الجمعة، 19 نوفمبر 2010

حول شخصنة الدولة.. متون على هامش الاستبداد...بقلم طارق البشرى


بقلم طارق البشرى
من معالم الاستبداد أن تنتقل الدولة من كونها تعبيرا عن جماعة وأداة للحكم بين الناس إلى التمركز حول شخص الحاكم، والتعبير عن مصالح نخبة ضيقة منبطانته، دونما اعتبار للناس ومصالح المواطنين، فلا يبقى ثمة وجود لقوى سياسية اجتماعية تتجاوز إرادة الدولة وهيمنتها
وتعني شخصنة الدولة أن النظام السياسي والاقتصادي والبيروقراطي بمؤسساته يتحول من نظام قانوني يناط به الفصل بين الناس بالعدل وإدارة دولاب الحكم، إلى الاندماج في المؤسسات القائمة على التنفيذ المحض لإرادة الحاكم المستبد، وخاضعة للإرادة الشخصية المتوحدة المتسيدة على قمة هرم الدولة. وتسود في هذا النظام التفسيرات والاجتهادات التي تدعم الوضع القائم،وتفرغ الدلالات القانونية المرتبطة بعمومية القاعدة القانونية وتجريدها، فتفرغ القانون من هذا المحتوى الموضوعي ليصير ذا مؤدى شخصي ومشخصن لصالح أفراد وأناس بعينهم ذوي علاقات شخصية برأس الدولة ومن يحيطون به.



وعندما ينظر الباحث في خريطة الأنشطة الأهلية أو المؤسسات الشعبية والتكوينات المدنية، ومدى إمكان قيامها قياما ذاتيا وشعبيا وأهليا حقيقيا، تأسيسا وتمويلا وإدارة ومبادرة بدون هيمنة عليها من الدولة، ويدرس مدى وإمكانات حركتها حركة ذاتية فعالة حرة ومؤثرة في المجتمع بدونقمع لها من جانب لدولة، عندما نتحدث في أمور كهذه يتعين ألا نستفتي المبادئ القانونية المجردة، ولا أن نكتفي بالنظر في القوانين الحاضرة في نصوصها العامة،إنما يتعين علينا أن ننظر إلى المفاد والمؤدى الواقعي الذي صارت مؤسسات الدولة تتبعه في تطبيق هذه المبادئ والنظم والقوانين، ونستدعي سوابق العمل الفعلي القائموما آل إليه تطبيق وتوظيف القانون، وفق توازنات القوة السياسية والهيمنة الشخصية على مقدرات الأمة
وبهذه النظرة ننتهي إلى أنه ليس مسموحا بوجود مشروع خارج إرادة الدولة المشخصنة، ولا تُقبل حركة ذاتية لأي من التكوينات الأهلية، أو تُعطى أية مشروعية إذا كانت بعيدة عن هذا الفلك المركزي، أو معارضة لمشيئة الدولة المشخصنة. وينتج عن ذلك ببساطة أن أي جهد يبذل لإيجاد تكوين أهلي ذي إرادة ذاتية فاعلة، وأن أي تحريك ذاتي شعبي سيقف بأصحابه في دائرة العمل غير المشروع من وجهة نظر الدولة المشخصنة، وأن أي سعي في هذا الشأن يكون سعيا في مجال العصيان، أي هو سعي يُرى متجاوزا الضوابط والحدود التي تجمدت عندها إرادة الدول المشخصنة.
وذلك سواء كان هذا السعي يجري في إطار الأعمال الأهلية، أم أنه يجري في إطار الدولة ذاتها، ومن داخل مؤسساتها وبواسطة عمالها والقائمين على هيئاتها في غير مستويات القمةالعليا. وهنا يقف المجتمع شاء أم أبى على مشارف "العصيان" أو على أهبته، ولكن يتعين أن يتم فهم الأمور على وجهها الصحيح؛ ليكون للكلمات دلالاتها الصحيحة، ويتعين أن نعرف من هو في الحقيقة من يقف في مجال العصيان: هل هم من تحولت الدولة على أيديهم إلى أن تكون شأنا خاصا لهم ولذويهم؟ أم من يريدون ويسعون إلى أن يردوا الدولة إلى صائب معناها وإلى وظائفها الحقيقية بأن تعود الدولة ممثلة للجماعة الوطنية، ترعى الشأن العام للمواطن والشعب؟!. وتحرير مفهوم العصيان وتدقيقه بالقياس لمفهوم الشرعية يعني أن لفظ العصيان يدل على أنه لم تعد ثمة شرعية واحدة تجمع بين الوجود الأهلي بتكويناته وبإرادته الذاتية وبفاعليته الحركية، وبين الإطار الذي تتواجد فيه وتعمل الدولة المتشخصنة في أفراد جد معدودين يقفون على قمة الدولة، وعما قليل إنشاء الله سيظهر إن لم يعد ثمة نطاق شرعي واحد يجمع بين تلك القمة العليا الممسكة بزمام الدولة وبين الدولة ذاتها بهيئاتها وتشكيلاتها وعمالها واسعي الانتشار في أجهزتها العسكرية والمدنية والمتنوعة، وإن من يتابع تحولات الشخصنة وتداعياتها يدرك أن ثمة انفصاما يتم بين قمم بالدولة وبين حجمها الكلي.
هنا لا يغدو تعديل الدستور ولا أي من أحكامه هو ما عليه المعول في خروج أمة أو دولة من هذه المحنة التي تسد عليها آفاق الوجود الصحي الحميد، وإنما ما عليه المعول -مع تعديل الدستور وقبله وبعده- هو السعي الحثيث لإيجاد القوى السياسية الاجتماعية التي تستطيع أن توجد وتتحرك وجودا وحركة ذاتيتين، وألا ضمانة تتأتى من تعديل الدستور غير هذا الأمر.بيد أن هذا الإيجاد والتحرك المستقلين لن يتأتيا إلا بالمجهودات العملية التي ستعتبرها الدولة المشخصنة لا محالة من أعمال العصيان، وحين يغدو المطلوب هو إخراج الدولة عن تشخصنها، فكيف نتوقع ألا تعتبر هي ذلك من أعمال العصيان عليها؟!

ماهية الدولة المشخصنه
ويتعين في هذا السياق التعريف بماهية الدولة المشخصنة، لا يكفي أن توصف بأنها دولة الحكم المطلق؛ فالحكم المطلق كثير، وهي ليست مجرد دولة الاستبداد؛ فالاستبداد كثير أيضا، فهي ليست هذه ولا تلك فحسب؛ لأن الحكم المطلق أو الحكم المستبد قد يكون حكم جماعة مهما كانت جماعة ضيقة مثل حكم أسرة ترث السلطة، أو حكم طبقة كالطبقة الرأسمالية العليا، أو حكم طائفة كأي طائفة -دينية أم عرقية- تسيطر على حكم بلد ما. ففي ظل كل هذه الأنواع من الحكومات المطلقة أو المستبدة يشعر الحاكم بأنه ينتمي إلى تكوين اجتماعي محدد ذي وجود مستقل عن الدولة؛ لأن الدولة لم تنشئه، ولأنه سابق الوجود على السيطرة عليها، وذو إرادة تتشكل خارج إطار الدولة، أو يشارك هذا الخارج في تشكلهافثمة انتماء ما يقوم من خارج أجهزة الحكم ويرد إليها وتتأثر هي به. وثمة مقومات يعتبر بها رأس الدولة ذا علاقة تحكمه من خارج منصبه، أو بالأقل تؤثر فيه وتنعكس مراعاتها أو توجهات مصلحتها في قراراته. أما الدولة المتشخصنة، فإن القائم عليها لاتربطه عائلة قبلية ولا نقابة أو جماعة دينية ولا حزب سياسي أو طبقة اجتماعية، وهو يسيطر بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزته كلها تحت إمرته، ولا يقيده إلا الإمكانات المادية للدولة وأجهزتها في الحركة والنفوذ، وهو يتغلب على ضغط عمال الدولة عليه بأن يشخصن الفئة المحيطة به من العاملين معه بإبقائهم في وظائفهم أطول مدة ممكنة، بحيث تحل العلاقات الشخصية محل علاقات العمل الموضوعية، والمهم أنه لايقوم من خارج إطار أجهزة الحكم ما يكون ذا تأثير عليه، ولا تقوم آلية ما للتبادل والتأثير معه إذا بقيت خارج إطار السلطة والوظائف الرسمية. والدولة هنا في آليات حركتها وتفاعلها تكون منغلقة من دون أية تفاعلات لعلاقة بينها وبين أية قبيلة أوطبقة أو دين أو طائفة؛ ومن ثم يحق أن يوصف هذا النظام بأنه ليس له مثيل في نظم التاريخ الحديث، إلا ما ندر.
النظام المتشخصن نظام منغلق، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لإجراء أي تعديل فيه أو تجديد أو تغيير، وأي تعديل أو تنويع فيه إنما يرد بطريقة "الاستنساخ السياسي"، ونحن نعلم أن الاستنساخ البشري إما يكون بتخليق خلايا من جسم حي لتكوين جسم حي آخر يخلف المستنسخ السابق ولا يحمل فقط خصائصه وإنما هو أيضا يحمل عمره ومدى القدم الذي كان عليه الأصل حالة الاستنساخ، أي إن هذا المُنشأ الجديد لا يكون صبيا ولا شابا، وإنما يولد في عمر من أخذت منه الخلية. ومن ثم فلا تقوم في النظام المتشخصن أية قدرة ولا إمكانية على التجديد الذاتي، إنما يشكل فقط حالة من حالات الاستبقاء، بأي ثمن وبأي مقابل. وإن واحدا منأسباب الشخصنة هو طول مكث الشخص في قمة العمل العام بذات سلطاته وصلاحياته وبغيرتحد يلقاه.



دائرة التدافع.. شرعية العصيان وتوقعات العنف المضاد ومن الملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد التضييق على خصومهم السياسيين، وزاد ميلهم لاستخدام العنف مع الخصوم، وأن شخصنة الدولة هي آخر درجات ضيق نطاق المسيطرين على الدولة، ذلك أن الشخصنة تكون القيادة فيها قد آلت إلى أفراد معدودين، لم يعد الأمرفي يد شريحة طبقية أو طائفية أو قبلية أو غير ذلك، إنما صارت إلى أفراد، وهنا تضيق المصلحة المحمية من الدولة؛ لأنها تكون اقتصرت على مصالح أفراد، كما يضيق التأييد الاجتماعي المستمد من الجماعات، سواء خارج الدولة أو من بين العاملين بالدولة ومن داخلها، كما تضيق الحجج والمحاذير التي تساق لتبرير السياسات والأوضاع، فيزيد عدم الاحتمال، ويزيد الميل إلى إسباغ نوع من القداسة على الفرد الذي يعتبر رأس الدولة المشخصنة، ويزيد احتمال استخدام آلة الدولة الأمنية لقمع أي حركة مخالفة في مهدهاواستخدام عنف الدولة هنا هو الحل الجاهز دائما والسريع لمواجهة أي تحرك أو أي تجمع ولو في مهده، لإجهاض ما يتكون ولردع ما هو في طريق التكوين.

وهذا ما يواجه به أي فعل حركي فورا، وهو ما ينتظره أي فعل حركي، وهو ما يتعين أن يكون في الحساب دائما، ويعني هذا أنه يتعين أن يكون في الحساب أيضا لا توقع عنف الدولة فقط ولكن الإعداد للقدرة على مواجهة هذا العنف بإستراتيجية تتبنى عدم العنف، أي بالتلقي والتقبل لعنف الدولة دون أي رد عنيف، ذلك أن العنف الذي يمارس هنا إنما تمارسه الدولة وأجهزتها قياما بواجبها ووظيفتها الأساسية وهي حفظ الأمن ومنع لاضطرابات، وهي أجهزة ليست سياسية ولا تصدر عن تقويم سياسي تقوم به أو يقوم به قادتها، وإنما تصدر عن إرادة سياسية وقرار سياسي تملكه أجهزة التقرير في قمة الدولة المشخصنة، وليس ثمة خصومة تقوم مع أجهزة الدولة، ولا مع العاملين فيها، والأمر يقتضي من أصحاب الحركة الشعبية قدرا كبيرا من ضبط النفس ومن الاحتمال، ومن الاستعداد لتقبل العنف دون رد عليه إلا بالتصميم على الحركة وعلى استبقائها مستمرة، وعلى استبقائها غيرعنيفة، وأن يكون تحمل عنف الدولة دون رد عليه مع الاستمرار في الحركة السلمية غيرالعنيفة، أن يكون ذلك هو التكلفة والنفقة التي تؤدى لله وللوطن من أجل الخروج من الطريق المسدود الذي يظهر أنه لا خروج منه إلا بتلك الحركة.



إن من صفات الدولة وعمالها وأجهزتها، أنها تمارس أعمالها بوصفين متباينين: فهي تميل إلى العمل بوصفها حكما وراعيا للصالح العام أو لصالح من يكون له حاجة؛ لأن ذلك من وظائفها الرئيسية، من إدارة المرافق والخدمات وكفالتها لمستحقيها، ولا بد لأي إنسان أو أي جهاز أن يقوم بقدر ما من وظائفه الرئيسية التي وجد من أجلها لكي تبقى له القدرة على الاستمرار والمبرر المعنوي والمادي لوجوده وقيمته الاجتماعية. ومن جهة أخرى فإن هذه الدولة ذاتها وعمالها وأجهزتها يمارسون التمييز الحاد ضد من يقف في طريقهم أو يبديلهم الخصام. ونحن نلحظ أنه حتى في الأعمال الرتيبة للنشاط العادي لأجهزة الدولة المختلفة، يختلف أسلوب تناول أي مطلب لأي مواطن، ويتوقف الاختلاف حول ما إذا كان صاحب الطلب استدعى حاكمية الجهاز المعني أم استدعى خصومته. واحتمالات الاستجابة له في الحالة الأولى تكون قائمة، أما في الحالة الثانية حال استدعاء الخصومة فلا احتمال قط للنظر المنصف حتى لو كان الطالب غير مشكوك في حقه، وبصرف النظر عن الصواب والخطأ، فهكذا تعمل آلة الدولة المشخصنة المستبدة.

ولـ"غاندي" تعبير دقيق وجميل يصف به هذا الأمر، فهو يقول: إن الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه، فالعنف لا يهزم الحركة السلمية مهما آذى رجالها، وللأديب الأمريكي "يوجين أونيل" مسرحية باسم الإمبراطور جونز، تحكي أن إمبراطورا في بلد إفريقي انسحب مواطنوه من البلدة وذهبوا إلى الغابة وبقوا يدقون الطبول على نحو رتيب، أي انصرف عنه شعبه، ولكنه كان انصرافا منظما وجماعيا، ويستهدف عملا احتجاجيا مقاوما، لم يكن الانصراف عملا سلبيا، كان هو صميم العمل الإيجابي، ولم يكن هروبا بل كان هو عين المواجهة. وتصف المسرحية اضطراب الحاكم في مواجهة هذا الفعل المنظم.

فلا بد للحاكم من الشرعية، مهما كان ذا سلطات مطلقة، والشرعية بالمعنى المقصود منها هنا هي التقبل العام في حده الأدنى الذي يُمَكّن له من أن يطاع، وأن تنفذ أوامره ونواهيه بين الناس فيصالح غالبيتهم إليها، وأن تنفذ هذه الأوامر والنواهي بين عمال الدولة وأجهزتها فيتحركون لإفضائها بين الناس. ويستحيل للحاكم أن يحكم شعبا إلا بتوافر درجة معتبرة من التقبل والانصياع له بين الناس، ويستحيل عليه أن تمضي قراراته بين عمال دولته إلا بدرجة أقوى من التقبل تدفع عماله إلى الحركة لإمضاء قراراته بغير تراخ ولا تسويف ولا إهمال. إن من أولى مشاكل أي رئيس في أي موقع من مواقع العمل والإدارة، هي كيف يدفع مرؤوسيه إلى مده بالمعلومات والخبرات الخاصة بالعمل بكفاءة وصدقية، وكيف يدفعهم لأن ينفذوا قراراته بالضبط اللازم لإنتاج أثرها، ولو فرض أن كان المرؤوس شخصا واحدا -وهذا طبعا لا يحدث قط- لكان الرئيس أحوج إلى مرؤوسه الوحيد من احتياج المرؤوس إلى رئيسه. يبدو ذلك جليا إذا لوحظت علاقة أي رئيس جديد بمرؤوسيه، حيث يكاد في الأيام الأولى له معهم يستجدي تقبلهم له، إن لم يكن ذا علاقة سابقة بهم. هذا من حيث علاقة الرئيس بمن دونه.

ويلاحظ أن علاقة الحاكم بمحكومه أشد احتياجا؛ لأنه لن يكون حاكمابغير طاعة المحكوم، وإذا أردنا أن نوضح مدى احتياج كل من الجانبين للآخر، فيمكن القول بأنه لا أمن ولا انتظام للمحكوم بغير الحاكم، ولكن في المقابل فإنه لا وجود أصلا للحاكم بغير المحكوم. ولا نقصد بذلك الوجود المادي ولكن نقصد وجود الحاكم بوصفه طرفا في علاقة لا تقوم ولا تنشأ إلا بمحكوم لديه الحد الأدنى للتقبل والانصياع، بحيث إنه إذا أزاح التقبل والانصياع، أو خفضهما إلى ما دون الحد الأدنى، فلا يبقى حاكم على كرسيه، والمسألة هنا ليست مسألة إزاحة مادية، إنما هي إزاحة للتقبل وهي ليست إطاحة مادية ولكنها إطاحة للانصياع وللخضوع.

نحن نعرف من تجربة الهند أن الإنجليز ما كانوا يستطيعون أن يحكموها بغير تعاون الهنود وخضوعهم، وهذا ما أدركه غاندي وعمل على إنهاء هذا التعاون؛ فما لبث الحكم الإنجليزي أن انتهى، رغم أنه كان يعتمد على جيوش وأساطيل إنجليزية، وكان جهاز الدولة الهند ييتشكل في قياداته من الإنجليز. فهذا الأسلوب كان ناجحا ضد حكام أجانب وضد آلة حرب أجنبية وضد جهاز دولة يشكله ويشرف عليه ويشترك في أنشطته الوسطى أجانب، فما بالك بأثره الكبير إذا لم يوجد أجنبي في حكم، أو في آلة حرب أو في أجهزة دولة. ولغاندي كلمة ذكية في هذا الشأن، فهو يقول: سوف نتوقف عن لعب دور المحكوم، وإن الإنجليزمهما أعملوا العنف فنحن نعرف أنهم لن يستطيعوا أن يتحركوا خطوة واحدة للأمام، وإذا كان هذا ما قاله غاندي بوصفه محكوما، فهو عينه تقريبا ما قاله هتلر بوصفه حاكما وطاغية، فهو يقول في كتاب "كفاحي": إنه لا يمكن الاحتفاظ بأجهزة الحكومة عن طريق القوة وحدها. وميكافيللي يؤكد الظاهرة ذاتها في كتابه "الأمير"، على اعتبار أن القسوة كلما زادت ازداد نظام الحكم ضعفا، وأنه إذا لم يكن من سبيل أمام الحاكم لانتزاع الطاعة إلا بالعنف فإن النظام يكون آخذا في الزوال، وعلينا أن نعي جيدا درسا في السياسة يتفق على إدراك ظواهره وعلى استخلاص عبرته، يتفق على ذلك غاندي في أقصى الحركة الشعبية السلمية الأخلاقية، وهتلر في قمة سلطة العدوان المسلح العنيف غير الأخلاقي، وميكافيللي في قلب العمل السياسي الذي لا يعرف من المبادئ إلا مصلحة الحاكم والدولة.

ونحن نذكر كيف أن ثورة 1919 في مصر كان طابعها العصيان وعدم التعاون، وكانا فاعلين، من حيث السعة الشعبية والشمول، وهذا ما جعل اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر يصف لحكومته الوضع قائلا: لقد صارت الحكومة مستحيلة في مصر في ربيع 1919، وهذا بالذات -وضع "استحالة الحكومة"- هو ما اضطرالحكومة البريطانية الاستعمارية إلى تقديم التنازلات للمصريين بالاعتراف باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، والبدء في التعامل مع قوى الثورة المصرية، ونعرف في السودان حركة 1964 التي خرج فيها شعب السودان إلى الشوارع في حركة احتجاج شعبي منظم ومصمم حتى انتهى سلميا نظام إبراهيم عبود الذي كان قد بدأ في 1958 واستمرحتى 1964، ونعرف أيضا بدايات الثورة الإيرانية، تحرك الناس بجمعهم في حركة سلمية احتجاجية تعبر عن الرفض الشامل لحكم الشاه، وبقي تحركهم شاملا وسلميا رغم ما لاقوه من عنف الدولة وأجهزة القمع فيها، ولكن الإصرار على الفعل الاجتماعي السلمي المثابرفي شمول ما لبث مع مضي الوقت أن فصل بين قيادة الدولة صاحبة القرار وبين أجهزة التنفيذ والضغط، فانحل وثاق الدولة، وكان امتناع أجهزة القمع عن إطاعة الأوامر بالضرب هو في ذاته إنهاء للنظام السياسي. كما كان إضراب المواطنين في مصر في 1919إيذانا بانتهاء نظام حكم استمر سبعا وثلاثين سنة سابقة منذ 1882، وإيذانا ببداية نظام جديد استمر ثلاثا وثلاثين سنة حتى 1952.
إن الفعل السلمي المنتج يستوجب حركة جامعة وشاملة كأوسع ما تكون، أو بعبارة أدق فإنه بقدر سعتها وشمولها بقدر ما تكون منتجة، وبقدر ما تكون أسرع في الإنتاج بقدر ما تكون أعمق في أثرها الطيب المرجوكما أن هذا الفعل المنتج يستوجب صبرا على الشدائد التي سيواجه بها حتما؛ لأن الحكم المشخصن لا بد أن يستخدم العنف في البداية، وهو لا يواجه أزماته إلا بالمزيد من التسلط وقلة الحيلة والقمع، كما أن هذا الفعل المنتج يقتضي طول النفس، وأن الصبر وطول النفس واستبقاء السلمية في التعبير رغم تحمل الصعاب كل ذلك يزيد من فاعلية ومن اتساع جامعته ونمو شموله
وأصعب ما في هذه المستوجبات هو أولها؛ لأن نظام الدولة القابضة، وما تتصف به وظائفها من شمولية وتسلط، وما تخضع له من مركزية شديدة، وما يغلب عليها من فردية وتشخصن، كل ذلك يؤدي إلى انفراط في التجمعات الشعبية انفراطا يبلغ المدى البعيد، حتى إن تجمعات النسيج الاجتماعي كالمذاهب والطرق الصوفية ونقابات الحرفيين وتجمعات الطوائف والملل والقبائل تنتهي، أو إن مايبقى منها يصير شكلا بغير محتوى قادر على فعل التجميع المنتج، أما تجمعات الحاضرذات التشكيلات الحديثة، مثل نقابات العمال والنقابات المهنية واتحادات الطلبة وغيرذلك، فتؤول إلى أن تكون تكوينات شبه مفرغة من القدرة على التحريك الشعبي، بعضها تحت الهيمنة الرسمية للحكومة، مثل الجمعيات والجمعيات التعاونية التي تخضع للإشراف وللوصاية من جانب الحكومة على أعمالها، ومثل النقابات العمالية التي تغدو تحت الهيمنة الفعلية لأجهزة الدولة العمالية والأمنية، ومن خلال وزارات العمل ووزارات الداخلية، ومثل اتحادات الطلبة التي تخضع أيضا لهذه السيطرة، وتبقى النقابات المهنية والأحزاب والنقابات المهنية التي عادة تحيط بها الحكومة وإن لم تستطع أن تخضعها لسيطرتها الكاملة، فتصادر إرادتها الانتخابية وحركيتها بين جماهيرها، وكذلك الأحزاب بالطبع.

عودة المواطن
حين نجد المواطنين قد صاروا مبعثرين، أفرادا لا يجتمع الغالب منهم في تجمعات منتظمة، ولا يحيون معا بين ذويهم من أهل المهن أو الحرف أو الأقاليم أوالمذاهب أو الملل أو العشائر، ونقصد بالتجمع المنتظم والحياة هذا التواجد الإنساني الجماعي الذي يقوم به الشعور بالتجمع والاتصال بجماعة ما -علينا أن ندرك العصيان المشروع كوسيلة لاستعادة دور الدولة وقوامها، والحكم وأسسه.
فالدولة المركزية حين تضرب التجمعات الأهلية والجماعات الفرعية إنما تقصد إلى أمرين:أولهما القضاء على الشعور بالجماعية أيا كانت، سياسية أو اجتماعية أو مذهبية أو إقليمية أو مهنية، وثانيهما القضاء على التعبير السياسي أو الاجتماعي خارج الغرف المغلقة،بالحركة الشعبية السلمية في أماكن العمل، وفي الشوارع والميادين وغير ذلك، وحينئذ لا بد أن يتجاوز الفعل الحركي السلمي المطلوب ما تحرص الدولة المركزية على منعه في هذين الأمرين، وما اعتاد الناس عليه بموجب منع الدولة أزمانا طويلة. وذلك بإحياء عوائد العيش في ظل الانتماءات الجماعية، وبإحياء عوائد التعبير الجماعي السلمي عن الموقف، وسائل التعبير الجهير خارج الغرف والقاعات المغلقة.

حين نجد دولة تجعل المواطنين في شتات داخل أوطانهم وفي عقر بلادهم، فلا بد من تلمس بوادر الخروج من هذا الشتات، ولا مخرج من حالة الشتات إلا بتجاوز أوامر قيادة الدولة المشخصنة، دولة الفرد الواحد. وهذا التجاوز لا يتأتى بالمطالبات وبالتوجه لهذه القيادة المشخصنة بما يطالب به الناس من تجمع، إنما يرد بالممارسة، وفي مثل هذا الأمر تدرك الجماعات الوطنية أن الشرعية في التصرف والفعل الحركي لا ترد من قيادة فردية ولا من قراراتها، وإنما ترد من نظم المجتمع وما يكفله الدستور من رخص وحريات وتحري ممارسة الأفعال وحقوق الإنسان بموجب الإقرار الجماعي بقيام هذه الرخص وإتاحة هذه الحريات، ويجري النظر إلى سياسات القيادات الفردية وقراراتها التي تمنع هذه الأمور، يجري النظر إليها بحسبانها من العقبات المادية الواجب تفاديها، والمهم في ذلك هو تطوير إستراتيجيات الحضور والممارسة، والنظر إلى العقبات بروح التذليل لما يقبل التذليل، والتفادي لما لا يجدي معه إلا التفادي، وكل ذلك في إطار صارم من السلمية في النشاط والعمل كما أسلفنا. ومع تحمل نتائج العقبات المادية والصبر على نتائجها. ويحدث ذلك بالقليل المتتابع الذي يصير كثيرا، وتلك عبرة التاريخ.

المشكلة التي تواجههذه الممارسة عادة هي أن الإنسان وهو فرد يستصحبه الشعور بالضعف وعدم الأهمية، ويستبعد أن يكون رأيه أو فعله ذا أثر في غيره. فحال الفرد الأعزل الوحيد وهو يواجه سلطة مؤسسة تتكون من جماعة منظمة ذات تشكيل هرمي يخضع لإمرة رجل واحد هي أقرب لليتم ومعاناة القهر.

لذلك لا بد من الخروج من هذه الحال. ولا بد من أن يعتصم الناس بالتجمع، فلن يشعر الفرد بقوته وبأثره إلا وهو في جماعة فاعلة. وأن قوة الجماعة هي أضعاف أضعاف مجموع أفرادها "فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْن بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" صدق الله العظيم (الأنفال: 66).


إن الطغيان لا يبقى قويا مدعوما إلا بقدر ما يكون الناس متفرقين، وهو يعرف جيدا من أول درس استوعبه في علم الطغيان أن مصدرا مهما لقوته عليهم هو الشتات الذي يحيون فيه؛ لذلك لا بد من تجاوز الشتات، شتات المواطنين في وطنهم، ولا يبدأ هذا التجاوز إلا بالممارسة الفعلية فهي ما عليه المعول، ولا يظن صاحب عقل رشيد أن الحاكم سيعطي المواطن ما يقوى به المواطن على الحاكم، بل المبادرة والفعل هما الأساس.

والقمع الذي يواجه به فعل التجمع الشعبي في مجالاته المتعددة والمتنوعة منتظر ومتوقع، وما دام بقي الفعل الشعبي ممارسا بتتابع واستمرار، ومع تحمل التكاليف المترتبة على ذلك، ومع التصميم على الالتزام بالممارسات السلمية الخالصة، فإن القمع هنا ما يلبث أن يؤدي إلى عكس النتائج المتوقعة منه، لأنه خليق به أن يعزل عامة الشعب عن أفعال القمع، وأن يفكك من تماسك أجهزة القمع ذاتها فيزدادالتماسك الشعبي والتجمع الشعبي من جهة، ويزداد التفكك ويضعف الترابط بين إرادة الحكم وبين أجهزة التنفيذ، وبه تزيد المعارضة ويزداد عدم التعاون في العلاقة بين الحكم وبين الآخرين.
كسر الجمود وتحريك الماء الآسن لا يتم في ظل الدولة المشخصنة إلا بفعل شعبي يرد من خارج الإطار الرسمي المرسوم من غير توقع ولا حساب، فيرجح كفة على كفة، أو يمسك هو بزمام الأمر حتى يقضي الله سبحانه أمرا كان مفعولا.
وحكمة السابقين تدلنا على أنه: لا حجاب إلا الوقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق