شخصنة الفكرة وفكرة الشخصنة
حين نتأمل حال كثير من الأفكار في عالمنا الإسلامي نجدها تحولت-أو كادت- من مصدر للقوة والنهوض، إلى منبع للشقاق والجمود رغم أننا نمتلك أفكارًا تمثل المرجعية الهادية للبشرية وتُستمد منها، ولكن يبدو أن منهج تعاملنا مع هذه الأفكار يعاني من أزمات أدت إلى هذا التحول البغيض 1.
من أجل هذا بات من المهم أن نتأمل في أحوالنا الفكرية وننظر إليها نظرة شاملة نراجع فيها خطواتنا، ومناهجنا، عن طريق إلقاء الضوء على بعض المشكلات التي تعانيها في عالمنا الإسلامي، حيث نبدأ ببحث مشكلة فكرية حقيقية وهي مشكلة "الشخصنة": "شخصنة الفكرة" 2، فما هي حقيقة تلك المشكلة، وما هي أهم مظاهرها في عالمنا الإسلامي؟ وما هي مساهمتها في تحول خلافاتنا الفكرية الموضوعية إلى معارك شخصية؟ وهل من ضرورة أو فائدة تعود علينا من وجود شخص تتجسد فيه أفكارنا أم أن هذا يؤدي إلى مخاطر تجعلنا نتمهل في قبول هذه المسألة؟ وما هو موقف المرجعية الإسلامية من شخصنة الأفكار؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى شخصنة الفكرة في بلادنا على الوجه الذي نلمسه جميعًا؟ وهل من سبيل لمعالجة حاسمة لتلك المشكلة؟
هذه بعض الأسئلة والإشكالات التي سنحاول أن نناقشها في هذا المقام.. آملين أن نسهم في تقديم ما يساعد على إثارة الانتباه وشحذ الجهود للتخلص من هذا الداء الذي نرى أنه يمثل تحديًا كبيرًا يواجه الوحدة الفكرية المنشودة بين أطياف الأمة المختلفة.
ماذا نقصد بشخصنة الفكرة؟
لم أجد تعريفًا محددًا لمسألة الشخصنة فيما اطلعت عليه من مصادر تتناول تلك الإشكالية أو تتعلق بموضوعها 3، ولهذا اجتهدت في محاولة وضع تعريف مختصر أوضح فيه ما أعنيه بها على الوجه الآتي: شخصنة الفكرة: تحويلها من فكرة مجردة إلى فكرة مجسدة تتمحور في شخص معين، سواء سلبًا أو إيجابًا. وكذلك: ربطها بأمور شخصية خارجة عن موضوعها ومنهجيتها وأصولها وأدلتها، كالعواطف الإنسانية والمصالح الدنيوية والرؤى المذهبية.
وقد عرف المعجم الوسيط "الفكرة" بأنها: "الصورة الذهنية لأمر ما" 4؛ فهي بطبيعتها أمر معنوي مجرد لا ترتبط بشخص (أو بشيء) خارجها إلا على النحو الذي يساعد على فهمها أو تفسيرها لا أكثر ولا أقل. فإذا اندمجت الفكرة بعالم الأشخاص (وكذلك بعالم الأشياء) فهي لا تنتج –في الغالب- حضارة حقيقية، إلا إذا ظلت منفصلة في الوعي عن الأشخاص، لا تموت بموتهم ولا تتقلب مع تقلباتهم، وتبقى هي الحكم عليهم والميزان الذي توزن به أعمالهم.
ومؤدى هذا أن تجسيد الفكرة في شخص ما لا يعني بالضرورة وجود خطورة على الفكرة وتجريدها بل قد يكون في تجسيدها إضافة قوية لها باعتبار أن حاملها يقوم مقام القدوة التي تؤكد على إمكانية تطبيق الفكرة وتحققها، إلا أن الخطورة تحدث حين يتم التبادل في ذهن الناس بين الفكرة المجردة والشخص الذي تجسدت فيه فتصبح الفكرة طوع تصرفات الإنسان، تُعرف به وتنتهي بتخليه عنها أو بموته، عندئذ تحدث المشكلة محل النقاش.
وشخصنة الفكرة قد تكون بربطها بشخص طبيعي (إنسان)، أو شخص معنوي (حركة، جماعة، حزب، مؤسسة، شعب، عِرق… إلخ)، ولا يُشترط أن يكون الشخص الطبيعي –الذي تتمحور حوله الفكرة- حيًا، أو أن يكون الشخص المعنوي موجودًا بل على العكس من ذلك؛ فقد يكون موت الإنسان (وبالذات استشهاده) سببًا في تقديس أفكاره وجعله معيارًا عليها، يعتبر المخالف لرأيه فيها أو لمنهجه بشأنها خارجًا على الفكر الصحيح نفسه وكارهًا بل ومحاربًا لهذا الإنسان 5، أو عكس ذلك كله إذا كان صاحب الفكرة من المغضوب عليهم أو الضالين –في نظر المشخصين- فتُحتقَر أو تُبخَس أفكاره الغث منها والثمين6!
من مظاهر الشخصنة
يتوجب علينا أولاً أن نؤكد على حقيقة بالغة الأهمية في الموضوع الذي نحن بصدده، ألا وهي أن مرض "شخصنة الفكرة" ليس مرتبطًا بحضارة أو بأمة دون أخرى، بل يعاني منه الناس في العالم أجمع ولكن بنسب متفاوتة؛ فالغرب –على سبيل المثال- يعاني من أنه يجعل من نفسه محور الكون ومركزه، وأن الحكمة متجسدة في الرجل الأبيض وحده، وأن أفكاره معيارية بالنسبة لما ينتجه العالم كله من أفكار، بل إن الآخر نفسه لا يعتبر موجودًا إلا إذا (اكتشفه) الغربيون7!
ومن نماذج الشخصنة كذلك ما يتعلق برؤية "اليهود" لأنفسهم على أنهم "شعب الله المختار"، وزعمهم أن الله سبحانه قد فضلهم على العالمين واختارهم ليكونوا أصفياءه من دون خلقه، لا لصفات موضوعية فيهم ولكن لذواتهم، ولهذا فلم يروا إلا أنفسهم وقالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ 8 سَبِيلٌ} (سورة آل عمران: 75) فحرموا الظلم وسوء الخُلق بينهم فقط وأحلّوه مع غيرهم، فربطوا القيم بذواتهم ومصالحهم وكأنهم هم المعيار عليها!.
أما عن عالمنا الإسلامي فعلى الرغم من تميزه عما عداه فإنه يئن هو الآخر تحت وطأة الشخصنة؛ ونورد هنا بعض من المظاهر تمثل أبرز أعراض هذا الداء الدفين الذي لم يسلم منه كثير من المسلمين:
1) الجمود على الموجود وتسييد التقليد:
فالربط بين أخلاق الأولين وتقواهم وبين ما توصلوا إليه من أفكار أحد الأسباب وراء تهيب البعض من مخالفتهم في الأفكار التي انتهوا إليها حتى ولو كان الأولون أنفسهم قد بدلوا فيها في حياتهم ونهوا عن تقليدهم، ولو علم المقلدون والداعون إلى التقليد أن الأفكار ليست وليدة البر والتقوى وحدهما ، ولا التقارب الزمني من عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي نتاج عوامل كثيرة تختلف باختلافها وتتأثر بوجودها، ومنها الظروف والأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة… إلخ، ولو أدركوا أن الأولين على عظم قدرهم يخطئون ويصيبون لأنهم ليسوا معصومين، لعلموا أن في تقديس أفكارهم وشخصنتها ظلم لأنفسهم بل ولأصحابها لأنهم ما كانوا ليرضون أن توضع أفكارهم في غير الموضع الذي أرادوا، أو أن يتسبب التمحور حولها في فوات تحقيق مصالح المسلمين بعد أن كانوا ينشدون منها تحقيق تلك المصالح في الدنيا والآخرة فيما لا يخالف نصوص الشريعة ومقاصدها 9.
وكذلك الأمر بشأن "المفتونين" بالغرب في عالمنا الإسلامي؛ إذ حسبوا أن تقدم الغرب في -العلوم المادية بالأساس- يعني تقدمهم في كافة النواحي بما فيها العلوم الإنسانية والاجتماعية، فاعتبروا أن كل ما يأتي من الغرب معيارًا وحاكمًا على غيره، فاتبعوه شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخل في جحر ضب لدخلوه، ورضوا به مرجعًا وملاذا، وحرموا الاجتهاد في الأفكار الوافدة منه ودعوا إلى تقليده في كل شيء، ووصل الأمر إلى أنهم لا يقنعون بما وصلنا إليه أو ما اعتنقناه من مبادئ إلا إذا اعترف بها الغرب وأقروها، وقد عبر عن هذا أحد أساتذة القانون بقوله: "ومما يجدر ذكره أن بعض النظم التي سبق إليها فقهاء الشريعة عجزت عن إقناعنا بجدواها، فلما ارتدت زيًا غربيًا بهرتنا فاعتنقناها"10!
وهذه شخصنة للأفكار، وتقليد أسوأ من سابقه لأنه يعني الاستلاب، والانسلاخ من الذات والتخلي عنه لحساب الآخر {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (النور:39). فضلا عن أنهم يشخصنون أفكارًا بشرية -في الغالب- يرد عليها كافة ما يمكن أن يرد على الفكر البشري من نقص وقصور، على عكس المشخصنين على الجانب الآخر الذين يشخصنون أفكارًا في معظمها مستمدة من الوحي المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين أيديه أو من خلفه.
2) تحويل خلافتنا الفكرية إلى معارك شخصية:
فجعل الفكرة مرتبطة بالأشخاص يُحيل الحوار الموضوعي حول الفكرة إلى سجال شخصي قد يتحول إلى معارك شخصية تستخدم فيه أسلحة التدمير الشامل لمعنويات المختلفين! وتكفي نظرة واحدة إلى عدد من البرامج الحوارية في بعض القنوات الفضائية لنعرف مدى ما وصلنا إليه من انحدار في كيفية إدارة الحوار حتى لا يكاد ينتهي الحوار الهادئ إلا وقد تعارك المتحاورون بالأيدي قبل الألسنة.
وقد حدث قريبًا أن اختلف بعض علماء المسلمين ومفكريهم بشكل علني (لأنهم غالبًا ما يختلفون في الأماكن المغلقة بشكل لا يؤثر على علاقاتهم الودية فيما بينهم)، وذلك حول قضية فكرية معينة، فما كان من بعض تلامذة وأتباع هؤلاء وأولئك إلا أن حولوا الاختلاف الفكري الموضوعي إلى خلاف شخصي وهاجم أتباع كل طرف الآخر وأخذ يشكك فيه وفي أغراضه وصوره على أنه عميل لهذه الدولة أو تلك، أو أنه من "المؤلفة قلوبهم"، متناسين أن أولئك العلماء والمفكرين المختلفين أصحاب تاريخ نقي شامخ قضوه في خدمة دينهم وأمتهم، وأنهم حتى لو أخطأوا في موقفهم في تلك القضية فهي زلة العالم أو كبوة الجواد11!
ولو ابتعد الناس عن الشخصنة وناقشوا القضية مناقشة هادئة تركز على موضوع الخلاف وإدارته بما يحقق مصلحة المسمين، لا بما يؤيد رأي هذا العالم أو ذاك المفكر، ما وصلوا إلى هذا الحال من الخصومة والشقاق والطعن في علماء الأمة ومفكريها؛ فهم في أشد الحاجة إلى جهودهم جميعًا في الذب عن دينهم والذود عن الإسلام وقيمه ومبادئه، وتوجيه المسلمين وإرشادهم إلى ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة.
3) جعل الفكرة المشخصنة (لا الحكمة المجردة) وكأنها ضالة المؤمن:
فعلى الرغم من أن ديننا الحنيف أمرنا بأن نتبع الحكمة (المجردة) من أي مصدر جاءت: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" 12، فإننا شخصنَّا هذه الفكرة وجعلناها ضالتنا؛ ففكرة "الإصلاح" –على سبيل المثال- شخصنّاها، فبتنا ننتظر "المهدي (المنتظر)"، و"صلاح الدين الأيوبي"، و"مجدد القرن"، فانشغلنا بالأشخاص عن القيمة نفسها، وبالأماني عن العمل، وبالتقليد عن الإبداع، وبالقعود والانتظار عن الجهاد، وأصبح الإصلاح المشخصن ضالتنا!.
والأمر نفسه بالنسبة "للفساد" فأصبح هو الآخر ينحصر في شخص الحاكم أيا كان، وظن البعض بأن طريق القضاء على الفساد يكمن في التخلص من الحاكم، فأصبح التخلص منه- أو استبداله- في ظنهم وكأنه ضالة المؤمن! وقد وقع بالفعل أن قام ثلة من هؤلاء باغتيال أحد الحكام للسبب نفسه –وهو الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ففوجئوا أن الفساد من بعده زاد واستشرى، وأن اختزال عوامل الفساد في شخص الحاكم –وحده- كان خطئًا كبيرًا.
4) غيبة الفكر المؤسسي:
فشخصنة الفكر أودت بنا إلى فكر الشخصنة، فأصبحت الشخصنة سمة أساسية ليست في فكرنا وحده بل وفي حياتنا العملية كذلك، فغاب الفكر المؤسسي وتحققت مقولة مالك بن نبي: "إن المؤسسات التي لا تجد سندها في الأفكار تبدو محكومًا عليها بالفناء" 15، وكادت تنعدم مؤسسة الفكر، فماتت أفكار مع موت أصحابها، وتبعثرت جهودنا العلمية والفكرية لعدم وجود مؤسسات تقوم بالرعاية والإشراف عليها، وإذا وجدت المؤسسات تشخصنت قيادتها، وتشخصنت معايير الالتحاق بها حتى بات المُعيَّنون فيها من أهل الثقة والقرابة لا من أهل القدرة والكفاءة والأمانة، وإذا تغير القائد أو المدير تغيرت كل السياسات والأفكار بل وتغير الأشخاص، حتى وصلنا إلى "شخصنة الدولة" نفسها، على حد تعبير أستاذنا المستشار الجليل طارق البشري.
والمؤلم أن الشخصنة طالت بعض المؤسسات الإسلامية، ولهذا قصر عمرها وذهب ريحها، وبات عمر الأفراد أطول من عمرها، مما جعل أحد مفكري الأمة، وهو أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، يعلق –متألمًا- على التهديد بغلق مؤسسة إعلامية إسلامية بأنه شهد حتى الآن بداية ونهاية عدد من المؤسسات الفكرية الإسلامية، مع أن الأصل في المؤسسة أن تكون أطول عمرًا من الأفراد!
مخاطر الشخصنة
شخصنة الفكرة تضعف الفكرة نفسها وتعيق الوصول للحق والحقيقة، وتضعف المشُخِّصِين، وذلك على التفصيل الآتي:
أ. بخصوص إضعاف الفكرة فلم يكن مالك بن نبي16 مبالغًا حين ذكر -في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)- الفارق بين الفكرة "المجسدة" و"الفكرة المجردة" وأكد ضعف الأولى وهوانها إلى أن تتجرد، وقوة الثانية طالما لم "تتشخصن"، فأشار إلى أن الاستعمار [وشقيقه: الاستبداد] يسهل عليه القضاء على الفكرة المجسدة عن طريق استعمال القوة ضد صاحبها أو إغوائه، على عكس الفكرة المجردة التي يجد صعوبة هائلة في القضاء عليها، فيحاول شخصنتها من جديد حتى يتمكن من التخلص منها أو تشويهها.
والشخصنة تعوق إثراء الفكرة في جو طبيعي تتلاقح فيه الأفكار وتتبادل فيه الآراء، كما تحجب عنها الاجتهاد الموضوعي الذي يطرحها طرحًا يركز على المحتوى والمضمون، فتقع في أسر الشكلية والتقليد الذي يجمدها أو يبتعد بها عن مقاصدها أو قيمها مما يؤدي بها إلى أن تمسي أفكارًا "ميتة" لا حياة فيها، أو تبقى شعارًا تنطق به الألسنة دون أن تغوص في القلب أو تُصدَّق في الواقع، وإن غاصت أو صُدِّقَت فإنها تكون كالقطار الذي ينطلق بسرعة ولكن بعيدًا عن قضبانه أو عن هدفه الذي يرنو إليه فينطلق إلى حتفه.
كما أن تقديس الفكرة قد يخفي ما في بعض جوانبها من عوار يقتضي التعديل والإصلاح، وقد يؤدي بخسها حقها -المبني على شخصنتها- إلى قتلها في مهدها قبل أن تأخذ ما تستحق من الدراسة والتمحيص، فقد تكون فكرة طيبة كشجرة طيبة قد تؤتي أكلها كل حين لولا التسرع في هدمها لاعتبارات شخصية بحتة.
ب- وأما بخصوص المشُخِّصِين فإنهم ينقسمون إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: وهم الذين تتجسد فيهم الفكرة وتتمحور حولهم، وهؤلاء بدورهم يختلف وضعهم بحسب ما كان التمحور حول الفكرة بالتقديس أم بالتبخيس:
أولاً: الشخصنة بالتقديس: فالذين تتمحور حولهم الفكرة قد ينخدعون ويظنون أنهم طالما أبدعوا الفكرة أو لفتوا النظر إليها باتوا أوصياء عليها فيصبح من يعبر عن رؤية أو وجهة نظر مخالفة معتديا طاعنا في كرامتهم متطاولا عليهم فينافحون ويفتخرون ويوجهون تلاميذهم فيحتشدون، فيظلمون المخالف الذي ما أراد إلا الوصول إلى الحق، ويظلمون تلاميذهم بجعلهم يجاهدون في المعركة الخطأ، ويظلمون أنفسهم بالكبر الخفي أو تضخيم الذات على حساب الموضوع، أو بالاستسلام للمدح والثناء على حساب تقبل النقد البناء!
ثانيًا: الشخصنة بالتبخيس: وعلى العكس ممن تجسدت فيهم الفكرة بالمدح والتقديس والثناء يكون حال من تم شخصنة الفكرة فيهم بالقدح والتبخيس، فقد تضعف ثقتهم بأنفسهم وبأفكارهم فيتخلوا عنها على الرغم من أنها قد تكون صحيحة نافعة فاعلة ناجعة، ولكن المقاومة الشديدة لأفكارهم والنقد الهدام لها يؤثر عليهم بالسلب. كما وأنهم قد لا يجرؤن -أصلاً- على الإعلان عن أفكارهم لكونها أفكارًا تجديدية قد يفقدهم الإفصاح عنها احترام الناس لهم، ويؤدي إلى التشكيك فيهم وفي دينهم! فيؤثرون السلامة –حسب ظنهم- ويكتفون بكتمانها في الصدور لتموت معهم، ويتناسون قوله تعالى {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب:37) والسياق الذي وردت فيه تلك الآية17.
وأما الطائفة الثانية: فهم الذين يبتلون بتشخيص الفكرة المجردة فيخلطون في الحكم عليها بين الاعتبارات الموضوعية18 المتعلقة بالفكرة، والمشاعر الشخصية تجاه قائلها، أو يحددون موقفهم منها بمدى تحقيقها مصالحهم الشخصية الدنيوية المادية منها والمعنوية، وهؤلاء من أكبر الخاسرين؛ لأنهم بذلك قد يتخلون عن أفكار صحيحة كانت كافية لتقدمهم لولا بغضهم لقائلها، وقد يتبنون فكرة خاطئة لمجرد أن صاحبها من المقربين.
وسواء كانت الشخصنة بالتقديس أو بالتبخيس فإنها تؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه "موت الإبداع"، بعد أن بات المعيار يتركز في القبول والإعجاب والعلاقات الشخصية، فينصرف المبدع، أو الذي ترشحه قدراته للإبداع، إلى محاولة بناء العلاقات على حساب تنمية قدراته ومهاراته الذاتية، أو ينزوي بعيدًا يملؤه الشعور بخيبة الأمل والإحباط، أو يهاجر فارًا بنفسه وعقله، ومن هنا نفهم حالة هجرة العقول التي يعاني منها العالم الإسلامي والنجاح المبهر لكثير منها في الخارج19.
المرجعية الإسلامية وشخصنة الفكرة
يمكن القول باطمئنان أن المرجعية الإسلامية ترفض منذ بدئها شخصنة الفكرة، ولن نجد عناء في ذكر بعض النماذج الواضحة المؤكدة على ذلك من نصوص القرآن الكريم ومن السنة النبوية، ومن سنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ على النحو الآتي:
1- مبدأ التوحيد: فمن مقتضيات التوحيد رفض وجود واسطة بين الإنسان وربه أو وجود وصاية من أحد على المسلم؛ إذ إنه من المعلوم أنه لا كهنوت في الإسلام، وليس فيه واسطة بين العبد وربه يتجسد فيها الإسلام وتعطي صكوكًا للغفران، وقد أخذ القرآن على بني إسرائيل والنصارى أنهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللهِ} (التوبة:31)؛ ولهذا فلا يوجد في الإسلام طبقة تسمى بـ "رجال الدين" بل هناك "أهل ذكر" لا يفرقون عن غيرهم إلا في أنهم تفرغوا للعلم الديني ودرسوه وتخصصوا فيه وهو أمر متاح لمن سعى وأراد. وأهل الذكر ليسوا حكمًا على الدين بل الإسلام حكم عليهم بنصوصه ومقاصده وقيمه.
والكهنوتية في حقيقتها هي شخصنة للدين -نصوصه وقيمه ومبادئه المجردة- في أناس يحتكرونها من دون الناس ويقيمون أنفسهم حكمًا عليها وميزانًا توزن به.
2 - التمييز بين الرسالة وشخص النبي صلى الله عليه وسلم: ونجد الأمثلة على ذلك كثيرة:
أ- فالرسالة لم يكن اسمها (المحمدية) -على نسق المسيحية مثلاً- بل سُميت باسم الفكرة ذاتها وهي (الإسلام)، فهذا فصل كامل بين العقيدة (الفكرة) وبين حامليها من الناس والرسل وغيرهما من "الأشخاص" على رفعة قدرهم ومقامهم عند الخالق سبحانه. ولهذا أطلق الدكتور محمد فتحي عثمان –رحمه الله- على الدولة الإسلامية مفهوم "دولة الفكرة" في كتابه الذي أسماه بالاسم ذاته: "دولة الفكرة"، واعتبرها هي الدولة الوحيدة في التاريخ التي قامت على الفكرة المجردة وحدها.
ب- ويرتبط بما سبق أن القرآن استنكر أن يرتبط إيمان المسلمين بالإسلام بوجود النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فيرتدوا عن العقيدة بمجرد وفاته، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144).
3- أن الإسلام ربط خيرية الأمة الإسلامية بتحقق شروط موضوعية، لا شخصانية عرقية، على عكس ما يعتقد اليهود على النحو الذي أشرنا إليه سلفًا. فالمسلمون خير أمة أخرجت للناس إذا ما توفرت فيهم الشروط التي أوجزتها هذه الآية الكريمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (آل عمران: 110).
4- تأكيد الإسلام على أن معيار الأفضلية بين المسلمين هو التقوى والعمل الصالح: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)، "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"20. وإذا كان هذا الحديث يُستدل به على مبدأ المساواة بين الناس فإنه يصلح كذلك للاستدلال على أن الإسلام يرفض الشخصنة في تقويم الناس ومن باب أولى في تقدير أفكارهم؛ فلا يصح أن ترتبط الفكرة بشخص قائلها عربيا كان أو أعجميا أبيض أو أسود؛ فـ"الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إنما الفضل بالتقوى"21.
5- كما نجد في أمر الإسلام بالإخلاص والتجرد في طلب الحق، نهيا عن شخصنة الحق (وهو فكرة مجردة)، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)، فينبغي أن يكون المسلم عينه دائمًا على الإصلاح، ولا يرنو إلا إلى غاية واحدة وهي الحصول على رضا الله تعالى، فلا يخلط سعيه وفكره بمآرب دنيوية أو مصالح شخصية زائلة أو مشاعر سلبية، أو حتى علاقات أخوية، فيمتنع عن الاعتراف بالحق لأنه يكره قائلَه، أو يسعى إلى تأييد الباطل لأنه في مصلحة حبيبه.
ولذلك قال الإمام القرطبي تعليقًا على رفض قوم نوح الانتساب إلى دينه الذي اتبعه -بحسب زعمهم- الأرذلون بادي الرأي: "والحق لا يعرف بقائله، ولكن يعرف بنفسه، ويجب قبوله دون النظر إلى قائله"، وقال: "فالحق يجب قبوله، سواء أقاله الفاضل أم المفضول، الحق أعلى من كل شيء"22.
6- وحث الإسلام على الاجتهاد ونبذ التقليد يُعد رفضًا كذلك لشخصنة الأفكار؛ لأن الاكتفاء بتقليد الأئمة لا يعدو كونه شخصنة للفكر يأباه العقل السليم، ولهذا فإن المنظومة الفقهية الإسلامية قائمة في الأساس على أنه "لا يقبل قول دون دليل"، لأن العبرة بالدليل لا بشخص القائل، وقد وجدنا تطبيقات هذا القول تمتد بامتداد التاريخ الفقهي الإسلامي، فليس في الإسلام مذهبًا وحيدًا فقط، اتبعه الناس واكتفوا به تقليدًا، بل هناك تعدد للمذاهب الفقهية لتصل إلى أربعة مذاهب مشهورة وأخرى لم تشتهر كمذهب الإمام الأوزاعي ومذهب الإمام الثوري وغيرهما، وفي داخل كل مذهب هناك تعدد كذلك للآراء؛ فكثير ما وجدنا أن في المذهب الواحد آراء متعددة تخالف صاحب المذهب في قليل أو كثير من اجتهاده. وقد نقلت أقوال كثيرة عن أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة تنهى عن اتباعهم بشكل أعمى، ومن ثم عن "شخصنة أفكارهم"؛ مثل قول الإمام أبى حنيفة: "إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله -تعالى- وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي"23، وقول الإمام مالك: " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" 24، وقول الإمام الشافعي: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله ودعوا قولي"، وفي رواية "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" 25، وقول الإمام أحمد ابن حنبل: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا" 26، وكان شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل"27.
من أسباب الشخصنة
تتنوع الأسباب المؤدية إلى شخصنة الفكرة وتختلط بحيث يصعب تصنيفها تحت عنوان واحد؛ فهي خليط من أسباب خُلُقية، وأسباب نفسية، وأسباب عقلية "فكرية"، وسنكتفي بالحديث عن بعض من هذه الأسباب:
1) الغيرة والحقد: فقد تؤدي غيرة الإنسان أو حسده أو حقده على صاحب الفكرة أو من طرحها إلى رفض فكرته والسخرية منها، على الرغم من أنه في داخله يعلم بأنها فكرة صحيحة وصالحة ولكن حقده يجعله يشخصنها ويهاجمها.
2) ضعف الثقة بالنفس: فإن الإنسان إذا ضعفت ثقته بنفسه سلم قياده لغيره وذاب في فكره، ومن هنا تأتي مشكلة القبول الشامل لفكر من يحوز ثقته ليعوض بها المشخصن القصور في إيمانه بقدرته العقلية على التمييز بين الأفكار الحسن منها والسيئ. وقد رأينا من نتائج ذلك -على سبيل المثال- أن أعرض البعض ممن حاز مرتبة الاجتهاد من ممارسته لعدم ثقتهم بأنفسهم فلجئوا إلى مجرد النقل والتقليد عن السابقين وعمل الحواشي على أعمالهم، ووقفوا مدافعين عن أفكارهم ضد من يخالفهم ممن حباه الله بالعلم والثقة بالذات وعلم أن الاتباع الحقيقي للسابقين في الأخذ من الدليل الذي أخذوا منه بعد امتلاك أدوات التعامل معه.
3) الإعجاب والافتتان: فالإنسان إذا أعجب بإنسان وافتتن به وقع في أسره فلا يرى فيه عيبًا ولا يتصور منه خطأً، وقد رأينا من يفتتن بعالم الفقه فيأخذ منه الحديث ويكذب المحدثين إذا خالفوه، ورأينا من يعتبر المفكر فقيهًا، والفقيه خبيرًا في علم الاقتصاد ويعرف فيه أكثر من أهله. ورأينا أسوأ من ذلك، وهو الاعتقاد بعصمة بعض الأشخاص من غير الرسل، وهذه هي أقبح صور الشخصنة على الإطلاق.
وقد يكون الإعجاب والافتتان بالذات وليس بالغير، فيصاب المفتتن بنفسه بداء شخصنة أفكاره واعتبار أنه بات وصيًا عليها ليس من حق أحدٍ أن يخالفه فيها أو حتى يناقشه، وإذا خالفه أحد في فكرة من أفكاره تجده يساجل وكأنه ينافح عن كرامته وعرضه، وإذا عجز عن مقاومة الحجة بالحجة يبدأ في الالتفات إلى شخصية مخالفه يبحث فيها عن عيوب سلوكية، أو سقطات أخلاقية عسى أن يلفت النظر إليها بعيدًا عن "فضيحته الكبرى" بعد أن استطاع مخالفه أن يكشف سوأته، ويجرح كبرياءه!
4) الجهل: فالجاهل لا يدرك حقيقة وخطورة تجسيد الفكرة أو محورتها حول إنسان يصيب ويخطئ ويعتريه النقص ولا تُؤمَن فتنته أو أن يضل وينسى، أو يخضع لهواه فيشقى.. فلو أدرك ذلك حقيقة لكان أشد حرصًا على التمييز بين الفكرة وبين مبدعها أو الداعي إليها من الناس، ولكنه –بجهله- يظن أنه بهذا أبعد عن الخطأ وأقرب إلى الصواب، وأحوط له من إعمال عقله القاصر، فيتبع الفكرة –مثلاً- لمجرد صدورها عن مؤسس جماعته جاهلا حقيقة أنه لا أحد من البشر يحتكر الصواب فكل بني آدم خطاء.
5) التعصب: فالمتعصب لا يرى إلا رأيه أو رأي من يحب، ويعتبره صوابًا لا يقبل الخطأ، ورأي غيره خطأ لا يقبل الصواب، ومن هنا تتشخصن عنده الأفكار فيقبل –مثلا- الفكرة التي تصدر من جماعته أو تياره أيا كانت ضحالتها، ويرفض ممن يخالف ولو كانت فكرته بالغة الصحة والأهمية. والعجيب أن الفكرة الواحدة إذا طرحت ممن يتعصب ضده رفضها، وإذا طرحت بعد ذلك ممن يتعصب له قبلها وقد يكيل لها المدح والثناء، وهذا أمر مشاهد وملحوظ في الواقع للأسف الشديد.
وإذا تلفتَّ يمينًا أو يسارًا، لاسيما في هذا الزمان، تجد أن العصبية هي العامل الأعظم وراء شخصنة الفكرة، ولهذا اختار لها نبي الله وصفًا لم يتكرر منه قط –فيما أعلم-، وقال: "دعوها فإنها منتنة" 28، وإذا كان الصحابة استجابوا على الفور للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن بعض الناس في الواقع المعاصر، لم يستجيبوا لدعوة النبي وتراهم يتعصبون كما يأكلون ويشربون.
معالجة الشخصنة
قد يتوقع القارئ أن نطرح رؤية حاسمة في معالجة الشخصنة وأن نرسم له "خريطة طريق" إلى التخلص من هذا الداء، كما أنه قد ينتظر أن نعالج ما أوردناه من أسباب لها واحدًا تلو الآخر، ولكننا نعتذر له عن ذلك، ونقرر أننا لا نملك حلولا سحرية؛ إذ إن الشخصنة داء متأصل فينا، أسبابه عديدة، معقدة، متداخلة، ولذا لم نوردها جميعًا بل أشرنا إلى بعضها فقط آملين أن نتوسع فيها في موضع آخر، ولكننا سنشير هنا إلى بعض من السبل التي نعتقد أن الوعي بها والعمل على تفعيلها يمثل خطوات مهمة في سبيل القضاء على هذا الداء الخطير:
1) التربية على التمييز بين الأشخاص والأفكار:
يجب أن نربي أنفسنا على عدم تقديس الأشخاص، وأن يكون تركيزنا فقط على الفكرة ومدى صحتها، وأن نفصل بين الفكرة وقائلها فلا يجرمننا شنآن قوم على ألا نعدل، ولا يدفعنا حب أو ود أو مصلحة إلى عدم الأمانة في التعامل مع الفكرة والتنادي بصلاحيتها وعمقها على تفاهتها لمجرد أن صاحبها من أولي القربى، يجب أن نربي أنفسنا على أن قوله تعالى: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152) ليس موجهًا فقط للحكم بين الناس بل هو شامل كذلك للحكم على أفكار الناس فلا نظلمهم بتقديس أو تبخيس في غير محلهما.
ومن الأمور المهمة في هذا المقام التنبيه إلى أن البعض يطبق دون أن يدري، قواعد علم "الجرح والتعديل" في حكمه على الأفكار، جاهلا أن هذا العلم وضع ليسهم في تبين مدى صدق الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نعتبره معيارًا على فكر البشر، الذي لا حاجة لنا لمعرفة عدالة حامله من الناحية السلوكية، إلا على سبيل الاستئناس؛ إذ إن الفكرة إذا صرح بها صاحبها انفصلت عنه وخضعت للفحص والتمييز في ذاتها، على عكس الخبر والرواية التي توفي أصحابه ولا سبيل من تبين صحته إلا بالنظر أولاً في مدى عدالة ناقله أو مبلغه.
2) تنقية الصدور مما يوغرها:
يجب أن نغرس في أنفسنا سلامة الصدر فلا نحمل غيرة ولا حقدًا لأحد كان مسلمًا أو غير مسلم؛ لأن الأخلاق لا تتجزأ والمسلم مأمور بها في كل حال، ومع كل الناس المفسد منهم والمصلح؛ لأنه ليس "إمعة"؛ فهو يعامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، ويحسن إليهم ولو أساءوا إليه، فيفعل الخير في أهله وفي غير أهله لا يريد منهم جزاءً ولا شكورا، ومن فعله الخير أن ينصف في فهمهم ولا يحمل كلامهم على محامل شخصية بل موضوعية.
3) تدعيم الثقة في النفس:
يتعين علينا أن نثق بأنفسنا دون عجب أو افتتان، نثق في أنفسنا لأننا مكرمون من خالق الكون، حبانا بنعمة العقل وحملنا الأمانة لننظر ماذا سنفعل؛ فلا يجوز لنا بعد هذا أن نهدر نعمته ونستغني عن عقولنا ونسلمها لمخلوق آخر ليشكلها لنا كيفما شاء واهمين أنه امتلك الحق وحده، وكأن عقله مخلوق من مادة أصلح مما خلقت منها عقولنا، فنحن لم نعدم التمييز والإدراك ولا ينقصنا سوى بذل الجهد المعرفي المطلوب لتمحيص الأفكار وتبيان السقيم فيها من الصحيح والأولى بالترجيح، لا وفقًا لشخص قائلها ولكن وفقًا لعناصر الفكرة ومنهجها وفاعليتها.
4) التوعية بفقه الاختلاف وآدابه:
وهذا في الأساس موجه إلى الدعاة والعلماء والأعلام والإعلام؛ فهم الذين يشكلون الوعي ويبنون الوجدان فإنه يجب نشر ثقافة الاختلاف وآدابه بين الناس والتي من أهمها التركيز على الموضوع لا الأشخاص، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية، وأنه يجب الإعذار للمخالف وإحسان الظن به.
وينبغي على العلماء والخطباء أن يقدموا دائمًا القدوة الصالحة في رفض شخصنة الأفكار وتقديس الأشخاص، وبيان أنه لا عصمة لأحد من البشر أيا كان، وأن انتقاد فكرة لا يعني نقض منتقدها، حتى ولو كانت الفكرة المنتقدة لشيخ من شيوخ الإسلام طالما التزم المنتقد الأدب والمنهج العلمي الموضوعي ولم يحوّل نقده إلى غمز ولمز لصاحب الفكرة أو تقليل لشخصه وقيمته؛ فهناك فارق كبير بين مناقشة الفكرة باستقلالية والطعن في صاحبها والتقليل منه.
5- تجنب التعصب:
وهذا من أهم سبل علاج الشخصنة، وأصعبها، إذ يبدو أن التحيز والتعصب غريزة في الإنسان لا ينتصر عليها إلا قليل، ويبدو أن ذلك كان وراء استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للمقولة الجاهلية في هذا الشأن "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" فأبقى عليها بعدما هذبها وأصلح مقصدها، فقال بعدما تعجب صحابته رضوان الله عليه وسأله أحدهم: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال تحجزه - أو تمنعه - الظلم فإن ذلك نصره 29. فإذا كنت متعصبًا لا محالة لأخيك فانهه عن ظلمه، لا أن تسانده فيه، وتبع من آخرتك لحساب دنياه!
وليس الدافع إلى التعصب مذمومًا في كل الأحوال، بل قد يكون نبيلا مثل مناصرة العالم المسلم ضد المفكر غير المسلم خشية افتتان العوام بالأخير فيحقرون من أفكاره كلها ولو صدق بعضها، ويعظمون أفكار العالم جميعها ولو لم تصح بعضها، وهكذا .
وليت هؤلاء يعلمون حقيقة المنهج الإسلامي في هذا الشأن، إذا لم تمنع المواجهة بين أهل الكتاب والمسلمين من أن ينصفهم ويقرر أنهم {لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113)، وأن منهم {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (آل عمران: 75)، وأن ينتصر لصاحب الحق اليهودي على خصمه المسلم بكلمة خالدة ليتنا نتأملها، ونتعامل بها مع الناس أجمعين: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (آل عمران، 105).
والإسلام قوي بذاته، لا يطلب منا أن نتعصب لرأي أحد والدفاع عنه، بل يعلمنا أن الأولى من ذلك أن نلتزم بأوامر الإسلام، وننتهي عما نهى عنه، أن نتحلى بقيمه ونَعِي مقاصده، أن نحيا به ونموت في سبيله، إذا فعلنا ذلك فلن يكون هناك ما يضطرنا إلى التعصب سوى للحق وحده مجردًا، وعندئذ نكون قد أطعنا ما أمرنا به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8).
يجب على الجميع أن يحتشدوا لمنع شخصنة الأفكار وجعلها سببًا لإفساد ذات البين بدلا من أن تقوم بدورها المنشود من إصلاح بين الناس وإصلاح للناس.
الحمد لله
———————————————————————————————————————————————