الأحد، 20 يناير 2013

الموضوعية.. اختراق في جدار السائد... منيرة السعدون

خلف الباب الموصد في تلك الحجرة، جلس الشيخ الجليل مُنصِتاً إلى مُحدِّثِهِ حديثاً أخذ بمَجامِع قلبه وعقله. حديثٌ لمْ يُخْفِ معه الشيخُ أشواقَهُ لأيام صِباه وقوّته. ختم الشيخ الحوار بقوله: "لمْ يأتِ رجلٌ بمثل ما جئتَ به إلا عودي"!. إجابةٌ حاول بها (ورقة بن نوفل) رضي الله عنه تبديد تساؤل انطلق به لسان مقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم "أوَ مُخْرِجِيَّ هُم؟!"، ليُنبئَ عن لسان حاله "كيف أُخْرَج وأنا الصادق الأمينُ فيهم وما أتيْتُهم إلا بخير، وبأيّ منطقٍ؟!".
 


جاءت إجابة ورقة بن نوفل تنبّه إلى معضلةٍ قديمة مُتجدّدة تقف حائلاً في وجه الموضوعية وتضرب دونها أسوارا. معضلة التمسك بالسائد في وجه كل جديد وإن كان مُحمّلاً بكل خير! تمسّكٌ يأخذ أشكالاً عديدة، فإما يكون تمسّكاً بمنهج الآباء والأجداد في وجه كل فكرة جديدة تهدم صنم الآبائية، أو تمسّكاً برأي سائد وشائع ألِفَهُ الناس  وأسبَغوا عليه جمود الأعراف والتقاليد، أو تمسّكاً يكون معياره هو الكثرة فحسب حين يعلو صوتُها على صوت الحق. وتكمن الخطورة حين يتم التمسك بالسائد كمُسلّمة يُستبعد معها العقل ويُجعل منها جداراً تصطدم به محاولات التفكير والموازنة والترجيح، ويُنصَب معه العداء لكل داعٍ إلى إعادة النظر والتقييم، ولكلّ حاملٍ لفكْرٍ جديد غير مألوف. كلُّ ذلك على نحو يُشكّل سداً منيعاً دون تحقيق الموضوعية التي قوامها التفكير الحرّ من كل قيْد وطرح الأسئلة والبحث عن إجابات شافية عليها، ويُقصي العقل عن الوقوف على حقيقة الأمور.
 
ويعود التمسك الجامد بالفكر السائد إلى جملة من الأسباب، منها:
  • سطوة العقل الجمعيّ الذي تُسيّره بعض المفاهيم
  • ويعززه الانتماء المتحيز -قبلِياً كان أو حزبياً أو سياسياً أو طائفياً- الذي يجعل مِن كل خارجٍ عليه عُرضة للازدراء والتوجّس أو التشكيك.
  • بالإضافة إلى ما يستدعيه كل طرح جديد مِن تضحية يقدمها صاحب كل فكر حر لا ينساق مع الجماعة آلياً ويُكثر من التساؤلات حول الأوضاع السائدة.
  • هذا فضلاً عن نزوع النفس البشرية –بطبيعتها-  للخلود إلى الراحة والأمان الذي قد لا يتأتّى بسهولة مع ما يتطلبه تحكيم العقل والقيام بمهامه من مجهود شاقّ -في المجاهدة والمصابرة والبحث عن الحقيقة- قد يزيد ربما على المجهود العضلي البدني، والذي يستدعي نقل العقل من منطقة الأمان الذي يألف إلى منطقة الحراك والتغيير الذي لا يأمن.
  • كما قد يُعزّز ذلك، وجود أطرافٍ في المجتمع تُفيد من بقاء الواقع على حاله الذي يصبّ في مصلحتها، وتعتبر أيّ حجرٍ يُلقى في البحيرة الراكدة مُهدّداً لوجودها وكينونتها، فتراها تحشد قواها وتستنفر المجتمع وتؤلّبه ضد أي محاولة في التقييم والمراجعة فضلاً عن التغيير أو الإصلاح.

 يستتبع ذلك كله، تخلّي الأشخاص عن الخوض في أي جديد لِما قد يجرّه عليهم من مصاعب ومتاعب، يرَوْن الغِنى عنها في إلقاء مسؤولية التفكير والتسيير على عاتق العقل الجمعي الذي يكفي الفرد مؤونة الجهد والمصاعب. كما يؤدي في محصّلته النهائية إلى تعصّب أعمى للسائد واتخاذه وثَناً لا يقبل النقد والتطوير، على نحو يُعارض حركة الكون المستمرة المتطوّرة، ويعطّل مَلَكات العقل الذي حبا الله تعالى به الإنسان ليميزه عن غيره ، ويُشغل المجتمع بمعارِك داخلية تستنفذ طاقته وتقدّمه التي كان الأحرى توجيهها لمواجهة المعارك الخارجية، فيبقى المجتمع في قوقعة مُتخلّفة عن ركب الحضارة والنهضة. 
لعل أقرب مثال تاريخي يقفز إلى الذهن عند استحضار المعركة بين التحيز للسائد والجديد وصراع العقل بينهما، هو المشهد الذي خلّده المولى عزّ وجلّ في كتابِه الحكيم، لموقف الوليد بن المغيرة المتردد بين الإيمان بما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين سطوة العقل الجمعي للمجتمع والبيئة-الذي كانت له الغلبة- في المناداة بالكُفر والتكذيب، قال عزّ من قائل: " إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ" (سورة المدَّثر، الآيات 18-25). وصف قرآني بليغ أوجَز بدقّة بالِغة موقف العقل إزاء فِكرٍ جديد يقوّم مسير السائد ويُصلحه، وقوة الطرد المضادّة له والخضوع لها، في إشارة واضحة إلى عِظم أمر تقديم المبدأ الصالح الخير وإن خالف السائد.  وتأتي هذه الحادثة في سياقً متصل مع سِيَر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جوبِهوا به من رفض وتعنّت قوبلت به دعوتهم (الجديدة) على المجتمع. 
 
أما المثال المعاصر الذي نراه عياناً في مشاهد متكررة، فهو ما يحدث من حملات تشكيك وطعن وانتقاص، يشنّها بعض (دعاة الإسلام) المُتمسكين –مَبنىً- بعبارة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" المُعطّلين لها –معنىً- بحصر فهم الدين في نطاق الفهوم السابقة، ضدّ كلّ من يدعوا إلى فهم الدين فهماً نقيّاً خارجاً عن سياق العادات والتقاليد والأعراف التي أُسْبِغتْ على أحكامه وليست منه في شيء، وضد كل من يدعو إلى فهم الدين بشكل يعاصر الزمن وتطوّره وينهض بالمجتمع.
 

وتتعدد شواهد العصر –قديمه وحديثه- على مثل هذه المواقف التي يصطدم فيها عمل العقل، بقيود سائدة مفروضة، يكون علاجها بتصدي كل إنسان عموماً ومُسلمٍ خصوصاً، لمسؤوليته العقلية الفردية التي أناطه الله تعالى بها ، وأكد عليها في عديد آيات كتابه الكريمات الداعية إلى التفكّر والتأمل والبحث وتقديم المبدأ في نقد الوضع السائد نقداً موضوعياً يسهم في الارتقاء به، واستشعار المرء عظمة هذا الأمانة للنهوض بمهامه الإنسانية على نحو يرضي ضميره ويترجم عقيدته ومبادئ إيمانه القائمة على العبودية لله تعالى وحده والتحرر من ربقة كل هويً أو قيد جماعي يفرضه الواقع على الفرد، انطلاقاً نحو الإصلاح والارتقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق