وطال صمته حتى وقت الفجر، يتذكر أستاذه ومعلمه الذي اختلف معه ولكنه ظل يحبه ويقدره ويعترف بفضله وعلمه، ولم يقم إلا حين أقام المؤذن الصلاة، فقال: سبحان الله، رحمه الله.
هكذا كان أدب الاختلاف، وهكذا كان علماؤنا، أسأل الله أن يؤدبنا بأدبهم ويخلقنا بأخلاقهم قبل أن يعلمنا من علمهم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق