الاثنين، 8 نوفمبر 2010

الإمام البنا قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (2/4)..... إبراهيم الهضيبي

الإمام البنا والمجتمع
الإمام البنا قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (2/4)


  كان لفهم الإمام البنا للمشروع الإصلاحي الإسلامي الذي أسس له أئمة سبقوه تأثيرا كبيرا على رؤيته للمجتمع وعلاقته به، إلا أن موقف البنا اختلف عن سابقيه في هذه النقطة في كونه كان صاحب تنظيم، فقد كان قائدا حركيا على عكس الإمامين محمد عبده ورشيد رضا اللذين اكتفيا بالدور الفكري والثقافي، وبالتالي كان لابد وأن تنطبع هذه الرؤية الفكرية على العلاقات العملية للتنظيم مع المجتمع: مكانه منه، وحجم الاتصال والانفصال بينهما، وحجم تأثيره فيه وتأثره به المرغوب والواقعي، إلى آخر المؤشرات الدالة على رؤية "التنظيم" الفكرية للمجتمع. ولأن التنظيم –كما أسلفنا- كان ذا طبائع متعددة، فقد كان هناك تنوعا تطبيقيا في علاقة الإخوان بالمجتمع، ولكن الأصل الفكري للعلاقة كان واحدا. إلا أن بعض الصور التطبيقية المختلفة للعلاقة أسس لنمو رؤية فكرية أخرى، خاصة بعد استشهاد الإمام البنا، وتغير الصورة المجتمعية، ووجود روافد فكرية أخرى للجماعة، مثل أفكار الشهيد سيد قطب، الذي تعتبر رؤيته للمجتمع أحد أهم مناطق الاختلاف بين فكره وفكر الشهيد البنا.

1- رؤية الإمام البنا للمجتمع
  قامت رؤية الإمام البنا على كون الإخوان جزء من المجتمع، لا تفصله عنه فواصل عقائدية ولا أيديولوجية ولا فكرية، فالإخوان جزء حي من نسيج المجتمع، يعملون من داخله لإيقاظ إيمانه المخدر،  ويدركون أنهم في هذا السعي ليسوا وحدهم، ويدركون كذلك أنهم ليسوا (الحق المطلق)، وبالتالي "فلا بأس من أن يتقدم إلينا من وصلته هذه الدعوة…برأيه في غايتنا ووسيلتنا وخطواتنا فنأخذ الصالح من رأيه".  والإخوان يتحركون في هذا بمنطق الحب للوطن وأهله، ويعلمون لصالح أوطانهم قبل أي شيء، "فنحن لكم أيها الأحباب"،  اعتقادا بأن الإسلام "قد فرضها فريضة لا مناص منها وهي أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته،"  فكان العمل الوطني بذلك قاعدة أساسية لا مناص منها، ولا سبيل لتجاوزها في فكر الإمام البنا.

والحقيقة أن بعض المفكرين والمؤرخين يذهب إلى أن هذا الأمر كان بسبب كون المجتمع (إسلاميا) في الأساس، ولا أجد إلا أن أختلف معهم في هذا الطرح، نظرا لأن الإمام البنا لم يكن يرى المجتمع إسلاميا كاملا، بل كان مجتمعا "انحسر ظل الفكرة الإسلامية فيه… عن كل الأوضاع الاجتماعية وطوردت الفكرة الإسلامية لتقبع في المساجد والزوايا والربط والتكايا،"  لكنه كان –مع ذلك- يرى جوانب الخير فيه، فهو على أسوأ الفروض مجتمع مسلم ولكنه "ناقص الإسلام" لأنه أسلم في عبادته وقلد غيرالمسلمين في بقية شؤونه،  بل إنه حينما تناول هذا الجانب "الناقص" لم يتهم المجتمع فيه باعتباره كيانا مفصولا عن الإخوان، وإنما اعتبر نفسه جزءا من هذا المجتمع باستخدامه ضمير المتحدث حين قال "من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدي الإسلام،"  فكان بذلك يؤصل لفكرة رئيسية في رؤيته للمجتمع، وهي أنه لا يراه منفصلا عن الإخوان، ولا يرغب في ذلك، فالإخوان "يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شؤون الحياة،"  وفي تلك الكلمات إدراك بأن الإخوان هم أصحاب مشروع وطني إسلامي نهضوي، يستند إلى المرجعية الإسلامية، ويعمل للصالح الوطني سعيا لبناء نهضة حضارية مستندا في ذلك إلى تأييد شعبي عملي، أي أن المشروع يجب أن يحمله المجتمع وليس التنظيم، وبالتالي فالفصل بين المجتمع والتنظبم فكرة لم تكن واردة في منهج الإمام البنا.

وكان تعامل الإمام البنا مع المفاهيم الوطنية يتسم بالتسامح والانفتاح، تماما كأسلافه من رواد مدرسة الإصلاح والتجديد. فلعله كان من أوائل من أدركوا الفارق بين وحدة الأمة وتعدد الشعوب كما سبق، وبالتالي فإنه لم يتخذ مواقف سلبية من مفاهيم الوطنية والقومية على إطلاقها، وإنما قبل من الوطنية "حب الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها"، وقبل منها أن تكون دافعا للعمل "بكل جهد لتحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه"، وقبل منها كذلك السعي "لتقوية العلاقات بين أبناء القطر الواحد" أو ما يسمى اليوم يتنمية الشعور الوطني، ولم يرفض منها إلا "تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم،" وأن تكون وطنية انعزالية مبتورة عن محيطها الإسلامي الأعم، أي أنه قبل الوطنية المصرية في إطار الانتماء لجماعة سياسية أعم، هي الجماعة السياسية للمسلمين، الأمة الواحدة ذات الشعوب المتعددة التي تعتبر مصر أحد شعوبها.

وأما القومية فقد قبل منها البنا أن يقصد الأخلاف نهج الأسلاف في "مراقي العز والعظمة ومدارك النبوغ والهمة"، وأن تكون "عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده" ورفض منها "التحلل من عقدة الإسلام ورباطه بداعي القومية والاعتزاز بالجنس" ورفض كذلك "الانتقاص من الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة الأمة وبقائها" ويتضح مما سبق حرص البنا على الوفاق وتجنبه للخلاف الذي يؤدي للتناحر والتباغض، وسعيه لتنمية مناطق الاتفاق مع المجتمع، وذلك أمر طبيعي لمن أراد أن يعمل من خلال المجتمع، ولمن أراد أن يصلح لا أن يغير، وهي سعي محمود طالما أنه لم يخرج على الأصول الشرعية ولم يكن تنازلا عن الثوابت والمقاصد.

وقد كان الإمام البنا مهموما –بشكل حقيقي- بقضايا وطنه؛ يحملها في عقله وقلبه، ويقدم لها الحلول في رسائله، بل إنه كتب غير رسالة يناقش فيها (الهم المصري) تحديدا، ويقدم المشكلات ويقترح لها الحلول الواقعية الإجرائية، والحلول الاسترايجية الفكرية، ومن ذلك حديثه المستفيض عن الأحزاب المصرية وأوجه الصلاح والفساد فيها، وتأثيرها على العمل السياسي الوطني، وحديثه عن سياسة القصر تجاه الانجليز، وعن المشكلة الاقتصادية من بطالة وارتفاع للأسعار، والمشكلة التعليمية، والمشكلة الأخلاقية بمعناها (الحضاري) الذي تمثل في تزايد أعداد الجرائم وتضاعفها، وبمعناها (الديني) يتقنين الدعارة وانتشار الحانات، والاهتمام بهذه المشكلات لا يصدر إلا عمن يحمل مشروعا وطنيا حقيقيا، يعيش بين الناس بجسده وروحه وعقله جميعا، يدرك ماهية همومهم ويسعى لعلاجها بواقعية لا بنظرة فوقية أو دينية محدودة.
وفي ظني أن المشكلات التي كان الإمام البنا يتحدث عنها ويحمل همها هي كالذباب إذا ما قورنت بجبال المشكلات التي تعانيها الأمة اليوم في نفس المجالات: الاقتصادي والسياسي والتعليمي والأخلاقي العام، أما في جانب (الأخلاقيات الفردية) أو الدينية فالأمور أفضل منها بالأمس، وبالتالي فلا شك عندي في أن التوازن بين هذه وتلك في خطاب البنا كان سيميل لترحج كفة الأولى وتأخذ القسط الأكبر من نصيب خطابه السياسي.

2- نظرة الشهيد سيد قطب للمجتمع
تختلف نظرة الشهيد سيد قطب للمجتمع بشكل جذري عن نظرة الإمام البنا له، فقطب يعتبر أن جميع المجتمعات القائمة اليوم هي مجتمعات جاهلية، "ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة"  والجاهلية المقصودة هنا – كما يعرفها قطب نفسه- هي "الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية" .
وقطب –على خلاف الإمام البنا- ينظر للجزء الفارغ من الكوب فيعتبر أننا اليوم في جاهلية تامة، فـ"كل ما حولنا جاهلية"،  وهو بذلك "لا يقصد جاهلية العمل والسلوك وإنما جاهلية العقيدة"  كما يشير العلامة يوسف القرضاوي، فحكم بذلك بكفر الأمة بأكملها، لا فئة أو طائفة منها وحسب وهو بذلك يخرج المجتمعات المعاصرة بأكمها من الإسلام، ولكنه لا يعتبرها مرتدة ولا يقيم عليها أيا من أحكام الردة كما يشير الدكتور القرضاوي، لأنهم في رأيه (أي قطب) لم يدخلوا الإسلام من الأصل، كونهم لم يفهموا معنى شهادة لا إله إلا الله من الأصل.  والحقيقة أن قطب استخدم عشرات من الألفاظ في كتاب (معالم في الطريق) وحده لتأكد أن تلك الفكرة كانت ما أراد، وأن التعبير لم يخنه في ذلك؛ فقد اعتبر المسلمين "مسلمون نظريا" ، وأضاف أنه "لم يعد للمسلمين إسلام"  واعتبر أن الإسلام "يرفض الاعتراف بشرعية هذه المجتمعات كلها "  وغيرها من العبارات الصادمة، والتي يعتبرها الدكتور محمد عمارة مستوى من المجازفة والغلو غير مسبوق في تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على الإطلاق.

ولهذه النظرة أثر كبير على تعامل الشهيد قطب مع المجتمع؛ فهو أولا يطالب أنصاره بالاستعلاء على المجتمع، كونهم يملكون الحق الذي يبعد عنه المجتمع، وهذا الاستعلاء النفسي بامتلاك الحق خطوة لابد منها حتى لا يتوه الحق في الباطل، فيجب "أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته….إننا وإياه في مفترق طريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق،"  والفصل هنا بين المجتمع والتنظيم شديد الوضوح، ولا طريق وسط بينهما ولا مجال للالتقاء، ولا فائدة من محاولته، بل الضرر من وراء ذلك كبير. وهكذا يمهد قطب بالاستعلاء لخطوة تالية وهي الانفصال التام عن المجتمع، أو "العزلة الشعورية" كما يسميها. ذلك أن للمجتمع "منطقه السائد وعرفه العام وضبطه الساحق ووزنه الثقيل على من ليس يحتمي منه بركن ركين،"  ومن ثم فالعقيدة تدعو المؤمنين لأن يستقلوا، "وتقول لهم أنتم الآن مجتمع؛ مجتمع إسلامي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي."

ثم إن هذا المجتمع حينما يستقل يكون مطالبا بتكوين تنظيم منظم يتحرك من خلاله لأن العقيدة الإسلامية "تحب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها،"  وقطب هنا يشير إلى أن العزلة إنما تكون شعورية لا عملية، حيث أنه لا يريد الانفصال ماديا عن المجتمعات، فهو لايزال يحاول استقطاب أفرادها إلى مشروعه أو تنظيمه، ولا فارق عنده ما بين المشروع والتنظيم، إذ أن الإيمان بالأول يوجب بالضرورة –كما هو واضح في كلامه- العمل في إطار الثانية. وبالتضاد فإن ذلك معناه أن كل من هو خارج التنظيم هو خارج على الفكرة، وهو أمر شديد الخطورة بالطبع، وشديد البعد عن أفكار الإمام البنا الذي قال: كم منا وليس فينا وكم فينا وليس منا.

يؤكد قطب على فكرته تلك بتأكيده على أن الإسلام هو "منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس" وتبرير قطب لوجود التنظيم لا ينحصر في كونه ضرورة توجبها الشريعة الإسلامية، وإنما هناك أسبابا أخرى لذلك، مثل كون "الجاهلية لم تكن ممثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحيانا لم تكن لها نظرية على الإطلاق، إنما كانت متمثلة دائما في تجمع حركي"  وبالتالي فلابد من وجود تنظيم إسلامي مضاد ليكون طليعة للمشروع الإسلامي بعد ذلك، ولأن المجتمع جاهلي ولا توجد بينه وبين التنظيم مساحات مشتركة فإن التغيير لا الإصلاح هو الحل لـ"أسلمة المجتمع؛" وهي لا تتم إلا بأن يزيل هذا التنظيم المسلم "هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام؛"  وهو بالتالي يكون مجتمعا إسلاميا منعزلا عن المجتمع حتى تكون له القوة الكافية للقفز على السلطة - التي يراها مصدر الفساد- ومن ثم التحرير العام، ولا داعي لتقييم هذه الفكرة وآثارها إلا من ناحية صلتها بأفكار الإمام البنا، فذلك مقصد البحث.


 ولا شك أن هذا المنهج في التغيير يتناقض مع منهج الإمام البنا التدريجي الذي يبدأ بالفرد فالأسرة فالمجتمع ولا تكون الحكومة إلا في النهاية، في حين أن مشروع قطب يبدأ بالوصول ثم الإصلاح من أعلى. وفي ظني فإن ذلك ليس إلا لتأثر قطب بالسيد أبي الأعلى المودودي رحمه الله، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، والذي كان يسعى لذلك النوع من التغيير، بل وتبنى ذلك الخط الفكري العام، لأن دعوته قامت في الأساس على فصل باكستان عن الهند بسبب الانتماء الديني الإسلامي للباكستانيين،و بالتالي فقد ركز المودودي على مساحات الاختلاف، ورفض وجود أي مساحة اتفاق مع المجتمع الهندي، وانفصل، ونظَّر للتغيير من أعلى.

المهم أن منهج الأستاذ قطب الذي يرى بحتمية التغيير واستحالة الإصلاح لابد وأن تختلف وسائله عن غيره ممن يرى بإمكان، بل وبوجوب الإصلاح. وبالرغم من عدم دعوة قطب الصريحة إلى استخدام العنف، فإنه لم يأخذ منها إلا موقفا تأقيتيا، بمعنى أنه كان يرى أن الوقت غير مناسب لاستخدامه؛ "فلا ضرورة في هذه المرحلة لاستخدام القوة،"  وهو بذلك ترك الباب مفتوحا أمام هذا الخيار، بل ولم يقدم غيره في رؤيته للتغيير، فأسس بذلك لما يسمى بالـ(عنف المؤجل)، أي الاعتقاد السائد لدى بعض أبناء التيارات المختلفة بأن سبب عدم لستخدام العنف هو أن وقته لم يحن بعد ليس إلا. والحقيقة أن رؤيته للمجتمع وتجهيله له على هذا النحو لعب دورا في ذلك، عمقه فيما يبدو ما لاقاه من تعذيب تغلبت به الرغبة في الخلاص على عاطفة الحب والرغبة في الإصلاح خاصة مع مشاعره المرهفة التي تظهر جليا في كتاباته؛ وكان البون شاسعا بين فكره وفكر الإمام البنا في هذا الإطار؛ ففكر البنا "فكر يزرع أرضا وينثر حبا ويسقي شجرا وينتشر مع الماء والهواء، أما فكر سيد قطب فهو يحفر خندقا ويبني قلاعا عالية الأسوار سامقة الأبراج، قلوعا ممتنعة، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب"   كما يشير المستشار البشري.

وفي ظني فأن تلك الرؤية الفكرية والحركية للأستاذ سيد قطب لم تنبع عن غلو في فهم الشريعة، فالرجل قدَّم في الظلال، بل وفي بعض فقرات المعالم قدرا من المرونة والتسامح في فهم الشريعة، بل وصرح في غير موضع بأنها ليست ستاتيكية جامدة، بل هي متغيرة قادرة على التعامل مع مقتضيات الواقع في ظل أسسها وقواعدها. وإنما يتأتى الغلو من جهة أخرى، فهو غلو في المقاومة دارت حول مفهوم التوحيد، شبيه في هذا الإطار بغلو الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ولكن ابن عبد الوهاب اهتم في الأساس بإصلاح الجوانب الشركية في العبادات والتصرفات الفردية المباشرة وغلا في ذلك، واهتم قطب بالمقاومة في الميدان الحضاري والحياتي العام وغلا فيه أيضا فخلع عن "لا إلى إلا الله" بالكلية كل من قصر في جانب من جوانبها حتى وإن كان تقصيرا وليس إنكارا، ولم يفرق في ذلك بين الأصول والفروع، ولا بين العالم والجاهل، وجعل المسائل كلها من العقائد.

وفي اعتقادي فإن المشكل الحقيقي المتعلق بفكر كل من قطب وابن عبد الوهاب  - رحمهما الله- هي عجزهما عن رؤية ألوان الطيف المختلفة؛ فكلاهما رأى الأبيض والأسود فقط، رغم أن ذلك ليس موجودا في عالم الأشخاص، ومساحاته ضيقة جدا في عالم الأفكار، فكان في خياراتها خوفا مبالغا من التفريط أدى لغلو قد يكون مفهوما ولكنه يبقى غير مبرر.

المهم أن هذا الغلو الشديد في المقاومة قد أدى بقطب إلى رفض بعض المفاهيم كالوطنية؛ فعلى الرغم من قبول البنا بالعديد من صور الوطنية كما أسلفنا فإن قطب اعتبر العقيدة هي وحدها "الجنسية التي يريدها الإسلام للناس،"  وأكد على أن المنهج الإسلامي يقيم التجمع "على آصرة العقيدة الإسلامية وحدها دون أواصر الجنس والأراض واللغة واللون والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة"  فأنكر أشد الإنكار أي انتماءات أخرى معتبرا إياها من بقايا الجاهلية السخيفة التي يجب التخلص منها.

أنكر قطب كل مفاهيم الوطنية فاعتبر أن من صور "الشرك الخفية: الشرك بالأرض والشرك بالجنس والشرك بالقوم والشرك بالنسب والشرك بالمنافع القريبة"  لأن "وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم؛"  "فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله" (وهو يرى أنها لا تقام في أي مكان) "ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته."  والفارق كبير بين تلك الرؤية ورؤية الإمام البنا، والحق إنني أعجز عن فهم كلام الأستاذ سيد في ضوء حب الرسول لمكة، وبكاؤه لفراقها، وشعر بلال الذي ألقاه عنها، وموقف الرسول من أهله وعشيرته.

تلك الرؤية كانت سببا كذلك في غياب الرؤية الفكرية بالكامل عن المشروع القطبي؛ فهو مشروع آني تنظيمي، لا يعلم على سبيل اليقين (ولا غلبة الظن) آلية واضحة للتغيير، ويرى الحديث في شكل الحياة بعد التغيير ترفا وإهدارا للوقت، إذ الهدف في المرحلة الحالية هو (التكاثر التنظيمي) لامتلاك القوة اللازمة للتغيير. يعلل قطب ذلك بقوله إن الإسلام "لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا"  ومن ثم فلا داعي للتفكير فيما سيكون، وهو يربط هنا بين التشريع والرؤية الفكرية والبرنامج العملي كما لو كانوا شيئا واحدا، وذلك أمر طبيعي في إطار رؤيته للشريعة باعتبارها تُفَصِل أحكاما لكل شيء، أي لا وجود في فكره لتلك المنطقة التي يسميها العلامة القرضاوي بمنطقة العفو، والتي هي في الشأن العام منطقة المصالح المرسلة التي لا نص فيها، ولذلك يقول إنه بعد "قيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من بين مغتصبيه من البشر ورده لله وحده" فإنه يجب "سيادة الشريعة وحدها وإلغاء القوانين البشرية!"  والشطر الأول (سيادة الشريعة) مفهوم ومتفق عليه، وهو ما عبر عنه قطب من قبل بالحاكمية، وأما الثانية فهي في ظني ليست إلا تجسيدا للغلو في المقاومة الذي انتهجه الشهيد قطب رحمه الله.

المهم أن قطب يرفض أن يقدم حلولا للمشكلات العصرية في إطار الشريعة وردودا على الشبهات حول التشريعات الإسلامية لأن "الذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب النظام وأن يصوغ تشريعات للحياة  بينما ليس على الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها…لا يدركون طبيعة هذا الدين ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد الله" ، ولا مجال هنا للقول بأن قطبا قدم تفصيلات للمشروع في كتبه الأولى، كالعدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد كان ذلك قبل تحوله الفكري، فقد نقل عنه غير واحد ممن رافقوه أنه قال "إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة" والفارق بين ما كتبه في بداياته وفي نهايته كبير، وهو يعبر عن ذلك باعتبار الفارق بينه وبين الشافعي هو أن الشافعي غير في الفروع، في حين غير هو في الأصول، والعلامة القرضاوي يعلق على ذلك فيقول إن سيد الجديد الثائر الرافض صاحب "المعالم" قد عارض سيد القديم، الداعية المسالم صاحب "العدالة" بل واعتبر قطب تقديم هذه الحلول خروجا عن "منهج التكوين الرباني، وعن طبيعة منهج التفكير الرباني كذلك" وذلك بإخضاع الإسلام لمناهج التفكير البشرية "كأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد"  ثم اتهم من يفعل ذلك بالوهن والضعف النفسي والهزيمة النفسية أما الضغط الغربي، فكان يصر على أن القضية المحورية الأساسية والوحيدة هي قضية الحاكمية ثم السير في الخطوات التنفيذية هكذا بدون إطار فكري يوضح الرؤية ويرسم الطريق.

والحقيقة أنني أكتفي بهذا القدر في بيان الفارق الكبير بين مشروعي الإمامين الشهيدين حسن البنا وسيد قطب رحمهما الله، حيث أعتقد أن الفارق بين المشروعين أوضح من أن تخطئه العين، والمساحة أوسع من أن تلئمها تلفيقات فكرية، والخلاف أوسع من أن تحتويه أوعية تنظيمية. وأنا في هذا الموقف أتفق مع الدكتور القرضاوي الذي قال بأن قطبا "خالف كل –أو جل دعاة الحركة الإسلامية قبله وعلى رأسهم حسن البنا"، بل إن البنا –بحسب القرضاوي- كان شأنه شأن الأعلام محمد عبده ورشيد رضا وجمال الدين القاسمي ومحمد مصطفى المراغي ومحمود شلتوت ومحمد عبدالله دراز وأحمد إبراهيم وعبدالوهاب خلاف وعلي الخفيف ومحمد أبوزهرة- ممن اتهمهم قطب بالضعف النفسي أمام الواقع الغربي وتأثير الاستشراق،  وتفق كذلك مع المستشار طارق البشري، الذي يرى أن "سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا."

وليس الأمر يحتاج لدليل، وإلا كانت وجود الشمس يحتاج إليه، فالفارق –كما سبق- كبير وواضح، وليس الهدف من الكلام الانتقاص من قدر الشهيد قطب، فهو داعية إسلامي قدم حياته ثمنا لفكرته في صمود نادر، وإنما المقصود توضيح الحقائق، لأن عددا ليس بالهين من الإخوان يأخذ عن قطب ظنا بأنه يمثل فكر البنا، وتلك طامة كبرى، والأستاذ سيد له إضافات هامة للحركة الإسلامية في جوانب إخرى، قد يكون من المفيد تناولها ببحث لاحق بإذن الله، وله سيرة رائعة لا يملك من يعرفها إلا حب الرجل واحترامه، ولكن الحق أحق أن يتبع.

3- التنظيمات الإخوانية والمجتمع
 كان للرؤية الفكرية للإمام البنا –كما أسلفنا- تأثير كبير على رؤيته للتنظيم، وكان عاملا آخر يؤثر في هذه الرؤية وهو طبيعة التنظيم؛ إذ لم يكن طبيعيا أن يكون التنظيم السياسي يتساوى بنيويا مع التنظيم العسكري أو الفكري أو الديني، ولكن يبدو لي من الورقة السابقة، وكذلك من البحث في قضية رؤية الإمام الشهيد لعلاقة التنظيم بالمجتمع أن التنظيم الأساسي بالنسبة له كان الفكري يليه مباشرة الديني، وأن المسافة بينهما وبين ما يليهما كانت واسعة على نحو جعل الأول والثاني هما وحدهما الحاكمان على علاقة البنا بالمجتمع.

فقد اتسمت "الحدود التنظيمية"؛ أو خط التماس بين التنظيم والمجتمع- عند الإمام البنا بالمرونة الشديدة، فلم تكن حدود فصل وانعزال وإنما كانت حدود إجراءات ومسؤوليات وحقوق ادارية. ويتضح ذلك من أمور متعددة، منها الفصل الواضح للإمام البنا ما بين الفكرة والتنظيم، والذي سبق الحديث عنه، ومنه ما قاله الشهيد بأنه "كم منا وليس فينا وكم فينا وليس منا،" وتلك كلمات واضحة الدلالات والمعاني، فهي تدل على أن الانتماء للفكرة أمر منفصل عن الانتماء للتنظيم، ومساحة التداخل لا يمكن حصرها، إذ أن التنظيم به من لا يفهم الفكرة بشكل كامل، وفي المجتمع من هو أفهم للفكرة وأعمل لها ممن هم داخله، وبالتالي فالتنظيميين لا يفضلون غيرهم بشئ لكون التنظيم ليس إلا وسيلة من بين وسائل متعددة لخدمة الفكرة، يقوم عليها التنظيميون كما يقوم غيرهم على غيرها. أما ما يختص به التنظيميون فهي الأمور التنظيمية.

ولأجل ذلك كانت التنظيم شديد الانفتاح على المجتمع، لا يحجب عنه في داخله شيء، ولا يفصل أعضاءه عن واقعهم المجتمعي، فـ"الباب مفتوح على مصراعيه لمن يدخل أو يخرج…وأعمال الجماعة جلية على المكشوف كما يقولون لا خفاء بها ولا سر فيها،"  إذا العلاقة بين التنظيم والمجتمع ليست كمثيلتها عند قطب علاقة إيمان بجاهلية أو حتى علاقة هدى بضلال، وإنما هي علاقة الجزء بالكل، وإلا لم يكن الباب ليكون مفتوحا بهذا الشكل الذي رآه البنا.

والحقيقة أن النظام الخاص، وهو التنظيم الجهادي العسكري، هو ما يمكن استثناءه من هذه القاعدة، إذ أن الأفكار الحاكمة واحدة، ولكن التنظيم تختلف علاقته بالمجتمع عمليا ولا شك، فالضوابط الأمنية له، والصفة العسكرية التنفيذية اللازمة لأعضائه تجعل الانفتاح على هذا النحو صعبا ومضرا، وإنما يغفر ذلك ويعوضه جزئيا أن التنظيم الخاص لم يكن طاغيا على التنظيم الفكري بل كان تابعا له، وكان النبع الفكري للتنظيم الفكري هو الذي يستقي منه النظام الخاص. ولما أن انقلبت الآية قبل استشهاد الإمام البنا بأشهر قليلة، وأصبح النظام الخاص مستقلا يفرض سياساته على الجميع بتنفيذ عمليات اغتيال من دون الرجوع للقيادات السياسية أو الفكرية وأصبح بذلك كيانا مستقلا، راجع الإمام الشهيد نفسه، ورأى أن وجود التنظيم لم يكن قرارا موفقا منذ البداية.
ولكن الأفكار الصحيحة لا تنفع وحدها، ولا تعيش منفصلة عن الواقع، وأذكر أن أستاذي الدكتور وليد قزيحة- رئيس قسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية- كان يقول لنا في محاضرة عن الفكر السياسي والاجتماعي العربي المعاصر، إنه من المهم دراسة علم الاجتماع لنتمكن من فهم أسباب نجاح أو فشل الفكرة، وأسباب قبولها في توقيت ورفضها في آخر، وبدون فهم الأبعاد الاجتماعية تفقد أي دراسة سياسية أو فكرية جزءا كبيرا من قيمتها، بل إن أستاذتي الدكتورة هبة رؤوف عزت تقول إن العالم الملم بأمور العلوم السياسية والذي لا يفقه من أمر الاجتماع شيئا "كمثل الحمار يحمل أسفارا"، لأنه غير قادر على الانتفاع بما عنده من العلم وإنزاله على الواقع. وعبر العبقري مالك بن نبي عن أمر مشابه حين قال أن "للفكرة الدافعة (لحظتها) كذلك، إنها اللحظة التي يكون إسقاطها على نشاطنا، هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي الأصلي."

والحقيقة أن تلك الفكرة وجدت للمشروع القطبي بعد استشهاد سيد قطب، فالضعط على التنظيم ومحاولة فصله عن المجتمع من ناحية، والاتجاه المعادي للإسلاميين الذي انتهجه نظام عبد الناصر من ناحية ثانية، واستشهاد الأستاذ سيد بتلك الصورة الدرامية الملهمة من جهة ثالثة، وعدم الحسم تجاه أفكاره من قبل قيادات الإخوان واكتفائهم بإصدار كتاب (دعاة لا قضاة) للرد على أفكار قطب من دون التصريح بأن ذلك مقصده من جهة رابعة، ووجود تنظيم خاص، أو بقايا تنظيم خاص تتمثل في أفراده المؤهلون نفسيا لتقبل المشروع الانفصالي القطبي من جهة خامسة، كل هذا أضفى على أفكار الأستاذ سيد قطب مشروعية شقت لها طريقا في وسط الإخوان، حتى إن بعض من يؤمنوا بأفكاره بالكلية قد وصلوا إلى مواقع حساسة ومؤثرة في الجماعة وهم في الحقيقة لا يدعون أبدا لعنف وتكفير، وإنما المنهج العملي يبقى واحدا، ولا أدري إن كانوا يدركون الفارق بين مشروعهم الذي يدعون إليه وبين مشروع الإمام الشهيد الذي ينتمون لتنظيمه، فإن كانوا لا يدركون فتلك مصيبة علمية، وإن كانوا يدركون فتلك خيانة فكرية، وخديعة لا يرضى عنها الإسلام، إذ يستترون في تنظيم ويحَمِلونه غير أفكاره الأساسية.

وبعد فهذه خطوط عامة للأسس التي حكمت علاقة الإمام البنا بالمجتمع وما نتج عنها، ومقارنة بين ما ذهب إليه في ذلك وما ذهب إليه الشهيد سيد قطب، والبون بينهما شاسع من دون شك، وإنما قصدت المقارنة هنا لتأثير قطب في مشروع البنا الذي يكاد يبدو –في بعض جوانب العلاقة بالمجتمع- وكأنه أكثر تأثيرا من البنا نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق