الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل.... د. عبدالمنعم أبوالفتوح


  قبل التطرق إلى مفهوم الإصلاح الشامل أرى أنه من الضروري أن أشيرَ إشارةً سريعةً إلى مفهوم الديمقراطية الأمريكية كما يراها كبار المفكرين الغربيين. 
ففي كتاب (ثقافة النرجسية) لـ"كريستوفر لاش" تحذير من أن المجتمع الأمريكي فَقَدَ القدرة تقريبًا على مواجهة الأزمات التي تواجهه والمشاكل السياسية والرأسمالية المعقدة، والتي هي تعبير واضح عن أزمة روحية وثقافية جادة.
وفي عام 1987م أصدر "بول كيندي" كتابه الشهير (سقوط القوى الكبرى)، وقال: "إن الأمريكيين كانوا على وشك أن يَلْقَوا نفس المصير الذي لاقاه الإنجليز في القرن التاسع عشر- وهو الاضمحلال- كقوى عالمية، إلا أن الإدارة الأمريكية استطاعت أن تُدير الأمور على نحوٍ يجعل التآكل النسبي في وضع الولايات المتحدة يحدث ببطء وهدوء"، واستخدم أحد المحللين السياسيين أفكار "كيندي" للمقارنة بين واشنطن وروما الإمبراطورية ولندن في القرن التاسع عشر؛ حيث أشار إلى الاستقطاب الاقتصادي، وتآكل الطبقة الوسطى، وانتشار الانحلال الأخلاقي، وفقدان الإحساس بالوطنية والانتماء في المجتمع الأمريكي.
وفي كتاب (قضايا العرق)- الذي صدر عام 1993م- استخدم الناقد "كور نول ويست"- وهو من الزنوج- الصورة التي رسمها "بول كيندي"، وشبَّه شعب الولايات المتحدة بأنه "يتدلى هكذا بلا جذور"، وبأنهم مواطنون لا حول لهم ولا قوة.
وتحت عنوان (صناعة الانتخابات) في كتاب (أمريكا في العقول) للكاتب الفرنسي "أنياسو رامونيه" يقول: "إن الانتخابات أصبحت صناعةً يتقنها نفر من رجال السياسة والمال".
وتحت عنوان (من يوقِّع الشيكات يصنع القانون) يقول: "إن المرشحين والأحزاب ما يفتئون يجدون أنفسهم في نهاية الأمر تحت أقدام أصحاب المال"، ويخلص إلى أن كل الشروط اللازمة للديمقراطية الحقَّة غير مستوفاة على الإطلاق في أمريكا، وإذا ما تبين أن 5% فقط من الأمريكيين هم الذين يتابعون الملفات الدبلوماسية والسياسية فإن الأمر يبدو غريبًا بعض الشيء إذا ما أسرف قادة أمريكا في الحديث عن الديمقراطية.
كل هذا- وكثير غيره- يجعلنا نقف بحذر أمام صيحات الديمقراطية الآتية من الغرب، والتي بدأت عيوبها الثقيلة تنكشف شيئًا فشيئًا أمام كبار المفكرين والمثقفين الغربيين، ويجعلنا نتطلع بشغف إلى نموذج آخر مختلف يحقق (الديمقراطية الإنسانية) الحقَّة، التي يختفي فيها التأثير السيئ للمال وإغراءاته، والإعلام وإلحاحاته، ويبدو فيها الإنسان حرًّا قويًّا غنيًّا بمبادئه وأفكاره وإيمانه الذي يهديه إلى التمييز الدقيق بين أصحاب المصالح وأصحاب المبادئ، بين أصحاب المال والنفوذ وأصحاب العقل والرأي؛ الإنسان الذي تتحقق حريته الكاملة وإنسانيته الكاملة كما أرادها له خالقه سبحانه وتعالى.
كان لابد من هذا الاستطراد لنعرِف ونتعرَّف بدقة على ماهية هذه الصَّيحات التي ارتفع ضجيجها في الآونة الأخيرة، وليست كلها مزعجة على آيه حال..
مفهوم الإصلاح الشامل- الذي ينشده التيار الإسلامي، وفي القلب منه (الإخوان المسلمون)- يدور حول معنى (التنمية المستدامة)، الذي يشمل الإنسان والدولة والمجتمع، و"يتغلغل" في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية، التي يشكل فيها الإنسان مركز الدائرة، وتلتف حوله دوائر كثيرة، أهمها: دائرة (الحرية)، التي بغيابها تحل بالبشر أعظم كارثة، وتتجسد في حياتهم أعلى صورة من صور الفساد في الأرض؛ ذلك أن الله- سبحانه وتعالى- خلق الإنسان، ومنحه (حرية المشيئة)، وعندما تصادَر هذه القيمة الإنسانية العظيمة فإنما تتم المصادرة على معنى وجود الإنسان من الأساس، وتلك أبشع جريمة تُرتكب على وجه الأرض، باعتبار أنَّ رسالة جميع الرسل والأنبياء تهدف في الأساس إلى تحرير الإنسان من العبودية لغير خالقه سبحانه وتعالى.
وقد حسم الإسلام هذا الموضوع بأن حمل الإنسان (مشيئة الإرادة الحرة) قال تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)، وقالها عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".
 
وأرى أن هناك بعض الحقائق حول الحرية ينبغي الإحاطة بها:
1- ليس هناك حرية بدون قدرة، فالذي يقول إنه حر لابد أن يملكَ مقوِّمات الرفض كما يملك مقومات القبول.
2- ليس هناك مجال للحرية بالمعنى المطلق، فلابد أن تنتظم تلك الحرية مع قيم المجتمع ومبادئه وأعرافه.
3- الحرية حق لمن يعمل وينتج ويشارك الآخرين الحياة.
4- المساواة بين الناس أجمعين في ممارسة الحقوق.
ثم تنطلق من حول هذا الإنسان (الحر) (الرشيد) كل صور الإصلاح الشامل:
أ- الإصلاح التعليمي:
الذي يقوم على الطريقة العلمية في اتصال التربية والتعليم بمقتضيات الحاضر والمستقبل تعليميًّا لا تلقينيًّا، يتصل باحتياجات المجتمع، ويشمل كل الأمة- ذكورًا وإناثًا- ويتحول إلى عمل يومي مستمر، لا ينتهي بالتخرج من فصول الدراسة، بل يستمر لتأهيل النشء لإخراج طاقاتهم وقدراتهم الكامنة، وتزوديهم بكل ما من شأنه أن يغرس فيهم القدرة على رجاحة الحكم، والإعلاء من قيمه الحوار، وتثبيت معنى الاختلاف والتعدد على أنه من حقائق الحياة، وأن يتعلم كيف يقول "نعم" وكيف يقول "لا" في اعتزاز وكرامة، وأن يتعود على التفكير الإبداعي المثمر، الذي يرفض التقليد والإمَّعيَّة، ويتأكد لديه الشعور الذاتي بالمسئولية والعطاء والمشاركة والتعاون، وهو ممتلئ إحساسًا بالكرامة التي أرادها له خالقه عز و جل.
ب- الإصلاح الاقتصادي:
الذي يتجه نحو العدل الكامل فى توزيع الثروة والدخول باتباع سياسات عملية صحيحة لبناء نهضة شاملة، تكون الركيزة الأساسية فيها تنميه القدرات، وتهيئة مناخ التشغيل الكامل، وتوفير فرص عمل جيدة، وتأمين اجتماعي فعال، وقد أثبتت كثير من تجارب الإصلاح الاقتصادي الحديثة- خاصة في التجارب الآسيوية- أن المشروعات الصغيرة من أهم أدوات توفير فرص العمل.
كل هذا يتطلب قيام روح اجتماعية جديدة تتعاون فيها حكومة نشطة ذات قدرات فعالة مع قطاع خاص وأهلي يتمتع بالحيوية والإحساس الوافر بالمسئولية الاجتماعية ومؤسسات مدنية قوية تمثل مختلف فئات الشعب من برلمان ونقابات وصحافة وجمعيات أهلية وأجهزة رقابة شعبية، وإصلاح الجهاز الإداري إصلاحًا كاملاً وتحديثه وتطويره على أرفع مستوى من مستويات الأداء الإداري الفعال، وأعتقد أن مجتمعاتنا تملك من الطاقات والقدارت في علم الإدارة ما يكفل تحقيق كل ذلك على نحو صحيح تمامًا.
جـ- الإصلاح السياسي:
أود أن أشير في هذا الخصوص إلى أنه ليس للتيار الإسلامي- وفي القلب منه (الإخوان المسلمون)- أيُّ تصور لتنفيذ الإصلاح السياسي إلا (صندوق الانتخاب)، وليس من وسيلة أخرى على الإطلاق لتحقيق هذا الإصلاح المنشود إلا (الديمقراطية الإنسانية)، التي تحدثتُ عنها سابقًا، وأؤكد في هذا الجانب ما ذكرناه مرارًا وتكرارًا:
1- المواطنة في الدولة المدنية المنشودة هي أساس الوجود في المجتمع داخل إطار ديمقراطي، وكل من رضي بهذا الإطار يكون على قدم المساواة مع الآخرين بكل اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، والجماهير هي الحكَم من خلال انتخابات حرة ونزيهة، مع التأكيد على وضع كل الضمانات التي تحفظ التحييد والنزاهة؛ حتى يتحول شرف الصوت الانتخابي للفرد إلى جزء لا يتجزأ من شرفه الشخصي.
2- النظام الديمقراطي النيابي- من برلمان وأحزاب وتعددية كاملة- هو أكثر الصيغ فعالية لحماية الحرية، والحفاظ على قوه المجتمع، ومنع الاستئثار بالسلطة، الذي يكاد يكون عيبًا إنسانيًّا لا يخلو منه بشر؛ لذا فإنه يتحتم على نحو صارم وضع القوانين والدساتير وأدوات المراقبة والمساءلة التي تحد من الآثار البشعة لهذا العيب على الشعوب والأوطان.
3- إعلاء شأن الأمة على شأن الدولة، فالدولة (الديناصور)- كما وصفها "توماس هويز"- أصبحت أحد أسوأ العيوب في حضارة إنسان القرن الحادي والعشرين؛ الأمر الذي يستوجب تقوية الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية، وكل ما من شأنه أن يجعل دور الأمة فاعلاً ومؤثرًا ومانعًا من (توحش) الدولة.
4- المساواة السياسية والقانونية الكاملة بين كل فئات المجتمع وطوائفه،ووضع كل الضمانات لحماية هذه المساواة من أي انحراف سياسي أو مذهبي.
د- المرأة والإصلاح الشامل :
1- الأصل في التكاليف الإسلامية هو العموم، فليس هناك إسلام للرجل وإسلام للمرأة، والمجتمع السويُّ الصحيح يتحرك أفراده في طُهر وتلقائية دون حرج أو عُقَد أو توتر في اتصال أفراده بعضهم ببعض.
2- المرأة تكوين عقلي وروحي، ونفسي وجسدي، والإسلام يحضها على أن تقدم نفسها للمجتمع بعقلها وفكرها وروحها بكل ما تملك من قدرات وإمكانات، أما جسدها فلا يهم المجتمع في شيء، وليس مطروحًا للاهتمام، ولا يجب أن يكون كذلك، وهذه أحد وجوه الارتقاء بالمرأة والإعلاء من شأنها ككيان إنساني.
3- الإسلام هو الدين الذي قدم شهادة ميلاد (المرأة الإنسان)، التي تتمتع بكافة الحقوق التي تحفظ لها الكرامة الكاملة.
4- حجاب المرأة المسلمة هو في حقيقته هويةٌ وانتماءٌ قبل أن يكون شكلاً وغطاءً، ولنتذكر بهذا الصدد الساري الهندي.
 
 وأود الإشارة إلى عدة نقاط متفرقة أرى أنه من المهم للغاية طرحها:

1- الخطاب الإصلاحي الإسلامي خطاب بشري، وليس خطابًا مقدسًا؛ إنما هو اجتهاد بشري في فهم نصوص الإسلام، وبالتالي فمن يختلف معنا فهو يختلف مع فهمنا، ولا يختلف مع الإسلام.. أرجو أن تكون هذه النقطة شديدة الوضوح للجميع، ولا أدرى ما يمكن أن يقال في هذه النقطة تحديدًا أكثر من ذلك!
2- العمل المسلح في تاريخ جماعة (الإخوان المسلمين) كان مقترنًا بوجود احتلال أجنبي؛ وهو أمر تاريخي لا وجود له على الإطلاق في مرحلة الدولة الوطنية، مهما كانت مساحة الاختلاف.
3- ميدان (صناعة الإنسان) وصياغته الصياغة الربانية السليمة هو أهم ميدان في حركتنا نحو الإصلاح.
4- هدف الحكم في رؤية التيار الإسلامي هو سعادة المحكومين، وتحقيق السلام والاستقرار في الداخل، والعزة والاحترام في الخارج، والحاكم وكيل الأمة، وليس له عليها سيادة، بل هي سيدته، وهو خادمها.
5- الحضارة الإنسانية في رؤية الإسلاميين يجب أن تسير في حماية أمرين أساسيين: السياسة السليمة، والأخلاق القويمة.
السياسة السليمة التي تقوم على الحرية والعدل والمساواة بين البشر، فكلهم لآدم، وآدم من تراب كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والأخلاق القويمة تعتمد على وضع حاجات الإنسان على أساس سليم، وتهذيب اختياراته ورغباته، وعدم الإلحاح عليه بالآلة الإعلانية الساحقة؛ كي يستبد به سعار الاقتناء والاستهلاك الذي لا يتوقف عند حدٍّ، ويدفع به إلى ما لا تُحمَد عواقبه من أفعال.

وأخيرًا.. أرى أنه من المهم الإشارة إلى هذه النقاط:
أولاً: المشكلة الأمريكية لدى المسلمين هي في التأييد المطلق للكيان الصهيوني في فلسطين، بحيث تداخلت صورة أمريكا والكيان الصهيوني في مواقع الرؤية العربية والإسلامية، وزاد على ذلك الاحتلال الباغي للعراق، الذي يخالف كل الشرائع والقوانين والأعراف الدولية، وما صاحب ذلك من أقوال عن حروب دينية تخلو من أي فهم حضاري محترم لما استقر عليه التاريخ من ارتقاء بالتدافع الإنساني المثمر، نحو إقامة حضارة إنسانية مزدهرة بالعطاء والحب والتعاون.
ثانيًا: أن ما يسمى بالإرهاب في القاموس الأمريكي ليس دقيقًا بما يمثله معنى الإرهاب، بل للأسف هو ما يمثل كل خط سياسي يصطدم بالسياسة الأمريكية والصهيونية، فهو مسألة سياسية في حركة السياسة الأمريكية أكثر مما هو حركة عنف ضد الأمريكيين كشعب وأفراد.
ثالثًا: أن تكون صديقًا للإسلام والمسلمين فأهلاً ومرحبًا، ولكن يتحتم أن يكون ذلك متحققًا في الواقع؛ لأن الإسلام يتمثل في المسلمين ومصالحهم وثقافاتهم واقتصادهم وسياستهم وأمنهم.. وللأسف الشديد هذا ما تعبث به أمريكا طوال الوقت (أمريكا الإدارة وليس الشعب الذي نُكِنُّ له كل المشاعر الطيبة).
————–
* عضو سابق بمكتب الإرشاد بجماعة (الإخوان المسلمين) والأمين العام المساعد لاتحاد الأطباء العرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق