الأربعاء، 25 يوليو 2012

مثلث الريبة فى المشهد المصرى… فهمي هويدي

ما يحدث فى مصر الآن ليس مدهشا فقط ولكنه مريب أيضا، لذلك فنحن مدعوون لئلا نأخذ الأمور بظاهرها، وان نفكر جيدا فى هوية الأطراف التى تحركها وحقيقة الأهداف التى تتوخاها.

(1)

جبان وعميل للأمريكان. هذان الوصفان أطلقهما على الرئيس محمد مرسى، عضو فى مجلس الشعب عن حزب المصريين الأحرار، الذى أسسه السيد نجيب ساويرس. وقد ورد الاتهام فى ثنايا خطبة ألقاها العضو المذكور أمام مؤتمر أقيم بمركز مؤتمرات الأزهر بمدينة نصر. ودعا إليه تكوين جديد باسم «التحالف القبطى الصوفى». وقد نشرت صحيفة «المصرى اليوم» عرضا لوقائعه فى العدد الصادر يوم 18 يوليو الحالى. ولم يكذب الكلام، وإنما مر كأن الاتهام شىء عادى لا غضاضة فيه ولا مؤاخذة عليه.

الهجوم على الرئىس مرسى ليس جديدا، ولكن تصعيده إلى حد وصف الرجل بالجبن والعمالة يصيبنا بدهشة بالغة. قبل أيام قليلة وصف أداؤه بالبلطجة السياسية فى عنوان صحفى، وأشار إليه عنوان صحفى آخر بأنه «الرئيس الفضيحة»، وحين تسلم السلطة نشر أن «الفاشى» وصل إلى قصر الرئاسة. وفى أحد الأعداد ذكر عنوان تصدر الصفحة الأولى باللون الأحمر أنه «رئيس تحت الصفر». كما أشارت صحيفة أخرى إلى أن عضوا بالكونجرس تحدث عن أن أمريكا اشترته بخمسين مليون دولار!

هذا قليل من كثير تحفل به الصحف المصرية الصفراء فى الأغلب. وهو ليس نقدا للرجل مما ندعو إليه ونشجعه، ولكنه سب علنى وقذف يعكس المدى الذى ذهب إليه البعض فى التطاول والاجتراء بعدما رفع الإصر عن الإعلام المصرى وعن كل مصر بعد الثورة. ولأول وهلة يبدو الأمر وكأنه من قبيل الانفلات الذى أصاب وسائل الإعلام بعد سقوط الرئيس المقدس والإله وانتخاب رئيس ليس مجرد مواطن عادى فحسب، ولكنه من الإخوان أيضا. والأول مهدور الحق، والثانى مستباح عرضه وكرامته.

ما يلفت النظر فى حملة الحط من كرامة الرئيس ان الذين يشاركون فيها لم نعرف عنهم جرأة ولا شجاعة فى مواجهة السلطان، وانما عهدناهم حملانا وديعة لم يتجاوز حلمها حدود الانضمام إلى حاشية السلطان واستجلاب رضاه. من هؤلاء أيضا نفر من أهل القضاء تطاولوا حتى وجهوا إلى الرئىس انذارا طالبوا فيه بالتراجع عن قرار له خلال 36 ساعة وراحوا يسخرون منه ويلمزون فيه، فى حين سكتوا ولم نسمع لهم صوتا يحتج على تزوير الانتخابات فى السابق. وكنا قد رأيناهم حينما تستروا على تسفير المتهمين الأمريكيين فى قضية التمويل الأجنبى ولم يروا فى تلك الصفعة العلنية أية إهانة للقانون أو القضاء.

هذا الاستقواء على رئيس الجمهورية إلى حد اتهامه بالجبن والعمالة ليس أمرا عاديا، ولكنه يثير سؤالا كبيرا حول أهدافه وسؤالا أكبر وأخطر حول هوية الجهات التى تقف وراءه.
(2)

الأمر جدير بالتوقف عنده. فإهانة رئيس الجمهورية والحط من كرامته تشكل أحد أضلاع مثلث مريب يرتسم فى الفضاء المصرى ويستدعى سيلا آخر من الأسئلة. الضلع الثانى يتمثل فى تخويف الرأى العام من شبح مواجهة أهلية يعد لها فى مصر. ليست جديدة فزاعة الإخوان التى ألفناها منذ أكثر من ستين عاما. ولكن الجديد هو تلك الرسائل التى تبث من خلال وسائل الإعلام ملوحة باحتمالات حدوث قلاقل فى البلد. فهى تحدثنا حينا عن «ميليشيات» تتدرب فى بعض الأماكن النائية. وعن «حرس للثورة على الطريقة الإيرانية يعده الإخوان وفى أحيان أخرى تتحدث عن عشرة ملايين قطعة سلاح تسربت إلى داخل مصر عبر الحدود الليبية. وخطورة مثل هذه الشائعات لا تتمثل فقط فى مضمونها الذى يفترض أن يشيع التوتر والقلق، لكنها تكمن أيضا فى صدورها عن أطراف يفترض أنها وثيقة الصلة بالأجهزة الأمنية فى البلد. الأمر الذى يشكك فى ان تلك الأجهزة. أو عناصر فيها على الأقل. لها مصلحة ما فى الترويج لتلك المعلومات. ذلك اننا حين نسمعها مثلا من لواء سابق فى الجيش يقال لنا أنه خبير استراتيجى، فإن أول ما يخطر على بالنا مجموعة من الأسئلة منها على سبيل المثال: إذا صح هذا الذى يقال، فلماذا تقف الأجهزة الأمنية متفرجة عليه؟ لماذا لا تبادر إلى ضبط وإحضار تلك الميليشيات للتحقيق مع مسئوليها وعناصرها. ولماذا لا تقرر شن حملة لمصادرة تلك الملايين من الأسلحة التى يدعون تسريبها إلى داخل البلاد. وهل يمكن أن نفترض البراءة فى السكوت على ذلك والاكتفاء بإبلاغنا بشأنه من خلال التليفزيون؟!

الضلع الثالث فى مثلث الاسترابة يتمثل فى محاولة استفزاز الجيش واستثارته. ذلك ان لك ان تتصور رد فعل أى ضابط حين يقرأ عنوانا رئيسيا على الصفحة الأولى لإحدى الاسبوعيات يتحدث عن «تسريح الجيش المصرى». وتحويله من تشكيلات مقاتلة إلى فرق لمكافحة الإرهاب الدولى. ثم نجد فى العناوين ان الخطة تتفق مع رغبة الإخوان فى اختراق القوات المسلحة لإضعافها وإعادة هيكلتها للسيطرة عليها. وحين نقرأ الكلام نجد أن هناك خطة بهذا المضمون أعدت منذ ثمانى سنوات، ولكن المشير طنطاوى رفضها، (دون أية إشارة إلى موقف الرئىس السابق الذى لم نعرف أنه رفض للأمريكان طلبا). فى ذات الوقت نقرأ عنوانا على الصفحة الأولى أيضا ينقل عن المخابرات المركزية الأمريكية ادعاءها أن الجيش المصرى سيتحول إلى جيش إسلامى خلال 5 سنوات. كما نقرأ فى موضع آخر تلميحا إلى أن الإخوان على استعداد للتنازل عن جزء من أرض سيناء لصالح حركة حماس أو غزة، لكى تتوسع فيها وتمدد «إمارتها» الإسلامية.

الترويج لمثل هذه الشائعات المكذوبة له هدف واحد هو استعداء القوات المسلحة ودفعها إلى الانخراط فى الاصطفاف الذى تشهده البلاد، لكى تصبح جزءا من المعركة الدائرة حاليا لإفشال الرئيس المنتخب وإسقاطه.

(3)

هل هى مصادفة ان يجتمع ذلك كله فى وقت واحد. أعنى أن يهان الرئيس وتستباح كرامته فى حين يشاع ان مصر يهددها شبح الحرب الأهلية، وان جيشها يراد تسريحه وإحلال الميليشيات الإسلامية مكانه بدعوى الدفاع عن الأمة الإسلامية. سنقترب من الإجابة إذا تأملنا: الضلع الأول من مثلث الاسترابة الذى نتحدث عنه. إذ حين نجد أناسا لم نعرف عنهم لا شجاعة ولا سجلا نضاليا ولا استعدادا للتضحية، يرتدون فجأة مسرح الفرسان ويمتشقون سيوف المقاتلين الصناديد، فينبغى أن نتساءل عن سر ذلك التحول. وإذا استبعد خيالنا فكرة تلقيهم حبوب الشجاعة التى تحول الحملان إلى فرسان، فلن يبقى أمامنا سوى احتمال واحد هو ان يكون هؤلاء قد اتكأوا على أحد مصادر القوة التى ساندتهم وحفزتهم.

ستلاحقنا الشكوك أيضا إذا ما نظرنا إلى مصادر التلميحات التى تتحدث عن احتمالات الحرب الأهلية، والتسريبات التى تحذر من تسريح الجيش أو التفريط فى أرض الوطن، وحينئذ سيبرز السؤال الكبير: من صاحب المصلحة فى كل ذلك؟

لن اختلف مع من يشير إلى دور بعض المثقفين والسياسيين الهواة الذين دخلوا إلى الساحة بعد الثورة، وشغلوا بتصفية الحسابات وصراعات القوى، وحولتهم الفضائيات إلى «نجوم» وهميين استغرقتهم الحروب الصغيرة ولم يروا غيرها. إذ لست أشك فى أن لهؤلاء إسهامهم فى تسميم الأجواء وتعميق التناقضات. لكننى أزعم أن اللعبة أكبر من هؤلاء. وان هناك اطرافا أخرى ذات بأس وقوة لها دورها فى توتير الأجواء وتأزىم الموقف الداخلى. وسواء سميت تلك الأطراف بالدولة العميقة أو الدولة الحارسة أو مراكز القوى، فما يجمع بينها أنها موجودة داخل مؤسسات الدولة وأجهزة الأمن، وانها رافضة لما يجرى وتستهدف تغييره على نحو يصفى حساباتها ويحمى مصالحها. وليس ذلك كله مجرد استنتاج، لأن المعلومات التى تسربت عن سيناريوهات معركة انتخابات الرئاسة، تدل على أن تلك الأطراف ساندت الفريق أحمد شفيق بكل ما تملك من امكانيات ونفوذ، وانها خططت لتمكينه من الفوز. وللادعاء بحدوث اضطرابات بعد ذلك تتهم بالضلوع فيها خلايا قادمة من قطاع غزة، الأمر الذى يبرر إعلان الاحكام العرفية، ويؤدى إلى استعادة نظام مبارك بعد ذلك بصورة تدريجية.

(4)
إننا إذا تتبعنا المعارك التى شهدتها مصر منذ قامت الثورة فى 25 يناير من العام الماضى، سنجد أنها تدور بين المثقفين والقوى السياسية من ناحية، وبين مؤسسات الدولة بعضها البعض من ناحية ثانية. ومن ثم سنلاحظ أن هذه المعارك بعيدة كل البعد عن الأهداف التى قامت من أجلها الثورة، خصوصا ما تعلق منها بإقامة الدولة الديمقراطية المستقلة، التى تتبنى قيم الحرية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. لا أخلى مسئولية حزب الحرية والعدالة الذى يمثل الإخوان عن جانب من الارتباك الحاصل، ذلك ان الحزب لم ينجح فى اختبار التوافق، كما ان حساباته اخطأت فى قراءة الخريطة الاستراتيجية للواقع المصرى. وموازين القوى فيه، إلا أن النخب والجماعات السياسية الأخرى ظلت طول الوقت مشغولة بحساباتها ومعاركها الخاصة المتعلقة بحضورها وحظوظها، ولم تعط معركة الوطن حقها من الأولوية أو الاعتبار، ولا يعفى المجلس العسكرى من المسئولية أيضا، لأنه حتى إصدار الإعلان الدستورى آلمكمل فى 17 يوليو الماضى، كان بدوره مشغولا بسلطاته وحصته ولم نستشعر فى التعديل اكتراثا بأهداف الثورة وتسليم السلطة إلى الشعب صاحب الثورة.

هذا الاستغراق فى المعارك الصغيرة يمثل سحبا من رصيد الإعداد للمعركة الكبرى التى تدور رحاها حول أهداف الثورة وتأسيس النظام الديمقراطى الجديد. وحين يحدث ذلك فإن الأبواب تنفتح تدريجيا أمام المتربصين بالثورة الذين يوهموننا الآن بأنهم يصوبون سهامهم ضد الإخوان، فى حين أن الهدف الحقيقى أبعد من ذلك وأكبر. أنهم يمهدون للانقلاب على الثورة ــ لذا لزم التنويه والتنبيه.

الخميس، 19 يوليو 2012

الربيع العربي من المد إلى الجزر……….فهمي هويدي


 إلى ظهر الخميس الماضي 14 يونيو/حزيران، كنت أعرف إلى أين نحن ذاهبون. إلا أنه منذ ذلك الحين، وبعد إعلان الانقلاب الذي هز الساحة السياسية في مصر، صرت عاجزا عن الإجابة على السؤال، لأنني لم أعد أرى إلا نفقا مظلما وأسئلة مؤرقة.
(1)
لي صديق لم يكن مطمئنا إلى ما يجري في مصر منذ سقوط النظام السابق. وظللت أتلقى منه رسائل على هاتفي المحمول بين الحين والآخر، يردد فيها عبارة واحدة تشير إلى أن ما يحدث يفتقد إلى البراءة، وأنه بمثابة "فيلم هندي". وطوال الأشهر الماضية كنت أقاوم فكرته تلك، مرجحا احتمال سوء التقدير فيما حل بنا من نوازل، ومستبعدا سوء النية. لكني بعد صدمة الخميس ما عاد بمقدوري أن أرد به على ملاحظته، وإنما صار السؤال الذي يشغلني هو: هل هو حقا فيلم هندي، أم أميركي؟! ذلك أن ما جرى يفتح الباب واسعا لإساءة الظن بالأطراف التي تقف وراءه. فضلا على أنه يهدي أنصار فكرة المؤامرة نقطة ثمينة لصالحهم، ناهيك عن أنه يكشف لنا عن أن ثمة خطرا حقيقيا يهدد الثورة المصرية، الأمر الذي لا أشك في أنه سيكون له صداه السلبي على مختلف تجليات الربيع العربي.
في ذلك اليوم الحزين -الخميس- حلت بمصر أربع كوارث لم تخطر على البال. هذا الكلام ليس لي، ولكنه رأي المستشار سمير حافظ رئيس محكمة الاستئناف السابق، الذي عرض تلك الكوارث على النحو التالي:

* الأولى تمثلت في قرار وزير العدل إعطاء ضباط الجيش سلطة الضبطية القضائية، بالمخالفة لصريح القانون. ذلك أن نص قانون الإجراءات الجنائية (المادة 23) يخول وزير العدال حق التفويض لممارسة تلك السلطة بالنسبة لبعض الموظفين في حالة الجرائم التي تدخل في اختصاصهم وتتعلق بأعمال وظائفهم. بمعنى أن التفويض مقيد بشرط وقوع الجرائم في دائرة اختصاص الموظف، كما هو الحال بالنسبة لمفتشي العمل ومفتشي الأغذية ومأموري الجمارك. ولما كان ضباط الجيش لهم وظيفة أصلية لا علاقة لها بما يجري في الشوارع والميادين، فإن الاستثناء لا يشملهم. وبالتالي فإن قرار وزير العدل يصبح باطلا لمخالفته النص الصريح في هذا الصدد.

* الكارثة الثانية أن المستشار حاتم بجاتو -عضو لجنة الانتخابات- رفض تسليم بيانات الناخبين لمرشحي الرئاسة بحجة أن ذلك يشكل مساسا بالأمن القومي للبلاد، فضلا على أن قانون انتخابات الرئاسة لا ينص على ذلك. وذكر أن تلك البيانات توزع على مرشحي الانتخابات البرلمانية لأن القانون يسمح بذلك. وهو منطق معوج، لأن البيانات اعتبرت من قبيل الأمن القومي في الانتخابات الرئاسية حين لم ينص عليها القانون، في حين أنها ذاتها لم تعد كذلك حين نص عليها القانون في الانتخابات البرلمانية.

* الثالثة أن حكم المحكمة الدستورية العليا أبطل في المنطوق انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشعب، لكنه وسع الدائرة في الأسباب، وقرر بطلان كل المجلس، في تميز وتعسف ظاهرين. علما بأن الحجية في الحكم للمنطوق وحده، ولا حجية لما يترتب عليه من نتائج ترد في الأسباب، خصوصا أن الأحكام القضائية تقوم على اليقين القانوني ولا تقوم على الاحتمالات الواقعية.

* الكارثة الرابعة تتصل بقانون العزل، لأن ثمة خطأ قانونيا جسيما في إحالته إلى المحكمة الدستورية.ذلك لأن القضية الأصلية التي كانت طعنا من جانب أحد المرشحين المستقلين أمام محكمة ابتدائية، كان ينبغي أن تحال إلى دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا، ولكنها أحيلت لسبب غامض ومريب إلى المحكمة الدستورية العليا، واتخذت ذريعة لتهديد مجلس الشعب بالحل، ثم أصبحت ذريعة لحله كما رأينا.
(ملحوظة: هذا الكلام قيل قبل ظهور الكارثة الخامسة المتمثلة فيما سمي بالإعلان الدستوري المكمل الذي كرس سلطة المجلس العسكري حتى مع وجود رئيس منتخب للجمهورية).

(2)
في رأي المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض السابق أن كل ما أعلن يوم الخميس من قرارات وأحكام مجرحة قانونا، وباب المنازعة فيها أمام المحاكم مفتوح على مصراعيه، وأن مرجعية السياسة وتأثيرها عليها أقوى من مرجعية القانون. الأمر الذي لا يثير فقط علامات استفهام كبيرة حول الهدف من كل ذلك في التوقيت الراهن، وإنما أيضا يستدعي فتح ملف استقلال السلطة القضائية وتحصينها ضد مظان الغواية والاختراق من جانب السلطة التنفيذية.
أضاف المستشار مكي أن قرار المحكمة الدستورية الذي أبطل مجلس الشعب دون حاجة إلى إجراء آخر، لا مثل له في تاريخ القضاء المصري، وهو يفتح الباب لتداعيات سلبية كثيرة. لأن المجلس الذي انتخبه الشعب لا تحله المحكمة الدستورية أو أية جهة قضائية أو تنفيذية أخرى. وحين تم ذلك في السابق، في عامي 84 و87، فإن حل المجلس تمَّ بعد الاستفتاء على ذلك، بمعنى أن الشعب الذي انتخب المجلس هو الذي تم الرجوع إليه في حله.
وقد نص دستور عام 1971 في المادة 136 على أن الحل لا يكون إلا عند الضرورة، ويجب أن يشمل قرار الحل دعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة لمجلس الشعب في موعد لا يتجاوز ستين يوما، وهو ما لم يحدث.
إزاء ذلك فإن منطوق الحكم حين أعفي المجلس العسكري من اتخاذ أي إجراء لحل المجلس اكتفاء بما ورد في المنطوق، فإنه ترك الأمر معلقا وقادنا إلى مستقبل مجهول حافل بجميع الاحتمالات والشرور.

(3)
الوضع كله مرتبك من الناحيتين القانونية والسياسية، الأمر الذي يضع مصير الثورة في مهب الريح. فالمؤسسة الشرعية الوحيدة التي تم انتخابها في ظل النظام الجديد (مجلس الشعب) أطاح به حكم الدستورية. وليس معروفا مصير الطعن في طريقة تنفيذه، وهل سيشمل الحل ثلث المجلس فقط، كما قال منطوق الحكم أم أنه سيشمل المجلس كله، كما ذكرت الحيثيات.
وفي رأي المستشار طارق البشري فإن المجلس العسكري لا يملك سلطة حل المجلس، كما أنه لا يملك حق إصدار إعلان دستوري مكمّل، فضلا عن أنه لا يستطيع أن يدعي استرداد سلطة التشريع في غياب مجلس الشعب، لأنه لم يكن أصيلا في ممارسة تلك السلطة، التي انتقلت إلى البرلمان بمجرد انتخابه، وصار هو الطرف الأصيل في الموضوع.
لا أعرف إلى أي مدى ستؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية على ذلك الوضع المرتبك (لاحظ أن المقال كتب قبل الإعلان الرسمي للنتائج). لكن هناك عدة أمور جديدة بالملاحظة في هذا الصدد في مقدمتها ما يلي:
* إن ثمة علامات استفهام حائرة ومحيرة يثيرها تتابع تلك العواصف قبل 48 ساعة من انتخابات الرئاسة، وقبل نحو أسبوعين من تسليم السلطة للمدنيين، الذي يفترض أن يتم يوم 30 يونيو/حزيران، حسب الوعد الذي أعلنه المشير طنطاوي. فإذا كان النظر في قانون العزل مفهوما لتحديد موقف أحد المرشحين قبل التصويت، فليس مفهوما أن يحل مجلس الشعب في نفس الوقت، بما يرتبه ذلك من ارتباك وفراغ تشريعي.
* إن هناك انطباعات متواترة تذهب إلى أن الأمر كان مرتبا من جانب الدولة العميقة التي استثمرت إلى مدى بعيد أخطاء الإخوان ورصيدهم المتراجع، كما استثمرت حالة الضيق بالثورة التي أعربت عنها بعض الدوائر التي تأثرت مصالحها بالمليونيات والاعتصامات والإضرابات.
* إن حل مجلس الشعب قبل إجراء الانتخابات الرئاسية استهدف تعزيز موقف المجلس العسكري في مواجهة الرئيس الجديد. فإذا كان الفريق شفيق فإنه سيصبح جزءا متجانسا مع المجلس الحاكم، لن يستطيع أن يقاوم ضغوطه أو يرفض طلباته. أما إذا كان الدكتور مرسي فإنه سيصبح رئيسا ضعيفا، لا يتكئ على أي قوة برلمانية أو سياسية. وإذا سارت الأمور كما يشتهي آخرون، وتم حل جماعة الإخوان والحزب المتفرع عنها، استجابة للدعوى التي يفترض أن ينظرها القضاء اليوم (الثلاثاء) فإن ذلك سيحول الدكتور مرسي في هذه الحالة إلى موظف لدى المجلس العسكري بدرجة رئيس.
* إن العصف بالجمعية التأسيسية للدستور بعد حل البرلمان، الذي دعا إليه البعض، سوف يسترضي بقية القوى السياسية الأخرى المعارضة للإخوان، ويمكنها من صياغة الدستور على النحو الذي تشتهيه، دون أي مقاومة أو إزعاج من جانب ممثلي التيار الإسلامي. ولأن التشكيل الحالي للجمعية ينبغي ألا يتأثر بحل المجلس، على فرض استمراره، باعتبار أن التشكيل كان صحيحا وصدر به قرار من المجلس حسب الإعلان الدستوري، فضلا عن أن الحكم ببطلان المجلس لا يستصحب بطلان ما صدر عنه من أعمال، فالمعلومات المتوافرة تقول إن ثمة التفافا ماكرا يجري لحل الجمعية التأسيسية، ويتمثل ذلك الالتفاف في تكثيف الضغوط على الأعضاء لتوسيع نطاق الانسحاب من الجمعية، بحيث يؤدي ذلك إلى انحلالها بما يجنب اللجوء إلى حلها.

(4)
أهم ما ينبغي أن تلاحظه أن أهداف الثورة ومصيرها ليست واردة في السياق، كما أن القطيعة مع النظام السابق لم تعد مطروحة، ولكن المطروح بقوة هو استمرار دور المجلس العسكري واستنساخ النظام القديم مع إدخال بعض التعديلات التجميلية عليه، أما محور الصراع الدائر فلم يكن سوى حصص المتصارعين من السلطة والنفوذ، الأمر الذي يعني أن ملف الثورة جرت تنحيته من على الطاولة. وأن الكلام عنها -إذا صار- فإنه لم يعد يتجاوز صرف تعويضات أسر الشهداء وعلاج المصابين، كأننا بصدد الدخول في مرحلة إزالة آثار الثورة. (لاحظ أن أحد أهم وعود الفريق شفيق إعادة انضباط المرور في القاهرة، الذي أفسدته المليونيات).
المسألة لم تعد نفقا مظلما دخلته الثورة وسط حفاوة نفر من محترفي السياسة والثقافة وأعوان النظام السابق، لكنها نقطة تحول في مسار الربيع العربي كله. وأحسب أنني لست الوحيد الذي تلقى تعليقات الدهشة والقلق التي انتابت أوساط النشطاء العرب حين صدمتهم أخبار الانقلاب الذي حدث في مصر يوم الخميس.
ومن المصادفات ذات الدلالة في هذا السياق أنه في اليوم الذي بدأ فيه التصويت بين مرشحي الرئاسة في مصر، أعلن في تونس عن تشكيل حزب جديد لفلول النظام السابق باسم "حركة نداء تونس"، وقد أسسه الباجي قائد السبسي (85 سنة) الذي كان بدوره رئيسا سابقا للوزراء(!!)، في حين أطلق النشطاء مظاهرة مضادة له ظلت تهتف: لا رجوع.. لا رجوع لعصابة المخلوع.
سأدع التعليق لك. لكني تلقيت رسالة على هاتفي من صديق تونسي يقول: كنا روادا في الثورة ولا نريد لمصر أن تكون رائدة في انتكاستها. وإذا وضعت هذه الخلفية جنبا إلى جنب مع التزوير الفاضح الذي تم في انتخابات الجزائر التشريعية، وباركته الدوائر الغربية، والاضطرابات التي تحدث في ليبيا والقلق المتنامي على ثورة اليمن، فلعلك تتفق معي أن الربيع العربي تجاوز مرحلة المد ويُراد له أن يدخل في مرحلة الجزر. وهي نبوءة سوداء أتمنى أن تكذبها الأيام.

السبت، 7 يوليو 2012

معاهدة «فيرمونت» بين الرئيس والقوى الوطنية ............... وائل قنديل

لمن يسأل عن علاقة القوى الوطنية التى شكلت «الجبهة الوطنية لحماية الثورة» بالرئيس المنتخب محمد مرسى:

العلاقة كما أعلنها الدكتور مرسى عبر عشرة ميكروفونات على الأقل تتأسس على اتفاق واضح ومكتوب جاء بعد مناقشات ماراثونية امتدت لسبع ساعات حتى الفجر، بحضور الرئيس المنتخب ومعاونيه.

وقد تضمن هذا الاتفاق مجموعة من البنود أزعم أن الالتزام بها وتنفيذها من الممكن أن يلبى المطالب والأحلام التى يسعى المتمسكون بثورتهم لتحقيقها، إن خلصت النوايا وصار القول مطابقا للفعل والسلوك.

وعلى ذلك فإن ما يجمعنا بالرئيس الجديد هو وثيقة شراكة حقيقية فى مشروع وطنى جامع، ينطلق من أنه رئيس لكل المصريين وليس رئيسا لجماعة أو معبرا عن تيار بعينه.. ومن هنا فهذه الجبهة ليست جهة دعم وتأييد غير مشروطين، بل هى حسب الاتفاق الواضح الصريح طرف أساسى وشريك فى شراكة وطنية، الأمر الذى يفرض عليها واجبات المتابعة والمراقبة والمحاسبة أيضا.

الثلاثاء، 3 يوليو 2012

عبد الوهاب المسيرى … العقل الموسوعى الإسلامى فى بحثة عن الإنسان …. د/ هبة رؤوف



 يستوقف المتجول في عالم عبد الوهاب المسيري الأوجه المختلفة لهذا المفكر، فمن كتاباته في الأدب الإنجليزي، لسيرته الذاتية التي هي مسيرته الفكرية، إلى نقد ونقض الفكر الصهيوني والتأريخ للجماعات اليهودية، إلى قصص الأطفال التي نال عنها جوائز عديدة، إلى كتاباته الصحفية التي تبسط للقاريء المفاهيم الكبرى وتربطها بالظواهر التي يعيشها في ظل العولمة، لكن يظل هناك منطق متصل وروح متجانسة في كل ما كتب عبد الوهاب المسيري، وهو أنه كان مفكراً إنسانياً.

ويمكن اعتبار الخيط الناظم في فكر المسيري هو تقديم الرؤية الإنسانية التي تميز المنظور التوحيدي الإسلامي حتى وإن لم يستخدم المفاهيم المألوفة أو يفرط في الاستشهاد بالآيات والأحاديث، فقد نفذ المسيري إلى قلب المنظومة المقاصدية وفهم أن المقصد الأعلى هو تأكيد إنسانية الإنسان من خلال تأكيد تنزه الله الذي ليس كمثله شيء، والتمييز بين الإنساني والطبيعي والغيبي وإدراك الفارق بين هذه المستويات التي حاولت المنظومة العلمانية اختزالها في مركزية الإنسان ومساواته بالطبيعة ، وإقصاء سؤال الأوهية والربوبية من التفكير.

لذا فقد صاغ المسيري هذه الفكرة بلغة يفهمها السياق الثقافي وأسهم في جدل نقد الحداثة الذي مر في فترة الثمانينات بجدل الدولة الدينية في مواجهة العلمانية وشهد مناظرات بين العلماء ورموز العلمانية الثقافية والفلسفية لم تثمر عن الشيء الكثير، ولا بد من الاعتراف أن المسيري قد نقل هذا الجدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية في منظورها الفلسفي وتقديم خطاب إسلامي جديد يعيد الاعتبار للإنسان ودوره سيرا على نهج مفكيرن من أمثال مالك بن نبي وعلي شريعتي .

لقد أكد المسيري في كتابيه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” و “دفاعاً عن الإنسان” ثمة أسبقية الإنساني على الطبيعي، لأن الإنسان قادر على تجاوز النظام الطبيعي المادي وعلى تجاوز ذاته الطبيعية المادية، ولأن فيه بعد غيبي يستعصي على الاختزال والتشييء. إذا مُحيَ هذا الفارق حينئذ تسري على الإنسان القوانين المادية الحتمية التى تسري على الطبيعة والمادة، مما يعني تقويض الإنسان وتفكيكه ورده إلى ما هو دونه، أي المادة.

فالأساس الفلسفي للإنسانية الإلحادية أساس واه، فمع غياب الله أو تهميشه يتحرك الإنسان داخل السقف المادي وحده، لا يمكنه الفكاك منه ويتحول إلى كائن طبيعي (مادي) فيفقد ما يميزه كإنسان (حرية الاختيار- المقدرة على التجاوز…إلخ). لا يحفظ للإنسان إنسانيته سوى الإله سبحانه وتعالى، فوجوده هو ضمان إنسانية الإنسان. فالإيمان بإله متجاوز مفارق للمادة يعني أنه يوجد داخل الإنسان ما يميزه عن الكائنات الطبيعية المادية الأخرى.

من هنا فإن سمات الإنسانية الإسلامية هي تأكيد الفارق بين الإنسان والطبيعة ورفض النموذج الماديباعتباره النموذج الذى يودي بالإنسان، فمشروع الحداثة فهو مشروع تأسيسي يعيد تركيب المجتمع على أساس أنه غابة يتصارع فيها الإنسان مع الحيوان، والإنسان مع الإنسان، والإنسان مع الطبيعة،  فهى الحرب للجميع ضد الجميع، وهذا ما أفرز فى نهاية ما نسميه الحداثة الداروينية.

وقد ربط المسيري بين الفلسفي الفكري والتحليل السياسي، فقد رأى كيف ساعد على هيمنة هذا النموذج الفكري على العالم تزايد نفوذ الدولة القومية ذات السلطة المطلقة كما صورها هيجل، وانتشار النظريات السياسية التى ظهرت لتبرير هذا الوضع، واتساع نطاق القطاع الاقتصادي التجاري، وشيوع النظريات العقلانية المتطرفة والنفعية. وجوهر كل هذه النظريات مادي آلي، فهى تجعل هدف الوجود غاية مجردة إنسانية مثل الدولة (فى المجال السياسي) أو القانون العام (فى المجال العلمي والتحليلي بشكل عام) أو الربح ومراكمة الثروة (فى المجال الاقتصادي) والمنفعة الشخصية (فى المجال الأخلاقي).

وقد تابع االمسيري التيارات الإنسانية في الغرب التي تراجع مسلمات الحداثة وتبحث عن استعادة إنسانية الإنسان واعتبرها جزء من جبهة الدفاع عن الإنسان وجزء من هذا التوجه الذي يحتل فيه الإسلام موقعاً فريدا، وبذا منح الرؤية الإسلامية أفقاً جديداً يستعيد فكرة حلف الفضول، فهؤلاء يدركون أن الانتصارت التي تحققها حضارتهم باسم الإنسان الطبيعي/ المادي تؤدي إلى وأد شيء مهم جدا في الإنسان، شيء لصيق بإنسانيته، نسميه “القبس الإلهي”، ولكنهم لا يسمونه.. وإنما يدورون حوله، ويتجلى بشكل خفي في كتاباتهم، ولذا، فإن المسيري قد نعته بأنه “الإله الخفي” في الكتابات النقدية الغربية.

وما الحديث عن “حتمية الميتافيزيقا” إلا حديث عن الإله الخفي. فقد لوحظ أن الإنسان مهما بلغ من مادية فإنه لا يقبل المادة المتغيرة إطارا مرجعيا، وإنما يبحث عن مركز للعالم، وعن إطار، وعن أرض ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز الأجزاء. وقد أدرك نيتشه أن هذا تعبير عن الإله الخفي، واختار مصطلح “ظلال الإله” ليشير إليه. وقد أدرك فلاسفة ما بعد الحداثة ذلك، ولذا فإن مشروعهم لا يتلخص في الهجوم على الميتافيزيقا الدينية أو المثالية وحسب، وإنما في تحطيم فكرة الحقيقة نفسها حتى تتم إزالة “ظلال الإله” وتحطيم الميتافيزيقا بلا رجعة. وكان حلمهم المقترح هو التخلص من ثنائية المطلق/ النسبي لصالح مطلق نسبي (ثابت متغير).

فتظل هناك ثنائيات الخير والشر، والمقدس والمدنس، والمطلق والنسبي النابعة من إدراكهم الفطري لثنائية الإنساني والطبيعي/ المادي. ولذا تؤكد العلاقات الإنسانية الفطرية نفسها بطريقة تتحدى النموذج المادي الفعال وبطريقة غير مباشرة كان يفترض التخلي عنها بحيث تخضع مثل هذه العلاقات للتفاوض وبحيث يحل محلها علاقات تعاقدية عقلانية صلبة. ولكن العلاقات الإنسانية الفطرية، مع هذا، تستمر وتؤكد نفسها. وهو تأكيد يبين أن العنصر الرباني في الإنسان لا يمكن محوه.

ومن الممكن القول بأن هذا العنصر الرباني اللصيق بإنسانية الإنسان وفطرته، وهو عنصر يأخذ شكل الإله الخفي -هو ما يمنع النموذج الطبيعي/ المادي من التحقق الكامل، ومن الوصول إلى اللحظة النماذجية الكاملة ونقطة الصفر المادية.

كانت الروح الإسلامية إذاً عند المسيري لا تنفصل عن الرؤية الإنسانية وعندما وصل إلى مرحلة تحوله للمنظومة الفكرية الإسلامية كان ذلك على طريق اهتمامه المبكر بالبحث عن كينونة الإنسان في المذاهب والمعارف الفكرية المختلفة، فصادف الماركسية وأعجبه جنوحها للعدالة والمساواة، لكن شعر بالغربة في ماديتها المفرطة، حتى تمكن من التعرف على المنظور المعرفي التوحيدي الإسلامي، ومن هذا المدخل رفض مادية المعرفة الغربية وأشار إلى ضرورة تأسيس فقه للتحيز، وأسس جهداً بنائياً من خلال نقد ونقض بعض المصطلحات الفكرية والمعرفية والمنهجية والبحثية، ثم دعوته لمراجعة مسلمات العلوم التي انبنت على فلسفة الحداثة، واستعادة الإنسان في رؤيتها.

وقد إستطاع من خلال النظام الاسلامي الإنساني أن يؤسس لمعالم خطاب إسلامي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة وضروراتها وفقه النهوض الذي يتعلق بكيانها. في صراعها الفكري من أحل تحرير الإنسان وليس من أجل تأسيس دولة فقط كما ذهبت تيارات الإسلام السياسية.

ومن هنا فقد تكون لديه معجمه المفاهيمي، وواجه المصطلحات التى تفت فى عضد الأمة وحذر من مصطلحات العدو وتسربها، ونبه إلى وحدات تحليل جديدة، وربط النماذج المعرفية بالتعامل المنهجي، وانتقد ما يمكن تسميته بالسببية الصلبة وتحدث بصفة دائمة عن النسق المفتوح والرؤية الواسعة واستهدف جوهر الإنسان الذي يخرج المعاني التي تتعلق بالثقافة والحضارة على شاكلته (النظام المعرفي، الخرائط الإدراكية، الخرائط المعرفية، المفاهيم التفسيرية،..الخ)، كما قدم المسيري نماذج وأدوات تفسيرية غاية في الأهمية ومقولات لتفسير الواقع وتقويمه بل وتغييره، وكانت له أجندة بحثية شاملة وعامرة فهو دائم الحديث عن مشروعاته العلمية المنفتحة والمفتوحة، وركز على أهمية الخريطة الإدراكية والنماذج الفكرية والمعرفية، مؤكدا أن المعركة الحقيقية الآن هي معركة المعاني؛ حيث يتم تكوين الصورة الإدراكية أو الخريطة المعرفية وعمليات إبقاء بعض عناصر الواقع وتضخيمها ومنحها مركزية واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب معايير النموذج الداخلية وبعده المعرفي الكلي والنهائي، فصياغة النموذج؛ عملية مركبة وإبداعية؛ تتضمن عمليات عقلية عديدة متنوعة، وظل يكتب حتى فارق الحياة راضيا مرضيا في علمه وفي عمله دون أن يهمل الوظيفة الكفاحية للعالم بنزوله الشارع السياسي ضد الاستبداد بالسلطة ودفاعاً عن المشاركة الشعبية في صنع السياسة.

ولم يكن دورانه مع مقصد الإنسانية يماثل الميل الليبرالي إلى الفردية، فالمجتمع عنده كيان مركب متماسك يتسم بقدر من الوعي وله أسبقية على الفرد مهما بلغت درجة ابداع هذا الفرد، فالفرد ينتمي إلى المجتمع وليس المجتمع هو الذي ينتمي إلى الفرد، إلا إذا كان مجتمعا شموليا، والمنظومة العلمانية الشاملة ليست مقصورة على العالم الغربي فهي رؤية للكون اكتسحت العالم بأسره وحولته إلى مادة استعمالية بحيث تصبح كل الأمور متساوية، كل الأمور نسبية، إلا أن الرؤية للعالم وتميزها هو الذي يخرج المعرفة ويشكل الثقافات ويؤسس الحضارات، ومن هنا اهتم المسيري بالنماذج المعرفية والبناء الحضاري من مثل: المنهج ـ المفاهيم ـ الخرائط ( الإدراكية ـ المعرفية ـ الذهنية ـ الفكرية ).

من هنا فإن الخطاب الإنساني الذي قدمه المسيري هو خطاب إسلامي بامتياز، فقد عرًّف الدكتور المسيري الخطاب الإسلامي بأنه ليس كلام الله الذي يسمو على الزمان والمكان، وإنما هو اجتهادات عقول المسلمين داخل الزمان والمكان. ومن ثم فهو – أيضاً- متعدد ومتنوع، وتاريخ الحضارة التي بناها المسلمين هو تعبير عن هذه الكثرة والتعددية، وتحدث كذلك عن مستويات لهذا الخطاب:

1 -  خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي القديم، والذي يعادي الغرب دون أن يفهم منطقه الفلسفي بل يكتفي بمقاومة تجليه الاستعماري.

2 -  خطاب آخر كان هامشيًا، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي الجديد. ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية لا باعتبارها ضد الشعوب المستعمرة بل باعتبارها ضد الإنسان في جوهره (وهو ما يؤدي لحروب الإبادة باشكالها).

كما يصنف الخطاب من حيث الجمهور إلى:

(1) الخطاب الجماهيري (أو الاستغاثي أو الشعبي): وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، كما لاحظت أن هذه العمليات هي في جوهرها عمليات تغريب سلبتها موروثها الديني والثقافي، ولم تعطها شيئًا في المقابل، لكنها لا تصوغ رؤى فكرية.

(2) الخطاب السياسي: وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة ممن شعروا –أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة. وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف، تتبعها تنظيمات شبابية ومؤسسات تربوية، واهتمام حملة هذا الخطاب يكاد ينحصر في المجال السياسي والتربوي.

(3) الخطاب الفكري: هو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الصحوة الإسلامية.

وتحدث عن استجابات الخطاب الاسلامي لتحدي الحداثة الغربية مفرقا في ذلك بين موقف الخطابين القديم والجديد في ذلك الأمر وأن كلا الجيلين -القديم والجديد- لم يؤسسا منظومتهما الفكرية انطلاقًا من المنظومة الإسلامية فحسب، وإنما نتيجة تفاعلهما مع الحضارة الغربية في الوقت ذاته، وهذا أمر طبيعي ؛ فهي الحضارة التي فرضت سيطرتها على العالم في تلك اللحظة التاريخية، واكتسبت مركزية بحكم الانتصارات العسكرية التي حققتها، وطرحت رؤيتها في كل المجتمعات، وفرضت نفسها باعتبارها مستقبل البشرية جمعاء. وألقت بالتحدي الذي كان على الجميع الاستجابة له ، وباختلاف نوع التحدي وحدَّته اختلفت الاستجابة، وقد وجد المصلحون الأوائل جوانب إيجابية كثيرة في هذه الحضارة الغربية، بل إنهم انبهروا بها، وهذا ما عبر عنه الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده ولذا كانت استجابة الجيل الأول للتحدي الغربي هي: كيف يمكن أن نلحق بالغرب؟

لكن ظهر بعد ذلك نقد إسلامي للحداثة، وهذا  النقد الإسلامي للحداثة يختلف عن أشكال نقد الحداثة في بقية العالم؛ إذ أنه يدرك مدى ارتباط منظومة الحداثة الغربية بالإمبريالية الغربية، ويدرك صعوبة فصل الواحد عن الآخر (والإمبريالية كانت هي أول تجربة لنا مع الحداثة ، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو آخرها ولا ينفك عنها).

كما أن النقد الإسلامي للحداثة يتسم بأنه متفائل لأنه يطرح حلولاً على عكس النقد الغربي للحداثة فهو متشائم عدمي. يطرح الشروط الأساسية لتطوير المشروع الحداثى الإنسانى العربى ، فضلا عن المنطلقات الأساسية البنائية لهذا المشروع .

و تحدث المسيري عن سمات الخطاب الإسلامي الجديد الذي تحتاجه الأمة اليوم للنهضة، ومعالمه هي:
  • رفض فكرة المركزية الغربية.
  • الرؤية المتكاملة والانفتاح النقد.
  • خطاب جذري توليدي استكشافي.
  • يصدر عن رؤية معرفية شاملة.
  • القدرة على الاستفادة من الحداثة الغربية.
  • القدرة على إدراك أبعاد إنسانية جديدة.
  • القدرة على اكتشاف الإمكانات الخلاقة للمنظومة الإسلامية.
  • تأسيس معجم حضاري متكامل ومستقل.
  • إدراك المكون والبعد الحضاري للظواهر والأشياء المستحدثة.
  • تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية.
  • الإيمان بالحركة والتدافع كأساس للحياة.
  • إدراك مشكلات ما بعد الحداثة.
  • تجاوز الإطلاقات المتناقضة والسماح بالتعددية.
  • القدرة على الرؤية المتكاملة للشريعة ومقاصدها  وإنزالها على الواقع المعاصر.
  • القدرة على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه.
  • الاهتمام بالأمة كياناً يتجاوز الدولة المركزية.
  • محاولة تطوير رؤية شاملة للفنون الإسلامية.
  • تجاوز المنظور الغربي في قراءة التاريخ.
وفي مجمل أعماله يدعو المسيري الى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاور والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.

إن الخطاب الإسلامى عند المسيري كان لابد أن يكون إنسانياً ، والمسلم المرتبط بالفطرة يجب أن يكون ربانياً وعالمياً، ذلك هو المنطلق الذي آمن به الدكتور المسيرى، حينما أكد على إنسانية الإسلام وعالميته، ورحلته الفكرية والمعرفية كانت محاولة للبحث عن الإنسان، ذلك أن الوصف الأدق لرحلته هو وصف ” رحلة البحث عن الحقيقة ”، فرغم التحولات التى مر بها، فإن مكونات رؤيته وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج.

حتى ذهب البعض إلى العامل الإنسانى أو ” المشترك الإنسانى ” هو مفتاح العالم النقدى للمسيرى وهو الذي منح رؤيته الإسلامية سمتها الأصيل في نقدها للغرب وكشفها للمشروع الصهيوني واحتفاءها باللغة والمجاز وإعادة صياغتها لرؤى الأطفال في قصصه البسيطة وحفاوته بالمقاومة التي تتحدي حسابات الهيمنة والقوة الغاشمة، وسيره في مظاهرات الديمقراطية يواجه خوذات الأمن وهراوات الشرطة.

حياة ثرية ودروس كبرى وعالم من المفاهيم والقضايا يحتاج إمعان نظروميراث من الحكمة يحتاج ورثة يبنون على ما قدم، وشخصية فريدة تعلمنا منها التواضع والصبر والتسليم للقدر والعزة بالله والشموخ في أزمنة الإنكسار. يرحمه الله

نريد رئيسًا يصدمنا ولا يلاطفنا….. فهمي هويدي


 لا نملك ترف الاستسلام طويلا لنشوة السكرة التى استشعرها كثيرون بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية فى مصر، حيث لا مفر من مواجهة الفكرة، التى هى أكثر تعقيدا وتلغيما مما يتصوره البعض، وفى المقدمة منهم الرئيس محمد مرسى.
(1)

يوم الأحد الماضى (1/7) نشرت صحيفة الأهرام رسما كاريكاتوريا صور الرئيس مرسى وهو يفكر فيما عليه أن يفعله خلال المائة يوم الأولى من توليه السلطة، وفى الفضاء المحيط برأسه ظهرت عناوين تحدثت عن الأجور والبطالة والتعليم والسياحة والحريات والفن والمرور والأمن. كأنما عليه أن يتعامل مع مشكلات كل تلك القطاعات خلال المائة يوم القادمة. كما نشرت صحيفة «الشروق» تقريرا فى اليوم ذاته طالب الرئيس بحل مشكلات الغزل والنسيج خلال تلك الفترة أيضا. وقرأت تعليقا لزميلنا الأستاذ عماد الدين حسين نشر فى عدد الشروق قال فيه إن الرئيس مرسى لو نفذ نصف ما وعد به لتحولت مصر خلال فترة قصيرة إلى سنغافورة أو ماليزيا.

هذه الانطباعات من وحى الوعود التى أطلقها الدكتور مرسى بعد فوزه وإعلان تسلمه السلطة رسميا. وكلها تتحدث عن أمنيات الرجل وما يحلم بتحقيقه فى عهده. الأمر الذى رفع سقف توقعات الناس بقدر ما رفع من أسهم شعبيته التى كان بحاجة إليها، بعد حملات التشهير القاسية التى تعرض لها منذ ترشحه للرئاسة. وإذ أتفهم جيدا حقه فى أن يحلم بعدما فوجئ هو وفوجئت مصر كلها بأن الرجل الذى كان فى السجن يوم 28 يناير أصبح رئيسا للجمهورية وجلس على مكتب فرعون مصر، فى حين أن الأخير صار سجينا وأودع المستشفى للعلاج، إلا أننى أزعم أن ذلك الخطاب بحدين. فإذا حدثت المعجزة وحقق الرجل ما وعد به فقد دخل التاريخ من أوسع أبوابه. أما إذا لم يستطع فإنه سيخسر الكثير، ولن يرحمه ناقدوه ناهيك عن المتربصين به والمتصيدين له.

ربما لاحظت أننى استخدمت كلمة «المعجزة» فى وصف نجاحه فى تحقيق ما وعد به. وقد تعمدت ذلك لأننى أزعم أن نواياه الطيبة وشوقه إلى إحداث نقلة تؤسس لانطلاق ونجاح النظام الجديد دفعاه إلى أن يسرف فى التمنى. حتى حمل نفسه بما لا يقوى على حمله، إلا إذا جاء مدد من حيث لا نحتسب وهبطت عليه المعجزة المرجوة. وتلك مراهنة إذا كانت مقبولة عند الدعاة والحالمين، فإن السياسيين يعتبرونها فخا يحذرون من الوقوع فيه.
(2)

ربما يذكر البعض أن لدى موقفا معلنا ومنشورا فى 21 فبراير الماضى حذرت فيه من إقدام الإخوان على تشكيل الحكومة، وقت أن كان ذلك خيارا مطروحا من جانبهم، وقلت آنذاك إن المجتمع ليس جاهزا لاحتمال حكومة يشكلها الإخوان، كما أن الإخوان ليسوا جاهزين لتشكيل الحكومة، حيث يصعب فى بلد بحجم مصر أن تظل الجماعة خارج المنظومة طوال أكثر من ثمانين عاما، ثم تصبح فجأة على رأس المنظومة. وقد تراجع ذلك التحفظ نسبيا حين تنافس مرشح الإخوان على الرئاسة، ثم فاز الدكتور مرسى ووعد بتشكيل حكومة ائتلافية ترأسها كفاءة وطنية من غير الإخوان. وكان تقديرى ولايزال أن الحكومة هى التى ستتحمل المسئولية التى ستكون موزعة على الجميع، بما يسمح لرئيس الجمهورية بأن ينشغل بالسياسات العليا وبتوجيه الجهاز التنفيذى دون الاستغراق فى تفصيلاته. ولذلك اعتبرت أن حمل الرئاسة فى هذه الحالة سيكون أخف، وأن نقص الخبرة السياسية أو الإدارية يمكن تعويضه بحكومة ائتلافية قوية.

ما لم أقله آنذاك أن لى رأيا متواضعا فى اشتغال أصحاب الرسالات بالعمل السياسى من خلال تشكيل الأحزاب. ذلك أن هدف الحزب هو تبنى مشروع يستهدف الوصول إلى السلطة، الذى به يتحقق المراد وبه يقاس نجاحه أو فشله. فى حين أن أصحاب الرسالات يستهدفون تغييرا للمجتمع يتجاوز كثيرا حدود السلطة. وفى حالات كثيرة فإن انخراطهم فى لعبة السلطة يفسد عليهم مشروعهم الرسالى، من حيث إنه يفتح أمامهم مجال الافتتان بالمناصب والتنافس عليها، الأمر الذى يصرفهم عن أهدافهم الدعوية والتربوية.

الخطر يصبح أشد حين تتولى الجماعة الرسالية المسئولية لكى تنفذ مشروعها الإصلاحى وهى فى قمة السلطة، فى حين أن التجارب أثبتت أهمية أن تنطلق حكومة الجماعة الرسالية من القاع إلى القمة وليس العكس. وخبرة الناشطين الإسلاميين مع هذا النهج الأخير لم تكن مبشرة أو مطمئنة. على الأقل فذلك ما تعلموه من فشل محاولات إصلاح المجتمع من القمة فى كل من إيران والسودان، وفى تجربة حركة حماس فى قطاع غزة.

(3)

طريق الرئيس محمد مرسى ليس مفروشا بالصعاب فقط، ولكنه مسكون بالألغام أيضا. ذلك أننى أزعم أن أمامه ثلاثة أنواع من المشكلات:
  • مشكلات من داخل الساحة الإسلامية
  • ومشكلات مصدرها الطبقة السياسية
  • ومشكلات ثالثة مزمنة ومعقدة فى الواقع المصرى.
فيما تخص مشكلات الساحة الإسلامية، فإن بعضها مصدره جماعة الإخوان ذاتها. التى لم يستقر لديها بعد مبدأ الفصل بين الحزب الذى يباشر النشاط السياسى والجماعة التى تركز على المهام التربوية والدعوية. ذلك أن التداخل بين الطرفين حاصل بشكل لافت للنظر، حيث لا يكف المسئولون عن المهام الدعوية والتربوية عن الخوض فى الشأن السياسى الذى هو صلب مهمة الحزب. ورغم أن الأولين يقومون بالدور الأهم ويؤدون دور الصناعة الثقيلة عميقة التأثير وبعيدة المدى، إلا أن الدعاة لم يستطيعوا مقاومة الإغراء التليفزيونى والحضور الإعلامى. فتكلموا فيما ينبغى أن يتصدى له الآخرون، وبعضهم أضر بأكثر مما نفع وأفسد بأكثر مما أصلح.

فى الساحة تيارات أخرى يمكن أن تشكل مصادر مختلفة للضغط الذى قد لا يحتمله الرئيس مرسى. فالدائرة السلفية تتعدد فيها الأصوات التى يجتمع أغلبها حول فكرة تطبيق الشريعة بمفهومها الضيق الذى يصعب على المجتمع هضمه واحتماله فى الوقت الراهن، والعقلاء فى الدعوة السلفية أو فى حزب البناء والتنمية «الجماعة الإسلامية» يتعرضون لضغوط المزايدين الذين يمكن أن يؤدوا إلى إرباك الساحة وتعويق أى تقدم فى الاتجاه الصحيح. وذلك كله فى كفة وما تفعله عناصر حزب التحرير فى كفة أخرى. ورغم قلة أعداد هؤلاء إلا أن كلامهم عن إحياء الخلافة مثلا يمثل نوعا من السلوك العبثى الذى يصب فى مجرى الضجيج والإرباك، ناهيك عن أنه يقدم مادة مجانية للراغبين فى التشهير والتخويف والاصطياد.

مشكلات الطبقة السياسية متعددة بدورها. فأزمة الثقة بينها وبين الإخوان قائمة وبينها وبين الجماعات الإسلامية الأخرى أشد وأعمق. والمجموعات العلمانية الناشطة فى هذا الجانب التى أصرت على احتكار الصفة المدنية وضعت نفسها فى موضع التقاطع مع الإخوان، ولم تفتح بابا للتلاقى. فى ميل واضح لتكريس الاستقطاب وإشاعة الحرب الأهلية الباردة فى الساحة السياسية. وفى ظل ذلك الاستقطاب جرى تعميق الفجوة بين الطرفين من خلال الإلحاح على تكريس فكرة الإسلاموفوبيا، إضافة إلى تحريض الأقباط واستمرار الوقيعة بينهم وبين الإسلاميين، وهذه التعبئة أصابت فكرة الوفاق الوطنى فى مقتل فى مرحلة دقيقة يشكل فيها ذلك الوفاق رافعة لا غنى عنها لدفع مسيرة الثورة.

مشكلات المجتمع، التى هى الأهم والأساس، بلا حصر. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن النظام السابق عمل طوال ثلاثين عاما على تدمير خلايا العافية فيه، وتشويه جميع مؤسساته ومرافقه. حتى بدا وكأنه تحول إلى تل شاهق من الأنقاض. فخدمات التعليم والإسكان والصحة دمرت، وثروته العقارية نهبت وأرضه الزراعية لم تسلم من العدوان المستمر، وصناعته وضعت أمامها العراقيل التى كبلتها وأخرجتها من سوق المنافسة، إلى غير ذلك من التشوهات التى تتطلب سنين لإزالتها. وهو ما يعنى أن أمامنا شوطا طويلا لتحقيق أهداف الثورة، من تحقيق العدالة الاجتماعية إلى تأسيس النظام الديمقراطى الجديد.

ثمة عنصر رابع ولا أستطيع أن أسميه مشكلة فى الوقت الراهن، لكن أعتبره تحديا حتى إشعار آخر، يتمثل فى حدود وطبيعة الدور الذى سيقوم به المجلس العسكرى فى المرحلة المقبلة وإلى أى مدى سيكون ذلك الدور عبئا على رئيس الجمهورية أو عونا له. خصوصا فى ظل الظروف التى تضغط للإبقاء على دور المجلس فى الحياة السياسية، ومعروف أن بعض دعاة «الدولة المدنية» يسهمون فى تلك الضغوط!

(4)

إذا جاز لى أن ألخص ما سبق فلعلى أقول إن الهم ثقيل والرحلة شاقة وطويلة، والعبء أكبر من الرئيس محمد مرسى وأكبر من أى شخص أو فصيل بل ومن أى حكومة أيضا.

من ثم فإن التبصير بالتحديات أهم وأولى من التعلق بالأمنيات أو الإسراف فى الوعود المنوط تنفيذها بمؤسسات وأجهزة أخرى فى الدولة. لذلك تمنيت على الرئيس أن يصارح المجتمع بطبيعة وحقيقة تلك التحديات، لكى يتأهب لتحمل مسئوليته ويصبح مستعدا لدفع ضريبة التقدم المنشود، من جهده وعرق أبنائه.

ترن فى إذنى دائما كلمات الخطبة التى أعلنها رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ونستون تشرشل، حين كلف بتشكيل الحكومة أثناء الحرب العالمية الثانية (14 مايو عام 1940)، وقال فيها إننى أعدكم بالدم والدموع والشقاء والعرق. وهى الرسالة التى كررها فى اجتماع مجلس الوزراء وفى مجلس العموم، بعد أن شكل حكومة من خمسة أشخاص، قادت مقاومة الشعب البريطانى حتى النصر.

صحيح أن التحدى فى مصر أقل جسامة، لكنه يستحق أن يصارح الشعب بمسئولياته إزاءه، ولذا تمنيت أن يقول الرئيس للشعب صراحة إنه إذا أردتم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية حقا، فأنتم مطالبون بنبذ الخلافات والتوحد والتقشف وشد الأحزمة على البطون وبمضاعفة الإنتاج وبالتشدد فى احترام القانون. ومن جانبى فإننى أضمن لكم الدفاع عن استقلال البلد وكرامته، واحترام الحريات الخاصة والعامة، والحفاظ بمنتهى الحزم على حق المواطنة، وأن تقدم رئاسة الجمهورية النموذج فى التقشف الذى يطالب به الجميع.

إننا نريد من الرئيس أن يستنفرنا ويستنهض همتنا لا أن يدغدغ مشاعرنا، وأن يصدمنا بصراحته وبجرأته فى مواجهة التحديات لا أن يأسرنا بطيبته ورسائله العاطفية.

استعدنا أتاتورك وليس أردوغان!…….. فهمي هويدي


 كأن المجلس العسكرى اخطأ فى العنوان حين أراد أن يستفيد من الخبرة التركية. إذ بدلا من أن يعتبر أعضاؤه مما فعله الطيب أردوغان فإنهم استلهموا تجربة كمال أتاتورك، فأعرضوا عن سكة السلامة وطرقوا أبواب سكة الندامة.
(1)

رغم ارتياحنا النسبى لنتائج الانتخابات الرئاسية فالموقف فى مصر الآن كما يلى: مع قرب نهاية الفترة الانتقالية التى تحددت فى الثلاثين من شهر يونيو الحالى، حدثت مفاجأة لم تكن فى الحسبان. إذ بعدما قطعنا شوطا لا بأس به باتجاه تأسيس النظام الجديد (أجريت انتخابات مجلسى الشعب والشورى وتشكلت لجنة وضع الدستور «فإننا استيقظنا ذات صباح على إعلان دستورى يعصف بما تم بناؤه، حتى الطوارئ التى ألغيت اطلت علينا من باب جديد، بعد إعطاء ضباط الجيش والمخابرات صفة الضبطية القضائية بالمخالفة للقانون».

بعد الذى جرى، لم يعد فى بر مصر صوت يعلو فوق صوت المجلس العسكرى، فهو الذى بات يملك سلطة التشريع، وهو الآمر الناهى فيما خص التنفيذ، ثم إن سلطة المجلس فوق القانون وفوق الدستور، وهو دولة داخل الدولة ولا شأن للأخيرة به، وحتى فى وجود رئيس الجمهورية فإن قراراته خاضعة لوصاية المجلس المذكور، وإذا حدثت اضطرابات فى البلد استوجبت تدخل القوات المسلحة فإن موافقة المجلس العسكرى شرط لتنفيذ قرار رئيس الجمهورية فى هذا الصدد. ولرئيس المجلس العسكرى، ضمن جهات أخرى، أن يعترض على اى مادة فى مشروع الدستور لا تعجبه وإلى أن يتم الاستفتاء على الدستور، فإن من حق المجلس العسكرى أن يصدر ما يشاء من قوانين، وليس لأحد أن يطعن عليها أمام أية جهة قضائية.

أما الجمعية التأسيسية الحالية التى تتولى كتابة الدستور فإن الإعلان المذكور، اعطى المجلس العسكرى سلطة إعادة تشكيلها إذا ما تعثرت فى مهمتها دون تحديد أية معايير فى هذا الصدد، وفى هذه الحالة فإن لجنة الدستور الجديدة ستكون معينة، من قبل المجلس العسكرى، وليست منتخبة من الشعب، وفى هذه الحالة لن نفاجأ إذا ما قامت اللجنة «بتفصيل» الدستور بحيث يتجاوب مع رغبات المجلس وضغوطه.

الخلاصة أننا ظللنا طوال الأشهر التى خلت ننتظر موعد الثلاثين من يونيو الذى قيل لنا انه سيتم فيه انتقال السلطة من العسكر إلى المدنيين، لكننا فوجئنا بذلك الانقضاض الذى نقلنا من حكم العسكر إلى تحكمه كما قيل بحق.

(2)

الخائفون على الثورة لم يختلفوا على وصف ما جرى بأنه انقلاب، والخائفون منها اعتبروه منعطفا وحركة تصحيحية. وكنت ضمن من وصفوه بأنه «انقلاب ناعم»، لكنى استثقلت الوصف لاحقا واعتبرته تجميلا لفعل قبيح. صحيح أنه انقلاب لم تطلق فيه رصاصة وتم بالحيل القانونية والألاعيب السياسية إلا أن احدا لا يستطيع ان ينسى ان شعب مصر دفع ثمنا غاليا من أرواح ابنائه ودمائهم لإنجاح هذه الثورة، الأمر الذى لا يستقيم معه وصف الانقلاب عليها بأى صورة بأنه «ناعم». ذلك ان تشويه حلم شعب يظل جريمة فى كل الأحوال بصرف النظر عن الاسلوب الذى اتبع فى ذلك.

حين قرأت لبعض  الباحثين وصفهم للانقلاب بأنه «ما بعد حداثى» بمعنى انه تفكيكى ومناهض للفعل الحداثى المتمثل فى الثورة، وجدت ان المصطلح الأول اطلقه نظراؤهم على انقلاب الجيش التركى «السلمى» على حكومة السيد نجم الدين اربكان فى عام 1997، حيث مورست عليه ضغوط لم يحتملها مما اضطره إلى الاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء، وانتهى الأمر بالحكم عليه بالسجن وبحل حزب «الرفاة» الذى يقوده، وهو ما تم دون اطلاق اية رصاصة، وبقرار اصدرته المحكمة الدستورية العليا (أيضا!).

ليس من الانصاف ان نقارن حصيلة الانقلاب الراهن فى مصر بما حدث فى تركيا فى تسعينيات القرن الماضى، لأننى أجد الشبه اكبر بين الإجراءات التى اتخذها المجلس العسكرى وبين ما أقدم عليه العسكريون الأتراك منذ أكثر من سبعين عاما، وهى المرحلة التى زرعت فيها بذرة تنصيب القوات المسلحة وصية على المجتمع وليست مجرد حامية لأمنه وحدوده، وهى مسألة تحتاج إلى ثقة وقراءة متأنية.

(3)

ثمة خلفية واجبة الاستدعاء عند التطرق إلى دور الجيش فى كل من مصر وتركيا. فالجندية عند الاتراك لها مرتبتها الرفيعة فى الوجدان العام، حتى يقال ان كل تركى يولد جنديا، وتحدثت كتب التاريخ عن النزعة القتالية التى تمتع بها الاتراك منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حتى ان قبائلهم التى عاشت فى وسط آسيا دأبت على مهاجمة الصين، مما اضطر حكامها إلى بناء السور العظيم لصدهم، وظلت تلك الصفة ملازمة لهم بعد تأسيس الامبراطورية العثمانية التى وصفت بأنها «عسكرية جهادية»، وفى مرحلة افول الامبراطورية التى تحولت فيها إلى رجل أوروبا المريض (القرن الثامن عشر) تكالبت عليها دول الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى، وأنزلت بها هزيمة منكرة، الأمر الذى ادى إلى احتلال استانبول ذاتها فى عام 1918، إلا ان ذلك استنفر المقاومة التركية التى قادها مصطفى كمال باشا (اتاتورك) لاحقا، واستطاعت ان تحرر البلاد من الغزاة فى الفترة بين عامى 1920 و1922، وهو ما مهد له الطريق لتولى السلطة وإعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة العثمانية فى عام 1923، ولأن الجيش هو الذى انقذ تركيا ورعى تأسيس الجمهورية فقد سوغ ذلك لقادته ان يعتبروا انفسهم مسئولين عن «إعادة تشكيل الأمة». وهو المعنى الذى رسخه مصطفى كمال باشا خلال سنوات حكمه التى استمرت من عام 1927 إلى عام 1938.

منذ ذلك الحين اعتبر الجيش نفسه حارس الوطن والجمهورية معا، وصار مؤسسة مستقلة عن الدولة، ولها موازنتها التى تعدها رئاسة الاركان وليس وزارة الدفاع، وترسل إلى البرلمان للموافقة عليها فقط وليس لمناقشتها.

منذ عام 1935 نص القانون على تلك الوظيفة للجيش، لكن الفكرة جرى النص عليها فى الدستور عام 1960، فى اعقاب اول انقلاب قام به قادة الجيش باسم الدفاع عن النظام الجمهورى وقيم العلمانية التى اعتبرت اساسا أبديا له، لا يقبل التعديل او المناقشة.

استنادا إلى هذا الدور قام الجيش بثلاثة انقلابات عسكرية سافرة خلال السنوات 1960 و1971 و1980 وذلك غير الانقلاب «الناعم» الذى تم فى عام 1997 وسبقت الاشارة اليه.

هذه الخلفية تبرز الفرق بين وضع الجيش فى تركيا عنه فى مصر، صحيح انه فى مصر نقل البلد من الملكية إلى الجمهورية بصورة هادئة نسبيا فى عام 1952 إلا أن ذلك تم فى ظروف مغايرة لتلك التى شهدتها تركيا وقاد فيها الجيش المقاومة التى انقذت البلاد من اجتياح الحلفاء، ثم إن الجيش هناك اسس الجمهورية وبقى فى قلب السياسة، فى حين انه فى مصر خرج من السياسة وظل على هامشها بعد عام 1952. حتى فى 25 يناير عام 2011 فإن الجيش المصرى كان حارسا للثورة ولم يكن صانعا لها.

الفرق الآخر المهم ان الجيش فى تركيا كان يتدخل فى السياسة من منطلق ايديولوجى متذرعا بالدفاع عن العلمانية الكمالية، أما فى مصر فلم يكن للأيديدلوجية اى دور فى تحرك الجيش الذى ظل ملتزما بحسابات المصلحة الوطنية فقط.

(4)

قصة الجيش التركى والسياسة رصدتها بالتفصيل رسالة دكتوراه قدمت إلى كلية آداب عين شمس فى عام 2008 وحصل بها الدكتور طارق عبدالجليل على شهادته مع مرتبة الشرف وقد استفدت من تلك الرسالة غير المنشورة فى اغلب ما ذكرت، إلا اننى استكملت صورة تجربة العسكر هناك بالرجوع إلى كتاب «تركيا الأمة الغاضبة» الذى ألفه الباحث التركى كرم اوكتم وترجمه إلى العربية الاستاذ مصطفى مجدى الجمال. ومن أهم ما وقعت عليه فى هذا الكتاب إبرازه لدور الدولة العميقة فى صناعة المشهد التركى خلال الثمانين سنة التى خلت، والمؤلف يطلق عليها «الدولة الحارسة» التى قامت على تحالف الجيش مع القضاء والبيروقراطية ذلك ان الجيش فى الانقلابات التى تمت كان يقوم بالمهة السياسية والدور العسكرى، لكن ذلك لم يكن يكتمل ويحقق مراده بدون اسهام القضاء وتجاوب أجهزة الإدارة البيروقراطية، إن شئت فقل إن القضاء والبيروقراطية ظلا طوال العقود الخالية من الأدوات التى استخدمها الجيش فى تسويغ ممارساته وبسط سلطاته. ويسجل المؤلف انه فى تسع حالات استخدم الجيش المحكمة الدستورية فى حل 9 أحزاب إسلامية وكردية فى الفترة ما بين عامى 1971 و2009. (هل يذكرك ذلك بالوضع الراهن فى مصر)؟

لم تنتقل تركيا من الجمهورية الكمالية الى مشارف الجمهورية الديمقراطية الا بعد عام 2003 حين تولى السلطة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، الذى ساعدته ظروف مواتية على اخراج الجيش من قلب السياسة وفك تحالف القضاء والبيروقراطية. إذ مكنته الأغلبية التى حصل عليها حزبه من الحصول على أغلبية البرلمان وتشكيل حكومة متماسكة وليست ائتلافية، وساعده ذلك على الاستجابة لدعوة الاتحاد الأوروبى الى ضرورة اضفاء الصفة المدنية على مجلس الأمن القومى الذى يقرر السياسة العامة للدولة، باعتبار ذلك من شروط قبول تركيا ضمن عضوية الاتحاد (المجلس كان يضم 12 عضوا بينهم سبعة من العسكر، أى الأغلبية لهم» وقد تم تغيير التركيبة بحيث اصبحت الأغلبية للمدنيين، كما ان دور المجلس اصبح استشاريا فقط، ولا وجه للإلزام فيه، وحين تم تصحيح ذلك الوضع صار بمقدور الحكومة ان تمارس سلطتها متحررة من القيود والضغوط وقوى ذلك مركزها فى التصدى لأركان الدولة العميقة ممثلة فى منظمة «آرجنكون» التى تحدثت عنها فى مرة سابقة.

أذكر بأن مجلس الدفاع الوطنى الذى أعلن المجلس العسكرى عن تشكيلة فى مصر خلال الاسبوع الماضى ضم 16 عضوا بينهم 11 من العسكريين «اغلبية» وإذا أضفت الى هذه المعلومة خلاصة الاعلان الدستورى الذى صدر فى 17/6 التى عرضتها فى بداية هذا النص، فسوف تكتشف ان المجلس العسكرى أعادنا إلى أجواء الستينيات فى تركيا، وهو الوضع الذى لم تتحرر منه هناك إلا بعد مضى اربعين عاما.

لست متأكدا من ان ما فعله المجلس العسكرى كان مجرد خطأ فى العنوان أو خطأ فى قراءة التاريخ، ومع ذلك فإن اكثر ما يهمنى هو اجابة السؤال: كم عدد السنوات التى سنحتاجها لكى نتحلل من وصاية العسكر، لنتمكن من بناء مصر الديمقراطية التى من أجلها قامت الثورة؟