الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

مسلسل الجماعة “أكثر إنصافا من غيره” —-إبراهيم الهضيبي

في 2 نوفمبر 2010 الساعة: 08:03 ص

أثار مسلسل (الجماعة) الذي عرضته القنوات المختلفة خلال شهر رمضان المنصرم، والذي تناول أحداثا تاريخية ومعاصرة تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين، جدلا كبيرا كما بدا واضحا من مقالات الرأي والحوارات الإعلامية التي تناولته في الأسابيع الماضية، وهو الجدل الذي تناول في معظمه جزئيات المسلسل التاريخية والفنية، وبقيت بعض الملاحظات المتعلقة بتوجهاته الكلية وبالسياق العام المحيط به رأيت فيها ما يستحق الإشارة.


أول ذلك هو أنني وجدت في المسلسل ما فاق توقعاتي من رقي واحترام في الإنتاج والإخراج واختيار الممثلين، ومن جهد بحثي قام به المؤلف مشكورا في محاولة لتقديم تأريخ للجماعة، هو في ظني أكثر إنصافا من أعماله السابقة التي تناولت الإسلاميين، وهو أكثر ما قدمه الإعلام المصري عن جماعة الإخوان إنصافا، وإن كان به ما يستحق التوقف والمراجعة؛ سواء في جزئياته التي تحتاج للمراجعة والتدقيق كاتهام الإخوان بالضلوع في اغتيال ماهر باشا مثلا (وهو اتهام مخالف للثابت في أوراق المحاكمة)، أو في سياقاته العامة التي تحتاج لتأطير تاريخي منضبط، كتوضيح أن الاغتيالات السياسية (كتلك التي قامت بها بعض عناصر النظام الخاص للجماعة وأدانها المرشد) لم تكن تغريدا إخوانيا خارج السرب، بل كانت سمة سائدة في هذا العصر؛ شارك فيها حزب الوفد بالقمصان الخضر وحزب مصر الفتاة بالقمصان الزرق، والرئيس عبد الناصر بمحاولة اغتيال حسين سري والرئيس السادات باغتيال أمين عثمان كما هو معروف ومدون، ومن عجب أن يتجاهل المسلسل هذا التأطير التاريخي في حين أن بعض المصادر التي تظهر في التتر باعتبارها مرجعية المؤلف في الكتابة عنيت خصيصا بهذه النقطة.


وفي ظني فإن مسلسلا بذل فيه هذا الجهد- على ما عليه من مآخذ- كان يستحق رد فعل أفضل من الإخوان، فبدلا من التعامل معه باعتباره هجوما محضا على الجماعة وبالتالي سلوك سبيل الهجوم المضاد على المؤلف والمسلسل والتوقف عند ما جاء فيه من أخطاء أو تحامل، كان الأولى بالإخوان أن ينظروا إلى ما فيه من نقد ويسعوا للاستفادة منه وإن كان في نبرته ومقصده ما يثير الحفيظة، إذ فيه من الإشارات إلى مواطن الخلل والتقصير في الجماعة ما يستحق التأمل والاستفادة منه، وفي تصوري فإن جماعة بحجم الإخوان لابد وأن تبحث دوما عمن يقدم لها هذا النقد لأدائها ولأفكارها، إذ هي اللاعب الرئيس في الحركة السياسية المصرية، والمسؤولية الملقاة على عاتقها بهذه الصفة تقتضي منها عملا وسعيا دائما للتطوير وإلا أثرت سلبا على مجمل مسار الحركة الوطنية.


الأمر الثاني الذي يستحق التعليق في رأيي هو حالة الجدل التي أفرزها المسلسل؛ إذ بدا منذ اللحظة الأولى أنه جدل يتعلق بالإخوان أكثر مما يتعلق بالمسلسل، وهو في ظني استمرار لحالة الجدل التي تثيرها الجماعة في المجتمع، والتي استمرت عقودا وازدادت كثافة في السنوات الخمس الأخيرة، ويبدو لي أن استمرار الجدل طوال تلك السنوات هو انعكاس للفشل في التعامل مع المسألة الإخوانية على نحو يخدم الصالح العام ويوظف طاقات الجماعة لخدمة المصلحة الوطنية المصرية، وهو فشل تتحمله أطراف متعددة، وإن كان النظام المصري يتحمل القسط الأكبر منه، وذلك بإصراره على التعامل مع الجماعة باعتبارها تنظيما محظورا وإسناده ملف التعامل معها إلى الجهات الأمنية، والأمن إنما يكون دوره بناء عند التعامل مع التنظيمات المنتهجة للعنف، أما أن تسند إليه ملفات الحركات السياسية والاجتماعية فإن ذلك إنما يدل على تقاعس أجهزة الدولة السياسية والثقافية والاجتماعية والتعليمية عن الاضطلاع بدورها على نحو أدى لتوغل يد الأمن حتى تحولت مصر إلى دولة بوليسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.


وتتحمل الجماعة نصيبا أقل من المسؤولية، بسبب حالة العناد السياسي التي تحكم علاقتها بالنظام فتؤثر سلبا على مساحاتها المشتركة مع تيارات الحركة الوطنية في بعض الأحيان، وبسبب بعض القصور الفكري الذي يوجد بعض الحواجز بينها وبين التيار الرئيس المجتمعي والسياسي في الوطن في أحيان أخرى.


كما يتحمل المسؤولية بعض المثقفين ممن لم يؤدوا واجب النصيحة لله والوطن تجاه أي من الطرفين، فلم يشتبكوا فكريا مع النظام أو يضغطوا عليه لتطوير أسلوب تعامله مع الجماعة ليكون أقرب للاستيعاب الثقافي والاجتماعي والسياسي من القمع الأمني، ولم يشتبكوا فكريا مع الإخوان ويدفعوا الجماعة لتطوير أفكارها وآلياتها بشكل تستفيد منه للتحرك في اتجاه المصلحة الوطنية.


ولعل النقطة الأخيرة ذات صلة عميقة بالمسلسل محل النظر، وذلك لأن المثقفين المختلفين مع الإخوان أو الحركة الإسلامية بشكل عام انقسموا إلى فريقين، الأول نفى الوطنية والأصالة عن الحركة، وتعامل معها كما لو كانت تيارا دخيلا على الحركة الوطنية وجوده خطر على النسيج الاجتماعي، ولذلك تنصب جهود هؤلاء على استئصال الحركة، أو على الأقل تهميش دورها.


والحركة الإسلامية المعاصرة في تصوري تستسقي بالفعل من مصادر غير مصرية وغير أصيلة في مشروعها الحضاري وفي فهمها للدين، ولكن هذا لا ينفي أن الرافد الرئيس للحركة الوطنية المصرية كان دوما إسلاميا، وكان الانتماء الحضاري الإسلامي متواجدا في خطاب الغالبية العظمى من أقطاب الحركة الوطنية المصرية الحديثة، والتأكيد على الشق الأول من هذه الدعوى على حساب الثاني لا يؤدي لتهميش الحركة الإسلامية، وإنما يؤدي لإبعادها عن التيار الرئيس للحركة الوطنية، وبالتالي تحولها إلى عائق في مسيرة الإصلاح الوطني،  كما يساعد على نمو التيارات المتطرفة فيها على حساب التيارات المعتدلة.


وهناك فريق آخر من المثقفين المختلفين مع الإخوان أو الحركة الإسلامية اتخذ موقف النقد البناء، الذي يهدف للضغط على الجماعة باتجاه الحركة الوطنية، على فرضية أن ثمة أرضية مشتركة تعبر عن الأصالة المصرية يمكن أن تلتقي عليها التيارات المختلفة، وأنصار هذا المشروع لا يتغافلون عن أخطاء الحركة الإسلامية عامة، ولا عن أوجه القصور عند الإخوان خاصة، ولكنهم يدركون أن الحركة الإسلامية لن تختفي من على الساحة ولن يؤدي الهجوم عليها لتهميش دورها، كما أنهم يدركون أنها – على ما فيها من عيوب- تمثل أحد الأعمدة الرئيسية في الحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية للوطن، وذلك بدورها ومواقفها في القضايا الكبرى كقضية فلسطين وقضية الاستقلال الحضاري والانتماء لمحيط أوسع يجمعنا به تراث وتاريخ مشترك، وبالتالي فإن بقاء الحركة مع تقويمها صار ضرورة لمواجهة التفكك الحضاري الذي يأكل في جسد الأمة.


والصورة هنا تتشابه مع الصورة في الجزائر قبل عقدين من الزمان، حيث كان أنصار التيار الأول (الاستئصالي) هناك أعلى صوتا، وكان خوفهم من الحركة الإسلامية أكبر من خوفهم على الوطن، فأدى ذلك إلى شعور الحركة الإسلامية بالعزلة وإلى شحن النخب والجماهير بالعداء تجاه الحركة بصورة أدت في نهاية الأمر إلى شلال من الدماء دفعت الجزائر ثمنه غاليا، ولا تزال تعاني نتائجه، وهو سيناريو لا يتمنى عاقل أن يرى ما يشبهه في مصر.


ومؤلف المسلسل – وهو من الشخصيات ذات التأثير - ينتمي بكل أسف إلى اتجاه المثقفين الساعين لاستئصال أو تهميش الحركة الإسلامية وتخويف الناس منها، ولا شك في استطاعته تبرير هذا الموقف (الذي يبدو واضحا من أعماله ومقالاته السابقة وكذا من المسلسل)، إذ يسهل إيجاد مثل هذه المبررات، فللحركة الإسلامية وللإخوان أخطاء وأوجه قصور عدة، شأنهم في ذلك شأن كافة التيارات والفصائل والأحزاب الأخرى، وأقصد بهذا أن هذا الموقف هو في النهاية اختياري، فللمرء أن يغمض عينيه عن إيجابيات هذا الفصيل أو ذاك كي لا يرى إلا عيوبه فيعاديه، وله أن ينظر بكلتا عينيه ليرى الوطنية والتقصير معا في كل التيارات فيسعى لتقويمها.


والحقيقة أن ما يجعل الإخوان أولى بسهام النقد من غيرهم هو حجم تأثيرهم سلبا وإيجابا باعتبارهم الفصيل الأكبر في الحركة الوطنية، ولهذا السبب تحديدا فإن النقد الموجه لهم لا بد ألا يكون نقدا استئصاليا تهميشيا ينفى عنهم أصالة الانتماء لتراث الوطن ويسعى لعزلهم عن الحركة الوطنية أو تخويف الناس منهم، بل نقدا بناء، يقومهم ويدفعهم باتجاه المصلحة الوطنية.


والنقد في المسلسل لا يدفع في هذا الاتجاه، فهو لا يقدم الإخوان باعتبارهم فصيلا له أخطاؤه التاريخية في إطار انتماء وأجندة وطنية، وإنما باعتبارهم جماعة منعزلة لها أجندة مستقلة بها المحمود والمذموم ولكنها مقطوعة الصلة بالسياق العام للحركة الوطنية، والجماعة وفق هذه الرؤية أقرب للأقليات الاجتماعية التي تعيش في كانتونات مغلقة ومحيط اجتماعي مستقل منها لفصيل في حركة وطنية أعم، وفي ظني فإن هذه الصورة وإن كان لها أسانيد من بعض مواقف وكتابات عدد من قيادات الإخوان فإن قراءة أوسع للتاريخ والواقع تقول بأنها انتقائية فيها من الخطأ والتعميم أكثر مما فيها من الصحة والدقة.


الأمر الآخر الذي يستحق التعليق هو الظرف الذي عرض فيه المسلسل، وقد جانب القائمون عليه –مع حسن الظن بنواياهم– الصواب إلى حد بعيد في اختياره، فالمسلسل عرض قبل أسابيع من انتخابات برلمانية كثر الحديث عن عدم السماح للإخوان بأن يحققوا فيها ما حققوه في سابقتها من الفوز بخمس المقاعد، وفي ظل مناخ إعلامي غير متوازن لا يسمح للجماعة أو المتعاطفين معها تقديم عمل إعلامي يقدم وجهة نظر مغايرة، وهو ما يعني أن المسلسل سيتم توظيفه سياسيا لخدمة النظام في معركته ضد الإخوان.


وكنت أتمنى ألا يسمح القائمون على المسلسل بمثل هذا التوظيف أو التوجيه الدرامي، خاصة وأنه لا ينتقد الإخوان لصالح المشروع الوطني وإنما لصالح النظام الذي تسبب في الكثير من التشوهات الحضارية والخفوت السياسي الذي تعانيه مصر، وكان في إمكان القائمين على المسلسل –إن كانت لهم رؤى فكرية مستقلة عن النظام ومتحفظة أو حتى معادية للإخوان- أن يتجنبوا هذا التوظيف لو تغير توقيت عرض المسلسل ليوجدوا فاصلا كافيا بينه وبين الانتخابات.
وإضافة لما سبق، فإن ثمة ملاحظات أخرى تتعلق بمضمون المسلسل التاريخي والفني، وهذه لا يتسع المقال لسردها ولست أهلا لمناقشة بعضها وقد أشبعت تعليقا وتحليلا من أهلها، وقد رأيت أن أقصر المقال على هذه النقاط عسى أن يكون فيها نفع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق