الجمعة، 26 نوفمبر 2010

البشري: الجماعة الوطنية أسقطت عقد الذمة (2-2)

في إطار الإشكال الطائفي الذي شهدته مصر مؤخرا كانت لنا تلك التساؤلات مع المستشار البشري. وقد أكد المستشار البشري أن وضع المواطنة الذي جمع شمل الجميع كان يسبقه تطبيق نظام الملة. وأوضح أن الشريعة تسمح لغير المسلمين بالاحتكام إلى شرائعهم الخاصة، وهو ما تبلور في نظام الملة. ولفت إلى أن التوحد في مواجهة الاستعمار تحول معه الفقه حيال غير المسلمين الذين انخرطوا في مواجهة الاستعمار عن مفهوم عقد الذمة إلى عقد المواطنة الذي يشمل الجميع. وأكد المستشار البشري أن الجماعة الوطنية بحالتها الراهنة تحددت وفق رؤية تاريخية نضالية، وأن الوطن تحول إلى معيار الانتماء الحاكم لأهل هذا الوطن، ولفت إلى أن الإصرار على تجاوز مؤسسات الوطن سعي للعودة لنظام الملة. ودعا المستشار البشري للوقوف في وجه هذا الاتجاه الذي يلتف على الجماعة الوطنية. كما دعا الأقباط للاحتكام لشريعتهم عبر تمريرها من خلال مؤسسات الدولة، وليس الانفراد بوضع قوانينهم بعيدا عن مؤسسات الدولة فضلا عن تحديها.
نص الحوار:
* المستشار طارق البشري.. ما رؤيتكم لاتجاه التدافع ما بين نظام الجماعة الوطنية الذي ينتظم مشروعك الفكري/السياسي وبين نظام الملة الذي تحدثت عن عودته بصورة أو بأخرى في مقالاتك الأخيرة بصحيفة الشروق؟ وهل تعتقد أن نظام الملة يمثل حقبة تاريخية انتهت، أم أنه يمثل بنية اجتماعية يمكن أن تعود في المستقبل؟

المستشار البشري: بالحديث عن مصر، نحن تحولنا منذ فترة عن نظام الملة إلى نظام يربط كل فرد في هذا الوطن بوطنه؛ وهو نظام المواطنة. 
قديما؛ كان النظام القائم هو نظام الملة، والذي كان يعني – فيما يعني - أن ينظر لكل صاحب دين باعتبار أن دينه يمثل إطارا مرجعيا كليا له، وأن يترك له أن يتحاكم إلى ملته وفق نظم هذه الملة وأحكامها. هذا النظام كان قبل التحرر وتثبيت أركان الدولة الوطنية، ويبقى لغير المسلمين مجالسهم الملية الخاصة بفض المنازعات الاجتماعية؛ والتي تكون بين أفرادها بعضهم ببعض في علاقاتهم الاجتماعية وأنشطتهم، وحياتهم.
وهذا النظام عرفته الجماعة المسلمة أو النظام الإسلامي في القديم، وكان نظاما فيه نوع من الديمقراطية؛ قوامها أن يترك لأهل الملل المختلفة أن يتحاكموا فيما بينهم وفق شريعتهم الخاصة بهم؛ إذا ارتأوا ذلك. لكن ارتبط بهذا النظام أن تلك الملل لم تشارك في بناء الدولة، وفي المجال العام. ولذلك فإن فكرة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"؛ هذه الفكرة كانت تنتظم العلاقات الخاصة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المصري.
وفيما يتعلق بتولي الولايات العامة واشتراط ارتباطها بالدين، سنجد إذا طالعنا كتب الفقه؛ ومثالها كتاب الأحكام السلطانية ستجدها تنص على أن يكون صاحب الولاية العامة مسلم، في القضاء تجد هذا الشرط، وكذا في إمارة الجند، وفي سائر الولايات. ومرد هذا الاختلاف أن نظام الملل يمثل نوعا من أنواع الحكم الذاتي، أو نظام ذاتي يدير الشئون الذاتية لأهل الملة، ونظام إدارة الملل يختلف بعض الشئ عن نظام إدارة الولايات الذي يعتمد على النظم الفيدرالية؛ من حيث أن كل ولاية لها أرض، ومن يسكنون أو يعيشون على هذه الأرض تحكمهم الأنظمة المحلية الخاصة بهذه الأرض التي تقع ضمن دائرة معينة بحدود.
نظام الملة ليس فيه أرض. إنما هو جماعة ثقافية، أو فكرية، أو عقيدية، تلتقي على شرعيات معينة، وكانوا أساسًا من المسيحيين في بلادنا (كمصر)، أو المجوس (العراق)، أو اليهود. وكان الانتماء لهذه الملل يبنى على أساس ثقافي، فلم تكن ولايات محددة جغرافيا؛ وليس لها أرض محددة.
وما حدث أن مفهوم الجماعة الوطنية دمج الملل المختلفة في الجماعة الأصلية. وفي إطاره أقيمت الدولة الوطنية على أساس من هذا الوجود المشترك المختلط، وكان ذلك في فترة مقاومة الاستعمار الغربي الذي دخل بلادنا وحكم هذه البلاد. فمع الاستعمار ظهرت حركات وطنية من مجمل ومجموع القاطنين على أرض هذه البلاد، فتكونت جماعة وطنية من العناصر التي شاركت في تحرير الوطن.
ولذلك هنا نقول: قد سقط عقد الذمة لهذا السبب، وحلت محله منظومة المواطنة.
وإثر هذه العلاقة الجديدة؛ أصبحت العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في هذه البلاد لا يحكمها علاقة ما بين مسلم ومسيحي فقط، إنما مشاركة في تحرير هذه الأوطان مما كانت عليه من الاستعمار.
إن نشأة الجماعة الوطنية لم تكن تعني تحالفًا بين فئات مختلفة، إنما هو امتزاج في إطار مفهوم جديد، ووضع جديد، وانتماء يشمل الجميع، انتماء جامع يشمل المسلمين وغير المسلمين في هذه البلاد، الذين تشاركوا في تحرير وطنهم من المعتدي عليه.
* إثراء للقارئ: ما تعريفكم لمفهوم الجماعة الوطنية؟
المستشار البشري: المقصود بالجماعة الوطنية أنها تصنيف يتم وفقًا لمعيار معين وتقوم عليه الدولة. فالدولة في القانون الدولي: هي شعب يعيش على أرض واحدة وتحكمه على هذه الأرض حكومة، والشعب بهذا المعنى هو ما أقصده بالجماعة الوطنية؛ لأنه يتكون وفق للتصنيف الذي يخص خبرتنا هنا والذي يعني الاشتراك في إطار مشروع لتحرير بلادهم، وإنشاء دولتهم المستقلة على هذه الأرض.
في هذه اللحظة التاريخية؛ نظام الملة لم يعد له وجود بهذا الشكل، وأصبح المتشاركون في هذه الجماعة من عناصرها المتعددة والمتنوعة من الناحية الدينية والإقليمية والمهنية وغيرها، يتشاركون في بناء دولتهم، وهو ما سينعكس على تولى الأمور العامة في مصر. هكذا كان الوضع من الناحية التاريخية.
أما من الناحية الشرعية؛ فموضوع الولايات العامة الحقيقة تباين في الرؤى التجديدية عن الرؤى الكلاسيكية. فإذا كان الفقهاء القدامى قد اشترطوا الإسلام لتولي الولايات العامة، فالنظم الحديثة اليوم جعلت تنظيم وإسناد الولايات العامة ليس للأفراد، ولكن للهيئات، بحيث إن الفرد لا يملك شيئا بذاته، فالقرار هو للهيئة مجتمعة، مثل المجالس النيابية، مجلس النواب مثلاً، أو مثل مجلس رئاسي مثلاً، أو مثل المحكمة التي تتكون من خمسة أعضاء أو ثلاثة أعضاء، فهنا الولاية أصبحت للهيئة وليست للفرد. وطالما أن الولاية للهيئة وليست للفرد؛ يمكن للمسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتشاركوا معًا في هذا الإطار. وتبقى المرجعية هنا هي المرجعية القانونية العامة التي تحكم النظام القانوني في هذا البلد.
* ما تقييمكم لمفهوم الجماعة الوطنية في ضوء المشهد الراهن الذي يفرض نفسه في مصر: هل نظام الملة كفكرة وكبنية اجتماعية قابلة للتجدد والحضور في المجال العام في المستقبل؛ أم أنها صارت تاريخا يصعب استرداده في إطار استقرار مفهوم الجماعة الوطنية؟
المستشار البشري: المشهد المصري يحتاج لبعض التأمل. فعندما يقول أحدهم أن على المسيحيين في بلدٍ معين عليهم أن يتحاكموا إلى مجالسهم الخاصة، وعليهم أن يرجعوا إلى قانونهم الذي يعدونه في هذا الشأن، وأن يحكمهم نصه؛ أنت في هذه الحال تستدعي نظام الملة، وهذا حاصل نسبيا، ويمكن رؤيته من خلال بعض التصريحات الكنسية الأخيرة التي سمعناها. وقد بدأت هذه التصريحات بشكل واضح منذ عام 2008.
* أليست هذه المطالبات مشروعة إسلاميا لارتباطها بإقرار الشريعة بأنهم يحق لهم يتحاكموا إلى شرعتهم؟
المستشار البشري: هذا تنظيم تاريخي. نشأ تاريخيًا في إطار الفقه الإسلامي، وباعتبار تاريخيته؛ فإنه من الممكن أن يتغير تاريخيًا نتيجة للظروف التاريخية.
* هل ترى أنه من المهم الآن أن نتحاكم إلى ما يمكن أن نطلق عليه قواعد وآليات وهيئات الدولة الحديثة، وليس إلى ما انتهى إليه الفقه الإسلامي في مسألة إقرار الشريعة لهم بحقهم في إدارة شؤونهم بصورة مستقلة؟
المستشار البشري: هذا صحيح، مع ملاحظة أننا نريد أن تكون القوانين التي تصدرها الدولة الحديثة ذات مرجعية إسلامية، حينذاك تكون الهيئة هيئة إسلامية؛ لأن الهيئة تعني مرجعيتها. فعندما يحكم القاضي المدني بقوانين الوصية، والميراث الموجودة في مصر مثلاً، هو يحكم حكمًا وفقًا للشريعة الإسلامية حتى ولو كانت الدائرة القضائية التي تنظر القضية يترأسها قاض مسيحي، فهو يحكم بقوانين الشريعة الإسلامية، وتبقى المحكمة نفسها محكمة مشكلة، ذات ولاية تقبلها الشريعة الإسلامية، والتحاكم هنا يكون للمرجعية الأساسية.
فالمطالبة بعودة الشريعة لا تعني أن تطبق هذه الشريعة في بعدها القانوني مباشرة من الأفراد على شئونهم، إنما أن تصدر بها نصوص قانونية، وتكون الشريعة مرجعية لهذه القوانين، وتصدر القوانين وفقًا لرأي ما من الآراء الموجودة في الفقه الإسلامي، أو مما تسعه الشريعة أو الفقه الإسلامي من آراء. ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن "ولي الأمر" في الفقه الإسلامي التقليدي يستطيع أن يرجح من بين الآراء المتنوعة التي يسعها نص من النصوص؛ فبإمكانه أن يرجح معنى من المعاني ويلزم به القضاء في هذا الأمر.
* نود أن تلقوا مزيدا من الضوء على قضية احتمال تحول الحركة التاريخية المصرية عائدة مرة ثانية بالقوى الاجتماعية المصرية؛ وبخاصة الطوائف، إلى النظام الملي على مستوى الممارسة، واسترداد هذا النظام مرة أخرى؟
المستشار البشري: ما حدث مؤخرا هو ظهور اتجاه بين المسيحيين في مصر يطالب بتطبيق شرائعهم الخاصة، وأن يكون هذا التطبيق مقيدا لهيئة القضاء المصري أو تقوم به مجالس أخرى، وعلى أن تلتزم هذه الهيئات والمجالس بما تقرره الهيئات الخاصة للأقباط. هذا الخطاب ظهر بين أشخاص مسئولين داخل الإطار الكنسي المصري. وأوضحنا للجميع أن هذا الخطاب من شأنه أن يعيدهم ويعيدنا إلى نظام الملة من جديد، هل هم يقبلون هذا أم لا؟ هذه قضية أخرى. وعليه، من الممكن أن يعود نظام الملة مجددا، ويمكن أن نكرس نظام الجماعة الوطنية، وهذه حركة تاريخية، فما تستقر عليه الجماعة سياسيًا من أوضاع متعلقة بتحديد علاقات فئاتها بعضهم وبعض، سيكون هو المستقبل.
ففي عالمنا العربي هناك مثلاً نظام القبيلة الموجود في بعض المناطق؛ حيث يكون الحكم للقبيلة، ولهذا النظام خصوصياته في الحكم. وهناك مناطق تشهد حضورا قويا لنظام الطوائف، ولهذا النظام ودواعي حضوره خصوصياته وقدرته على التعامل مع الأوضاع الخاصة بهذه الدول. فالمسألة تاريخية، مسألة واقع تاريخي في منطقة معينة أو في بلد معين. فمن الممكن للحركية التاريخية أن تؤدي بنا إلى الذهاب إلى نظام الجماعة الوطنية، ثم العودة إلى نظام الملة من جديد ممكن، هذا وارد الحدوث إذا تراضى الناس على هذا الوضع في وقت من الأوقات، وهذا ما أرى أن نقاومه وأن نتمسك بمفهوم الجماعة الوطنية.
لكنني أردت أن أؤكد أن هذه المعاني التي تقال في هذا الشأن، من ناحية أن يكون هناك قوانين، أحكام خاصة يلجأون إليها مباشرة قفزًا على قوانين الدولة، ودون الرجوع إلى الدولة لتحديد هذا الأمر، وأن يكون مجالس خاصة تقضي بهذا، هذا عودة لنظام الملة.
* ألا ترون أن المطالب القبطية نسبية ولا تنطبق في مجمل الأحكام، وإنما فقط في مساحة الأحوال الشخصية وما يتعلق بها. ألا ترون أن الطرح القبطي لا يعني رفض الجماعة الوطنية؟
المستشار البشري: حتى لو كان المقصود هو دائرة الأحوال الشخصية. فأن يكون لك القدرة على أن تنشئ القواعد القانونية الخاصة بك في فترة من الفترات، وتعدلها كما تشاء في إطار الملة دون الرجوع إلى قواعد الدولة، ودون احتياج لاستلهام رؤية الدولة وتنظيمها لهذا الأمر، فأنت في هذه الحال تعود إلى ظواهر الملة.
وبرؤية مقارنة؛ فهذا المنطق لا نجده عند أولئك الذين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية. فهم لا يرغبون في أن يتحاكموا إلى الشريعة مباشرة، بل يطالبون أن تصدر القوانين وفقًا للمرجعية الإسلامية، ولتختار الهيئات العامة الرأي الذي ستنتهي إليه من بين الآراء المتعددة والمتنوعة الموجودة في الفقه الإسلامي في أي مسألة من المسائل، كما هو شأننا الآن بما تفعله الدولة في شأن قوانين المواريث والوصية والأحوال الشخصية.
* لكن ألا ترون أن ضغوط القوى السياسية أمر مقبول؛ حيث ثمة آليات في المجال العام تلجأ إليها جماعة ما للتعبير عن مصالحها، وتبلغ أحيانا درجة تبني قوانين وتحاول أن تصوغها وفق رؤيتها وتكون تعبيرًا عن مصالحها؟
المستشار البشري: هذه الجماعات لا تتبنى قانون، إنما تقترح قانون، وما تفعله في هذا الشأن مشروع، وعندما توافق عليه الدولة يصير قانونا. وأنا لا أقصد الدولة هنا بالمعنى المركزي أو السلطوي أو الاستبدادي، بل أقصد دولة بمعنى التشكيلات الديمقراطية الموجودة في الدولة.
إن الدولة هي صاحبة الولاية العامة، والولاية العامة هي إنفاذ قول على الغير غير المحدد أو غير المعين، بعكس الولاية الخاصة التي هي إنفاذ قول على غيرٍ محدد بذاته، مثل الوكالة، والوصاية على القصَّر. والولاية العامة لا بد وأن تُمارس فقط من قِبَل الجهة صاحبة الولاية العامة.
* هذا برأيكم يعني مشروعية قيام غير المسلمين بصياغة مقترح بقانون متعلق بالأحوال الشخصية الخاصة بهم، إذا سلك هذا المقترح آليات الدولة في إنتاج القوانين؟
المستشار البشري: طبعًا هنا يكون مشروعا. وهو عين المطلوب. فبطبيعة الحال، حين يصدر قانون يتعلق بالأحوال الشخصية لغير المسلمين، لابد وأن تكون مرجعيته هي مرجعيتهم الدينية. فليس المطلوب من قانون كهذا أن يحلل حراما في دينهم، أو أن يحرم الحلال عندهم. لكن المهم أن يصدر مِن الهيئة صاحبة الولاية العامة، وليس عبر تجاوز هذه الهيئة.
* هل أطروحتكم هذه تعبير عن حالة تجديد في الفقه؛ تجاوز فيها رؤيته التقليدية ليتجه لاستيعاب مفهوم الدولة القطرية/القومية، ومن ثَم يباشر تجديده في إطار هذا الظرف التاريخي الجديد بإبطال مفاهيم قديمة كالذمة وبناء واستيعاب مفاهيم جديدة كالمواطنة وولاية الهيئات؟
المستشار البشري: ما معنى التجديد الفقهي وكيف يتم؟ التجديد في الفقه هو تحريك النص الثابت على واقع متغير. المعضلة كلها كيف يكون النص ثابتا والواقع متغيرا، ونحن نقوم بتحريك النص الثابت مع الواقع المتغير. وهذه الحركة تأخذ شكلين:
الأول: يتمثل في استخلاص معنى من النص، مما يسعه النص من معانٍ ينطبق على الحالة الموجودة.
والثاني: يتمثل في تكييف الواقعة نفسها، وتشكيلها بالشكل الذي يجعلها تندرج تحت حكم النص، وكثيرا ما نقوم بهاتين العمليتين مع بعضهما البعض.
التجديد يتعلق بالمواءمة ما بين نص ثابت له معان متنوعة كما يقول الفقهاء الإسلاميين؛ فهو ليس مضيقا ولا معيارًا، ولكنه موسع وظرف؛ لأنه لا يسع غيره من جنسه. وأغلب النصوص بهذا الشكل. ومثال ذلك الصيام في رمضان. فالوقت في رمضان محدد بمعيار، أنه من الفجر لغاية المغرب. على عكس الوقت في الصلاة؛ فالصلاة في الإسلام موسعة وظرف لأنها تسع غيرها من جنسها؛ فوقت الصلاة يتسع لساعتين أو أكثر تستطيع أن تصلي فيه. وتختلف النصوص فيما بينها وتتنوع في مدى الضيق والسعة التي يحتملها النص في تطبيقه. فالنص هنا مثل الطريق في اتساعه، له يمين وله يسار وله وسط. وقد يتسع أو يضيق، ولكن له حدان في النهاية؛ لا تستطيع أن تخرج عنها، وداخل هذين الحدين تستطيع أن تتحرك وفقًا للواقع الذي أمامك، والأحوال التي أمامك.
لذلك تحدث الفقهاء في كتبهم عن إجمال ما يتغير، وتفصيل ما لا يتغير. ما لا يتغير هذا يبقى مضيق ومعيار، وإجمال ما يتغير ضروري لإعطائك السعة المطلوبة، ولاستيعاب تغير الأوضاع. فنحن عندما نعمل في هذا الموضوع، نفكر بطريق ما لا يسعه النص من أوضاع، وفي هذه الحالة نلجأ إلى تشكيل الوضع نفسه بالشكل الذي يقبل إسقاط النص عليه. وكلا الشكلين يحققان مقتضى مرجعية الشريعة.
* كتبتم صيغة عن الولايات الاجتماعية، ونظام الطوائف ونظام الطوائف والحرفية، التي تتمتع بالإدارة الذاتية وتمثل انتماءات فرعية، هذه الأبنية، غابت مع نظام الجماعة الوطنية، وثمة من يسعى لاستعادتها من خلال مشروعات سياسية واجتماعية أو من خلال أفكار،.فهل ترون أنها مرحلة تاريخية انتهت، ولا سبيل لمعاودتها أو لاستعادتها؟
المستشار البشري: يقينًا في تصوري لم ينته، بدليل ما تقوله بنفسك بخصوص جماعات الانتماء الفرعية. لا يوجد انتماء وحيد للإنسان. وإذا وضعت أي إنسان في وسط مجموعات من الناس، تستطيع أن تصنفه داخل هذه المجموعات تصنيفات لا تعد: وفقًا للثقافة، أو وفقًا للمهنة، أو وفقًا للدين، أو وفقًا للإقليم الذي يعيش فيه، وحتى وفقًا للطول والقصر، وفقًا للبياض والسمار. يمكنك أن تصنفه وفقًا لكل شيء.
من هذه التصنيفات ما نسميه انتماء فرعي. انتماء فرعي بأي معني؟ الانتماء الفرعي هو انتماء محكوم بغيره. حيث ثمة انتماء حاكم. فهذه الانتماءات المتعددة والمتنوعة ينظمها انتماء حاكم، هذا الانتماء الحاكم هو المقصود بالجماعة الوطنية. وهو التصنيف الأساسي الذي تتفتق عنه الحركة التاريخية، وأدت إلى أن يكون هو حاكمًا لهذه الانتماءات الفرعية المختلفة في الحركة.
والانتماءات الفرعية المعتبرة ليست ثابتة، بل تتغير وفق الحركة التاريخية، وتتبادل المقاعد فيما بينها. فإبان الدولة العثمانية كان الدين هو معيار الانتماء الحاكم للجماعة السياسية الموجودة وقتها، وكانت الانتماءات القومية انتماءات فرعية، وتبدل الوضع في الفترة الناصرية؛ حيث كان الانتماء القومي هو التصنيف والانتماء الحاكم. وفي فترة من الفترات كان الانتماء الثقافي هو الانتماء الحاكم في دولة مثل الاتحاد السوفيتي، حيث كانت الشيوعية هي الانتماء الحاكم، وهي مذهب فكري وعقيدي. ولذلك كل القوميات والأديان وغيرها انتماءات فرعية. هذه المسألة لا يحكمها أنا ولا أنت، بل تحكمها الحركية التاريخية، ونحن نساهم فيها ونشارك فيها، ونحاول أن نعلي انتماء على انتماء آخر، إنما في النهاية يحكمنا انتماء حاكم واحد فرضته علينا الحركية التاريخية في مرحلة معينة، وصار من الواجب علينا أن نتعامل على أساسه ما دام باقيا ومسيطرا.
* هل هذا يعني أنه ليس ثمة انتماء حاكم يمكن أن نقول إنه انتماء يقبله النظام الإسلامي؟
المستشار البشري: الانتماءات الحاكمة في تاريخ البشرية فيما أتصور يمكن تحديدها في ثلاث انتماءات:
أولها: انتماء النسب وعليه قام نظام القبيلة، وهذا كان في فجر الإسلام يمثل انتماء سياسيا حاكما، وفي هذا الإطار قام بنو هاشم بحماية الرسول عليه الصلاة والسلام رغم أنه كان ذي عقيدة مناقضة لعقائدهم بل ومزيلة لهذه العقائد كلها.
الانتماء الثاني هو: الانتماء الديني.. ودول كثيرة جدًّا نشأت وفق الانتماء الديني، وكان الدين هو الحاكم.
والانتماء القومي هو ثالث هذه الانتماءات الأساسية التي عرفها التاريخ، كانتماءات حاكمة.
وحركية المجتمعات التاريخية هي التي تحدد هيمنة أحدها. ونحن نشارك في صياغة هذه الحركية وتفاعلاتها، ولكننا في النهاية نخضع لها عندما يسود وجه انتماء معين على غيره، ونتعامل معه.
* أليس من بينها الانتماء الطبقي، أو الاجتماعي؟ نقصد أن التعبير عن المصالح الاقتصادية ليس من الانتماءات الحاكمة؟
المستشار البشري: نعم، هذه ليست انتماءات حاكمة. وجود تعبير سياسي عن مصالح اقتصادية ممكن وجوده في بؤرة السلطة، لكن هذا الوجود حصل كعقيدة عند الاتحاد السوفيتي وليس متمركزا حول معيار المصلحة الاقتصادية. فقد كانت العقيدة الحاكمة هي العقيدة الشيوعية، وكان الانتماء الحاكم هو هذا المذهب والاقتناع به.
ولا نستطيع أن نصوغ أي من هذه الانتماءات باعتبار أنها تمثل صورة تخلف، وانتماءات أخرى تمثل صورة التقدم، كما كان الحال في هذه العقيدة. الانتماءات لا توضع على سلم التخلف والتقدم، هذه حركات تاريخية. وحتى الاتحاد السوفيتي الذي كانت عقيدته ترى أنها سلم التطور في العقائد ومعايير الانتماء، كان انتماؤه قبل ثورة 1917 انتماء قومي هو روسيا، وبعد الثورة صار له انتماء أتصور أنه ديني: الماركسية، لكنه لم يلبث في بداية تسعينات القرن العشرين أن عاد ثانية للانتماء القومي من جديد.
وفي أوروبا مثل آخر، حيث كان الانتماء لديني في البداية هو الحاكم، ثم صار الحاكم فيها ذلك الانتماء القومي، وبعد ذلك عاد انتماءً دينيا في فترة لاحقة بظهور العقيدة الشيوعية، هذا يعني أني لا أستطيع أن أقول إن أي من هذه الانتماءات متطور/متقدم أو متخلف، وأحاكمها بمعايير التقدم والتخلف كما يريد الغرب أن نضعه في هذا الشكل، إنما هي حركية تاريخية فيها صراعات تاريخية، وفيها دعوات تتدافع، ويحدث في خاتمة التدافع نجاح لانتماء حاكم معين؛ يفرض نفسه علينا في النهاية ويحكمنا وعلينا أن نتعامل معه.
* هل ترون أن ما نعايشه اليوم ليس إحياء لنظام الملة، ولكنه افتقاد للمعيار الحاكم، وعدم انضواء وضع الأقباط تحت هذا الانتماء الحاكم؟
المستشار البشري: ما يحدث اليوم هو تحدٍ للانتماء الحاكم. والتحدي بطبيعته لا يفرز دولة، لأن الدولة كما قلنا شعب على أرض عليه حكومة. وفي حالة مصر، لا يوجد الأرض المحددة المتحيزة للشعب المعين. من الممكن الحديث عن وجود مثل ذلك الوجود المتحيز إقليميا في حالة السودان؛ إنما في مصر لا توجد هذه الحالة. ولذلك أقصى ما يصل إليه تطور الوضع الحالي هو نظام الملة. فنحن ليس لدينا في مصر أقاليم جغرافية معينة غير إسلامية ذات وضع ديموجرافي ذو وزن عال.
* الصورة هنا برأيك تعني إحياء نظام الملة في إطار تحدي الانتماء الحاكم، وليس إحياء نظام الملة فقط؟
المستشار البشري: نعم، هو تحدي لمعيار الجماعة الوطنية الحاكم.
* كنا في حاجة لترسيم حد آخر يتعلق بما أثاره المستشار البشري عن مفهوم الجماعة الوطنية. فماذا تبقى من مفهوم الأمة بتكويناته في ظل تكريس مفهوم الجماعة الوطنية؟
المستشار البشري: الأمة مفهوم يمثل التصنيف الجامع للجماعات الوطنية المتعددة التي يغلب عليها المسلمين. فالجماعة الوطنية التي يكون المسلمون أغلبية فيها، يحدث فيها التشكل الثقافي والهوياتي بصورة تحددها الجماعة الإسلامية وفق أصولها الفكرية الإسلامية. هذه الفكرية الإسلامية تتحدد بموجب توجه الغالبية، أو توجه الأكثرية ولن أستعمل مفهوم الغالبية لأن فيها غالب ومغلوب. والأكثرية مفهوم يربطنا بالسنة النبوية: "تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة".
* هل معنى المباهاة هنا الأكثرية في تشكيل الجماعات الوطنية المختلفة؟
المستشار البشري: نعم، وتبقى الأمة الإسلامية هي التصنيف الذي يجمع كل هذه الجماعات السياسية التي يغلبها عليها أكثرية مسلمين.
والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق