الثلاثاء، 29 يناير 2013

بانتظار مبادرة شجاعة لمواجهة الأزمة ......... فهمي هويدي

حتى إذا بدا الأفق مسدودا والاحتقان فى مصر على أشده والانقسام حتى النخاع، فإن الأزمة ليست بلا حل.

(1)

لئن قيل إن فهم المشكلة يمثل نصف الطريق إلى حلها، فإن ذلك ينطبق على ما نحن بصدده أيضا. وفى محاولة الفهم ينبغى أن نضع فى الاعتبار ما يلى:

إن ما تشهده مصر الآن أقرب إلى الهزات الأرضية التى تظل تتوالى بعد حدوث الزلزال، الأمر الذى لا ينبغى له أن يصدمنا، حيث أكرر ما سبق أن قلته من أن ذلك من طبائع فترات الانتقال التى تعقب الثورات وما تستصحبه من تحولات كبرى تستهدف بناء نظام جديد فوق أنقاض ومخلفات النظام السابق.

إن الثورة تسلمت مصر بعدما تم تدميرها على مختلف الأصعدة. نلمس ذلك فى كلام وزير النقل حين قال إن 85٪ من قطارات السكة الحديد انتهى عمرها الافتراضى. وحديث وزير الصحة عن انتهاء العمر الافتراضى لأربعة آلاف مستشفى. وتصريح وزير الشباب بأن 42٪ من المواطنين محرومون من الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والصرف الصحى والمياه النظيفة. وهو ما أكده وزير المرافق الذى نشر على لسانه قوله إن 50٪ من قرى مصر محرومة من الصرف الصحى، الأمر الذى يعنى أن صحة 40 مليون مصرى فى خطر. وقبل أيام سمعت من وزير التربية والتعليم أنه يحاول جاهدا معالجة آثار الانهيار إلى حل فى قطاع التعليم بسبب تراكمات وإهمال السنوات السابقة، حتى باتت الوزارة بحاجة إلى 50 مليار جنيه لكى تؤدى وظيفتها بشكل مرض يطمأن إليه. وهذه مجرد أمثلة فقط ترسم ملامح التركة الثقيلة التى يتعين على النظام الجديد أن يتحمل عبئها.

إن الخراب تجاوز قطاعات الخدمات والإنتاج وإنما طال أكثر مؤسسات الدولة، وأصاب فى مقتل الحياة السياسية فيها. وهذه الأخيرة تهمنا لأنها وثيقة الصلة بالأزمة الراهنة للثورة المصرية. ذلك أن التدمير الذى أحدثه النظام السابق لم يكتفِ بتقزيم بعض الأحزاب السياسية وإصابتها بالإعاقة، وتحويل البعض الآخر إلى أبواق للسلطة وأجنحة للحزب الحاكم فحسب، وإنما أدى إلى تشويه علاقات القوى السياسية، وحرق البدائل المستقبلية للنظام. وكانت نتيجة ذلك التشويه والإخصاء ــ إذا جاز التعبير ــ إن القوى السياسية التى ظهرت بعد الثورة بدأت الرحلة من الصفر. فلم تبلور مشروعا، ولم تألف العمل مع بعضها البعض، حيث لم تكن هناك حياة أو ممارسات ديمقراطية تسمح بذلك. فلا تبادلت الثقة فيما بينها، بل وأساءت الظن ببعضها البعض.

هذه الخلفية تفسر لنا لماذا كانت الثورة بلا مشروع وبلا قيادة أو زعامة، لأن الممارسة والسياسة بأشكالها وأوعيتها هى المختبر الذى يتم من خلاله اكتشاف القيادات وإنضاج خبراتها. وهو ما يدعونا إلى القول بإن الذين تصدروا واجهات السياسة بعد الثورة لم يكونوا مبرأين من التشوهات التى أصابت رؤى وعلاقات القوى السياسية فى ظل النظام السابق، كما أنهم كانوا عديمى الخبرة السياسية، حيث ظلوا دائما ــ وفى أحسن فروضهم ــ على هامش السياسة وليس فى قلبها. وصاروا كمن دخل إلى الحلبة بغير تأهيل أو تدريب. وكانت الجماعات الإسلامية ضمن هؤلاء إلا أن وضعها كان أكثر تعقيدا كما سنرى توا.

(2)

سأتحدث عن الوضع فى مصر، ليس فقط لأن الصورة التى أعنيها أكثر وضوحا فيه، ولكن أيضا لأن مصر هى الدولة العربية الأكبر التى يمكن أن يؤثر مصير الثورة فيها على مستقبل الربيع العربى كله. ذلك أن الجماعات الإسلامية فى مصر، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، أتيح لها لأول مرة منذ أكثر من ستين عاما أن نشارك فى الحياة السياسية بصورة شرعية، بعدما ظلت محظورة طوال تلك السنوات.

لقد شاءت المقادير أن تنتقل تلك الجماعات من موضع المطارد من جانب السلطة إلى موقع الشريك فى السلطة، بل المتربع على رأسها. هذه النقلة فوجئت بها الجماعات الإسلامية ولم تتحسب لها. لذلك فإنها أصبحت مواجهة بتحد جديد يتمثل فى كيفية تحويل الشعارات والتعاليم إلى سياسات. وهو ما لم تكن مضطرة إليه طوال سنوات الإقصاء بسبب الانسداد الديمقراطى الذى أخرجها من المعادلة. وكانت النتيجة أنها عانت الارتباك، ولم تنجح فى التعامل مع الوضع المستجد واستيعاب المشهد الذى فرض عليها الانتقال من إدارة الجماعة ومحيط الأنصار إلى إدارة الوطن بفضائه الذى يموج بأطياف عدة تضم مخالفين ومتوجسين وخصوما.

التجربة التركية نجحت فى التعامل مع ذلك التحدى بسبب الهامش الديمقراطى الذى سمح للحركة الإسلامية بالمشاركة فى الانتخابات منذ عام 1970، من خلال حزب النظام الوطنى الذى أسسه حينذاك الأستاذ نجم الدين أربكان، صحيح أن الحزب تعرض للملاحقة والحل عدة مرات، لكنه ظل حاضرا بفضل الهامش الديمقراطى الذى سمح لقياداته بالعودة إلى المشاركة تحت مسميات جديدة. المهم فى التجربة أن المشاركة التى لم تتوقف سلحت كوادر الحزب بخبرات جيدة فى العمل العام، من خلال الاشتراك فى البلديات والبرلمان والحكومة. لكن الأهم من ذلك أنها سمحت لتلك الكوادر بتطوير أفكارهم وإنضاجها، الأمر الذى دفع بعضا منهم إلى الخروج من عباءة حزب أربكان (الذى كان قد حمل اسم الرفاه) وتأسيس حزب جديد فى عام 2011 بقيادة كل من رجب طيب أردوغان وعبدالله جول، ولأن هذه المجموعة كانت قد تمرست، ونجحت فى وضع سياسات خدمت الناس وتفاعلت مع مختلف فئات المجتمع، فإن الحزب فاز بأغلبية الأصوات فى انتخابات عام 2002، ولا يزال يواصل نجاحاته إلى الآن مدعوما بأصوات الأغلبية.

هذا المعنى أشرت إليه فى محاضرة عن الوضع فى مصر ألقيتها مؤخرا فى مدينة «استنبول»، وقلت فيها إن الحركة الإسلامية فى مصر لا تزال أسيرة ثقافة المرحلة الأربكانية (نسبة إلى نجم الدين أربكان)، ولم تنقل بعد إلى نضج المرحلة الأردوغانية. التى مثلها رجب طيب أردوغان.

(3)

هذه الخلفية توفر لنا عدة مفاتيح لفهم خلفيات النخبة التى تتصدر المشهد السياسى فى مصر. وبالتالى تضع أيدينا على أهم جوانب الأزمة وجذورها. ذلك أننا بإزاء نخبة فاقدة الثقة فى بعضها البعض، وتقوم علاقاتها على التصيُّد. وقد عبر عن ذلك الدكتور حازم الببلاوى نائب رئيس الوزراء السابق، الذى نشرت له جريدة «الشروق» مقالا فى الثالث من شهر أبريل الماضى (عام 2012) تحت عنوان دال هو: التربص وعدم الثقة.
ذلك أن تلك المجموعات المختلفة لم يتح لها أن تعرف أو تعمل مع بعضها البعض بسبب الغياب الطويل للديمقراطية. بالتالى فإنها لم تتسلح بالخبرة السياسية التى تمكنها من أن تدير خلافاتها على النحو الذى لا يضر بمصالح الوطن، لذلك لا يستغرب منها أن تستسلم للانقسام وتقع فى فخ الاستقطاب بسرعة.
وإذا كانت القيادة السياسية ممثلة فى رئاسة الجمهورية تنتمى إلى نموذج للمرجعية الإسلامية التى لم تطور مشروعها بحيث تحوله من شعارات وتعاليم إلى سياسات ورؤية وطنية واضحة المعالم، فلا يفاجئنا أن تغيب عنها الرؤية التى تطلق مبادرات تشحذ الهمم وتحقق الإجماع الوطنى.
وللإنصاف فإن غياب الرؤية والمشروع ليس مقصورا على إدارة الرئيس محمد مرسى وحدها، ولكنها سمة للأحزاب الجديدة والقوى المعارضة أيضا، التى ظل مشروعها المعلن على الملأ على الأقل محصورا فى العمل على هزيمة الرئيس مرسى والإخوان والتنديد بالخطوات التى اتخذها طوال الأشهر السبعة التى قضاها فى السلطة، دون أن تجيب عن السؤال: ما الذى ينبغى عمله فى اليوم التالى لإعلان هزيمته وهدم ما بناه؟

إذا جاز لى أن ألخص ما أتصوره جذورا للأزمة فلعلى أقول إنها تتمثل فى:
  • غياب الثقة بين الجماعات السياسية،
  • وضبابية الرؤية لدى القيادة،
  • وغياب الحلم المشترك الذى يشد الجميع ويلهمهم.
(4)

 ما العمل إذن؟

 قدر الدكتور محمد مرسى أن يتحمل القسط الأكبر من مسئولية مواجهة الأزمة باعتباره رئيس الجمهورية والطرف الأهم فى المعادلة. لست ألغى الطرف الآخر أيا كان تقييمنا له. لكنه يظل فى المقام الثانى من المسئولية. وللأسف فإن دعوة الرئيس إلى الحوار الوطنى لم تؤخذ على محمل الجد. لذلك فإن الحديث مجددا عن ذلك الحوار سوف يستقبل بفتور وربما بأعراض من الأطراف الأخرى.

مع ذلك فالحوار لا مفر منه ولا بديل عنه فى نهاية المطاف، إلا أن نجاحه مرهون بضمانات الجدية التى تتوافر له، وتلك ينبغى أن تكون جزءا من حزمة إجراءات إعادة الثقة المفقودة بين الطرفين. التى على الرئيس أن يقدمها من جانبه بها مهتديا فى ذلك بأمرين أساسيين هما: تحقيق وحدة الجماعة الوطنية، والالتزام بأهداف الثورة.

أعيد التذكير هنا بالقصة القرآنية التى ذكرت فى سورة «طه»، وقبل فيها النبى موسى موقف أخيه هارون حين سكت على تحول قومه من عبادة الله إلى عبادة العجل من دونه. ولم يدفعه إلى ذلك السكوت إلا خشيته من أن ينفرط عقد الجماعة وينشق صفهم إذا ما نهاهم عن فعلتهم التى كانت بمثابة ارتداد إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى. ويحضرنى أيضا موقف قيادة حركة النهضة فى تونس، التى قبلت باستبعاد الإشارة إلى مرجعية الشريعة فى الدستور الجديد. والاكتفاء بالنص على أن تونس بلد يدين بالإسلام، وقول رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشى إنهم أرادوا بذلك أن يتجنبوا الشقاق بين القوى السياسية فى المجتمع. وقد تراجع حزب العدالة والتنمية فى تركيا عن إلغاء القيود التى فرضت على ارتداء الحجاب، بل وسحب مشروع قانون قدم إلى البرلمان يجرم الزنا، لا لشىء إلا لتجنب الانقسام فى المجتمع.

إن هناك أكثر من سبب أسهم فى إحداث الانقسام وتعميقه فى مصر (فى نصوص الدستور وقانون الانتخابات مثلا)، ولذلك فإنه سيكون من الحكمة والشجاعة أيضا أن يعلن الرئيس عن التزامه بالاستجابة لتحفظات المعارضة بخصوصها، حتى إذا لم يكن مقتنعا بأهمية أو جدية تلك الأسباب، لكى يزيل أسباب الانقسام ويستعيد الثقة المفقودة. وستكون شجاعة منه إذا بادر بالإعلان عن إجراء انتخابات رئاسية مع الانتخابات النيابية التى يفترض أن تتم بعد ثلاثة أشهر. وليته أيضا يدعو إلى فتح ملفات السياسة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتعليم والعشوائيات وغيرها من هموم المصريين، من خلال مجالس تضم أبرز الخبرات والأطياف المصرية لتقدم لنا رؤية واضحة للمستقبل الذى تطلعت إليه الثورة. وبالمناسبة فإن الدكتور عماد شاهين أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية له أفكار محددة ومقترحات جيدة بخصوص المبادرات الشجاعة المرجوة من الرئيس مرسى وإدارته، ولست أشك فى أن الخبراء من أمثاله لديهم مقترحات أخرى جديرة بالنظر للخروج من الأزمة. ويظل من المهم أن تتوافر الإرادة ويستوعب الخيال حلم الوطن ويظل قابضا عليه ومتشبثا به.

السبت، 26 يناير 2013

رحلة مع “حكم ابن عطاء”: حسـن التوكـل.............. د. جاسر عودة

أَرِحْ نَفْسَكَ مِنَ التَّدْبيرِ. فَما قامَ بِهِ غَيرُكَ عَنْكَ لا تَقُمْ بهِ لِنَفْسِكَ (ابن عطاء السكندري)
هناك معنى من المعاني الإسلامية القلبية الهامة قد يُفهم خطأً ويؤدي الفهم الخاطئ إلى عواقب لا تحمد، وإلى انحرافات وبدع بل وتخاذل في الدين والدنيا! وهذا المعنى هو التوكل على الله تعالى، والانحراف هو (التواكل)، وترك الدنيا لمن لا دين لهم، وترك العمل، و(البطالة) بتعبير أهل التصوف.
يقول ابن عطاء الله رحمه الله ورضي عنه: (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك). فما المقصود بالتدبير هنا؟
التدبير في اللغة يعني: النظر إلى عواقب الأمور وإلى المآلات والنتائج، فالتدبير يتعلق بالنتائج.
والمآلات والنتائج تتعلق بمعنى التوكل على الله، قال تعالى: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، و{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وهكذا في القرآن ترى التوكل مذكورًا وممدوحاً في آيات كثيرة، لأن التوكل معنى أساسي، وما يتكرر ذكره في القرآن نعلم أنه تزيد أهميته وأولويته.
ولكن هناك فارق معتبر بين التوكل وبين التدبير الذي يتحدث عنه الشيخ، وهو الفارق بين الأسباب والنتائج، أي بين العمل بمعنى الأخذ بالأسباب وبذل الجهد والفكر والوقت، وبين نتيجة العمل بمعنى الأحداث والأرقام والمآلات والمحصلة التي تترتب على العمل. أنت عليك العمل، وعليك الأخذ بالأسباب، وعليك التوكل، ولكن ليس عليك أن تدبر الأمر، فالذي يدبر الأمر هو الله سبحانه وتعالى. { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ؟}، هذا سؤال بنص القرآن.
الله يدبر الأمور، وهو الذي عليه النتائج وأنت إنما عليك الأسباب، لأن الأخذ بالأسباب جزء من التوكل. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ضرب لنا مثلًا للتوكل قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطاناً)، فأنت كالطائر، وهذا الطائر لا يبقى على فرع الشجرة طول اليوم، ينتظر الحَبّ، بل يذهب ويحاول، ويطير يميناً ويساراً ويقضى نهاره كادحاً حتى يصل إلى الحَبّ، لكنّ الحَبّ نفسَه على الله سبحانه وتعالى، الطائر عليه السعي وعليه الطيران وعليه البحث، ولكن (الرزق على الله). أليس كذلك؟
إذن، عليك الأسباب وليس عليك النتائج، وهذا معنى في منتهى الأهمية؛ لأن من المسلمين -ومن أهل السلوك أحياناً- مَن ينحرف بهذا المعنى فيهمل الأسباب ويمكث في المسجد أبداً، ويسأل الناس طعامه وكسوته، ويقول: (ليس علىَّ التدبير)! نعم، ليس عليك التدبير ولكن عليك التوكل، والتوكل يستلزم الأخذ بالأسباب.
وفي الحديث أن رجلاً كان ماكثاً في المسجد أبداً بحجة (التفرغ للعبادة) فسأل صلى الله عليه وسلم: من ينفق عليه؟ قالوا: أخوه. قال: (أخوه خير منه). وأدّب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجالاً قعدوا في المسجد بعد الصلاة وقالوا: نحن المتوكلون، وقال قولته الشهيرة: إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
أما إذا انقطعت الأسباب رغم المحاولات، فهنا محل للتوكل على الله سبحانه وتعالى. والحق أن التوكل على الله سبحانه تعالى يؤيده بل يقويه وينميه انقطاع الأسباب! فإذا انقطعت أسبابي رغم أنني قد حاولت تحصيلها قلت: يا رب لقد انقطعت أسبابي، ولم يعد لي ما أستطيع أن أفعله. ولعلّى حينئذ أتوكل على الله حق التوكل. ولكن لا يصح أن أتوكل على الله عز وجل وأنا لم أعمل شيئاً، ولم آخذ بالأسباب، أو أجرّد نفسي عمداً من الأسباب كما يفعل بعض الجهلاء، وإنما ينبغي أولاً أن آخذ بالأسباب، ثم أتوكل على رب الأرباب.
والمولى الكريم أحياناً ما يجردني من الأسباب ومن الحَول والقوة والوسائل – حتى أعود إليه، وأتوكل عليه حق التوكل، وهذه منحة غالية!
والتوكل لا ينافي ما نسمّيه بلغة العصر بالتخطيط ودراسة الجدوى ودراسات السوق، إلى آخره. هذا كله من التوكل على الله، لأنه من الأخذ بالأسباب. فإذا كان عندك تجارة فلابد أن تأخذ بدراسة الجدوى والسوق وتأخذ بالعلم وتحسب جيداً، فإن خسرت فهو أمر الله سبحانه وتعالى، وإن نجحت فهو أمر الله سبحانه وتعالى. لكن ليس عليك التدبير بمعنى ليس عليك النتائج سواء الخسارة أو النجاح، ليس عليك المكسب أو الخسران في المال، وليس عليك النجاح أو الفشل في الامتحان، لكن عليك المذاكرة وعليك الأخذ بالأسباب. ليس عليك النجاح والفشل في مشروع ما، أو في المسائل الدينية، الدعوية منها والعلمية والعبادية، أنت تتعبد لله سبحانه وتعالى بأن تدعو الناس إلى الخير مثلاً؛ لكن: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}، و{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فأنت تدعو الناس إلى الخير، لكنك لا تدبر الأمر فيما وراء ذلك، كما نقول في العامية المصرية: (مغسل ميت ولا ضامن جنة).
يقول الشيخ رحمه الله ورضى عنه: (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك). ما المقصود بـ (غيرك) هنا؟ من الذي يقوم عنك بالرزق؟ ومن الذي يقوم عنك بالنجاح؟ ومن الذي يقوم عنك بالنتائج؟ هو الله سبحانه وتعالى، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.
وهذه قضية عقلية بسيطة، فإذا كان إنسان متخصص مثلاً يقوم عنك بشيء من الأشياء أو عمل من الأعمال فلا يصح أن تقوم به أنت بل تدع الأمر له. فما بالك بأن الذي يقوم عنك هو الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي لك أن تطلب هذا المكان العزيز. التدبير هو لله سبحانه وتعالى.
-----------------------------------
د. جاسر عودة | نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بمؤسسة قطر

محمد صلى الله عليه وسلم... كمال الخُلُق وجمال الخَلْق


الصفـــــات والأخلاق 
       كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز من جمال خَلْقه وكمال خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه أحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظُفْر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يحبب عادة لم يرزق بمثلها بشر‏.‏ وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة.

جمــــال الخَلْـــق‏ 
  • قالت أم مَعْبَدٍ الخزاعية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي تصفه لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجراً‏:‏ ظاهر الوَضَاءة، أبْلَجُ الوجه، حسن الخُلُق، لم تعبه ثُجْلَة، ولم تُزْرِ به صَعْلَة، وسِيم قَسِيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَهَل، وفي عنقه سَطَع، أحْوَر، أكْحَل، أزَجّ، أقْرَن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البَهَاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فَضْل، لا نَزْر ولا هَذَر، كأن منطقه خَرَزَات نظمن يَتَحدَّرن، رَبْعَة، لا تقحمه عين من قِصَر، ولا تشنؤه من طول، غُصْن بين غُصْنَيْن، فهو أنْظَر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدْرًا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، مَحْفُود، مَحْشُود، لا عَابِس ولا مُفَنَّد.
  • وقال على بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم يكن بالطويل المُمَغَّطِ، ولا القصير المتردد، وكان رَبْعَة من القوم، ولم يكن بالجَعْد القَطِطِ، ولا بالسَّبْط، رَجِلاً، ولم يكن بالمُطَهَّم، ولا بالمُكَلْثَم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مُشْرَبًا، أدْعَج العينين، أهْدَب الأشْفَار، جَلِيل المُشَاش والكَتَدِ، دقيق المسْرُبَة، أجْرَد، شَثْنُ الكفين والقدمين، إذا مشي تَقَلّع كأنما يمشي في صَبَب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لَهْجَة، وأوفي الناس ذمة، وألينهم عَريكَة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته‏:‏ لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم.‏ 
  • وقال جابر بن سَمُرة‏:‏ كان ضَلِيع الفم، أشْكَل العينين، مَنْهُوس العقبين.‏ وقال أبو الطفيل‏:‏ كان أبيض، مَلِيح الوجه، مُقَصَّدًا. وقال أنس بن مالك‏:‏ كان بِسْطَ الكفين‏.‏ وقال‏:‏ كان أزْهَر اللون، ليس بأبيض أمْهَقَ، ولا آدَم، قُبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. وقال‏:‏ إنما كان شيء ـ أي من الشيب ـ في صُدْغَيْه، وفـي رواية‏:‏ وفي الرأس نَبْذٌوقال أبو جُحَيْفة‏:‏ رأيت بياضاً تحت شفته السفلي، العَنْفَقَة‏.‏وقال عبد الله بن بُسْر‏:‏ كان في عنفقته شعرات بيض. وقال البراء‏:‏ كان مَرْبُوعًا، بَعِيدَ ما بين المَنْكِبَيْن، له شَعْر يبلغ شَحْمَة أذنيه، رأيته في حُلَّة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه. وكان يُسْدِل شعره أولاً لحبه موافقة أهل الكتاب، ثم فَرَق رأسه بعد.
  • قال البراء‏:‏ كان أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خُلُقًا. وسئل‏:‏ أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف‏؟‏ قال‏:‏ لا بل مثل القمر‏.‏ وفي رواية‏:‏ كان وجهه مستديراً. وقالت الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ‏:‏ لو رأيته رأيت الشمس طالعة. وقال جابر بن سَمُرَة‏:‏ رأيته في ليلة إضْحِيَانٍ، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر ـ وعليه حلة حمراء ـ فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هريرة‏:‏ ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرض تُطْوَي له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث.
  • وقال كعب بن مالك‏:‏ كان إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مرة وهو عند عائشة رضي الله عنها يَخْصِفُ نعلاً، وهي تغزل غزلاً، فجعلت تبرق أسارير وجهه، فلما رأته بُهِتَتْ وقالت‏:‏ والله لو رآك أبو كَبِير الهُذَلي لعلم أنك أحق بشعره من غيرك:
          وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل 

وكان أبو بكر إذا رآه يقول‏:‏ 
أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظلام 

وكان عمر ينشد قول زهير في هَرِم بن سِنَان‏:‏ 
لو كنت من شيء سوى البشر ** كنت المضيء لليلة البدر 
ثم يقول‏:‏ كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ 
وكان إذا غضب احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه حَبُّ الرمان‏.‏ 

وقال جابر بن سَمُرَة‏:‏ كان في ساقيه حُمُوشة، وكان لا يضحك إلا تَبَسُّماً‏.‏ وكنت إذا نظرت إليه قلت‏:‏ أكْحَل العينين، وليس بأكحل. وقال عمر بن الخطاب‏:‏ وكان من أحسن الناس ثَغْراًقال ابن عباس‏:‏ كان أفْلَجَ الثنيتين، إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.‏
  • وأما عُنُقه فكأنه جِيدُ دُمْيَةٍ في صفاء الفضة، وكان في أَشْفَاره عَطَف، وفي لحيته كثافة، وكان واسع الجبين، أزَجّ الحواجب في غير قرن بينهما، أقْنَي العِرْنِين، سَهْل الخَدَّيْن، من لُبَّتِه إلى سُرَّتِه شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشْعَر الذراعين والمنكبين، سَوَاءُ البطن والصدر، مَسِيح الصدر عريضه، طويل الزَّنْد، رَحْب الراحة، سَبْط القَصَب، خُمْصَان الأخْمَصَيْن، سَائِل الأطراف، إذا زَالَ زَالَ قَلْعاً، يخطو تَكَفِّياً ويمشي هَوْناً.‏ 

وقال أنس‏:‏ ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحاً قط أو عَرْفاً قط، وفي رواية‏:‏ ما شممت عنبراً قط ولا مِسْكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ 
وقال أبو جُحَيْفة‏:‏ أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك‏.‏ 
وقال جابر بن سمرة ـ وكان صبيا‏:‏ مسح خَدِّي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جُونَةِ عَطَّار‏.‏ 
وقال أنس‏:‏ كأن عرقه اللؤلؤ‏.‏ وقالت أم سليم‏:‏ هو من أطيب الطيب‏.‏ 
وقال جابر‏:‏ لم يسلك طريقاً فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عَرْفِه‏.‏ أو قال‏:‏ من ريح عرقه‏.‏ 
وكان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند نَاغِض كتفه اليسري جُمْعاً، عليه خِيَلان كأمثال الثَّآلِيل.‏ 


كمال النفس ومكارم الأخلاق‏ 
  • كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي.
  • وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة‏:‏ ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها‏.‏ وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً.
  • وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة‏.‏ وقال جابر: ما سئل شيئاً قط فقال‏:‏ لا.
  • وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي‏:‏ كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه‏.‏، قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول:‏ ‏(‏لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا)‏‏.‏
  • وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة‏.‏ وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف‏.‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول: ‏(‏ما بال أقوام يصنعون كذا)‏‏.‏ 
وكان أحق الناس بقول الفرزدق‏:‏ يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــلا يكلـم إلا حيـن يبتسـم 
  • وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له‏:‏ إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏} [‏الأنعام‏:‏33]‏‏.‏ وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قال‏:‏ لا.‏ 
  • وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة‏:‏ كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.‏ 
  • وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره‏.‏ كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل‏:‏ على ذبحها، وقال آخر‏:‏ على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعلي جمع الحطب‏)‏، فقالوا‏:‏ نحن نكفيك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه‏)‏، وقام وجمع الحطب.‏ 
  • ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.‏ 
  • وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.‏ الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.‏ 
  • كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن ـ لا يميز لنفسه مكاناً ـ إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم ـ لا تخشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.‏ 
  • كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه‏.‏ قد ترك نفسه من ثلاث‏:‏ الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث‏:‏ لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا‏.‏ لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول‏:‏ إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ.‏ 
  • وقال خارجة بن زيد‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به.‏ 
وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏} ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً.‏

وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن‏؟‏ 

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد‏.‏
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد‏

-------------------------------

المرجــع: الرحيق المختوم / للشيخ صفي الدين المباركفوري

الجمعة، 25 يناير 2013

عامان على الثـورة .... إبراهيم الهضيبى

يحتفل بعض شركاء الميدان بالذكرى الثانية للثورة، ويتظاهر بعضهم مطالبين باستكمال مسيرة الثورة والسعى بجدية لتحقيق مقاصدها، ويتظاهر غيرهم مطالبين بإسقاط الرئيس باعتباره وأنصاره العقبة الكبرى أمام الاستكمال، ويتفق هؤلاء جميعا على أن ثمة أسبابا للقلق من إعادة إنتاج نظام مبارك.
•••
حققت الثورة فى عاميها الأولين بعض الإنجازات، فأزاحت بعض الوجوه التى سممت المشهد السياسى وعلى رأسها وجوه الرئيس المخلوع وأسرته وكبار حاشيته، وكسرت خوف الناس من بطش الأجهزة الأمنية وإن كان نجاحها محدودا فى شل الإمكانات القمعية لتلك الأجهزة (غير أن استخدام القمع صار يستفز أكثر مما يخيف، فتكون نتائجه عكسية فى كل مرة)، وأزالت هالة القدسية التى كانت تحيط بالمؤسسة العسكرية، فتمنع من مناقشة أنشطتها السياسية والتفتيش عن مؤسساتها الاقتصادية وسبل إدارتها، وأكدت أن «الخطوط الحمراء» إنما هى سيادة الشعب ودماء المصريين لا المؤسسات التى تتشكل منهم وتتمول من ضرائبهم وتنشأ لخدمتهم.

ونجحت الثورة كذلك فى تحقيق بعض الانتصارات (وإن كانت جزئية) على نظام مبارك بعد أن هزمت شخصه، وذلك بإقصاء الفلول فى الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، وبإعادة بعد العدالة الاجتماعية للطاولة بعد أن كان غائبا بالكلية عن السياسات الاقتصادية فى العقد السابق للثورة، كما أنتج كسر القيود على العمل الاجتماعى والسياسى حراكا مجتمعيا وسياسيا واسعا، كان من نتائجه الصعود السياسى للإسلاميين، بيد أن حصره فى هذه النتيجة يتجاهل بعض نتائجه الأهم والأعمق، والتى تتكشف تباعا فى النقابات والجامعات والحركات الاجتماعية المختلفة، وبدأت آثارها تظهر فى بعض الأحزاب والهيئات التقليدية. 
•••
لا يسير التأريخ فى مسارات مستقيمة، ولم تكن كل نتائج الثورة المصرية إيجابية، فقد كان الصعود السياسى لتيارات تمتلك خبرات تنظيمية ولا تمتلك رؤية سياسية مصدر قلق للكثيرين، رغم أن مثل هذا الصعود (لأقوى فصائل المعارضة الإصلاحية فى النظام الذى تقوم عليه الثورة) يبدو منطقيا بالنظر فى تأريخ الثورات وفى المجتمع المصرى، وهو صعود يشكل تحديا للقوى الصاعدة أكثر مما يشكل تحديا للمجتمع، إذ يصعب على هذه القوى مواجهة حركة التأريخ ومصادمة نواميس الكون الغلابة (بتعبير الأستاذ البنا)، ومحاولتها إيقاف المسعى التغييرى (المنبنى على مطالبات اجتماعية متجذرة وجادة) تحتاج لعصا قمع لم تعد مؤثرة، وخياراتها ــ على المدى المتوسط والبعيد - بالتالى تقتصر على الاستجابة لهذه المطالبات وإدراك سنن الواقع، أو الإصرار على المنطق المحافظ للجماعة الذى سيؤدى لتجاوزها.

وفى كل الأحوال، فإن صعود الإسلاميين يعجل بطرح أسئلة ظلت مؤجلة عقودا طويلة، عن «كيفية» تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ومعنى تطبيق الشريعة فى دولة قُطْرِية حديثة، وتعريف الحريات الشخصية وحدود التماس بين الخاص والعام، والإجابات عن هذه الأسئلة ستؤدى لإفراز نماذج أكثر عمقا وتركيبا فى التعبير السياسى عن الهوية «الإسلامية».

ومن القضايا الرئيسة التى تواجه الثورة كذلك الأزمة الاقتصادية الحالة، لا من حيث المعاناة بوجودها فحسب، وإنما من حيث منطق الحكام فى التعامل معها (والذى يتشابه إلى حد بعيد مع منطق مبارك القائم على عدم المصارحة، ومحاولة ترحيل الأزمة بدلا من حلها)، والآثار المترتبة على سبل معالجتها، والتى قد تؤدى لإعادة «إحتواء» مصر اقتصاديا ــ ومن ثم سياسيا ــ من قبل محور الاعتدال بشقيه الأمريكى والخليجى (سواء سعوديته أو إماراته أو قطره)، والقضاء على آمال التحرر الوطنى التى قامت عليها الثورة، وليس خافيا أن الضغط الذى تمارسه بعض هذه الدول على مصر بدأ يؤتى أكله، وصار مؤثرا فى بعض القضايا، كالموقف من رموز النظام السابق.

ويرتبط بالأزمة الاقتصادية تحد آخر، هو استمرار الانشغال بقضايا الهوية (وهو انشغال غير جاد، يقوم على خطابات شعبوية أكثر مما يقوم على تصورات متكاملة تجيب عن الأسئلة الرئيسة التى سبقت الإشارة إليها) على حساب الحوار الجاد حول البدائل المختلفة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية وموجة الاحتجاج الاجتماعى المتصاعدة المصاحبة لها، ويبحث فى مترتبات كل بديل وآثاره الاجتماعية والاقتصادية وتلك المرتبطة بالسياسة الخارجية وببنية نظام الحكم، وهى كلها أسئلة لم تزل غير مطروحة، حتى عندما تتصدر القضية الاقتصادية ــ فى مناسبات نادرة ــ المشهد السياسى. 
•••

أما التحدى الأكبر الذى لم يزل يواجه الثورة فهو تحدى الانتقال، إذ ثمة اتفاق بين الأطراف المتعاركة على القلق من عودة نظام مبارك، سواء بإعادة إنتاج سياساته، أو باستعادة بعض رموزه قدرتهم على تصدر المشهد السياسى والتأثير فى مجريات الأمور، وهو قلق سببه الرئيس أن نظام مبارك لم تتم تنحيته أو تصفيته بشكل كامل، ولم يزل التعامل معه يتم بغير منهج محدد، ويبدو ذلك جليا ــ على سبيل المثال ــ فى التعامل «المطاط» مع مصطلح الفلول، الذى يتسع ويضيق بحسب الحاجة السياسية لكل طرف، ليستثنى حلفاءه ويشمل خصومه.

وتجاوز هذا القلق يستوجب التعامل بمنهجية أكثر انضباطا مع إرث النظام السابق على نحو يضمن الانتقال المؤسسى المانع لتكرار جرائم الماضى، وهو ما يتطلب ــ أولا ــ الكشف الكامل عن تلك الجرائم التى وقعت، وكيفية وقوعها، والأسباب المؤدية إليها، سواء الجرائم المتعلقة بالانتهاكات الحقوقية بدرجاتها المتباينة (من الإعدام خارج نطاق القانون الذى قامت به قوات الشرطة مع من استسلم من الإرهابيين الهاربين فى التسعينيات، وصولا للاحتجاز التعسفى)، أو المتعلقة بإفساد الحياة السياسية (من تزوير الانتخابات وحتى تفريغ المؤسسات الدستورية من مضمونها)، أو الفساد الاقتصادى (من تفشى الرشى واستغلال النفوذ لإهدار موارد الدولة)، أو المتعلقة بالإهمال فى مؤسسات الدولة المختلفة، والذى كانت نتيجته أرواح المصريين.

والكشف عن الحقائق يكون عن طريق لجان واسعة للعدالة الانتقالية، وبناء على تحقيقاتها يتحدد مستوى المسئولية السياسية التى تستوجب الاستبعاد والعزل السياسى، وتنبنى التغييرات فى المؤسسات والأشخاص على معايير واضحة، تدرأ شبهات «الأخونة»، وتساهم فى إزاحة القلق من إعادة إنتاج نظام مبارك، وتعين الحكام على التخلص من رءوس الفساد، وتزيل الأسباب التى أدت إليه.

الأربعاء، 23 يناير 2013

على أبواب العام الثالث للثورة ........ فهمي هويدي

حين تحل ذكرى الثورة المصرية فى 25 يناير الحالى، يكون الرئيس محمد مرسى قد أمضى فى منصبه سبعة أشهر فقط، الأمر الذى لا يسوغ لنا أن نصدر حكما منصفا على تجربته، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نسجل بعض الملاحظات التى برزت خلال تلك الفترة.
(1)
 أدرى أن كلمة «الإنصاف» لم تعد تلقى ترحيبا من جانب بعض العدميين، الذين يصرون على أن الثورة أجهضت أو سرقت. وأن مصر انتكست حتى أصبحت أوضاعها أسوأ مما كانت عليه فى السابق، أو الأسوأ على مدى تاريخها. وعند هؤلاء فإن الهجاء وكيل السباب والشتائم هو الموقف «الموضوعى» المقبول، وما عداه صار من تجليات الأخونة وأصداء الفاشية الدينية التى يلوحون بها. وهذا اقتباس بسيط ومهذب من أدبيات خطاب شيطنة الآخر الذى صرنا نطالعه كل يوم فى العديد من وسائل الإعلام.

أكثر ما يدعو إلى الأسف أن أمثال تلك السهام الملوثة التى يراد لها أن تستهدف السلطة القائمة يرتد أثرها على الثورة المصرية وليس على الرئيس وجماعته فقط. والمتابع لبعض المطبوعات التى تصدر فى العالم العربى يلاحظ حفاوتها الشديدة بمفردات ذلك الخطاب، الذى يصدر فى مصر لتصفية الحسابات مع الإخوان، لكنه يوظف فى خارجها للحط من شأن الثورة وتشويهها، من ثم لتحذير الجماهير العربية من التطلع إلى ذلك الطريق الذى لم يجلب لمصر سوى الندامة والنحس، عبرت عن ذلك إحدى الصحف المصرية هذا الأسبوع.

الذين يعممون ويوظفون خطاب الشيطنة الرائج عندنا لا ينتبهون غالبا إلى أن الحدث المصرى الذى سارع إلى التقاط الشرارة من الثورة التونسية يدشن تحولا تاريخيا ينتقل بمقتضاه العالم العربى من مرحلة مقاومة الاستعمار إلى مرحلة أخرى شعارها مقاومة الاستبداد والظلم الاجتماعى. وهذا التحول إذا كان قد تجلى فى انتفاضات أسقطت بعض الأنظمة العربية، فإن تجلياته مشهودة أيضا فى بقية أقطار الوطن العربى، من أقصاه إلى أقصاه. وهى الأقطار التى تتعلق أبصار شعوبها بالتجربة المصرية فى حين أصابها تسونامى من الدعوة إلى التغيير، التى ترددت أصداؤها قوية وملحة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعى وغيرها من قنوات التعبير الآخر، وتعاملت معها السلطات المحلية بدرجات متفاوتة من اللين والشدة.
(2)

لن نتوقف أمام العدميين الذين يصرون على تيئيسنا وتسويد الصورة أمام أعيننا، لكن الإنصاف الحقيقى يفرض علينا أن نرى الصورة من جوانبها المختلفة، الإيجابى منها والسلبى ــ فى الشق الأول لا نكاد نجد إنجازا مهما على صعيد السياسة الخارجية إلا فى الموقف إزاء القضية الفلسطينية، حيث لا ينكر أحد أن مصر فى الوقت الراهن خرجت من التحالف مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، وصار موقفها من فصائل المقاومة أكثر استقامة ونزاهة. أما فى الشأن الداخلى فبوسعنا أن نرصد إيجابيات عدة، سواء على صعيد الحريات العامة التى علا سقفها حتى بدت بغير سقف فى أحيان كثيرة، تشهد بذلك الممارسات التى تحفل بها الساحة الإعلامية والكيانات التى تظهر كل يوم فى الساحة السياسية، والتظاهرات التى ذهبت بعيدا فى أهدافها، حتى لم تستثنِ المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى ومقر رئاسة الجمهورية، ورغم أننى أرفض بعض تلك الممارسات ولا أؤيد التجاوزات التى وقعت خلال بعضها الآخر. كما أننى أتفهم موقف الذين ضاقت صدورهم بها لأن الأمر كان جديدا عليهم وصارما لهم، إلا أن كل ذلك جاء دالا على أن ثمة روحا جديدة بدأت تسرى فى مصر، ربما احتاجت إلى بعض الوقت لكى تتصف بالنضج والرشد.

على صعيد آخر، أعترف بأن فى نفسى شيئا يتحفظ على كثرة الإضرابات والوقفات الاحتجاجية وعمليات قطع الطرق التى يعمد إليها الغاضبون من الأهالى من الحين والآخر، إلا أن ثمة وجها إيجابيا لهذا السلوك يتمثل فى الجرأة التى واتت الجميع. وجعلت الناس يصرُّون على رفع أصواتهم ونيل حقوقهم وأقنعت كل مواطن بأنه شريك أصيل فى الوطن وليس جزءا من القطيع. ورغم الأضرار الاقتصادية التى ترتبت على ذلك. وهى ليست هينة، إلا أن التحدى الذى نواجهه فى الوقت الراهن صار يتمثل فى كيفية الوفاء بحقوق العاملين وإنصافهم، وفى الوقت ذاته ضمان استمرار واستقرار الوحدات الإنتاجية.

فى الجزء الملىء من الكوب لا يفوتنا أن نذكر إنجازين مهمين حدثا خلال الأشهر السبعة الماضية:
  • أحدهما يتمثل فى إنهاء حكم المجلس العسكرى وإحالة قيادته إلى التقاعد. بما استصحبه ذلك من إعادة للجيش إلى ثكناته لكى يستمر فى أداء واجبه الوطنى خارج السياسة.
  • أما الإنجاز الثانى فيتمثل فى إنهاء الدور السياسى للشرطة، وحصر مهمتها فى حماية الأمن الداخلى بعيدا عن استهداف أو قمع قوى سياسية دون غيرها. وإن ظل تحفظنا قائما على الأساليب التى لاتزال تستخدمها الشرطة متأثرة بمدرسة القمع القديمة.

بعد إجراء الانتخابات الرئاسية فإن الحفاظ على مجلس الشورى المنتخب، وتخويله سلطة إصدار التشريعات بصفة استثنائية إلى حين انتخاب مجلس النواب الجديد، ثم الانتهاء من إعداد الدستور بواسطة لجنته التأسيسية والاستفتاء عليه الذى انتهى بتأييد الأغلبية النسبية له، هذه الخطوات حتى إذا اختلف الرأى حولها، فإن أحدا لا ينكر أنها شكلت مقاربات باتجاه إقامة مؤسسات الدولة، التى كان النظام السابق قد عمل على تقزيمها وتهشميها.
(3)

بالمقابل ظهرت فى الساحة المصرية شقوق وسلبيات كانت سحبا من رصيد التجربة وليس إضافة إليها. وقد برزت تلك السلبيات فى ساحات عدة، والأمثلة على ذلك متعددة، فى مقدمتها ما يلى:

• إننا خسرنا التوافق الوطنى، إذ انقسمت النخبة التى توزعت على فصيلين أو معسكرين، أحدهما للقوى العلمانية والليبرالية واليسارية الذين قدموا أنفسهم بحسبانهم يمثلون التيار المدنى، والثانى للتيارات والتجمعات الإسلامية التى صنفت باعتبارها قوى دينية. وإذا كان الانقسام بحد ذاته أمرا مؤسفا. إلا أن ما ضاعف من الأسف أنه قام على أساس الهوية وليس على أساس الرؤية أو الاجتهاد السياسى.

• سواء لأن الرئيس مرسى لم يقم بما عليه فى تحقيق الائتلاف المنشود مع القوى الوطنية الأخرى، أو لأن ممثلى تلك القوى سعوا إلى محاولة حصاره وتوريطه فى تحمل المسئولية ليحملها وحده، هو وجماعته وحلفاؤه من السلفيين، فالشاهد أن الطرفين لم ينجحا فى اختبار التوافق. ولا أتردد فى القول إن مسئولية الرئيس أكبر فى هذا الصدد، لأن موقعه يسمح له بالدخول إلى التوافق فى أكثر من باب.

• إضافة إلى ما سبق ثمة علامات استفهام حول الكيفية التى صدرت بها بعض القرارات السياسية المهمة عن رئاسة الجمهورية، الأمر الذى أثار مستشاريه بمن فيهم نائب الرئيس ذاته، وهو ما أدى إلى انفضاض بعض المستشارين وممثلى القوى الوطنية المستقلة من حول الرئيس. فخسر بذلك أصدقاءه، فضلا على معارضيه، الأمر الذى أحدث فجوة بينه وبين المحيط السياسى. حتى بدا الدكتور مرسى وكأنه رئيس لفئة من المصريين وليس كلهم.

• لم ينجح الرئيس مرسى ولا حكومته فى التواصل مع المجتمع الذى كان ينبغى أن يصارح بحقيقة ما يجرى أولا بأول، على الأقل حتى لا يفاجأ ولا يضيق ذرعا بالقرارات التى تصدر، خصوصا ما تعلق منها بإجراءات التقشف وارتفاع الأسعار. وللأسف فإن رصيد التقاطع (مع القضاء والأقباط مثلا) كان أكبر وأوفر من رصيد التواصل.

• اتسمت بعض الخطى بعدم التوفيق (صياغة الإعلان الدستورى الشهير وطريقة إبعاد النائب العام مثلا) والتردد والارتجال فى خطى أخرى (زيادة الأسعار ثم إلغاء القرار بعد ساعات من إعلانه). وهو ما أثار علامات استفهام حائرة حول كفاءة الطاقم المحيط بالرئيس خصوصا مستشاريه السياسيين.

• ظهور السلفيين اللافت للنظر أفاد وأضر فى ذات الوقت. ويساورنى شك فى أن الضرر فيه كان أكثر من الفائدة. هو أفاد من حيث إنه أظهر على السطح ما كان يتحرك بعيدا عن الأعين، فرأينا فيه ما لم يكن متاحا لنا أن نراه من قبل. أما الضرر فيه فراجع إلى أن خروجهم كان مفاجئا ولم يكونوا مستعدين أو مؤهلين له. فصدرت عنهم آراء وتحاربات شوهت التجربة وأساءت إليها. ونسبت تلك الإساءات ليس إلى أصحابها، ولكن إلى مجمل التوجه الإسلامى، ومن ثم فإنها استخدمت كفزاعة خوفت كثيرين وروعتهم، ليس بين الأقباط فحسب ولكن بين المسلمين أيضا. وإذا قال قائل بان الترويع راجع إلى الاصطياد من جانب بعض وسائل الإعلام فلن أختلف معه، لكن أضيف أن أداءهم هو الذى وفر لهم الذرائع التى استخدموها فى «الترويع والتخويف».

• أما «أم السلبيات» فهى أن إدارة الرئيس مرسى لم تنجح فى أن تقدم إلينا حتى الآن على الأقل رؤية أو تصورا واضحا للمستقبل على مختلف الأصعدة خصوصا فى السياسة الاقتصادية حتى بدت وكأنها لا تحمل جديدا سوى أنها إدارة نظيفة وغير مستبدة.

وإذا كانت قد قدمت أداء أكثر نزاهة فى الشأن الفلسطينى فإن ذلك يحمد لها لا ريب، إلا أننى أرجو ألا تكون قد اضطرت إلى ذلك لكى تخرج من عباءة «الكنز الاستراتيجى» لإسرائيل، الذى يعد من صميم الحرام السياسى.

• لا نستطيع أن نطوى صفحة السلبيات دون أن نشير إلى بروز دور فلول النظام السابق، ومحاولتهم اكتساب الشرعية سواء من خلال تأسيس حزب لهم، أو من خلال تحالف بعض المعارضين العلمانيين معهم لمواجهة الإخوان باعتبارهم خصما مشتركا للطرفين. 
(4)

أدرى أننا نتحدث عن تركة ثلاثين سنة حولت مصر إلى أنقاض لم ينافس الخراب الاقتصادى فيها سوى الخراب السياسى والاجتماعى، ولا أستطيع أن أتجاهل حقيقة أن الرئيس محمد مرسى تسلم منصبه منذ سبعة أشهر فقط. ولا يزال أمامه أكثر من ٤٠ شهرا أخرى لتنتهى مدته، ولا أنسى مقولة الرئيس البرتغالى السابق جورج سامبايو التى ذكر فيها أن بلاده احتاجت إلى سبع سنوات لوضع القطار على السكة وبناء الدولة بشكل صحى.
ورغم أن ما أوردته هو مجرد ملاحظات وليست أحكاما، إلا أننا ينبغى أن نعذر إذا رفعنا سقف توقعاتنا طالما أن الرئيس وحكومته لم يصارحونا بحقائق التركة التى تسلموها. ولم يخبرونا بالأمد الذى علينا أن نتوقعه لكى نضع قطارنا على السكة. ولم يحدثونا إلا مضطرين مؤخرا، حين استحكمت المشكلة الاقتصادية وسرت شائعات تحدثت عن أن مصر على وشك الإفلاس. وهو ما تم نفيه رسميا، إلا أننا صرنا نرقب الجنيه المصرى، وهو يترنح هذه الأيام ولا يزال مصيره مجهولا.

لا يستطيع مثلى أن يقترح مخرجا من عنق الزجاجة الذى صرنا إليه. لكننى أفهم أن الظروف الاستثنائية ينبغى أن تواجه بإجراءات استثنائية، باعتبار أن الحديد لا يفله إلا الحديد. إلا أننى أزعم أن أداء الرئيس مرسى والحكومة ــ الذى نراه على الأقل ــ يتسم برتابة محيرة فى مواجهة العواصف التى تحيط بنا. إذ ألاحظ أنهم يتصرفون بهدوء شديد وأعصاب باردة، كأن أوضاعنا مستقرة وأمورنا على خير ما يرام، وكأن ما يعترضنا مجرد سحابات فى الأفق سرعان ما تتبدد وتنجلى بقدر قادر.

لقد تمنيت أن تبدأ السنة الثالثة من عمر الثورة بخطوة شجاعة يدعو فيها الرئيس مرسى إلى إبرام عقد اجتماعى جديد مع مختلف القوى السياسية، يكون إعلانا عن الانتقال إلى طور جديد فى مسيرة العمل الوطنى يقرب إلى أذهاننا فكرة وضع القطار على السكة. ليس لأجل مصر وحدها، ولكن لأجل الأمة العربية بأسرها.

الثلاثاء، 22 يناير 2013

حوار مع المفكر والخبير الإستراتيجي الدكتور جاسم بن سلطان مؤسس المشروع الفكري للنهضة

حوار مع المفكر والخبير الإستراتيجي الدكتور جاسم بن سلطان
مؤسس المشروع الفكري للنهضة

أهم تصريحات الشيخ خلال الحوار:
 بعضًا من التيار الإسلامي، يحتاج إلى تحولات جذرية كبرى؛ حتى يستطيع أن يدرك مبادئ الحرية ومبادئ التعايش مع الآخَر
 الحكم على الإسلاميين تمَّ نتيجة كمية الكتابات الإسلامية التي كانت تتمُّ في الفضاءات المُغلَقة.
 أعتقد - إن شاء الله - أن التيار الإسلامي سيَنجح في العبور بالأمَّة، وستُصبح التجربة الإسلامية عبرةً للآخَرين.
 ليس هناك خطاب إسلامي واحد، ولكن هناك خطابات إسلامية متعددة.
 إذا كنتَ أكثر تنظيمًا واستفادةً مِن الحدث، فاجعل لك فضلاً؛ لتقود المجتمعات إلى الخير
 هناك أفكار لم يعالجها الإسلاميون بسبب انشغالاتهم في الفضاءات السياسية
♦ الأهم أن يصبح المجتمع صالحًا في نظام الأفكار الحاكمة ونظام السلوك الحضاري في المجتمع
 نصيحتي للجماعات الدعوية: ما دام قد وُجد مَن يقوم عنكم بالأمور السياسية، فلتَفرغوا لمُهمَّتِكم الأساسية، وهي إصلاح عالَم الأفكار وعالم الأخلاق وعالم السلوك.
 نحتاج اليوم من التنظيمات القائمة والموجودة أن يَخلقوا فضاءً فكريًّا رحبًا لكل الناس
 لا شك أنه كلما زادت الفجوة بين الناس، وأصبح كل واحد يسير برأسه، قلَّت الفُرصة لنهضة المجتمعات.
 النهضة عبارة عن تعاوُن أغلب المجتمع للعبور بالمجتمع إلى برِّ الأمان
 السبيل إلى تأليف القلوب، والقضاء على التعصُّب هو إصلاح العقل، وإصلاح الوجدان.

بطاقة تعريفية بالضيف الكريم:
درس الطبَّ، وعمل بمجال الإدارة الطبية، لكن غرامه بالعلوم الإنسانية جعله يسعى لدراسة الشريعة على يد المشايخ، وكذلك دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية، والقراءة لابن تيمية وابن القيم وسيد قطب وسعيد حوى وغيرهم، عمل مديرًا لأحد المستشفيات القطَرية لمدة خمسة عشر عامًا، انتسب إلى تنظيم الإخوان المسلمين بقطر، ولكنه رأى هو وزملاؤه عدم احتياج قطر إلى وجود مثل هذه التنظيمات؛ فقرَّروا حل الجماعة، وعكف بعدها على إعداد مشروع النهضة، وهو مشروع فِكريٌّ، يعمل على معالجة عالم الأفكار؛ من خلال إنتاج الكتب، وتقديم الدورات التدريبية في المجال الفِكريِّ، ولا علاقة له بمشروع النهضة الذي أطلقتْه جماعة الإخوان المسلمين في قطر، وقد استهدف المشروع إعداد اثنين وعشرين كتابًا، صدر منها سبعة كتب حتى الآن، وهي"مِن الصحوة إلى اليقَظة.. إستراتيجيَّة الإدراك للحراك"، "قوانين النهضة.. القواعد الإستراتيجية في الصراع والتدافُع الحضاري"، "فلسفة التاريخ"، "الذاكرة التاريخية.. نحو وعي إستراتيجي بالتاريخ"، "التفكير الإستراتيجي والخروج مِن المأزق الراهن"، "قواعد في الممارسة السياسية"، "خطوتك الأولى نحو فهم الاقتصاد"، وغيرها مِن الكتُب.

إنه الدكتور جاسم سلطان المُفكِّر الإسلامي والخبير الإستراتيجي، ضيفنا في هذا الحوار حول مشروع النهضة، ورؤيته للمستقبل عقب ثورات الربيع العربيفإلى نص الحوار:

في البداية اسمح لنا أن نُعرف القارئ الكريم بالدكتور: جاسم سلطان، وكيف أصبحت المُفكِّر والخبير الإستراتيجي ومؤسِّس مشروع النهضة؟
د. جاسم:
دعْني أبدأ من نهاية السؤال، مُفكِّر وخبير ومؤسس مشروع النهضة هذا كلام سردي، أنا أزعم أن أبسط تعريف عن شخصي: جاسم محمد سلطان، وتخصُّصي أساسًا الطب، ودرست إلى جانبه الإدارة، وانشغلت في العلوم الإنسانية، وأما الكتابة في مجال النهضة، فهي أفكار تجمعت عبر مشوار العمر، وحاولت أن أشترك فيها مع القراء، أنا لا أقول عنها: مشروع النهضة، بل أقول: إنها مساهمات في مشروع النهضة، وإن كانت خيرًا، فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يَجزيَنا عليها، وإن كانت شرًّا، فالله يُجنِّب الأمَّةَ شرَّها.

بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في مصر وتونس، ما هو واجب المرحلة بالنسبة للتيار الإسلامي؟
د. جاسم:
أنا أعتقد أن التيار الإسلامي أمام مهمة كبيرة جدًّا، فهذه الأحداث فاجأته ولم يكن جاهزًا لهذه المرحلة، وفجأةً بعد التخفي والخوف والقلق وسياسة المحافظة على الدار، وجَد نفسه عليه أن يقود دولاً بها 80 مليونًا و 90 مليونًا، وبها مشاقٌّ لا حصر لها، وبالتالي يحتاج أن يسير على مسارَين: فمَن همْ في السُّلطة - أسأل الله أن يعينهم - سُوِّدوا قبل التعلُّم، والأصل أن يتعلموا قبل أن يسودوا، وربما سيَمرون بمرحلة تعلُّم شديدة، وهذا يعتمد على كفاءة الخبراء، أما بقية التيار الإسلامي، فيحتاج إلى تحولات جذرية كبرى؛ حتى يستطيع أن يدرك مبادئ الحرية ومبادئ التعايش مع الآخَر، وأنا أعتقد أن التيار الإسلامي سيُعاني في المرحلة المقبلة بين الناس الذين يقتربون من واقع الحياة وبين الناس البعيدين عن واقع الحياة؛ البعيد عن واقع الحياة سيَظل يُردِّد المقولات القديمة، والذي في واقع الحياة يعلم أن هذه المقولات لا تصلح أن تسير في الحياة، والكل مهتم بالدِّين، لكن الكل لا يجد حلاًّ ليَربط بين هذه وتلك، فالتيار الإسلامي سيَمرُّ بمرحلة تعلُّم صعبة خلال الفترة القادمة.

وما تقييمك لأداء الإسلاميين في هذه الفترة؟
د. جاسم:
أنا أرى أن الإسلاميين قطعوا شوطًا كبيرًا جدًّا؛ يعنى إذا لاحظناهم مِن قبل هذه التحوُّلات ومقولاتهم الأساسية أنهم لا يُريدون أن يكونوا كل شيء والآخَرون يَخرجون من اللعبة، وهم يتكلمون الآن عن التعايش داخل المجتمع، وهذه قفزة كبيرة جدًّا، والقَبول بلعبة الديمقراطية والدخول في الانتخابات هي قفزة كبيرة أيضًا لم يُحَضَّر لها، هي تمَّت بفعل الواقع الذي سار، كذلك العلاقة مع العالم؛ فأنْ تذهبَ إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وتَشرَح لهم واقع الإسلاميين - هذا شيء جديد تمامًا، ولم يُحضَّر له لا فكريًّا ولا منهجيًّا، وسيحدث أيضًا ذاك التصدُّع داخل المنظومات القديمة، والاختلاف بينها وبين المنظومات الجديدة التي تنشأ؛ وموضوع القَبول بالمُختلِف دينًا، وأن له وضعًا مساويًا لهم في الحياة، هذه أيضًا قفزة كبيرة جدًّا لم يُحضَّر لها فكريًّا؛ ولكنها أيضًا حدثت من الواقع الموجود، والإحساس بأن المجتمع أكبر من الجماعات الإسلامية؛ فالجماعات الإسلامية كانت تَعتقد أنها بطريقةٍ ما هي المجتمع، ثم اكتشفت أن المجتمع كبير جدًّا، وقابلٌ أن يَرفضها أو يتقبَّلها، قد ينتخبهم اليوم ويقول لهم غدًا: لا، هذه التغيُّرات أعتقد من الممكن أن تُهدِّد التيار الإسلامي بشكل كبير جدًّا مثل بقية القوى حتى اليساريين والقوميين تنطبق عليهم نفس المعادلات، فهم لم يَألفوا أن يتعايَشوا في جو الحرية، وأنه من الممكن أن يفوز عليهم إسلاميٌّ في الانتخابات.


الخوف من الإسلاميين سمة بارزة في كتابات ولقاءات الليبراليين والعلمانيين، لماذا هذا الخوف من وجهة نظرك، وهل نجاح الإسلاميين طريق إلى الاستبداد الديني كما يزعمون؟
د. جاسم:
ليس هناك تلازُمٌ بين الحالتين، الحكم على الإسلاميين تمَّ نتيجة كمية الكتابات الإسلامية التي كانت تتمُّ في الفضاءات المُغلَقة، والتي كانت تُعيد إنتاج القرن الخامس الهِجري وأيام الفتن الصليبية، ولو أدرك شيخ الإسلام ابن تيمية أو الغزالي أو النووي عصرنا، لكان لهم اجتهاد ربما صادِم لنا في هذه اللحظة التاريخية؛ لأن تغيُّر العصور وتغيُّر الأزمنة تؤدي إلى تغيُّر الاجتهاد، فمعظم كتُب ابن القيم كانت عن علاقة الواقع بالأحكام الشرعية، وهذا لم يكن جزءًا من الدراسة الحقيقية للتيار الإسلامي، فالتيار الإسلامي بشكل عام يتعلم مثل بقية التيارات، وعنده الفرصة أن يُثبت أن هذه المقولات خاطئة، وهذه التخوُّفات تُعتبَر شكوكًا بالنسبة للآخَرين، فإما أن تتعدَّد، وإما أن يُثبت التيار الإسلامي أنه يَمتلك مِن الخيرية والرشْد للرد على هذه المقولات، وأنه لا يُخطئ، وأنا أعتقد - إن شاء الله - أن التيار الإسلامي سيَنجح في العبور بالأمَّة، وستُصبح التجربة الإسلامية عبرةً للآخَرين، حتى لو أن ليبراليًّا أو أن علمانيًّا أو أي أحد جاء للسلطة سيُصبِح المعيار ما فعله الإسلاميون، وأرجو مِن الله أن يقدِّموا نموذجًا للحرية والمساواة وتقبُّل الآخر، وبالتالي نَعبر هذا الامتحان.

فالناس كانت تظنُّ مِن هذه الكتابات القديمة أننا سنمارس هذا الاستبداد، فإذا لم نمارس الاستبداد، فالناس سيقولون: إن هذا كلام مُدَّعى على الإسلاميين، وسيَنسَون هذه الكتابات.

كيف تقيِّم الخطاب الإسلامي المعاصر، وهل ترى أنَّ التيار الإسلامي بحاجة إلى التجديد أو تغيير بعض الأفكار؟
د. جاسم:
ليس هناك خطاب إسلامي واحد، ولكن هناك خطابات إسلامية؛ يَعني الفارق مثلاً ما بين الشيخ راشد الغنوشي وبين أجزاء مِن تيار الإخوان فارق فلَكي، فهما في نفس التنظيم وفي منظومة فكرية واحدة؛ ولكن الفارق بينهم كبير جدًّا، فما بالك إذا تكلمنا عن التيار الإخواني والسلفي والجهادي والتبليغي ومَن ليس منتميًا إلى تيار معيَّن وكان من الإسلاميين؟ فطيف الإسلام طيفٌ واسع، وهذا شيء طبيعي جدًّا؛ لاختلاف العقول واختلاف الشهادات؛ السؤال كبير جدًّا، ولكن أي هذه الخطابات هو الأكثر ملاءمة للعصر، الذي سيَعبر بالأمة للتقدُّم، ويُقلِّل عليها تكلفة العبور؟

نحن في مائدة كثيرة الوجبات، منها البارد جدًّا وليس له نَكهَة، ومنها الساخن جدًّا غير القابل للبلع المَليء بالفلفل والشطة، وهناك وجبات وتيارات أخرى، لكن تحت هذا كله هناك مجموعة أفكار غير مُناسِبة للعبور، وهذه تحتاج إلى تحليل فكري من أهل العلم؛ لأنها مُتعلِّقة بالعلاقة بالحياة، والعلاقة بالبشر، والعلاقة مع الآخَر غير المسلم، هذه الأفكار ما زالت تُحيط بنا، وهي عبء على تقدُّم المسلمين، نسأل الله أن يَنبري لها أهل العلم ويُعيدوا إنتاج هذه الطريقة بعد هذه المعارف الكبيرة والتحوُّلات.

وكيف ترى خارطة الإسلاميين في العالم العربي قبل الثورات وبعدها؟
د. جاسم:
الجانب الممتاز جدًّا في الحدث أن اكتشاف لحظة التقدُّم لم تتمَّ على أيدي الإسلاميين، ولكن تمت على يد الشعب كله والشباب، فالحرية تمت على يد هؤلاء، وبالتالي استفاد الإسلاميون؛ لأنهم أكثر تنظيمًا من هؤلاء الناس، وهذا جعل المعادلة متوازنة، فإذا كنتَ أكثر تنظيمًا واستفادةً مِن الحدث، فاجعل لك فضلاً؛ لتقود المجتمعات في الخير، وها نحن سجَّلنا لكم لحظة تاريخية لم تكونوا تحلمون بها، ومعلوم أنه في بعض البلاد لم يكن يحلم أحسن واحد أن يُقابِل نقيبًا في الشرطة، اليوم أصبحت الحياة مفتوحة ووصل الإسلاميون للبرلمان، وهي إن صح التعبير جزء مِن هذا الاختبار: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7]، فهل عملُنا سيكون أحسن من الطغاة السابقين؟ هل عملنا سيكون لنفع الإنسان بل نفع الإنسانية كلها وليس المسلمين فقط؟ إذا نجحنا في هذا الاختبار سيقول الناس: فعلاً الإسلام يصلح في أي زمان ومكان.

كان مالك بن نبي يرى أن أكبر خطر تعرَّض له مشروع النهضة هو أنه صودر لصالح الفِكرة السياسية، على ضوء ذلك كيف ترى مشروع النهضة في مصر والذي قام به حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة
الإخوان، وهل لكم علاقة بهذا المشروع؟
د. جاسم:
في الحقيقة ما لنا علاقة إلا علاقة المسلم العادي بكل المشروع الإسلامي، وبفضل الله - عز وجل - اللحظة التاريخية خلَّفت علاقات حميمة ما بين كثير من العقلاء داخل التيارات كالسلفيين والإخوان وغيرهم، ولا شك أنه يظل داخل هذه التيارات مِن هو مُحتقن ويُحارب التيارات الأخرى، ولكنْ كثير من الأحبَّة الموجودين هم عبارة عن خليط مِن الناس الموجودين.

أما عن مقدِّمة سؤالك، فتعالَ لنعرف ماذا حدث، التيار الإسلامي منذ بداية القرن الماضي ومِن بعد جهود محمد عبده في التعليم، انخرط التيار الإسلامي في فضاء السياسة؛ لمُحاوَلة الوصول للسلطة باعتبار أن العقَبة أمام المشروع الإسلامي هو فقط السُّلطة، ونسي أن الذي يقف أمام المشروع الإسلامي هو نظام الأفكار والسلوك، وأن جزءًا من هذه المشكلة هو النظام السياسي، وليس كل النظام السياسي، وكان مِن المفروض أن تفكيك نظام الأفكار ونظام السلوك يَسيرُ جنبًا إلى جنب مع تفكيك النظام السياسي إن صحَّ التعبير، وإعادة إنتاجه بحيث يُصبِح أكثر حرية وعدالة ومساواة، لكن التيار الإسلامي نتيجة الكثير مِن العوامل التي كانت موجودة - وأخطرها الضغوط الموجودة على العالم الإسلامي - أصبح تيارًا غامضًا، ويَعتقِد أن الحل في السياسة، واتجه كليًّا إليها.

وها نحن اليومَ نرى الواجبات التي لم نَفعلْها - وهي تحرير الفضاء الثقافي مِن الأفكار المُعيقة - قد بدأت تخرج الآن، وبمتابعة الأخبار بتونس نرى أنه تمَّ ضرب الحاضرين في أحد المؤتمرات بالنار؛ نتيجة وجود جزء من التيار الإسلامي وعْيُه أن تبليغ الدعوة أن تَحمل عصًا وتدخل على الناس وتَضرِب فيهم، وهو لا يرى أنه يُسيء للإسلام وللمسلمين، وأنه يدمِّر الصورة الحضارية للمجتمع الذي يعيش فيه، وهذه أفكار قاتلة لم يتمَّ التعامل معها من قبل، وهذا كله يعتبر امتحانًا مؤجَّلاً لم يخضْه الإسلاميون ولم يَدرسوا له، وهو الآن يتفجَّر في الفضاءات ويُنشئ تيارات عنْف.

هذا كله عبارة عن أفكار لم يعالجها الإسلاميون بسبب انشغالاتهم في الفضاءات السياسية، وأنا واحد من الناس أعتقد أن كل امتحان أجَّلْناه يظهر لنا في شكل أسئلة في المرحلة المقبلة، وبالتالي لا بدَّ أن يسير الأمر في اتجاهين، السياسة مهمَّة والحكم مُهمٌّ، وتدبير شؤون المجتمع مُهمٌّ جدًّا، والأهم أن يصبح المجتمع صالحًا في نظام الأفكار الحاكمة ونظام السلوك الحضاري في المجتمع، يجب أن يكون جزءًا من الخطاب الإسلامي، وأن ننتهي من مرحلة الإسلام الغامض إلى مرحلة الإسلام الموجود الذي يَقيس الأمور ويحسبها، وأنا أعتقد أن هذا واضح في قمة الهرم الإسلامي عند الفاهمين للسياسة؛ فعلامات الرشْد تظهَر؛ لكنها ليست عميقة.

عفوًا أستاذنا، ولكن هناك بعض التيارات لا علاقة لها بالعمل السياسي؛ كالجمعية الشرعية، وأنصار السنة، والتبليغ والدعوة، هذه التيارات اختطَّت لنفسها ألا تعمل بالسياسة، وأن تقوم بواجب الدعوة والإرشاد.
د. جاسم:
هذه الجماعات وجودها مُهمٌّ جدًّا في هذه المرحلة القادمة؛ للمحافظة على المجتمعات، وسيكون لها دور كبير جدًّا، وأيضًا ستَحدُث عندها تحولات بأنماط العمل وأشكال العمل والحياة العمَلية؛ لكن نصيحتي لهذه الجماعات أنهم ما دام قد وُجد مَن يقوم عنهم بالأمور السياسية، فليَفرغوا لمُهمَّتِهم الأساسية، وهي إصلاح عالَم الأفكار وعالم الأخلاق وعالم السلوك، لكن هم أيضًا يَحتاجون إلى تطوُّرات أخرى في الفِكر، عليهم أن يَقوموا بها.

وماذا إذًا عن تجربتكم مع تنظيم الإخوان المسلمين؟
د. جاسم:
تجربة تنظيم الإخوان المسلمين في قطر تجربة تقليدية تمامًا، تجمُّع شبابي مثل كل التجمعات الشبابية التي بدأت في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بالنسبة للتجربة الخاصة بنا - وركِّز على كلمة الخاصة - وجدْنا أن الدولة لا تحتاج إلى هذا النمط من التنظيم؛ لأن هذه المسألة - إن صحَّ التعبير - تَنطبِق عليها الأحكام الشرعية، إما أن الشيء واجب أو جائز أو محرَّم أو مُستحبٌّ أو مكروه؛ وفي الحالة التي كنا فيها وجدنا أنه لا داعي لوجود التنظيم، أو أن المجتمع لا يَحتاج لهذا النمط، وهذا أمر غير معمَّم في كل المجتمعات؛ فكل مجتمع له ظروفه الخاصة.

في اعتقادي أننا نحتاج اليوم في التنظيمات القائمة والموجودة أن يَخلقوا فضاءً فكريًّا رحبًا لكل الناس، فعمليات الخندق الضيِّق لم تعدْ مناسِبة، وإذا كانت جائزةً في مرحلة من المراحل، فهي في هذه المرحلة عبْء على الأمة، وبالتالي لن تحدث عملية انفتاح فكري وتقبُّل المسلمين كمسلمين، والتعاطي معهم باعتبارهم إما أنهم أناس صالحون أو أنهم مشروع صلاح؛ فالفارق بين شخص وشخص هو عبارة عن فارق زمن وليس فارقًا نَوعيًّا، هناك شخص بلغَتْه لحظة التغيُّر فتغير للأحسن، وآخَر لم يَحدث له ذلك.

السلفية، الإخوان، أنصار السنة، التبليغ والدعوة، كيف ترى هذه المسميات؟
د. جاسم:
في تقديري أن أفضل مُسمى هو الذي سماه ربُّ العزة، ولذلك ربُّ العزة لما تكلم عن المسلمين عبر التاريخ قال: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [البقرة: 62] فهو داخل في مُسمى المسلمين، ولكن حدثَت هناك ظروف معيَّنة دفعَت الناس للتخندُق تحت مسمى الإسلاميِّين، وبعدها تطوَّر الأمر فظهر إسلاميُّون سلفيُّون وإسلاميُّون تبليغيون وهكذا، وأيضًا داخل هؤلاء الإسلاميِّين تجد المتساهل والمُتشدِّد، وهكذا.

أنا أجد أن كل هذا حلُّه الأساسي هو أن يَحدث وعْي أن نكون مسلمين لله - عز وجل - بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، هي درجة كافية للاجتهاد، بعد ذلك هناك الاجتهادات الخاصة، وبالتالي لا ميزة لأحد إلا بخدمة المسلمين، ولو خدَم شخصٌ الإسلاميِّين لا يستعلي عليهم بأنهم إسلاميُّون وهو لا، هي ليست درجتَين، إنما نحن مسلمون نتعاون في الخير مع البشرية كلها، الناس بالنسبة لنا واحد، إما أخٌ لنا في الدِّين أو أخ لنا في الإنسانية، ونتعاطى معهم على ذلك.

ثقافة التشدُّد والعنف الموجودة في بعض التيارات الإسلامية، كيف ترى هذه الظاهرة وما الحل لمواجهتها؟
د. جاسم:
هي عبارة عن طبيعة بشرية تجد لها ذريعةً في الدِّين، فهناك شخص عنيد وحادٌّ بطبعه، وعندما يجد ستارًا دينيًّا يرى أن زيادة الخير خيرَان، فيَلوي النصوص على هواه، وبالتالي مثلاً يقرأ عشرة أشخاص كتُب سيد قطب ويفهمونها بأفهام مختلفة؛ وذلك لاختلاف البيئة النفسية لكل إنسان، فهو يُسقِط قناعاته على النص الموجود، فيَخرج واحد تكفيري، وآخَر عالم ومفكِّر وباحث، ويدعو للعدالة والإنسانية وهو قرأ نفس الكتاب، أنا أعتقد أن بيئة التشدُّد هي عبارة عن حالة غضبٍ شديدة جدًّا في أمور كثيرة، وجدت ستارًا لها في كل الأديان في التديُّن؛ ففي الهندوس ستجد تيارًا كبيرًا جدًّا مسالمًا، ولكن ستجد أشخاصًا يَستخدمون العنف، وفي البوذية أيضًا - مع أنها دعوة سلام شامل في كل الأشياء - إلا أنك ستجد أيضًا أشخاصًا يتجهون إلى الدعوة بالعنف؛ لأن الناس تُسقط أهواءها على النصوص.

أنا أعتقد أن هذه الظاهرة ستَظلُّ باقية، لكن واجب المجتمعات التضييق عليها، والحد مِن انتشارها؛ لأنها ظاهرة عنْف غير مبرَّرة في الشريعة الإسلامية، أو في إطار المذاهب الإنسانية بشكل عام، لكن لا يُمكن إزالتها؛ لأنها جزء من المجتمع.

هل ترى من الواجب على التيار الإسلامي نفسِه أن يُحاور هؤلاء ويُناظِرهم؟
د. جاسم:
نعم؛ هو من أكثر الواجبات، وهذا يتمُّ مِن خلال الخطوات التالية:
أولاًجمع النصوص وتنسيقها؛ بحيث لا تبدو مُتضارِبة، فيجد فيها المتشدِّد ذريعةً لمدخَل مِن مداخله.
ثانيًا: النصوص التاريخية التي أنتجها الفقهاء وشكَّلت ذرائع لهؤلاء الناس، ولم يُراعوا الظرف الذي نشأت فيه، أيضًا تحتاج إلى مراجعة ومتابَعة وتفتيت؛ بحيث تعود إلى طبيعتها.
ثالثًا: تحصين الناس في مرحلة مُبكِّرة؛ لأنه لا يُمكننا منع الناس مِن القراءة، فنقوم بتحصينه حتى لو اطلع على هذه الكتب يكون عنده مناعة، هذا طبعًا واجب التيارات والعلماء، فلا نكتفي بإدانة الظاهرة؛ ولكن نحاوِل أن نجد العلاج الجذري للأسُس التي تُعيد إنتاجها.

واقع المسلمين اليوم يُنبئ عن قدر كبير مِن التفرُّق والتشرذُم؛ بسبب الاختلاف حول بعض القضايا، ألا يؤدي هذا الاختلاف إلى إعاقة النهضة؟
د. جاسم:
لا شك أنه كلما زادت الفجوة بين الناس، وأصبح كل واحد يسير برأسه، قلَّت الفُرصة لنهضة المجتمعات؛ لأن النهضة عبارة عن تعاوُن أغلب المجتمع للعبور بالمجتمع إلى برِّ الأمان، وداخل هذا العبورِ تحتاج إلى تنازُلات كبرى؛ بل ومريرة أحيانًا، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - أعلمه ربُّه بالمنافقين في المدينة، لكنه لم يتَّخذ إجراءً ضدَّهم، ولم يُسمِّهم للناس، وهؤلاء لم يكن عندهم نفاق سلوكي، كان عندهم نِفاق اعتقادي، وكانوا يُشكِّلون خطرًا على المجتمع المسلم؛ لأنهم يتعاونون مع الأعداء، فهذه التسويات لضبط النسيج الاجتماعي وعدم تفجيره، لا تحتاج فقط لتعليم الكِتاب، ولكن تحتاج لتعليم الكتاب والحكمة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء ليُعلمنا الكتاب والحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه؛ حتى لا يكون العلاج أكثر ضررًا مِن النتيجة.

في ليبيا، ذهب البعض وهدَموا الأضرحة وكانت النتيجة كارثية: 12 قتيلاً، مِن أجل شخص ميِّت قتلْتَ 12 مسلمًا، وفتحْتَ جبهةً على دولة ناشئة، كان الأولى أن تَنتظر وتُصلح ما في عقول الناس؛ حتى يَصلح سلوكهم، لكنك سارعت وهدمْت القُبَّة، وهم سيُقيمون قبَّة غيرها، وتُصبح المحصلة أنك لم تفعل شيئًا، بل أسأت؛ هذا اللاوعي في النسيج الاجتماعي والبِنية الاجتماعية المعاصرة، يجعل العلاجات أحيانًا أشدَّ خطرًا مِن الداء نفسه، فالداء قد يكون بسيطًا؛ لكن العلاج هو الذي يَقتُل المريض ويَقتُل المجتمع معه.

﴿ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164] فالكتاب سهْل، وحفْظ النصوص سهل، أما الحكمة، فهي أن تضع النصوص في مكانها وفي زمانها، وعند الأشخاص المناسبين لها، هذا الأمر الأصعب، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدَّم قُدوات عدَّة؛ ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثُو عهد بجاهلية، لنقضتُ هذا البيت وأقمته على قواعد إبراهيم))، ((يا عائشة، متى عرفتِني فاجرًا لعّانًا؟!))، وكان المنافقون يأتونه فيَتبسم لهم ويجلسون عنده ويتحدَّثون، وكذلك اليهود؛ كان مِن الممكن أن يقول: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] ويضرب أعناقهم.

إن عدم وضع الشيء في موضعه هو أبو الأمراض الشديدة عندنا؛ لأن التعليم الديني يُحسن تحفيظ الناس الأشياء؛ لكن لا نقول لهم الحِكمة، كأن تعطي إنسانًا سلاحًا وفيه نيشان مضبوط وقنابل لا مثيل لها ورصاصة تَخرم الأستار، ولا تقول له كيف يستخدمه، وما الحِكمة من استخدامه، ومتى لا نستخدمه، وفي أيِّ ظرف يكون ضرره أكبر مِن نفعه، هذا يحدث مع النصوص الدينيَّة عندما نُعلِّمها.

وكيف السبيل إلى تأليف القلوب، ورأب الصدع، والقضاء على التعصُّب؟
د. جاسم: ليس هناك سوى سبيلَين:
 إصلاح العقل.
 إصلاح الوجدان.

وهذان السبيلان لا يشتغلان إلا إذا وُجد النظام الرادع، فهناك مَن يتَّعظ بالعقل والحكمة، وهناك من يتَّعظ بالسيف.

هناك مشكلة في التفكير؛ فوجدان الرحمة لم يتخلَّق في نفوس البعض، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1]، ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] لم تتخلَّق في النفوس، ضاقت على الإنسانية فصارت للمسلمين، ثم ضاقَت عن المسلمين وأصبحَت لبعض المسلمين، ثم ضاقَت عن بعض المسلمين وأصبحَت لحزب وجماعة، ثم ضاقَت عن الحزب والجماعة فأصبحَت لمجموعة خاصة داخل الحزب والجماعة؛ هذا التراجُع في وجدان الرحمة يحتاج إلى إعادة إنتاج، فابتداء القرآن بـ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ وانتهاؤه بـ﴿ ربِّ الناس ﴾ ليس قضية عبثيَّة، وهذه السعة الوجدانية للإنسان المسلم لم نخلُقْها عبر التربية والسلوك، فيوجد عندنا الإنسان العنيف أكثر مِن الإنسان الرحيم، والإنسان المُنتقِم قبل الإنسان الرحوم، هذه مشكلة كبرى في الثقافة الإسلامية تَشلُّ فاعلية الإسلام في الانتشار؛ لأن: ﴿ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ تعني أن رحمته تسع الجميع: الكافر والمسلم، والحجر والشجر، أن يَعيش الكل في ظل رحمة الله غير مهدَّد وآمِن؛ أما "نِقمة للعالَمين"، فهو يَضيق حتى عن صاحبه، ولو لم يجد أحدًا يشتمه لشتَم نفسه.

لم يُخلق وجدان المسلم الرحوم، لا في المدرسة ولا في البيت؛ انظر مثلاً إلى كلب ضال والأولاد يَجرون وراءه لكي يَضربوه بالحجارة، ستَعرف كيف خلَقْنا علاقة الإنسان المسلم بالحيوان، انظر إلى أطفال يَقطعون شجرة أو يَقطفون ثمارها ويرمونها في الأرض أو يقذفونها بالحجارة، هل هذه السلوكيات تُعبِّر عن وجدانيات لعلاقة الإنسان بالكائنات مِن حوله، هل يُريد أن يتعرَّف عليها، هل يعرف أنها نعمة وفضل مِن الله - عز وجل - وأنها خُلقت لسبب وخُلقت لنفعه، أو هي أشياء موجودة وهو لا علاقة له بها؟

ليس عبثًا أن تُروى في السيرة قصة الكلب الذي دخلَت به امرأة بَغيٌّ الجنة، وقصة القطة التي دخلت امرأة عابدة بها النار؛ لأن هذا الوجدان الرحوم هو جزء أساسي من صفة هذا الرسول، ومِن صفات رب العالمين - سبحانه - فالرسول رحمةٌ للعالَمين، ورب العباد هو الرحمن الرحيم؛ فلا بدَّ للإنسان المسلم أن يكون رحومًا.

انظر مثلاً إلى صفات مِن التشدُّد ضد المسلم ناهيك عن الكافر، يُرمى بعبارات من السباب: "فاسق، مبتدع، كافر، ضال" في قضايا خلافية لا تَستحِق هذا النوع مِن العبارات، اختلف فيها من سبَق ومَن سيَلحق، لكن هذا كله لافتقاد وجدان الرحمة وتخلُّق الإنسان بالرحمة.

الشباب هم وقود النهضة، وبفضل الله -تعالى- هناك الكثير من الإبداعات الشابة في العالم العربي، كيف تتعاملون مع الشباب، وهل هناك مدارس أو معاهد أكاديمية تتبنى هؤلاء الشباب وتُوسِّع مِن مداركهم؟
د. جاسم:
الآن - ما شاء الله - الاهتمام بالشباب كبير، ومِن ناحيتنا نشتغل بفلسفة "التمكين"؛ فالناس في المجتمعات العربية تحتاج إلى شيئَين:
الأمر الأول: إصلاح الأفكار التأسيسيَّة، نظرة الإنسان للسياسة والاقتصاد والاجتماع والدِّين والعلاقات الأسريَّة؛ الأفكار التأسيسيَّة التي تقوم عليها المجتمعات عندنا بها خلَل كبير؛ فنحتاج أن نُعيد إصلاحها.
الأمر الثانيأن يُمكَّن الشباب مِن شؤون الحياة من خلال تدريبهم وإعدادهم وصقل مهاراتهم؛ حتى يقوموا بالمهام الموكلة إليهم في حياتهم.

ونحن في المشروع الذي نعمل به نساهم في إصلاح عالم الأفكار، ونُدرِّب الدعاة والكتاب والمُفكِّرين؛ محاوَلةً منا للإسهام مع الحكومات لإحداث نهضة حقيقيَّة؛ فوظيفة المجتمع المدني بشكل عام أن يُساهم في تمكين الناس، ولذلك نحن نتكلَّم عن ما نُسميه التمكين وليس السيطرة؛ لذا يأتينا الناس مِن كل أطياف المجتمع يتدرَّبون ويَعودون إلى مناطقهم التي يعيشون فيها يَنشرون هذه الأفكار، وكما ذكرتُ في بداية حديثي أن للجنة أبوابًا مُتعدِّدة؛ ((اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة))، وهذا شِق التمرة الذي نَشتغِل به.

إذا كانت فاعلية الإنسان هي قوام النهضة، كيف نَغرِس هذه الفاعلية في نفوس الشباب؟ وما هي أهم المشكلات التي تحول دون قيام الشباب بدورهم في النهضة؟
د. جاسم:
هناك ثلاث مُشكلات:
1- اليأس والشعور بأنه ما مِن فائدة، وهذه مشكلة كبيرة جدًّا تحتاج إلى علاج.
2- اختلال القاعدة المعرفية عند الشباب؛ حيث يتلقى الشاب مِن مصادر مُتعدِّدة فتختلط عليه الأشياء.
3- نقص المهارات لنقل الأفكار إلى واقع.
إذا استطعنا العمل على هذه المشكلات الثلاث مع جهد الحكومات، وفتح فُرَص العمل، وفضاء الحرية والدفاع عن الحريات - إن شاء الله - سيَنطلِق الشباب.

في نهاية الحوار بما تَنصحون الشباب في وطننا العربي؟
د. جاسم:
كما أنصح نفسي: حسن الصِّلة بالله - عز وجل - وأن نكفَّ الشر عن الآخَرين، فإن لم يصلهم منا الخيرُ، فلا يَصلهم شرٌّ؛ والأمر الآخَر الذي أنصح به جدًّا هو حسن الفهم لكتاب الله - عز وجل - لأن الفهم الخاطئ لكتاب الله يقود إلى مشاكل وإشكاليات كبرى، وعبر التاريخ الإسلامي عانى الإسلاميون من أناس مُتديِّنين أساؤوا الفهم، فنحن نحتاج إلى حسْن الفهم لكتاب الله - عز وجل - وعدم التعجُّل في الاستِنتاجات.