الخميس، 11 نوفمبر 2010

قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (4/4)..... إبراهيم الهضيبي

الإمام البنا: قراءة في الأفكار والأهداف والمنهج (4/4)
مراجعات في فكر الإمام البنا
 كانت الملامح الرئيسية الفكرية للمشروع الإصلاحي الإسلامي واضحة في ذهن الإمام البنا، ولكن الصورة لم تكن بذات القدر من الوضوح فيما يتعلق بطبيعة التنظيم الخادم لتلك الأفكار؛ فكلام البنا عن التنظيم ظل يتأرجح به بشكل بندولي بين الفكر والتنفيذ، فلم يستقر على شاطئ أي منهما في رؤيته للتنظيم، وهذا الاستقرار لابد منه لبناء رؤية لكيفية ادارة التنظيم، من حيث درجة صلابته، وأنواع العلاقة بين القيادات والقواعد فيه، وتشكيلاته، وطبيعته، وأنشطته الداخلية والخارجية، أي الأنشطة الخاصة بأعضائه وتلك المدعو إليها أفراد المجتمع.

 والحقيقة أن مراجعات الإمام البنا التي قام بها في أيامه الأخيرة كما أوردنا في الورقة السابقة لم تكن لها أية آثار تنظيمية مباشرة؛ ذلك لأن الفكرة تحتاج لبعض الوقت حتى تُفِعِل تنظيميا، وانسحاب التنظيم من العمل السياسي والعسكري المباشر، إضافة إلى ضبط أدائه كجمعية فكرية إصلاحية والتنظيم بين هذا الدور ودور التربية الأخلاقية (الروحية أو الصوفية) هي كلها أمور تحتاج لوقت لم يتوفر للإمام البنا، حيث يغلب الظن عندي أن مراجعاته لم تصل لنتائج عملية ملموسة إلا في شتاء 1948، إلى قبل استشهاده بأشهر قليلة، كانت الأحداث وتيرة خلالها متسارعة بحيث لم تسمح بالوقوف والتغيير، حيث كانت الجماعة قد حلت، واغتال أحد أعضاء تنظيمها الخاص النقراشي باشا، واعتقلت الغالبية العظمى من أفرادها، حتى أنه لم يكن هناك في تلك الفترة القصيرة (تنظيما) يمكن أن تتناوله أيه إصلاحات.
والواقع أن الثمرة الأولى لتلك المراجعات لم تظهر إلا بعد استشهاد الإمام بفترة، وكانت حل التنظيم الخاص، وانقطاع الجماعة بذلك عن العمل العسكري المباشر، من دون أن تنكر أن الإسلام به جانب جهادي، وإنما بإدراك أن هذا الدور يجب أن ينمو منفصلا تنظيميا عن التنظيمات السياسية والتنظيمات الدينية،وإن ينمو في إطار المؤسسات الرسمية للدولة بعيدا عن أي تيار سياسي؛ ينمو في المؤسسة العسكرية الرسمية المنوطة بذلك وهي القوات المسلحة.
وقد كان لعدم الوضوح والحسم حيال طبيعة التنظيم آثارا سلبية على بعض المفاهيم التي أوردها الإمام البنا في رسائله المختلفة، لاسيما رسالة التعاليم، التي هي بالأساس رسالة تنظيمية أكثر منها فكرية، وبالتالي فمن المفترض أن تخدم الرسائل الفكرية التي تعبر عن مقاصد الإمام الشهيد وأهداف دعوته وإنشائه للإخوان.
الطاعة مفهوم لا يمكن بتره عن المطاع، تماما كالدعوة لا يمكن أن ينظر إليها بمعزل عن المدعو له؛ وليست الطاعة التي نناقش مفهومها عند الإمام البنا هي طاعة الله، فتلك قضية لا خلاف عليها بين المسلمين، وهي الاختبار الحقيقي العملي لكل مسلم في كل تصرف من تصرفات حياته، أن يطيع به الله عز وجل.
وكما فصلنا في الورقة السابقة بين الدعوة إلى الله والدعوة إلى التنظيم، وأوضحنا أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بفهم أهداف التنظيم وطبيعته الوسيلية، فإن الفصل بين مفهوم طاعة الله ومفهوم الطاعة التنظيمية يحتاج إلى فهم طبيعة التنظيم الذي نتحدث عنه، ولما كان المشكل في (طبيعة التنظيم)، فقد كان طبيعيا أن يختلف تعريف الإمام الشهيد لها من موطن لآخر، حتى وصل لصيغة تجميعية بين أكثر من مجال من مجالات التنظيم، وإن كانت تلفظ بالكلية مفاهيم أخرى.
والتنظيم هنا كانت له أوجه أربعة: فهو فكري، ديني، سياسي، عسكري. وطبيعة التنظيمات القائمة على هذه الأمور مختلفة ومتباينة، فالتنظيمات العسكرية لابد وأن تكون شديدة الصلابة والصرامة، كل فيها يعرف مكانه ومهامه المحددة، يطيع قادته من دون نقاش، أو على الأقل يطيع ثم يناقش كما يقول بعض العسكريين. ومجالات النفاش فيها محددة كما وكيفا، فهي تتم في إطار ضيق في القيادة، ولا تناقش إلا ما تحدده القيادة العليا من قضايا، والأقدمية لها دور كبير في قبول الرأي المطروح؛ فالخبرة لها أهمية قصوى، والعسكري الأقدم هو دائما الأصح، ولهذا فلابد من طاعته، إلا أنه حتى هذه التنظيمية الصارمة لم تمنع الإفراد من المناقشة والإدلاء بآرائهم للاستفادة منها، لعل مواقف السيرة النبوية في غزوتي بدر وأحد خير دليل على ذلك، على أن التحديد الدقيق للمسائل المطروحة للنقاش، ومدى القبول بمناقشة الأوامر تبقى مسائل في غاية الحساسية، نفضل عدم الاقتراب منها كونها ليست موضوع هذا البحث.
ومناقشة (التنظيم الديني) تستوجب أولا تحرير المفهوم؛ فعلى عكس التنظيم العسكري تبقى كلمة (التنظيم الديني) مبهمة، إلا أن المقصود بالتنظيم الديني هنا هو أشبه بالطرق الصوفية، وهو ليس تنظيما حركيا، وإنما هو تنظيم (روحاني) إن جاز التعبير. والقائمين على هذا التنظيم من علماء التزكية الذي يقومون من خلال الدورس والحلقات والرحلات والعلاقات الشخصية بتربية أعضاء التنظيم وتزكية أنفسهم وتحسين أخلاقهم، ودرجة الصلابة التنظيمية هنا تتفاوت من مدرسة لأخرى، فمنها ما هو شديد الصلابة حتى إنه ليجعل المتعلم يسلم لمعلمه كالجثة تسلم لمغسلها، ومنها ما هو أقل صلابة، وإن كانت جميعها تدور حول محور طاعة المريد للعالم والشيخ، والضوابط هنا موجودة، وإن لم تكن حاسمة صلبة، وهي ضوابط تأخذ شكل الواجبات التي يجب أن يؤديها المربي تجاه مريديه والعكس، ومن ذلك ما أورده أبوحامد الغزالي في إحيائه، ونقله عنه سعيد حوى في كتابه (المستخلص في تزكية الأنفس) تحت عنوان (آداب المتعلم والمعلم)، والافتراض الأساسي في هذه التنظيمات –كما في التنظيمات العسكرية- أن القيادة على صواب، وأن الشيخ يعرف وهو على حق، وإن كانت هناك درجة من النقاش أعلى من العسكرية، كون طبيعة الموضوع المناقش هو نفس المدعو، وهو يعرف عنها أشياءا من دون شك، ولكن كلمة العالم تبقى الحاسمة (أو شبه الحاسمة على الأقل) كونه الأدرى بوسائل علاجها.
أما التنظيم الفكري (إن جاز التعبير، والأدق أن يقال الجمعية الفكرية أو الثقافية) فهو لا يعرف لفظ الطاعة ولا مفهومها، لأنه قائم في الأساس على المناقشة والحوار وتصادم الأفكار لتنتج أفكارا أكثر تطورا، ثم أن الأفكار هنا لا ينبني عليها بشكل مباشر أعمال تنفيذية، وليست تقود إلى قرارات، وإنما تؤدي لتوجهات عامة، وليس للأقدمية فيها أفضلية كالتي يتمتع بها القادة في التنظيمات الدينية والعسكرية، وإنما هي تنظيمات مسطحة، تتساوى فيها رؤوس الأشخاص وتتمحور حول الأفكار، وتنحصر مهمات قادتها في وظائف ادارية وتنسيقية، لا علاقة لها بشكل مباشر بالمهام الفكرية، هي تنظيمات بعيدة في تكوينها عن الصلابة وعن الصرامة، وأنشطتها متنوعة من ندوات وصالونات ثقافية دورية وفعاليات ثقافية وكتابات..إلخ.
وأما التنظيمات السياسية فهي تنظيمات أكثر صلابة من التنظيمات الفكرية، وإن كان البون بينها وبين التنظيمات الدينية والعسكرية في ذلك شاسع، وهي تنظيمات لابد وأن تحكمها لوائح إجرائية شديدة الوضوح، والقيادة فيها إنما تكتسب شرعيتها من انتخاب القاعدة لها، ورأيها لا يفضل رأي القاعدة بشيء إلا باجتماع الأغلبية عليه، وليس فيها مجال لمفهوم الطاعة كما قدم له الإمام البنا، وإنما يستبدل ذلك بمفهوم مدني سياسي هو الالتزام التنظيمي، أي (طاعة الأغلبية) فيما ذهبت إليه من قرارات بالالتزام بها وإن كان رأي الفرد مخالفا لها، وإلا حق له أن يترك التنظيم من دون أن ينتقص ذلك من انتمائه للفكرة شيئا.
والحقيقة أن الإمام الشهيد دارت كتاباته حول الطاعة في إطار التنظيمات الثلاثة الأولى، وبنسب متفاوتة، بينما لم يمر على مفهوم (الطاعة السياسية) أو الالتزام التنظيمي في أي موضع من رسائله. وهو لم يتناول مفهوم الجمعيات الجمعيات الفكرية إلا مرة واحدة، قال فيها إن "المسلم لابد وأن يكون إماما في كل شيء، ولا يرضون بغير القيادة والعمل والجهاد والسبق في كل شيء."[1] والحقيقة أن تركيزه على هذا الجانب من الفكر، الذي يحث على التحدي الفكري وعدم القبول بالطاعة والاستكانة هو أمر في غاية الأهمية، وكان ينبغي أن تسير على ذلك كتاباته المختلفة، خاصة مع إدراكه بأن "النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام،"[2] وبالتالي فالتركيز هذا هذا الجانب فيها يحدث إخلالا أكبر بالتوازن النفسي، حيث تقنع بذلك بالكلية فلا تناقش ولا تحاور، في حين أن التركيز على الاتجاه المقابل من تنمية الشعور بالقيادة (مع مراعاة عدم إفساد القلب، وذلك من خلال التربية الروحية) يؤدي إلى توازن نفسي يدرك به الإنسان أن لرأيه قيمة، ولكنه يستطيع أن يقيم آراء المتخصصين في المجالات المختلفة وينزلها منزلتها من حيث الاحترام، وأن يدرك أن طبيعة العمل في بعض المجالات (المحددة والمحدودة) توجب الطاعة، وأن طبيعة العمل في أماكن أخرى تترك المسألة لتقدير المدعو لقياس المصلحة والمفسدة.
والحقيقة أن حديث الإمام البنا عن طاعة القيادة (عندما كانت يتحدث عنه في صورته الفكرية لا العملية التنفيذية) كان مربوطا بمفهوم الأخوة عنده، واعتبر الطاعة نتاجا للحب الذي يؤدي لارتباط جميع الشعب "بمركزها العام أوثق ارتباط وأسماه وأعلاه، روحيا واداريا وعمليا ومظهرياـ وتدور حوله كما تدور المجموعة المتماسكة من الكواكب المنيرة حول محورها الجاذب وأصلها الثابت."[3] وهذا الحب قد يكون مرتبطا بالطاعة بدرجات متفاوتة في إطار اجتماعي، كطاعة الزوجة لزوجها، أو الابن لوالديه (والأخيرة كانت بالفعل أحد تشبيهات البنا لمفهوم الطاعة، وذلك حين قال أن للقيادة على القواعد "حق الوالد بالرابطة القلبية"[4])، أما أن تكون كذلك في مسألة من مسأئل العمل العام (كالعمل السياسي والفكري) فالمفسدة من ذلك عظيمة، وذلك يدخل في إطار إدخال العاطفة فيما لا ينبغي أن تدخل فيه، ويعني بالمقابلة أن ترفض أفكار من تبغضه، وهو أمر شديد الخطورة، يناقض –إضافة لمناقضته الواضحة للقرآن والسنة- قول الإمام البنا نفسه "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول."[5] وأما إدخال مسألة الأخوة وعاطفتها كمقدمة للطاعة في مجالات العمل العسكري والديني، فالحاجة للتخصص والخبرة في كلا المجالين تبدو واضحة جلية، والفساد الذي يمكن أن ينتجه هذا الأمر لا يحتاج إلى بيان.
وحديث الإمام البنا عن مفهوم الطاعة في رسالة التعاليم يدور في فلكين، فلك العمل الفكري وفلك العمل التنفيذي، فأما في حديثه عن فلك العمل الفكري فهو يتحدث تحديدا عن مفهوم الطاعة الذي أشرنا إلي اتساقه مع العمل السياسي، فهي طاعة "ينظمها القانون الأساسي وتشرحها وسائل الإخوان وجريدتهم، والدعوة في هذه المرحلة عامة."[6] تلك (الطاعة اللائحية) كما يمكن أن نسميها، أي الالتزام بما تنص عليه اللائحة هي من صميم عمل السياسي داخل تنظيمه الحزبي، وهي ما نقول فيه أنه لا طاعة ملزمة إلا بشورى ملزمة، وذلك ليس الحال في التنظيمات الدينية والعسكرية بطبيعة الحال، بيد أنه من المهم هنا إدراك أن اللوائح التنظيمية ليست من المقدسات، وأن احترامها يعني العمل في إطارها مع إمكان السعي لتعديلها/تغييرها بالطرق التي تنص هي عليها
أما فلك العمل التنفيذي فالإمام البنا يوضح فيه أن نظام الدعوة فيه "صوفي بحت من الناحية الصوفية وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين المرحلتين دائما (أمر وطاعة) من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج"[7] وأعتقد أن هذه الكلمات توضح بجلاء رؤية الإمام للتنظيم وقت كتابتها، وهي رؤية متغيرة فيما يبدو، بسبب اللاحق عليها الذي ذكرناه في الورقة السابقة، وبسبب السابق لها الذي أشار البنا إلى أنه ذكره في رسالة المنهج، وهي غير الرسائل المطبوعة ضمن مجموعة الرسائل، ولم أجدها في مكان آخر.
المهم أن تلك الطاعة بهذا المفهوم لا يمكن وجودها إلا في الإطارين السابق ذكرهما؛ الديني والعسكري، والمؤكد هو أن الجماعة قد تخلت بالكلية عن العمل العسكري، وبالتالي فلم يعد هناك معنى لتلك الطاعة العملية التي لا تردد فيها ولا شك ولا مراجعة؛ فالتنظيمات الدينية لا تتعدى قراراتها مجالات التزكية، وهي ضيقة وإن اختلف المتخصصون في تعريف حدودها. وأما محاولة سلب هذا المفهوم ليشمل العمل السياسي والفكري فتلك كوارث فكرية حقيقية، الأدهى أنها تستدعي أحيانا ثقافة المعركة بألفاظها (القيادة، الجنود، الكتيبة، المعسكر) التي استخدمها البنا لأسباب مختلفة فيها من الصواب والخطأ ما فيها في زمنه، ولكنها غير مبررة على الإطلاق في هذا الزمن خاصة مع تخلي الإخوان عن العمل العسكري، وهي لا تستخدم إلا بسبب رغبة البعض في إضفاء مشروعية غير مبررة على مفهوم كالطاعة، ولن استطرد في هذه النقطة لأن الأولى مناقشتها في إطار المشكلات المعاصرة لتنظيم الإخوان، لا في إطار الحديث عن أفكار الإمام البنا.
والفكرة الأساسية هنا،  والتي أتمنى أن تكون قد اتضحت، هي أن عدم وضوح دور التنظيم في عين الإمام البنا كان له أثرا سلبيا على تعريفه للطاعة ومجالاتها، وبالتالي فمن المهم مراجعة هذا المفهوم بشجاعة ليتناغم مع الأدوار التي تؤديها الجماعة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بعد حسم موقف الجماعة من أداء الأدوار المختلفة، وإلى ذلك الحين فلا سبيل إلا التركيز على توضيح هذا المفهوم بأبعاده المختلفة حتى لا تزداد رقعة المرض.
أثرت رؤية الإمام البنا لدور التنظيم كذلك على رؤيته لمفهوم الثقة، والتي أشار إليها الإمام الشهيد في غير مكان ولكن ما أعني به هنا هو ما ذكره عنها في رسالة التعاليم. ومفهوم الثقة كمفهوم الدعوة لا يمكن فهمه بمعزل عن الموثوق به، وهو هنا أمور متعدده؛ هي المنهج، والقيادة، والإخوانه.
فأما الثقة بالمنهج فهي الأساس، ويجب لها فهم المنهج بعيدا عن التنظيم الذي يحمله، أي دراسته نظريا والاطمئنان إلى صحته وصلاحه على حد سواء، بحيث لا يكون أفكارا ميتة أو مميتة بحسب تعبير مالك بن نبي، وذلك دور لا يمكن أن يتم في تنظيم ديني أو عسكري على الإطلاق، واتمامه في تنظيم سياسي سيكون دوما مشوها، غير مكتمل، بل والأخطر قابل للتهدم لأن السياسة بطبعها متغيرة، ولأن المطلوب ليس الثقة في تفصيلات البرنامج السياسي، فالخلاف حولها وارد بل طبيعي وصحي، وإنما المطلوب الثقة في الفكرة المنتجة للبرنامج، ولا يمكن أن تكتمل هذه الثقة إلا من خلال جماعة فكرية، وأنشطة فكرية، تطرح وتناقش وتبين وتجيب وتأخذ وترفض وتوضح الفروق بين الأصول والفروع، وبين مناطق الإجماع والخلاف، وبين المنهج والأدوات والنتائج.
وأما الثقة في القيادة والإخوان العاملين فكان يمكن ضمها لتصبح ثقة في التنظيم، إلا أن الإمام الشهيد فضل أن يفصل بينهما لأسباب سيلحق ذكرها، فجعل الثقة في القيادة "اطمئنان الجندي إلى القائد،"[8] وهي كلمة يتضح منها الرؤية العسكرية التي تحدث عنها الإمام في حديثه عن الطاعة، وكان يجب أن يربط هذه بتلك.
إلا أن الإمام البنا جعل تلك الثقة فردية، أي أن فلانا يثق بفلان، وفي ذلك غياب للرؤية المؤسسية، التي يجب أن تنتج الثقة في المؤسسة أو التنظيم، وكانت من آثار هذه الثقة الفردية أن وضع لها البنا أركانا يستحيل توافرها على سبيل اليقين، ومن ذلك قوله "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه،" والثقة في الكفاءة ممكنة، والثقة في الإخلاص مستحيلة كونه من الغيب، وإنما يجب أن يكتفى فيه بحسن الظن، والفارق بين حسن الظن والثقة واضح نظريا، ويتضح عمليا بشكل أفضل، حيث أن الثقة في النية تنتج ما يمكن أن نسميه "النظرية الملائكية" وهي الضد لنظرية المؤامرة التي يتبناها البعض، ولا تقل عنها خطورة.
وقضية الاطمئنان إلى كفاية القائد وكفاءته كانت ما جعل الإمام الشهيد يميز ما بين الثقة بالقيادة والثقة بأفراد التنظيم، وذلك أمر طبيعي في تنظيمات دينية وعسكرية تكون درجات الطاعة للقيادة فيها أعلى من معدلاتها الطبيعية، فمن دلالات هذه الثقة – كما يقول الإمام الشهيد – أن يكون الأخ "مستعدا لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه -في غير معصية طبعا- قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا التردد ولا للانتقاص ولا للتحوير"[9] هذه درجة فائقة من الطاعة غير مطلوبة –بل شديدة الضرر – في العمل المدني، وهي تنافي العقل البشري الذي يميز ويناقش، ومن ذلك تطلبت من البنا درجات فائقة من الثقة، يستحيل تواجدها على سبيل اليقين كما سبق
أما الخطر الحقيقي للثقة الفردية فهو أنها قد تهدر الثقة بالتنظيم بأكمله إن حدث من (القائد الموثوق به) خطئا يقدح في هذه الثقة. والإخوان جماعة تتشكل من تكون بشري، افتراض وجود درجات عالية من الفهم والإخلاص والأخلاص والاجتهاد والجد فيهم جميعا هو افتراض غير معقول، ولكن الغالب على التنظيم وأساس بنيانه هو الصلاح، ومن ثم فبناء الثقة في هذا الأساس المؤسسي هو الأصلح؛ فلأن يثق الأخ في كل من يتعامل معه في الإخوان قد يعرضه لأزمة مع التنظيم أن رأى من أحد هؤلاء ما ينافي ذلك، وأما أن يثق في التنظيم فذلك معناه أنه يثق في أن المؤسسة فعالة وقادرة على تهميش الأشخاص الأقل كفاءة/اجتهادا/فهما/جدا لصالح من لهم من تلك المحاسن نصيب أكبر.
وتلك الثقة التنظيمية لا تنبني بعلاقات شخصية، وإنما تنبني بمؤسسة وضاحة، تبدأ بلوائح وآليات مؤسسية عادلة ناضجة مكتملة معروفة للجميع، وتنتهي بتفعيل واضح وحازم لتلك اللوائح والآليات؛ وشفافية تنظيمية في التعامل مع المخالفات بأشكالها المختلفة، وقد تكون الثقة بشخص مدخلا أوليا للثقة بالتنظيم، فقط بأن تهيء النفس لتلك الثقة. أما أن تكون عنها بديلا فذاك أمر خطره كبير
وبعد فهذه رؤية لبعض من أفكار الإمام البنا ومفاهيمه التي أختلف معه فيها اختلافا نابعا من أفكاره الأساسية ولا يتقاطع معها، وإنما يقدم رؤية أكثر مؤسسة لها تراعي ما أفرزته السنوات والعقود من تقدم اداري وفكري وتنظيمي، سواء أكان ذلك على مستوى الإخوان، أو على مستوى الحركة الإسلامية، أو على المستوى العام في الأمة الإسلامية والعالم أجمع، فوجب الاستفادة من هذا التقدم، وإلا كان ذلك خروجا على منهج الإمام البنا الذي سبق الإشارة إليه في الورقات السابقة، بل وخروجا على مفاهيم شرعية أساسية، كتلك المبنية على الحديث الشريف: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.


هوامش ومصادر:
  1. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة إلى الشباب، ص 180، طبعة بيروت
  2. المصدر السابق، رسالة نظام الحكم، ص331
  3. المصدر السابق، رسالة المؤتمر السادس ص 202-203
  4. المصدر السابق، رسالة التعاليم ص 364
  5. المصدر السابق، رسالة المؤتمر الخامس، ص 127
  6. المصدر السابق، رسالة التعاليم ص362
  7. المصدر السابق
  8. المصدر السابق ص 364
  9. المصدر السابق، ص 364

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق