الخميس، 18 نوفمبر 2010

تصور إسلامى للدولة والمجتمع والشريعة......د. عبد المنعم أبو الفتوح


لم يحدد الإسلام نمطا معينا للحكم والدولة، ولا توجد نصوص شرعية قاطعة مفصلة لصورة الحكم فى الإسلام وكيفية اختيار الحاكم وما إلى ذلك، وإنما قطع الإسلام بتحديد مجموعة من المعايير الأخلاقية العامة تتوافق مع القانون الإنسانى العام فى كل العصور مثل العدل والمساواة والقبول والرضا من الناس، وجاء بمجموعة من التشريعات تضبط حركة المجتمع وعلاقات أفراده ببعضهم وبغيرهم… وهذا الأمر يتفق عليه كبار رجال الفكر الأصولى الإسلامى كالجوينى وابن تيمية وابن القيم والعز بن عبدالسلام ناهيك عن أئمة المذاهب الكبرى.


كلهم تقريبا رأوا أنه يكفى عدم مخالفه الشريعة فى شىء حتى يكون كل شىء شرعيا.. فلم يشترطوا وجود نص شرعى باعتبار أن الأصل فى كل شىء الإباحة والسماح إلا ما تناولته الشريعة بتحديد معين.
فيرى ابن القيم أن السياسة الشرعية هى عدم مخالفة الشريعة الإسلامية.. ويرى ابن خلدون أن الحكم الإسلامى هو إقامة مصالح العباد فى الدنيا والآخرة.. ويرى العز بن عبدالسلام أن مدار الشريعة دفع المفاسد وأسبابها وجلب المصالح وأسبابها.
وحتى فى عصرنا هذا يرى الشهيد عبدالقادر عودة مثل هذا الرأى وقد حاول فى كتابه (التشريع الجنائى) تطبيق هذه الرؤية للتقريب بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية.
وكلمة (المصالح) من الكلمات الأثيرة لدى فقهائنا الأوائل للتدليل على كلمة (السياسة) فى الفهم الإسلامى باعتبار أن السياسة هى (القيام على الأمر بما يصلحه).
نموذج (الخلافة الراشدة) هو أقرب ما يكون إلى حالة من حالات التصور الإسلامى (للقيم العليا) التى تحكم الممارسة السياسية دون وجود نماذج وأشكال محددة لهذه الممارسة.
ونستطيع أن نفهم من ذلك أن (الخلافة المنشودة) هى العدل والمساواة والحرية ومكافحة الفساد السياسى والاجتماعى وهى أيضا حكم ديمقراطى مدنى.. وهى فى التصور الأمثل منظومة شاملة للعلاقة بين الدولة والمجتمع فى ظل الشريعة. وليس هناك أى إلزام على الأمة بتكرار التجارب التاريخية على نحو ما كانت عليه فى الماضى. فالتفصيلات التطبيقية مختلفة من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن.

وأريد أن أوضح شيئا بهذا الصدد وهو أن الحكم الأموى والعباسى لم يكونا ذوَى صبغة إسلامية للحكم بالمعنى الكامل والمطلوب للكلمة.. وتطبيقهما للإسلام كان نسبيا وعليه مأخذ. واتخذت فتره الخلافتين طابعا خلافيا فى معظم الوقت أدى إلى حروب داخلية بين المسلمين لايزال بعضها قائما إلى اليوم للأسف الشديد. وبالتالى فتجربة الحكم والسياسة بعد عمر بن الخطاب لا تمثل نموذجا سياسيا يمكن القياس عليه بشكل نموذجى.. لأنه ببساطة لم يستوف الشرعية الكاملة كما ذكر عدد كبير من العلماء، وما كان قبول الأمة بجميع أشكال الحكم بعد الخلافة الراشدة إلا من باب الأمر الواقع والخوف من الفتنة (وقرأنا عن شرعية جديدة اسمها شرعيه المتغلب!).

وتغاضى العلماء والمفكرون عن شرط القبول والرضا الشعبى العام فى مقابل الحفاظ على القيم الإسلامية وتحقيقها فى المجتمع.. أو كما يقول البعض تغاضوا عن شرعية السلطة فى مقابل شرعية الحكم والممارسة.
شرعيه السلطة فى الإسلام تكاد تتطابق فى تحققها مع النموذج الديمقراطى القائم الآن فى المجتمعات المتقدمة.. وهى (البيعة العامة) فى الإسلام و(القبول الشعبى العام) كما فى الانتخابات الحرة فى اى دولة محترمة.
فى جانب شرعية (الحكم والممارسة) قد يكون فيه نقاش خصوصا حول مسائل الحرية الشخصية والاختلاف مع الآخر وتطبيق الحدود المقطوع بها شرعا وتوافر شروط تطبيقها.

من المهم أن نتفق أولا على أنه ليست هناك سلطة دينية فى الإسلام سوى سلطة النصيحة والدعوة إلى الخير والموعظة الحسنة بالمعنى الاجتماعى والأخلاقى.. السلطة السياسية فى الإسلام قد تكون لها وظائف دينية ولكنها مدنية المظهر والجوهر وهى سلطة تقوم على أسس سياسية وعقلانية تقدر المصالح بالدرجة الأولى.. وتطلق حركة العقل البشرى فى كل شىء لا يخالف الشرع ولم يتناوله لطبيعة التغير الدائم فى الدنيا.. وهو ما سماه العلماء (مساحة العفو التشريعى) وليس جديدا القول بأن النصوص القطعية الدلالة والثبوت والمجمع عليها قليلة للغاية.

وبالتالى فهناك مجال واسع للحركة للأمام بالإسلام.. فى تصالح كامل مع الدنيا عبر كل العصور.. وفى تفهم وتعاون واشتراك مع آخرين قد لا يتقاربون مع شمولية الإسلام بالدرجة المطلوبة فكلنا نتفق بشكل قاطع ونهائى على مدنية السلطة وعقلانيتها وعلى حرية الاجتهاد فى كل مجالات الحياة تقريبا.
وأنا لا اتفق مع الشهيد سيد قطب فيما ذهب إليه من أن (الاجتهاد الفقهى الآن يؤدى إلى ترقيع المجتمع الجاهلى باجتهادات إسلامية). المجتمع ليس جاهليا.. والاجتهاد إعمال لنعمة من أهم النعم وهى نعمة العقل والتفكير وإقامة للدين فى الدنيا.. ثم إن سنة الله فى التدرج قائمة إلى يوم الدين وفق المفهوم التربوى للزمن.
ويجدر بى هنا أن أؤكد من خلال إيمانى وقناعتى أنه لا اجتهاد مع النص القطعى كما أنه لا يجوز تبديل الأحكام الإسلامية فى التشريعات.. فإذا حرم الإسلام الخمر والربا فلا يجوز القول إن الإسلام يبيحهما فليس من المقبول تبديل الأحكام الشرعية والتقوُّل على الله، لكنه من المقبول جدا التوافق مع الآخرين فى المجتمع وتحقيق مساحة كبيرة من التقاطع بين أحكام الشريعة والقانون الإنسانى للوصول إلى تصور المجتمع المنشود تحت ظلال العدل والحرية والكرامة وهذه هى الأهداف العليا للشريعة وتحقيقا لمقاصدها، وأقول هنا، تتمة لهذا المعنى، إن الجرأة الإيمانية التى دفعت عمر لتوقيف (عطاء المؤلفة قلوبهم) وتوقيف (حد السرقة) لغياب شروط التطبيق والتطابق بين (الإنسان والنص والوقت) هذه الجرأة الإيمانية لا تنقص المؤمنين بوحدانية الله وبرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم فى أى عصر من العصور (فلا يخلو زمن من قائم لله بحجة).

أعود وأؤكد أن تعزيز قيمة المواطنة والمسئولية المدنية والأخلاقية والنصح العام والخاص بصون الأخلاق العامة وحماية الأسرة والحفاظ على المجتمع وإشاعة الرحمة والتراحم فى جنباته لهى قيم الإسلام العظيم.. وسيادة هذه القيم ستنقل المركزية من السلطة السياسية بخشونتها وجفائها إلى السلطة الاجتماعية بحنانها وتعاطفها وذلك من خلال المنظمات الأهلية والمؤسسات التربوية والاجتماعية والمساجد والمراكز الثقافية والبحثية والحض على شرف وكرامة العمل التطوعى.

انطلاقا من هذه التصورات المبنية على القبول بمدنية السلطة والتعددية الدينية والفكرية والسياسية وحقوق الأقليات والحريات العامة والخاصة ضمن السياق الاجتماعى العام والتقاليد المرعية مع وجود قواعد وضوابط أخلاقية لها طابع إسلامى ــ سمح بلا غلو ولا إهمال ومتوافق عليه من الأغلبية ــ للحريات الشخصية والعامة والفنون والآداب. انطلاقا من كل ذلك فانا أرى أن ما يجمعنا كإسلاميين بغيرنا ممن لا تتطابق رؤيتهم وفهمهم للإسلام مع رؤيتنا وفهمنا لهو أكثر من الكثير.. وأن (إراقة) الوقت فى هذه الفترة من تاريخ الوطن أشد خطرا ووقعا من (إراقة) الدماء والعياذ بالله. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق