الأحد، 7 نوفمبر 2010

الإمام البنا قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج(1/4).... إبراهيم الهضيبي

في الرؤية العامة للإصلاح والمبادئ العامة للحركة
الإمام البنا قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج(1/4)
 وتأتي هذه الدراسة عن أفكار الإمام الشهيد في ذكرى استشهاده -والمبنية بالأساس على رسائله المطبوعة (وهي قد لا تمثل الفكر الكامل للإمام البنا، نظرا لأنها ليست كل ما كتب من رسائل) – لتعميق النظر في بعض الموضوعات المتداولة حتى اليوم في الواقع السياسي والاجتماعي المصري، ولضبط بوصلة الحركة الإسلامية بحسب ما تقتضيه ضرورات المرحلة الحالية، ولاستخلاص العبر من دروس الماضي حتى تتعمق الخبرة التاريخية الحقيقية للحركة الإسلامية بشكل يساعدها في تشكيل الوعي فتنطلق إلى آفاق جديدة.  فالخبرة التاريخية لا تقاس بالسنوات بقدر ما تقاس بالقدرة على النظر في تاريخ تلك السنوات بعين نقدية، تحدد الإيجابيات ومحطات النجاح فتفهم أسبابها، وتنظر إلى مواطن الضعف والمشكلات فتعي أسبابها وأضرارها فلا تقع فيها أو في شبيهاتها من المشكلات مرة أخرى، وبذلك تتقدم للأمام.
 ويدور البحث –في سبيل ذلك- حول محاور أربعة هي فهم واقع الإمام البنا وأسباب نشأة الإخوان، وبيان رؤيته للعالم من حولها محليا وإقليميا ودوليا، وتحديد أهدافه الاسترتيجية، ودراسة أوجه القصور فيها. وتختص هذه الورقة، وهي الأولى ضمن سلسلة، بمناقشة واقع الإمام الشهيد، وفهم ظروفه وتطوراته الفكرية ما بين إنشائه للجماعة وحتى استشهاده رحمه الله.

في مساء يوم السبت 12 فبراير 1949 تعرض الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين لإطلاق نار أثناء مغادرته لمقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، نقل على أثره إلى مستشفى القصر العيني حيث توفي بعد ساعات من النزيف منع الأطباء خلالها من علاجه. كان الإمام الشهيد وقتها في بدايات العقد الخامس من عمره، وكان عمر جماعة الإخوان يزيد عن العشرين عام بأشهر معدودة، وكان عدد أعضاؤها يقارب نصف المليون عضو في مصر وحدها.
وبالرغم من مرور ما يقرب من ثلثي قرن على استشهاده فإن شخصية الإمام البنا لا تزال ذات أثر واضح في الواقع السياسي المصري بشكل خاص والعربي والإسلامي بشكل عام؛ ذلك أن جماعة الإخوان التي أسسها البنا هي أكبر الجماعات الإسلامية، وأكبر الفصائل السياسية المصرية والعربية في العالم الإسلامي.

1-ما قبل البنا:
كان المشهد السياسي الذي تفتحت أعين الإمام البنا عليه نتاجا لتطورات تاريخية تبدأ بتولي محمد علي الحكم في مصر في بداية القرن التاسع عشر، ذلك أن محمد علي أدخل مجموعة من الإصلاحات التي أحدثت حراكا مجتمعيا ظل المجتمع يتطور دينيماكيا على إثرها لقرن من الزمان حتى وصلت إلى ما كانت عليه وقت نشأة الإمام البنا.
فمحمد علي هو باني مصر الحديثة، وصل للحكم في مصر في وقت كانت فيه الأحوال متردية في كافة المجالات فسعى للتطوير، واتجه من أجل ذلك للغرب الذي كان قد تطور ودخل عصر النهضة. ويشير المفكر والمؤرخ المستشار طارق البشري إلى أن ذلك الاتجاه من محمد علي لم يكن تغريبا، وإنما كانت بعثاته لأوروبا "تتجه إلى ما يمكن تسميته وقتها بالصنائع كالطب والهندسة، أما العلوم الإنسانية فكانت البعثات فيها جد قليلة"، كما أنه كان يرسل مع بعثاته مجموعة من علماء الأزهر ووعاظه الذين كانوا يؤكدون على فكرة الجهاد في الدعوة بينهم، وأنشأ محمد علي مجموعة من المؤسسات الحديثة لحماية فكرة النهضة، إلا أنه ولأسباب سياسية تتعلق بعلاقته بالباب العالي في أسطنبول أبقى على المؤسسات التقليدية، وكان ما أخذه عن أوروبا "يجري في نطاق ما نسميه اليوم التكنولوجيا، وكان يخدم مشروعا سياسيا إسلاميا"، وكان بذلك يحاكي نماذج وليس فكرا وعقائد، إلا أن خلفاءه محمد سعيد وإسماعيل لم يتبعا خطواته، فسمح الأول بتوغل النفوذ الاقتصادي الأوروبي في البلاد بأشكال مختلفة من أهمها الاقتصادي (والخطورة في أنه كان ناتجا عن نماذج فكرية مغايرة، وللاقتصاد والمال دور مؤثر في تغيير باقي مناحي الحياة)، فيما كانت بعثات الثاني لأوروبا تتكون من صغار السن الأقل منعة للغزو الفكري، وكانوا يذهبون لدراسة العلوم الإنسانية وما فيها من أفكار . وقد أنتج ذلك وجود نخبة مثقفة متغربة منفصلة أو شبه منفصلة عن الشارع الإسلامي.

وقد تعمق هذا النفوذ الأوروبي من خلال مؤسسات ثلاث، هي المدارس الحديثة، وجماعة المقطم والمقتطف، وصحيفة الجريدة، وكان تأثير هذه المؤسسات كبيرا من حيث الكيف، إلا أنها ظلت شبه معزولة عددا وجعرافيا، فكانت تخاطب الطبقات التي لقت تعليما غربيا، والتي ظلت تعيش في أحياء على أطراف المدن. إلا أنه ومع الوقت بدأ نفوذ هذه الطبقات يزداد بحكم مواقعها المؤثرة وامتلاكها لأدوات التغيير في المجتمع، إضافة إلى حالة الجمود العام التي كان عليها المشروع الإسلامي قبل ظهور موقذ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني على نحو جعل النموذج التغريبي يبدو وكأنه الطرح الوحيد للنهوض والاستقلال والتقدم.
وفي هذه الأثناء قدم الأفغاني إلى مصر بعد جولات في عدة دول إسلامية، وبدأ يُنَظِر لمشروع الإحياء الإسلامي، وكان الأفغاني ثوريا في توجهه، حتى أنه تنقل بين البلدان المختلفة بسبب مطاردة السلطات له حتى استقر به الحال في فرنسا حيث أصدر مجلة العروة الوثقى، وكان من تلامذته في مصر الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي اختلف مع الأفغاني في توجهه الثوري وكان توجهه إصلاحي، يحاول إعادة ربط الإسلام بالعصر من خلال فقه رشيد يأخد من الكتاب والسنة وينزع القداسة عن أقوال العلماء فيمحصها ويأخذ منها من يصلح للعصر ويخرج عنها مع بقائه في إطار القرآن والسنة في الأمور التي تحتاج إلى تجديد.

وعن طريق الإمامين الأفغاني وعبده ومعهما الشيخ عبد الرحمن الكواكبي ومجلة العروة الوثقى انطلق البناء الفكري للمشروع الإصلاحي الإسلامي قبل حوالي نصف قرن من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، ظل خلالها المشروع الفكري يتبلور ويتطور وإن ظل مشروعا نخبويا ضيقا لا يؤثر في العامة والجماهير إلا التأثير المحدود، ولم يكن له تنظيم أو مؤسسة تحميه وتستوعبه. فالمؤسسات المجتمعية كانت إما مؤسسات تغريبية، أو مؤسسات دينية تقليدية ترفض الاجتهاد والتجديد، وقد حاول أبناء مدرسة الإصلاح والتجديد شق طريقهم بين هاتين المدرستين، حتى قال الإمام محمد عبده: "لقد ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين؛ الأول هو تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة…والرجوع إلى كسب معارفه من ينبيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترده عن شططه…كل هذا أعده أمرا واحدا، وقد خالفت فيه رأي الفئتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة؛ طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون العصر ومن هو في ناحيتهم"

وفي هذه الأثناء وقعت تطورات إقليمية ومحلية غاية في الأهمية، فعلى الصعيد الإقليمي كانت الحرب العالمية الأولى قد انتهت بهزيمة الدولة العثمانية، ونتج عن ذلك أفول شمس الخلافة الإسلامية، التي كانت رمزا للوحدة الجماعة السياسية للمسلمين، وكذلك لسيادة الشريعة الإسلامية، فكان سقوطها إذانا بسقوط المفهومين، أو تأخرهما عن غيرهما من المفاهيم التي كانت تتقدم في هذا الوقت، وبخاصة المفاهيم التغريبية العلمانية، وبدا للـ(علمالني الوطني) وكأن عجلة التاريخ تسير في ذات الاتجاه الذي سارت فيه في أوروبا، انهيار المؤسسة الدينية (الكنيسة في أوروبا والخلافة –كما رآها- في العالم الإسلامي) وبزوغ نجم العلمانية، وبدا له وكأن أوروبا والعالم الإسلامي يسيران على نفس الطريق في التطور، وأن أوروبا قد سبقت بأزمنة حتى أصبح حاضر العالم الإسلامي ماضيها، ومن ثم كان لابد من التعجيل بالعلمنة قد المستطاع من أجل اللحق بركب الحضارة.

وجاءت ثورة 1919 لتمثل نقطة تحول في الواقع السياسي المصري؛ فقد جاءت في وقت كانت قد اختمرت فيه عناصر التغريب على المستوى النخبوي وإن بقيت الجماهير إسلامية التوجه، وكان حزب الوفد (أو مؤسسيه الذين قادوا الثورة) علمانيو التوجه، ومع ذلك فقد حاولوا استمالة الشعود الديني السياسي لينالوا تعاطف الجماهير، خاصة مع التركيز على قضية الاستقلال والتي كانت عاملا مشتركا بين الاتجاهين الإسلامي والعلماني، إلا أن المشروع العلماني لم يكن يرمي لغير الاستقلال السياسي، وكان خطابه الديني تعبويا فقط، مبتعدا في الناحية التطبيقية عن مشروعه السياسي التغريبي، فيما كان المشروع الإسلامي يرى في صراعه للحفاظ على الموروث (أو أصوله) في الفكر والعقيدة والحضارة أبعادا أخرى للمطالبة بالاستقلال، تضاف إلى السعي للاستقلال السياسي. وفي السنوات القليلة التالية ألغيت الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، وأعلن دستور 1923 في مصر، الذي عبر عن توجه تغريبي يتماشى مع مشروع الوفد، فعلى الرغم من نص المادة 149 منه على أن (دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية) فإن ذلك لم ينطبع على صياغة الدستور أو صوره التطبيقية في القوانين وغيرها، اللهم إلا في مجالات ضيقة لا تتعلق بالشأن العام، وكان التوجه السياسي العام مبتورا عن الجامعة السياسية الإسلامية التي كان الدعوات الوطنية (بما في ذلك الثورة العرابية) تأتي دائما في إطارها.

كان المشهد جديدا على (الإصلاحيين الإسلاميين) الذين لم يجدوا مؤسسة تحميهم، ووجدوا أنفسهم –وهم الأصل وغيرهم وافد عليهم- فجأة غرباء على الساحة السياسية المصرية، ووجدوا أصواتا للمعارضة تشذ عن أصولهم ومنهجهم الحضاري، بل وعن المشروع الإسلامي بالكلية بعد أن كانت الخلافات دوما هي على أرضية المشروع الإسلامي، فعمر مكرم الزعيم والمعارض السياسي الكبير كان عالما أزهريا، وكذلك الأفغاني وعبده اللذين ساندا ثورة عرابي، والكواكبي، وحتى الحزب الوطني الذي أنشأه مصطفى كامل لم يعد صالحا لأن الأوضاع تغيرت، والجماعة السياسية الأشمل التي كان ينادي بالانتماء إليها انهارت هي الأخرى، وكان لذلك أثرا سلبيا على الحركة الإسلامية، حيث نجحت الحركات التغريبية في دغدغة المشاعر الدينية للجماهير في ظل الانطلاق بها واقعيا وعمليا في اتجاه مشروع مغاير وذلك بسبب غياب مؤسسات إسلامية تمثل بديلا يمكن معه المقارنة.

2- ظهور الإمام البنا والإخوان
في هذا الإطار أسس الإمام البنا جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، لا لتحقيق أستقلال سياسي أو حتى إعادة بناء مشروع سياسي مفكك فحسب، وإنما كانت الدعوة في الأساس لاستقلال حضاري، وإعادة البناء الحضاري للأمة وأبنائها، إيمانا بأن الصراع مع الاستعمار –كما يقول المستشار البشري- "لا يتعلق فقط بشيء خارج عن ذواتنا. فنحن بوصفنا جماعة بشرية موضوع الصراع ولسنا طرفا فيه فحسب" ، أي أن الاستقلال الذي سعى إليه البنا لم يكن استقلالا للأرض فحسب، ولا حتى للإرادة السياسية وحدها، وإنما كان استقلالا للأنفس والعقول من مشروع استعماري قفز عليها في مرحلة عجز وضعف، استقلالا "يبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا…وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي" 

كانت فكرته واضحة في أن العقيدة لابد أن تنطبع على الحياة، وأن الإسلام ليس دينا للمساجد، وإنما هو دين للحياة، الأرض كلها مكان العبادة فيه، وكل ما فيها من أفعال لابد أن تتسق مع المنظومة الأخلاقية الإسلامية بلا انفصال أو انقطاع في ذلك، (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ، فجعل هذا الفهم للشمول هو الأصل الأول من الأصول العشرين التي أقام عليها دعوته، وقال بوضوح إن "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة و ثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كماهو عقيدة صادقة وعبادة صحيحه سواء بسواء" وكان التردي السياسي للأمة –بحسب رؤية الإمام البنا- نتيجة طبيعية لتردي الجوانب الاجتماعية والفكرية والثقافية فيها، ذلك أن "الروح العام الذي يهيمن على الحاكمين والمحكومين، ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها، كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام"  والتغريب السياسي لم يكن إلا انعكاسا للتغريب الاجتماعي والثقافي والفكري الذي بدأ مع محمد سعيد وإسماعيل كما سبق، بل إنه جاء متأخرا عنه بقرابة قرن من الزمان، وبالتالي كان البدء بإصلاح (أصل الداء)، وهو "فساد النظام الاجتماعي في مصر فسادا لابد له من علاج"  أولى من البدء بإصلاح ظواهره، فبدأ البنا مشروعه بالإصلاح الاجتماعي فالثقافي والفكري، وكتب رسالة كاملة في اللبنة الأولى للإصلاح الاجتماعي هي رسالة نظام الأسر.

اعتمد البنا بالأساس على المشروع الفكري والثقافي الذي أخذ خطوطه العريضة من أستاذه رشيد رضا- تلميذ الإمام محمد عبده- ومن أنتاجاتهم الثقافية، المتمثلة بالأساس في مجلة العروة الوثقى، وتفسير المنار لعبده ورضا، وفتاوى محمد عبده الموجودة في دار الإفتاء المصرية، إضافة إلى المقالات المختلفة التي نشرها عبده في الصحف والمجلات، والمجالس التي كان يسمتع فيها للسيد رشيد رضا، والتي كان لها أثر كبير في بنائه الفكري.

وتبنى الإمام البنا نظرية عبده في الإصلاح ورفض نظرية الأفغاني في الثورة، وكان لفهمه لشمول الإسلام دوره في رؤيته للإصلاح فقال إن "معنى شمول الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولا في كل معاني الإصلاح"   وكان الإصلاح الاجتماعي عنده يتقدم على الإصلاح الفكري والسياسي، حيث رأى في تبدل الأنظمة الاجتماعية وتقاطعها مع الشريعة الإسلامية العامل الأساسي الذي سهل علمنة الحياة، أو على الأقل زيادة القبول للنموذج العلماني كما سيلحق، ويرى المستشار طارق البشري أن "محاولة إضعاف الإسلام في نفوس المسلمين خلال القرن الماضي لم تتخذ شكل محاربة الإسلام كعقيدة…وإنما جرى ذلك بتغيير الأوضاع الاجتماعية وأنماط الحياة بين الناس، بطريقة جعلها قائمة على تعارض مع تصورات الشريعة الإسلامية وأحكامها" وقد كان البنا يرى أن القرآن "هو الجامع لأصول هذا النظام الاجتماعي الشامل" ، وتحدث عن أصول هذا النموذج بإسهاب شديد في رسالة بين الأمس واليوم –التي يكاد يكون قد خصصها لهذا الغرض، وأشار في نهايتها إلى أن الإصلاح الاجتماعي يهدف إلى أن "يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي" و"أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية"،  ويرى المستشار البشري أن الدعوة ما قامت إلا لهذين الهدفين: أقامة الشريعة ووحدة الأمة،  وفي حقيقة الأمر فإن ذلك هو أحد أعلى مقاصد الشريعة الإسلامية: مقصد بناء الأمة الشهيدة على البشرية ، أو الاضطلاع بمهمة (الشهود الحضاري) امتثالا للآية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، وهي المهمة التي تمثل الدور والرسالة الأساسية للمسلم كما يشير العبقري مالك بن نبي رحمه الله ، ولا عجب في ذلك، فتلك هي مهمة الاستخلاف (إني جاعل في الأرض خليفة) والاستعمار (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) التي هي (عبودية الحياة) التي تتخطى حدودها المساجد كما سبق.

وكان فهم الإمام البنا للشريعة مرنا متسعا عميقا؛ فقد كان يدرك أن هناك أصولا وضوابط عامة تمثل جزءا ضئيلا من أحكام الشريعة، وهناك مقاصد تختلف وسائل تحققها باختلاف المكان والزمان، وكان مما قاله في ذلك أن "الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار وأزمان جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، خصوصا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق "
وكان من سعة فهمه للشريعة أن أدرك أنها لا تعني وحسب تطبيق الأحكام والحدود، وإنما يجب أن يكون ذلك متأطرا بالسعي لتحقيق المقاصد، ومن ذلك أنه حين تحدث عن الأزمة الاقتصادية التي كانت تعانيها مصر في وقته (ولازالت تعانيها) قال إن علاج هذه الأزمة من الأهداف التي "لا يصير المجتمع إسلاميا كاملا إلا بتحقيقها".


أسس الإمام البنا نظريته في التغيير الاجتماعي باعتباره الخطوة التالية والنتيجة المباشرة للإحياء الديني والعبادي، فقال في حديثه عن الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) قال أن الاية توضح "الرابطة بين التكاليف من صلاة وصوم بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى وسيلة للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معا"  فبنى نظريته في الإصلاح على مبتدء إجتماعي يبدأ بإصلاح الأسرة باعتبارها لبنة البناء الإجتماعي المتماسك، ثم انتقل بعد ذلك إلى العمل الحضاري في بناء الأمة، ثم إلى السياسي في بناء الدولة.

هكذا كانت الرؤية الكلية للمشروع الإصلاحي الحضاري الإسلامي القائم على أسس اجتماعية واضحة عند الإمام البنا منذ تأسيسه للإخوان عام 1928، وكانت رؤيته الإصلاحية في شكلها الكلي جلية واضحة المعالم، حث أتباعه على أن ينقلوها بنفس الوضوح إلى المجتمع، ولكن البعض لم يكن على وعي كاف بتلك الرؤية، وكما أن الإمام البنا نفسه تطورت رؤيته لتفاصيل المشروع خلال رحلته العملية في الدعوة والإصلاح والتي استمرت أكثر من عشرين سنة، حتى لقي ربه وهو يحمل لواء الإصلاح والتجديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق