الثلاثاء، 26 يونيو 2012

حول العلاقة بين الحزب والجماعة وهيكل الجماعة التنظيمي… يحى نعيم

 يتكرر الحديث عن ضرورة الفصل بين الحزبي والدعوي, بين المهتمين بأمر الجماعة سواء من داخلها أو خارجها, والمراقبين للعمل الإسلامي والسياسي بشكل عام. وتزداد حدته مع توالي الأزمات والمواقف والتصريحات التي تستدعي للأذهان ضرورة تطبيق الفكرة, الأمر الذي يُقابل بحالة من التأييد الشديد من بعض الأطراف, ترى فيه نوعاً من المرونة والتجديد في التعاطي مع الواقع. والرفض الشديد من أطراف أخرى, ترى فيه إخلالاً بثوابت الفكرة وقواعد العمل التنظيمي بالجماعة. وحوار بين هذه الأطراف المتضادة من طبيعته ألا ينتهي لرؤية أو تصور واضح ومقبول لكيفية تنفيذ الفكرة, بما لا يخل بأصول العمل وأهدافه الغائية..

 وحيث أنه من المتوقع أن تزداد وتيرة الحديث حول هذه القضية -وقد كان بالفعل- في ظل التغييرات الطارئة على المشهد السياسي بمصر, فإنني أضع بين أيديكم عدد من المقترحات لتبادل الرؤى حولها, كنت قد أعددتها منذ فترة, تحديداً إبان الإعداد لمؤتمر شباب الإخوان الذي عُقد بعد الثورة..
عندما نتحدث عن العلاقة بين الحزب والجماعة ينبغي أن نستحضر مجموعة من الحقائق ذات الصلة الوثيقة والتأثير الكبير في بناء أي رؤية متعلقة بهذا الشأن وهي:
1.    أن الجماعة مشروع أممي, والحزب مشروع قطري.
2.    أننا أمام جسد تنظيمي ضخم.
3.    أننا أمام رصيد كبير من المسلمات الحركية.      
4.    أننا أمام مشروع أيديولوجي يصعب فيه التغيير في القناعات.
 أمام هذه المعطيات فإننا بحاجة لطرح رؤية توافقية, تسمح بقيام المشروع القطري على نحوه المنشود, دون تضييع أو اختزال لملامح المشروع الأممي وغاياته.. الأمر الذي يتطلب منا الاستحضار الدائم لغايات العمل وأهدافه, والدوران في فضاء الفكرة المركزية التي نشأ من أجلها التنظيم, بعيداً عن جواذب الأشياء والأشخاص كي لا تضيع منا البوصلة ونحيد عن الطريق
 وفي لمحة تاريخية سريعة قبل سرد المقترحات للوقوف على حقيقة الدور المناط بالجماعة تحقيقه, يمكننا القول بأن الجماعة أو المشروع الإسلامي بشكل عام في صورته المنشودة, يمثل امتداد لمسيرة تاريخية بدأت منذ بدء الخليقة, وتطورت بتطور الأزمان وصور الاجتماع البشري وتبلورت في عهد أبينا إبراهيم لتصبح مشروعاً حركياً استهدف إخراج الأمة المسلمة لحمل الرسالة الربانية وهداية البشرية..
 هذا المشروع تبلورت ملامحه في أمتين هما:
·       أمة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام.
·       والأمة العربية لمسلمة التي أخرجها رسولنا الكريم.
 والهدف من إخراج الأمتين كما سبقت الإشارة, كان حمل الرسالة ومهام الدعوة إلى الله, وقيادة البشرية وهدايتها لسبيل النجاة والرشاد.
 ومعروف ما كان من بني إسرائيل تجاه المهمة والأمانة, وما آل إليه أمرهم من استبدال وسخط من رب العالمين.
ومعروف مسار الأمة المحمدية التاريخي, وما مرت به من صعود وهبوط إلى أن آلت الأوضاع لبعد عن المنهج وقعود عن حمل الرسالة وأداء المهمة.
 الأمر الذي استوجب العمل لإحياء الأمة والنهوض بها لحمل أمانتها والقيام بتكليفها…وهذا باختصار وبحسب اعتقادي هو دور الجماعة ومهمتها..

 إحياء الفكرة الإسلامية بالنفوس وإخراج الأمة المسلمة من جديد لحمل الرسالة وقيادة البشرية وهدايتها.
 من هنا كان مشروع الجماعة مشروعاً أممياً, ولا يمكن بحال اختزاله في مشروع قطري, وإن كان الحاجة لتجسيده ابتداءاً في مشروع دولة, حاجة وضرورة إستراتيجية. وليس بالإمكان أبداً تحقيق غايات هذا المشروع الأممي من دون بناء الدولة المسلمة, وهنا تكمن حلقة الوصل بين مشروع الحزب القطري ومشروع الحركة العالمي

فكيف لنا أن نؤسس لبناء الدولة, مع الحفاظ على رسالة الحركة ومهمتها في ضوء المستجدات الحالية؟
أعتقد أننا بحاجة للفصل بين المشروعين, بما يضمن استقلالية المشروع القطري عن المشروع العالمي من الناحية التنظيمية, وارتباطهما في الغاية والأهداف والمنظومة القيمية, وبما يسمح بالتكامل البنّاء بينهما, وتصوري لذلك كالتالي:

·       اختصاص الحزب بمسارات العمل التالية بالقطر المصري:
1.    مسار العمل السياسي وما يتعلق به من منظمات المجتمع المدني
2.    مسار الخدمة الاجتماعية.
وتوطين كوادر الجماعة العاملة في لجان هذه المسارات في عضوية الحزب, وأن يُعاد تشكيل شبكة العلاقات بينهم في ضوء النشاط والانتماء الحزبي فقط لا غير.
·       اختصاص الجماعة بمسارات العمل التالية:
1.    مسار العمل التربوي.
2.    مسار العمل الدعوي.
·       التعاون بين الجماعة والحزب في بناء المسارات التالية:
1.    مسار العمل الخيري.
2.    المسار الإعلامي.
3.    مسار التنمية الاقتصادية
 على أن يُعاد هيكلة الجماعة تنظيمياً, وتوطين كوادرها القيادية وصفها العامل في هذه المسارات, بالصورة التي تمنحها الشرعية القانونية والنشاط العلني (تأسيس مدارس وهيئات تربوية ودينية – تأسيس جمعيات خيرية وخدمية – بناء مؤسسات اقتصادية وهكذا)…
 وعلى أن تواصل الجماعة بث فكرتها الأممية ورؤيتها الرسالية, من خلال نشاطها في مسار الدعوة والإعلام, بما يحفظ للفكرة حيويتها ويضمن انتشارها, وأيضاً تتولى الجماعة من خلال العمل بالمسار التربوي, مسئولية إعداد كوادر قيادية في مسارات عمل الحزب, وضخها في أوصاله لتقويته والحفاظ على حيويته.

4.    للحزب جمعيته العمومية التي تضم عموم المصريين, وكل من آمن بأفكاره ومبادئه, لذا لا دور لمجلس شورى الجماعة فيما يتعلق بأنشطة الحزب وسياساته.
5.    وفيما يتعلق بمجلس شورى الجماعة, فالمستشار مؤتمن, وشرط الأمانة أن يكون على علم ودراية بما يُستشار فيه, لذا من غير المقبول أن يقوم مجلس الشورى على عاملي السبق والسن كما هو معتمد, بل ينبغي أن يقوم على التخصص والكفاءة, ولتحقيق ذلك ينبغي إعادة هيكلة مجلس شورى الجماعة, ليتحول إلى مجموعة من اللجان المتخصصة في مسارات عمل الجماعة على المستوى القطري, تضم في عضويتها ما لا يزيد عن عشرة خبراء ومختصين في كل مسار تحت قيادة المراقب العام.
6.    استحداث مسمى المراقب العام ليتولى إدارة شؤون الجماعة (لا الحزب) في القطر المصري.
7.    مكتب الإرشاد يكون فقط عالمياً, ويناط به مسئولية التنسيق والدعم اللوجستي بين فروع الحركة بما يخدم دور التنظيم العالمي وأهداف المشروع متجاوزاً بذلك مستوى الرابطة الروحية ليصبح قوة دولية تتناسب مع غايات العمل ومتطلبات تحقيقها.
8.    مجلس شورى الجماعة فقط عالمياً وممثلاً لكل فروعها, ويضم رؤساء الأحزاب أو قيادة حزبية تنوب عنها في البلاد التي تتمتع بالنشاط الحزبي, مع مراقب عام الحركة أو من ينوب عنه, ويُختار من أعضائه مكتب الإرشاد العالمي. ومهمته الرئيسية هي دعم قرارات مكتب الإرشاد وإمداده بالرؤى اللازمة لتجويد ودعم الأنشطة في الأقطار المختلفة وما يتفرع عن ذلك من مهام لا يتسع تفصيلها هنا.
9.    أسماء واجتماعات مكتب الإرشاد العالمي ومجلس الشورى العالمي غير متداولة إعلامياً  وتبقى في إطار التكهنات السياسية التي تخلو من دلائل الوجود والإثبات لتأمين دوره ونشاطه.
·       وفيما يتعلق بالعمل الحزبي يحضرني عدد من الخواطر هي:
1.    من يقرأ برنامج حزب العدالة والتنمية, يجد فيه تأكيداً على دور أتاتورك الرائد في بناء المجتمع التركي, وتأكيداً على أن ما أرساه من قيم ومبادئ هي المنطلق لنهضة الدولة التركية… وجميعنا يعرف موقف الحزب ومرجعيته المخالفة لهذا.. وفي هذا تأكيد على أن العمل السياسي لا يعتمد المباشرة والمصارحة, بقدر ما يعتمد المناورة في الخطاب, بما يضمن سلامة الحراك وتقدمه.
وبالتالي فالتصريح بالمواقف الفقهية مع بداية التأسيس لا يمت للسياسة بصلة, ويكفينا حال الممارسة أن نتبنى خيارتنا الفقهية دون حديث عنها أو تضمين لبنودها بما يثير اللغط والشبهات, ويسهل علينا حينها تمرير هذه المواقف بآليات الديمقراطية والاستفتاء والانتخابات الداخلية, معتمدين في ذلك على ثقل الكوادر المؤمنة بمبادئ الجماعة في عضوية الحزب مقابل المخالفين, وبما لا يمنح الأعداء الفرصة لبث الأراجيف وخلق الفزاعات.
2.    كما أن الحديث عن أهداف الخلافة والأستاذية غير جائز في شأن الحزب الذي ينبغي أن ينصب خطابه السياسي ودعايته على المستوى القطري فقط.
3.    أعتقد أن قرار الجماعة بإلزام أعضاءها بعدم تأسيس أو الانضمام لأحزاب أخرى هو قرار يفتقد للحكمة والحنكة السياسية, ومظهر من مظاهر الخلط بين عمل المشروع القطري والمشروع الأممي, فقد كان من الأولى بحسب تصوري أن تدفع الجماعة بمجموعات من كوادرها في بنية الأحزاب الجديدة, والتي تطرح في برامجها رؤى نهضوية و بنائية جيدة, لتكون مؤثرة في سياساتها فيما بعد, بما يخدم مصلحة الوطن من جهة, وأهداف الحركة ونشطاها على المدى البعيد من جهة أخرى, ولتفادي مضاعفات أي تحول سياسي ينشأ عنه تضييق على نشاط حزب الحرية والعدالة. ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة في هجرة الحبشة.
 أرجو أن تنال هذه الأفكار حظها من التشاور الجاد, للخروج برؤية عملية, تجنبنا مساوئ وانحرافات الخلط بين الحزبي والدعوي, والأممي والقطري, وتساعد في تطوير هيكل العمل التنظيمي بما يحقق أعلى درجات الفاعلية والإنجاز

قواعد مهمة للرئيس لإدارة المرحلة القادمة…. هبة رؤوف عزت

 

قواعد مهمة للرئيس لإدارة المرحلة القادمة:
1. لا تجامل من ساندوك في الفترة الماضية بمناصب ويمكن رد المجاملة بباقة زهور من أموالك الخاصة.
2. المناصب التنفيذية الشرط فيها الكفاءة، وإذا كان هناك حساسيات لتنويع الخلفيات السياسية فبالتأكيد الكفاءة أولا والجيل الوسط وليس المتصدرين.
3. مازالت مصر تدير مقاعد السلطة بين نخب العاصمة ومهم عند اختيار الأسماء للمناصب مراعاة تنوع الخلفيات الجغرافية مع إعطاء فرصة لكفاءات مهمشة.
4. المصريون في الخارج مستعدون للعودة لو وجدوا من يوظف طاقاتهم ويقدم لهم عروضا معقولة والأهم موارد مالية وإدارية للإنتاج- ولدينا أسماء دولية.
5. مؤسسة الرئاسة وبناءها أهم من الرئيس.. واستعد لمغادرة مقر الرئاسة بعد انتهاء مدتك الاولى لأن جيلا ينتظر القيادة وآن له أن يشعر بملكيته لوطن.
6. الإدارة التي تنتج القرار من دوائر متراكبة متقاطعة أفضل من إدارة هرمية تنتج استبدادا- لا تدع هدف الإنجاز يضيع هدف بناء مؤسسات.
7. الثقافة والفهم مسار حياة احتفظ بوقت للقراءة والمتابعة الحرة ولا تخضع فقط لما يوضع على مكتبك من تقارير، وتعلم كيف تنصت للبسطاء ورؤيتهم.
8. ابدأ بالاتجاه لدول الجنوب فلديها تجارب مهمة ولتكن أول زيارة لأفريقيا في جولة ترسل رسالة قوية داخل -وخارج - حوض النيل لتستعيد مصر مكانتها.
9. قيمة العمل وكرامة العامل هي سبيل النهضة.. والحد الأدنى للحياة الكريمة مسئولية الدولة، ولا بديل عن خفض الفجوة الطبقية، ولن يكون الأمر سهلا.
10.                  التعامل مع الدول يقوم على إدارة القوة وتعظيم المكاسب، والثقة، ولا يحتمل التفريط في كرامة الوطن ولا المواطن، والسفارات تحتاج تفعيلا قويا.
11.                  مهم أن يخاطب الرئيس شعبه.. خطابات قصيرة مفهومة واضحة تبين التحديات.. وتتحدث عن الوفاء بالمسؤوليات، ليس في مناسبات قومية فقط بل مكررا.
12.                  الرئيس الذي يهتم بالخارج أكثر من الداخل، ويتجول في دول الشمال أكثر من محافظات الجنوب، ويتعود على البساط الأحمر أكثر من الحصير الأصفر سيفسد.
13.                  الأقارب والأهل والعشيرة هم أخطر عليك من أعداءك.. والفساد يبدأ من الأقربين الذين يظنون المغانم متاحة.. والشيطان يكمن في التفاصيل الأسرية.
14.                  طالما يعيش في مصر ملايين تحت خط الفقر فليس من حقك أن تقبل البذخ في دوائر السلطة، والبداية بحملة تقشف وإلغاء بنود زينة الفرعون مهم للغاية.
15.                  رصيدك السياسي في الحزب والجماعة محترم.. لكن مشروع النهضة يجب أن يغدو مشروع وطن، ومهندس المشروع مشكور لكن الدولة ليست الجماعة.
16.                  الشباب هم أمل الأمة والتعليم هو قاطرة التنمية فاجعله ملفاً رئيسيا، وخطط بناء المواطن الكريم الحُر تبدأ في المدرسة، اهتم بالمُعلم والعلم.
17.                  الوطن مساحات ودوائر.. وقد أوضحت التجارب التاريخية أن الهوية الفرعية ثراء للوطن.. والاحتفاء بالتنوع في إطار الوحدة مهم.. جغرافيا وطن.
18.                  القوة الناعمة لمصر موجودة وهي من أهم أدوات المرحلة الحالية.. مصر لديها رصيد تاريخي وثقافي فريد والسياحة مسار واحد فقط من مساراته.
19.                  المدن ماكينات رأسمالية وثقافتها تقوم على التنافس والاستهلاك .. إحياء الفضائل المدنية واستعادة دور الأحياء والسياسة المحلية شرط النهضة.
20.                  عقود طويلة من الاستبداد دفعت الثقافة الشعبية لقبول الانعزال عن السياسة والثورة أعادتهم.. الرأي العام أمانة وقوة وطاقة.. والإعلام جبهة.
21.                  الناس مستعدة أن تربط الحزام وتخوض المصاعب لو شعرت أن الرئيس والنخبة تعيش همومها.. والعدالة اجتماعية معركة.. خصومها اعتادوا نمط حياة الترف.
22.                  تداول السلطة غائب في المجتمع قبل الدولة.. والاستبداد طبائع وأدوات.. تفكيك هرم ثقافة الاستبداد يحتاج تفعيل دوران المسئولية وحزم المحاسبة.
23.                  مصر بها ١٢ مليون مُعاق وصاحب احتياجات خاصة وفيها ملايين المسنين.. والسياسات الاجتماعية تحتاج تشريعات وتحالفات وشبكات. ولمؤسسة الرئاسة دور.
24.                  الخروج من دولة الأسرار إلى دولة القانون وحق المواطن في الحصول على المعلومات مسألة حاسمة.. وهي مفتاح العدالة وحقوق الإنسان.
25.                  مؤسسة العدالة تحتاج إصلاحا جذريا فالعدالة البطيئة كارثة.
26.                  المصالحة الوطنية هي واجب الوقت وهي ليست ترضية أقلية دينية أو سياسية أو قبائل وعشائر بل حضورهم في عملية معقدة لصنع القرار .. وتواصل مباشر.
27.                  أجهزة الدولة قد تعطيك أرقام الاقتصاد وتفاصيل دهاليز السياسة لكنها لا تملك رصد مسار دعوة المظلوم، تقوى الله وعبادته مفتاح نور البصيرة.
28.                  الرأي المعارض يحمل جزءاً من الحقيقة فلا تُعرض عمن يخالفك بل التمس نصيحة الخبير والناصح الأمين من خارج دائرة السلطة.. والبسطاء كذلك لفطرتهم.
29.                  والله أعلم.. والله الموفِق.

الاثنين، 25 يونيو 2012

تقارير مفخخة…. فهمي هويدي


 القصف المتبادل بين الفرقاء المتعاركين فى مصر ليس سياسيا فقط، ولكنه لغوى أيضا، اعنى اننا لسنا بصدد صراع حول الأفكار ولكنه فى ذات الوقت صراع على العناوين والأوصاف، الأمر الذى أدى إلى ابتذال مصطلحات كثيرة، وانتهى بتمييع المعانى أو اغتيالها، فحين نقرأ فى العناوين الرئيسية للصفحة الأولى من جريدة الأهرام امس 24/6 أن الاعتصامات استمرت بميدان التحرير وأن «الأغلبية» الصامتة تظاهرت أمام المنصة فى مدينة نصر فأول ما يتبادر إلى الذهن أن الذين فى ميدان التحرير يعبرون عن الأقلية، وأن الأغلبية هى تلك التى تظاهرت أمام المنصة.

وإذا انتبهت إلى أن الذين خرجوا إلى ميدان التحرير ينتمون إلى مختلف القوى الوطنية التى تعارض الإعلان الدستورى المكمل وتعتبره انقلابا على الثورة، وأغلبهم يؤيدون الدكتور محمد مرسى، فى حين أن الذين تظاهروا أمام المنصة من مؤيدى مبارك والفريق شفيق والمجلس العسكرى والمتحمسين للإعلان الدستورى وحل مجلس الشعب، حينذاك ستكتشف انك وقعت فى كمين منصوب صنعته اللغة بمنتهى اللطافة والمكر، ذلك أن الرسالة التى يتلقاها المواطن البرىء فى هذه الحالة، هى أن الاغلبية الصامتة فى مصر هى التى تقف إلى جانب مبارك وشفيق والمجلس العسكرى وتؤيد الانقلاب الذى حدث. الأمر الذى يعنى اننا بصدد رأى متحيز وليس خبرا محايدا. إن شئت فقل إنه خبر «مفخخ» ظاهره برىء وحقيقته غير ذلك.

خذ أيضا التقرير الذى ابرزته صحيفة «المصرى اليوم» تحت عنوان عريض باللون الأحمر يقول: قوى ليبرالية تؤسس جبهة مدنية لحماية مصر من الحكم باسم الدين أو عودة النظام السابق، ربما لاحظت أن العنوان استخدم بعض المصطلحات الرنانة التى تداولتها الألسنة هذه الأيام. إذ يتحدث عن قوى «ليبرالية» وان الجبهة «مدنية» هدفها معارضة الحكم باسم الدين أو عودة النظام السابق. وإن دققت فى ملابسات التقرير وتحريت خلفياته ستلاحظ ما يلى:

* إن الصحيفة ذكرت أن الذين شاركوا فى اللقاء يمثلون جميع القوى والرموز الليبرالية ورؤساء الأحزاب» فى حين انه كان منبرا لحزب المصريين الاحرار ومؤسسه المهندس نجيب ساويرس وقد تحدث فيه أحد القياديين فى حزب التجمع المتحالف مع المصريين الأحرار والرئيس الشرفى لحزب الجبهة الديمقراطية وثلاثة من النشطاء. واعتبرت الصحيفة أن هؤلاء يمثلون «جميع القوى والرموز السياسية ورؤساء الأحزاب».

* إن اللقاء كان له هدفان، الأول هو الرد على الإعلان الذى تم فى اليوم السابق عن تشكيل جبهة وطنية لإدارة الأزمة وقفت إلى جانب الدكتور محمد مرسى فى مواجهة اجراءات وقرارات المجلس العسكرى، خصوصا بعدما قدم المرشح الرئاسى عدة تعهدات استجابت لمطالب بقية القوى الوطنية، الهدف الثانى كان تشديد الهجوم على جماعة الإخوان لترجيح كفة منافسة الفريق شفيق، فى حين كان مصطلح الجبهة المدنية غطاء لستر ذلك الموقف.

* إن القيادى «الليبرالى» المهندس نجيب ساويرس مارس حقه المشروع فى الاختيار وأعلن انحيازه واصطفاف حزبه إلى جانب الفريق شفيق، لكن ليبراليته لم تحتمل الرأى الآخر فى برامج قناة «او تى فى» التى يملكها. الأمر الذى دفع بعض مقدمى البرامج اللامعين إلى الاحتجاب والتوقف عن العمل «يسرى فودة مثلا». كما أن تعليماته قضت بمنع أى أصوات ناقدة للمجلس العسكرى أو الفريق شفيق من الظهور على شاشات القناة، وهو ما تجلى فى منع ظهور النائب والمحامى عصام سلطان وزميلنا الصحفى أيمن الصياد، حيث دعا كل منهما إلى المشاركة فى بعض البرامج، ثم تم الاعتذار لهما قبل ساعة من الموعد بحجج مفتعلة.

الخلاصة اننا فى هذا النموذج نجد أن الصحيفة التى يشارك فى اسهمها المهندس ساويرس تحدثت عن اجتماع متواضع دعا اليه الرجل وجرى النفخ فيه من خلال اللغة للإيحاء بأنه يمثل جميع القوى والأحزاب. ومن قبيل التدليس اللغوى قيل لنا انها قوى «ليبرالية» فى حين أن ممارسات بعض شخوصها فى حقيقة الأمر اقصائية واستئصالية، ناهيك عن أن وصفهما بأنها «قوى» فيه قدر كبير من المبالغة، إلا إذا كان المقصود فى هذه الحالة هو القوة المالية للمهندس نجيب ساويرس وعائلته.

أكاد اسمع صوت قارئ خبيث يسأل: لماذ ذكرت هذين المثلين وتجاهلت بيانات المجلس العسكرى التى حفلت بالنماذج المماثلة التى تم فيها ابتذال المصطلحات واغتيال المعانى، وردى على السؤال أن البيانات أخذت حقها من النقد والفضح، حين دعت إلى احترام القانون وانتهكته وحين تحدثت عن احترام مؤسسات الدولة واهانتها بالدبابة التى وضعت امام مجلس الشعب، وحين تعهد المجلس بتسليم السلطة إلى المدنيين فى 30 يونيو ثم فاجأنا بإجهاض ذلك الحلم.

عندى سبب آخر لعدم الاستطراد فى رصد ثغرات الإعلان الدستورى، هو اننى استنفدت الحيز المتاح، ولذا تعين التوقف عن الكلام المباح!

الخميس، 21 يونيو 2012

“خدعوك فقالوا” … أوهام الوصاية العسكرية بمصر … محمد بريك


مقال كتبه الباحث الرائع المتخصص محمد بريك في 28 ديسمبر 2011 ديسمبر الماضي و لم يلق آذانا صاغية حينها…. فهل يلقى الآن الآذان و القلوب و العقول الواعية قبل فوات الأوان…
———————————————–
رزايا النظام الذي خضعت له مصر في العقود السابقة كثيرة .. ومنها تجفيف فرص الوعي الاستراتيجي وغلق مصادر المعلومات في شئون الأمن القومي والدراسات الاستراتيجية؛ بل حتى إجهاضه لأي محاولة أكاديمية لبناء قواعد بحثية محترمة – هي ضمانة أساسية- لتطوير القابلية الاستراتيجية لأي دولة.

ومن أهم المساحات المعرفية والتجريبية الغائبة عن الخبرة المصرية – والعربية عموما - ملف العلاقات المدنية العسكرية.. مع أهمية هذا الملف القصوى كركيزة لأي بناء أو تحول ديمقراطي وكذلك لتدشين مؤسسات تعنى بملف الأمن القومي فاعلة ومعالجة الاحتكاكات الناشئة بين السلطة السياسية المدنية والمهنية العسكرية.

وبسبب هذا الخواء المعرفي الهائل – حتى وسط المتخصصين – كانت تفجؤنا من حين لآخر تصورات سياسية أقل مايقال عنها أن تجافي أبسط قواعد التحول الديمقراطي والعلاقات المدنية العسكرية المستقرة معرفيا وتجريبيا، بل حتى تطعن في ماهية (الديمقراطية) ذاتها. بعض النخب الأكاديمية مثلا طرحوا بعد سقوط مبارك بفترة وجيزة فكرة (النموذج التركي – مجلس الأمن القومي) كبديلا سياسيا مناسبا لمصر .. والأنكى – أنهم عدّوا هذا ضمن النماذج (الديمقراطية) ! 
مع أن الديمقراطية لاتعني عزل الممارسة السياسية عن الوصاية العسكرية فقط؛ بل أن تكون الممارسة العسكرية خاضعة للقيادة السياسية المنتخبة والرقابة البرلمانية .. فما الديمقراطية إلا تمكين للشعب من انتخاب سلطاته وتحديد صلاحياتها والعلاقات بينها والقدرة على محاسبتها.
وإن كان هذا قد حدث من مختصين في السياسة ، فإن هناك بعض التصورات والمقولات التي تنتشر الآن في الساحة المصرية تهيئة لزرع نموذج الوصاية العسكرية كفيلة بإرسال أي مطّلع على هذا الجانب المعرفي الهام لأقرب مشفى لرعاية الحالات الحرجة !
وبالطبع – فإن الأطراف المشتركة في التفاهم على مخاض هذا النموذج البائس هي من وراء إطلاق هذه الدعاوى لتسويقه شعبيا وسياسيا أو كوسيلة لخداع الذات والأتباع.

مشكلة الثورة واحتواؤها:
تحدثنا منذ شهور عدة عن الاستراتيجية المختارة لاحتواء الثورة المصرية وأنها ترتكز على ركنين أساسيين: استيعاب الأطراف السياسية المشاركة – خصوصا الإسلاميين – للقبول بنفس محددات النموذج السابق في الترتيب الإقليمي وسياسات رأس المال العليا وكذلك قبولها بوجود وصي عسكري – وهو الركيزة الثانية.

السبب ببساطة أن الثورة المصرية إن تنجح فهي زلزال إقليمي وتأسيس لمشروع قومي حقيقي .. وأن الأمريكي وكذلك الكتلة الصلبة الباقية من النظام المباركي عندها من المحركات والأدوات للتحرك بشدة نحو هذا الاحتواء. وهذه القاعدة غفلت عنها القوى السياسية في مصر وفشلت في قراءة بديهية في السياسة الداخلية وسياسة القوى العظمى – كما وصفها نعوم تشومسكي.. ونتج عن هذا الفشل التسليم المبكر للمجلس العسكري بإدارة المرحلة الانتقالية ،ثم تفويت فرص متعاقبة لإصلاح هذا الخطأ آخرها الجولة الثورية السابقة في نوفمبر.. 

ولو علمنا أنه في وضع أي دولة من الدرجة الثالثة فإن الخطر الأساس أمام إكمال التحول الديمقراطي هو المؤسسة العسكرية وعزلها عن التدخل في الشأن السياسي المدني (وهذه قاعدة أخرى أقرها من تناول دراسات التحول الديمقراطي كستيبان وبراوزسكي وتشميطر وفالنزويلا– وأكدها فشل 55 حالة تحول ديمقراطي منذ البدء في الموجة الديمقراطية الثالثة في 1974).. فإن تسليم هذه المؤسسة العسكرية بعلاقتها المتشابكة الخارجية والداخلية إدارة المرحلة ودون حسم ملفات هيكلة الداخلية وترتيب البيئة السياسية والاتفاق على العقد الاجتماعي الناشيء بها .. فتلك سقطة بالغة لابد أن يتوب مقترفها علنا.
الثورة لاتكتمل وتتيح لمرحلة سياسية ونهضوية مقبلة إلا بتفكيك مراكز القوة الأساسية للنظام السابق ، ولو عندنا مراكز لايمكن تفكيكها كالمؤسسة العسكرية – وإلا ندخل في حرب أهلية – فإعادة هيكلة العلاقة بينها وبين النظام الديمقراطي الناشيء أمر حتمي ولايمكن تحقيقه وهي من تدير المرحلة.

وحل مشكلة المؤسسة العسكرية في التحول الديمقراطي لايتم دفعة واحدة ؛ ولكن على مرحلتين: الانتقال الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية. 
  • في الانتقال الديمقراطي (وهو مرتبط بالحالة الثورية) لابد من تنحية العسكر عن الشأن السياسي، ومنعهم من إدارة أي جهاز مخابرات معني بالشأن المدني، وتحريم المحاكمات العسكرية، والنص الدستوري على خضوعها للقيادة السياسية المنتخبة والرقابة البرلمانية. وبالطبع فإن التسوية مع العسكر قد تشمل إعفاءه من العقاب على جرائمه السابقة ولكن أن تكون نتيجة تفاوضية يتنازل لأجلها ولاتعرض عليه هدية منذ البدء.
  • بدون هذه المتطلبات – لايمكن التقدم في مرحلة (تثبيت الديمقراطية) وهي الإخضاع (الفعلي) للقيادة السياسية والرقابة البرلمانية وإعادة هيكلة البنى الداخلية ومنظومة القيم الفاعلة لتقبل النسق الديمقراطي وليتناسب مع السياسة الدفاعية الناشئة وإعادة تدوير مساحات الامتيازات المجتمعية والاقتصادية بما يمنع وجود ما يسميه فالنزويلا في دراسته ب(النطاقات المحجوزة).
ويرى نارسيس سييرا وزير الدفاع الأسباني في مرحلة تثبيت الديمقراطية 1980 –1990 في دراسته الرائعة (الإصلاح العسكري في التحول الديمقراطي) أن عدم تحقيق الحد الأدنى في مرحلة الانتقال الديمقراطي والدخول سريعا في المباراة السياسية والتنافس بين القوى السياسية لايؤدي إلا لانتكاسة مرحلة التحول الديمقراطي برمتها.

لايمكن تنحية العسكر إلا بالضغط السياسي الثوري.. وإلا فلن يسلم، وإلا بتوافق وطني كامل على شكل الدولة وحدود العقد الاجتماعي وبالأساس وضعية المؤسسة العسكرية في النظام الديمقراطي.. وإلا فيمكن للمؤسسة العسكرية توسعة الاستقطاب الأيديولوجي والمصلحي والتنقل من طرف لآخر بغية تصوير نفسه ملجأ حماية للبعض وموطن صفقة للبعض الآخر لتعزيز المكتسبات.

ماتخبئه الأيام المقبلة:
وما تترشح عنه الأنباء المتعاقبة البدء الفعلي في تجسيد نموذج الوصاية العسكرية ويتواجد الإخوان كـ (شاسيه) مدني في ظل ترحيب أمريكي عارم. وكما تحدثنا في مقالنا السابق (الثورة والعسكر والإخوان.. مابين النموذجين الباكستاني والتركي) أننا نحكي عن نموذج هجين. الملفات السيادية للعسكر والخدمية للإخوان..
وبالطبع فالمؤسسة العسكرية لاتود لأسباب عديدة الحكم بشكل مباشر ولكن لابد لها من (دسترة) وضعها.. والصيغة المرجحة هي مجلس للأمن القومي على أن تبقى الكتلة الصلبة من العسكر والمخابرات في خلفية المشهد حاضرة.. ومهم أن يتم اختلاق وسيلة تنفيذية للإدارة المباشرة لوزارات الداخلية والإعلام والأمن، وهذا قد يتم عبر رئيس موال يتم تقليل صلاحياته لصالح العسكر ولكن يحتفظ بحق تشكيل الوزارات، أو بالمتابعة الدءوب وهندسة السبيكة التنفيذية التي تنشأ في كل مرة.

صناعة الأوهام لخداع الذات وتخدير الأتباع:
لوعلمنا أن القوى السياسية – وخصوصا الإخوان – كانت تطرح سياسيا ولأتباعها (أملا) سياسيا وحيدا وهو تنحية العسكر واستلام السلطة الكاملة منه.. وبهذا الأمل أمكن تبرير كل خروقات المسار السياسي السابق بدءا من فك الثورة بعد التنحي والقبول بإدارة العسكر للمرحلة الانتقالية، ثم الاستقطاب الأيديولوجي والتعجيل بالانتخابات مع مايمثله هذا التعجيل من مشكلات خاصة بالتوافق وكتابة الدستور في وجود العسكر، والانسحاب من الحالة الثورية خصوصا الأخيرة والتي شهدت حوادث استفزت الحس القيمي والإنساني دون طائل تحريكي، وأخيرا – رفض مبادرة تسليم السلطة لرئيس البرلمان المنتخب وتعجيل الرئاسة قبل الدستور. فأن تأتي بعد كل هذا المخاض العنيف فتقبل بنموذج الوصاية العسكري فهو مأزق حقيقي تحاول من خلاله استخدام وسائل الدفاع الفرويدي والتلفيق السياسي.
  • أولى هذه الأوهام أن هذا هو المتاح ولايمكن التحرك في مسار غيره.. والحقيقة – أن هذا غير صحيح ؛ فلطالما كانت الفرص تترى وتتيح بناء تكتل سياسي مدعوما بحالة ثورية مكتملة (كانت هناك حالة ثورية شبه مكتملة بالفعل بدون الإخوان في نوفمبر الماضي) .. وكذلك مبادرة تسليم السلطة لرئيس البرلمان وقد لاقت قبولا حتى من خصوم الإخوان السياسيين ،ولكن رفضها الإخوان لأنها تخالف حدود المتفق عليه ولأن الإخوان – كأي جماعة إصلاحية – توجل من حالة التصلب الثوري الكامل.
  • ثاني هذه الأوهام أن الحسم الثوري ليس ممكنا بسبب الوضع الجيواستراتيجي والاقتصادي والذي قد يدفع لتدخل إسرائيلي مثلا أو عقوبات اقتصادية أمريكية.. وهذا طرح مفجع.. خصوصا إن علمنا المأزق الاستراتيجي الهائل الذي يحياه الإسرائيلي بخصوص الملف الإيراني وأذرعته، وأن كل الحسابات الإسرائيلية بعد تفجر الثورة المصرية كانت تقدر سنينا لإعادة بناء القدرة التعبوية الإسرائيلية وتغيير العقيدة القتالية وتعديل منظومات التسليح واستيعابها.. والإسرائيلي نفسه يقدر أن نظاما معاديا في القاهرة أمامه سنون أطول للوصول لحالة تهديد وجودي. أما الأمريكي، فإنه أحرص من الطرف المصري على إبقاء حبال مصالحه وعدم شدها لآخر وتر. وكذلك فلقد تحدثنا من قبل أن بناء منظومة ثورية للأمن القومي لها طريقة لاتشعل خط الصراع ولكنها تستفيد بكل الأدوات المتاحة للممانعة وتوفير بيئات النهوض الاستراتيجي وأن المقدمة الوحيدة للتحرك المتدرج في هذا الإطار هي تنحية العسكر عن الشأن السياسي.
  • ثالث الأوهام هو الإدعاء أنه لابد من التفاوض والوصول لتسويات مع العسكر – خصوصا مع الإخوان القوة البرلمانية ذات الأغلبية. ولكن مايتم مع قوة سياسية بمفردها وقد خاصمت الحالة الثورية هو أسوأ صيغ التفاوض. التفاوض لايكون ثنائيا ولكن توافق وطني هو الذي يقوده. والتفاوض لابد أن يتم تحت حرارة الحالة الثورية المكتملة وإلا فلن يحدث التنازل المطلوب. والتفاوض لاتقبل نتيجته إلا بالوصول للحد الأدنى السابق ذكره – وليس حالة هي أسوأ من النموذج التركي (على الأقل الحكومات التركية المتعاقبة كانت تدير بعض الملفات السيادية كالداخلية والإعلام ولها مظلة وزارية في جانب القضاء).
  • رابع الأوهام وأخطرها أن نموذج الأمن القومي من الممكن التعامل معه تدريجيا واستنساخ النجاح الأردوغاني.
يحاول البعض المقارنة بين مجلس الأمن هذا وبين مثيله في أمريكا مثلا .. وتلك مزحة سخيفة. فالمجلس الأمريكي – كما نص مرسوم إنشائه في 1947 – ماهو إلا مجلس استشاري وتنسيقي خاضع للرئيس ويغلب عليه المدنيون الذين يختارهم الرئيس وفي نظام سياسي (متشدد) في إخضاع المؤسسة العسكرية للرئاسة والبرلمان ويعتمد على خطوط متوازية في سلسلة القيادة العسكرية لاتتجمع إلا عند الرئيس ووزير دفاعه.

أما النموذج الذي يغلب عليه العسكر ويديرون به وبغيره الملفات السيادية فهذا دفن لمرحلة التحول الديمقراطي برمتها وتكريس للتبعية السياسية والاقتصادية – فضلا عن تجفيفه لقدرة الدولة الاستراتيجية على إدارة أي صراع سياسي أو عسكري مقبل.
والأكثر تسطيحا من ذلك هو الحديث عن النموذج الأردوغاني .. مع أن نجاح أردوغان (الجزئي) كان نتيجة مخاض عسير بلغ أربعة عقود حدثت فيها ثلاثة انقلابات، وفي ظل أوضاع شديدة الخصوصية في الحالة التركية تتمثل في تقدم البنى الاجتماعية والسياسية التركية، وعدم وجود افتراق بين أردوغان والعسكر على تعريف مهام وأهداف الأمن القومي، وملف الاتحاد الأوروبي الذي مثل حشدا شعبيا وسياسيا فريدا ودفع في سيل الإصلاحات، ووجود الظهير الخارجي غير المعادي لأردوغان.. بل إن الأمريكي إليه أقرب كما ظهر في ضغطه على حزبه في 2003 للسماح بدخول القوات الأمريكية العراق وسط تململ الجيش ورفض الحزب.. وأخيرا – النجاح الاقتصادي والاجتماعي الداخلي على يد أردوغان والذي كانت يده بالفعل مطلقة في كل الملفات الاقتصادية وأغلب السياسية.. ولأنه في يده الأمن والادعاء – استطاع أن يمهد بحرق سياسي (قضية أركون) يتبعه بدء التنازل.

ولكن هل يمكن حتى البدء من الآن وسلوك طريق متدرج حتى لو أخذ عقودا ؟ كما يشير سييرا في دراسته – لايمكنك تحجيم امتيازات العسكر وإخضاعهم فعليا عبر مسار خطي متدرج إلا بعد تنحيتهم عن أي شأن سياسي مدني ووجود وزن سياسي أعلى دستوريا وفعليا للمؤسسة المدنية. بدون هذا .. فإن المؤسسة العسكرية لابد وأن تستخدم الأدوات التي في أيديها لقلب الطاولة.
وهذا يوضح عقم طرح بعض الإسلاميين أن التدرج ومحاولة اختراق الكيانات السيادية والعسكرية والتغلغل بها كفيل بحسم النضال السياسي .. ومرد هذا الوهم نسيان أن الخصم لايبقى متفرجا ولكنه يأخذ احتياطات دفاعية ؛بل وهجومية كذلك. في دولة الوصاية لايقبل العسكر بكيان سياسي مدني قوي ولذلك .. فوسائل التحجيم السياسي والأمن والتفخيخ الداخلي والحرب الإعلامية سواء بحدها الهاديء أو العنيف تبقى حاضرة .. وهذا ماحدث في 1954 مع الإخوان ..

قد تختلف درجة البطش لاختلاف كثير من السياقات ولكن يبقى المنطق التاريخي فاعلا .. من يتفاهم مع العسكر على حساب التوافق الوطني الدائم لبناء نظام ديمقراطي كامل يخسر بالتأكيد ويكتوي بنار من تخلص من بقية الخصوم.. وحينها – لن ينفع ترديدات مقولات الزمن الغابر (أكلت يوم أكل الثور الأبيض) أو الثورة – في عرف الأمثال هذا يجوز!

الثلاثاء، 19 يونيو 2012

الاستبداد والقابلية للاستحمار: المغرب………… الحسن الرويجل

 قدَّم المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه " شروط النهضة " (1948) مقاربة متميزة للظاهرة الكولونيالية.. مقاربة ً ظلت متميزة حتى بالمقارنة مع المفكرين الذين جاءوا بعده بعقود ليتناولوا هذه الظاهرة. فبخلاف المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد مثلا، الذي كانت مقاربته للكولونيالية في مجملها احتجاجية على ممارسات الاستعمار وخطابه الاستشراقي ومواقفه الاستعلائية تجاه شعوب الشرق، كان مالك بن نبي أعمقَ رؤية ً عندما قال إن لقيام الاستعمار ظروفا ذاتية وموضوعية. فعلى مستوى الظروف الموضوعية تحدث مالك بن نبي عن المُعامِل الاستعماري الذي "يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهماً، ويشُلُّهم عن مواجهته بكل قوة". أما على مستوى الظروف الذاتية للشعوب المستعمَرة فتحدث مالك بن نبي عما سماه بمُعامِل القابلية للاستعمار، وهو معامل " ينبعث من داخل الفرد الذي يقبل على نفسه… السيرَ في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاتِهِ وأفكارَه وحياتَه". لذلك يرى مالك بن نبي أن الاستعداد النفسي من لدن الشعوب المستعمَرة للخضوع للاستعمار عامل قوي لاستدامة الاستعمار وبقائه، مستشهدا بقولة مأثورة لأحد المصلحين الذي قال: "أخرِجوا الاستعمارَ من نفوسِكم يخرجْ من أرضِكم".

يبدو أن المقاربة التي قدمها مالك بن نبي لظاهرة الاستعمار صالحة أيضا لتحليل ظاهرة الاستبداد، وذلك لاعتبارين اثنين؛ أولهما أن الاستبداد والاستعمار كِلَيهِما يهدفان إلى نفس الغاية، وهي إخضاع الشعوب للقهر والخسف والإذلال من أجل الاستيلاء على ثرواتها؛ ثانيهما أن الاستعمار يحتاج إلى معامل القابلية للاستعمار عند الشعوب. وبنفس المنطق، فالاستبداد أيضا يحتاج إلى معامل القابلية للاستحمار عند الشعوب لكي تقوم له قائمة.

الاستحمار: في المصطلح وما إليه.
الاستحمار مصطلح يدل على الاستغباء الممنهج للشعوب الغافلة أو المغفلة من لدن قوى الاستعمار أو النظم السياسية المستبدة من أجل إلهائها عن المطالبة بحقوقها وثرواتها. فشَغل الشباب بكرة القدم مثلا من أجل إبعادهم عن قضاياهم الحقيقية مثال على استحمارهم. والاستحمار هو في الحقيقة إخراج لهذه الشعوب من طبيعتها الإنسانية والنزول بها إلى مستوى الحمير من أجل تسخيرها للركوب ولمآرب أخرى. ولكن محاولات الاستحمار قد تبقى بدون جدوى وتبوء بالفشل الذريع إذا كانت الشعوب يقِظةً نبيهة، أما إذا كانت الشعوب قابلة للاستحمار فإن معامل القابلية هذا سيلعب لصالح المستحمِر سواء كان مستعمِرا أو مستبدا.

وأول شرط من شروط القابلية للاستحمار عند الشعوب هو العزوف عن القراءة، قراءةِ الواقع وقراءةِ ما استؤمنت  عليه من الكتاب. لذلك كانت رسالة الإسلام الهادفة إلى إخراج العالمين من مرحلة الاستحمار حاملة لشعار " اقرأ باسم ربك الذي خلق ". 

ولذلك كان التفريط في فعل القراءة و في حفظ ما استؤمنت عليه الأمة من الكتاب إيذانا بدخول مرحلة الاستحمار. يقول القرآن الكريم: " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ". (سورة الجمعة-5). فلا غَرْوَ إذن أن نرى الأنظمة الاستبدادية تتفنن في تفصيل برادع على مقاسات ظهور الشعوب عندما تقبل هذه الشعوب ألوان الاستحمار الممارَس عليها.

وانتشر استعمال مفهوم الاستحمار في تحليل ظاهرة الاستبداد بانتشار كتاب المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي، " النباهة والاستحمار ". ويُعرِّف شريعتي الاستحمار بأنه " تسخير للإنسان كما يُسخَّر الحمار " (ص. 43). ويعتبر أن الاستحمار هو كل إلهاء للمستحمَر بأمر ليس من الأولى له أن يشتغِل به من أجل الاستيلاء على متعلقاته حتى لو كان هذا الأمر إيجابيا في ظاهر الأمر. فالزهد قد يكون وسيلة من وسائل الاستحمار عندما نُقنِع المستحمَر بأن يشتغل بالآخرة حتى نستولي نحن على دنياه. والشعر قد يكون من وسائل الاستحمار عندما نشغل به الشباب عن السياسة. والفن قد يكون من وسائل الاستحمار عندما نشغل به المرأة عن المطالبة بحقوقها … وهكذا دواليك.


ويرى شريعتي أن الشعوب التي تتمتع بصفة " النباهة " تبقى عصية على الاستحمار… أي أنها لا تتوفر فيها صفة القابلية للاستحمار بلغة مالك بن نبي. ويضرب شريعتي مثلا على النباهة برعية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. يقول شريعتي:
" … وحينما رأوا الخليفة عمر، ذلك الإمبراطور الذي فتح لهم مصر وإيران وبلاد الروم، يرتدي ثوبا، من الغنائم الحربية، وهو أطول من أثوابهم بقليل، علت أصواتهم بالمعارضة، وتقسيم الغنائم بالمساواة، لقد صاحوا: لأي شيء ثوبك أطول من ثيابنا؟ وهم لا فرق عندهم بين عمر، أميرِهم، إمبراطورِ الشرق والغرب، وبين جندي من الجنود. لقد أجبروه على المحاكمة لأول مرة، وبدلاً من الثناء عليه، وإجلاله لفتح إيران والروم، طالبوه بالعدالة! انظر إلى شعور تلك الأمة، وإلى اهتمامهم والتزامهم بمصيرهم، وهم يستطيعون أن يرفعوا إيران المتحضرة في العهد الساساني بأطراف أصابعهم، ويلقون بها أينما شاؤوا، وفعلا قلعوها، ولا يُعلم أين ذهبت! ولهذا كانوا قادرين على فتح بلاد الروم كلها، ولقد استطاعوا فتح مصر، وإخضاعَها بثلاثة آلاف رجل " (ص. 47).
إن العديد من أبناء هذه الأمة اليوم يقولون: يا ليت لنا زعيما في عدل ونزاهة عُمَر. لهؤلاء أقول: كونوا في نباهة ويقظة شعب عمر، يكن زعيمكم في عدل ونزاهة عمر. إن سُنة الله التي لن تجدوا لها تحويلا تقول أنه كما تكونوا يُولى عليكم. فشعب قابل للاستحمار لن يجد إلا راكبا يمتطي صهوته ببردعة أو بدونها، وشعب يقظ نبيه ستكون له هيبة تفرض على حاكمه أن يفكر ألف مرة قبل أن " يلعب بذيله ".

شعوبنا بين الاستبداد والقابلية للاستحمار
إن السلوك السياسي للشعوب العربية منذ بداية ما يسمى بمرحلة ما بعد الاستعمار هو الذي كان له نصيب الأسد في صياغة نُظم الحكم في المنطقة، لأن السكوت عن سلوك النخبة الحاكمة كان إقرارا له. ولا داعي لأن نذهب بعيدا في استقصاء تاريخ هذه الشعوب باحثين عن مظاهر استحمارها وقابليتها للاستحمار، ففي حاضرها ما يفي بالغرض، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها كلها، ولكن لا بأس من ذكر بعضها. فعلى سبيل المثال لا الحصر نرى أن طوائف الشعب العراقي منشغلة بالتناحر فيما بينها من سنة وشيعة ومسيحيين وأكراد، في الوقت الذي تنهب فيه شركة هاليبورتن وأخواتها ثروات الشعب، هذا مثال صارخ عن القابلية للاستحمار. بنفس المنطق، انشغال فتح وحماس بالصراع فيما بينهما فيما يوسع الكيان العدو مستعمراته ويزحف على المقدسات شكل آخر للقابلية للاستحمار. وانشغال المصريين بالاحتراب بين المسلمين والأقباط لم يستفد منه إلا النظام الاستبدادي الذي كان يسعى للتوريث، والذي ثَبَتَ ضُلوعُه في تفجير كنيسة القديسين مطلع هذا العام، مثال آخر للقابلية للاستحمار… وهلُمَّ جرّاً.

أما إذا أردنا أن نتحدث عن الاستحمار والقابلية للاستحمار عندنا في المغرب فالأمر يحتاج منا إلى مجلدات، لا سطوراً في مقال. أليس إهدار مال الشعب الفقير في مهرجان موازين دليلا على اختلال الموازين في هذا البلد؟ أليست الحشود الغفيرة التي تحج إلى هذا المهرجان حتى يموت بعضها تحت أقدام بعض، في مشهد لم نعرف له مثيلا إلا في الديار المقدسة حيث يدوس الحجاج بعضهم بعضا في رمي الجمرات… أليس هذا المشهد دليلا على قابلية هذا الشعب للاستحمار؟
لماذا تُنفَق هذه الأموال على الغناء والرقص؟ أليست الغاية هي ترقيص الشباب " على وحدة ونص " حتى لا يشتغلوا بالعلم ويعرفوا حقوقهم فيصبحون مصدرا لوجع الرأس بالنسبة لنخبة حاكمة تغتني بأرزاقهم؟ ما السر وراء الانشغال بالمسلسلات التركية والمكسيكية وأخواتها؟ لماذا يريدون لأمة محمد أن تصير أمة مهند؟ أليس هذا شكلا من أشكال الاستحمار؟ عندنا في المغرب قناتان تلفزيتان قائمتان على مد يديهما الأثيمتين إلى جيوب المواطنين من خلال فاتورة الكهرباء، وهاتان القناتان تصران على مخاطبة شعبنا الأمازيغي العربي بلسان فرنسي غيرِ مبين، أليس سكوت الأحزاب السياسية والجمعية المغربية لحماية المستهلكين وباقي هيآت المجتمع المدني على هذا الوضع قابلية للاستحمار؟ ألا يستطيع هذا الشعب أن يرى أن مُستحمِريه هم الوحيدون الذين يستفيدون من غفلته؟ إن هذا الحديث المر سيطول بنا إذا أردنا أن نعدد مظاهر القابلية للاستحمار عند المغاربة، لكني أظن أن الإشارة تكفي لأولي الأبصار… ولكن تعداد الأمثلة لا يكفي لأولي الانبطاح.

ماذا بعد؟
إن القبول بالحقائق المصطنعة دون طرح أسئلة هو أم الخبائث. إن التساؤل عن كل ما يجري أمامنا والتفكر في مغازيه وأبعاده ومراميه هو أول عاصم من القابلية للاستحمار. بـ" فضل " مناهج التعليم ووسائل الإعلام صار الاستحمار صناعة قائمة بذاتها، وتجارة مربحة للنخاسين في سوق الرقيق العصري، ولا سبيل أمام كساد هذه التجارة إلا بالتربية على التفكر، رافعين في ذلك كشعارٍ قولةَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشهيرة: " لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني".

الأحد، 17 يونيو 2012

اكبر غلط…. فهمي هويدي


   أكبر غلط أن يقول قائل إن ما بين المرشحين للرئاسة فى مصر هو صراع بين ممثل الدولة الدينية ومرشح الدولة المدنية. وهو كلام يمكن أن يؤخذ باعتباره نكتة اعتمادا على أن الدكتور محمد مرسى له لحية فى حين أن كل صلة الفريق شفيق بالمدنية ينحصر فى كونه ظل وزيرا للطيران «المدنى» لمدة تسع سنوات تقريبا، خلع خلالها ثيابه العسكرية وظل يرتدى الثياب «المدنية». لكنك إذا انطلقت فى ذلك من كون الدكتور مرسى ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين التى لها «مرشد» يمكن أن يؤثر على قراراته، فإن المقارنة عندئذ لن تكون فى صالح الفريق شفيق الذى رشحته مشيخة الطرق الصوفية وأيده فصيل منسوب إلى جماعة «الجهاد».
ذلك أن مرشد الجماعة ــ إذا صح أن له كلمة فى الموضوع ــ فكل ما يصدر عنه يؤخذ من كلامه ويرد. أما عند الصوفية فعلاقة المريد بالشيخ تصفها أدبياتهم بأنها كالميت بين يدى مغسله، بمعنى أنها حالة استسلام كامل. ولا أعرف رأى الفريق فى مجموعة تنظيم الجهاد التى أيدته، والتى لا ترى غير العنف والسلاح سبيلا للتغيير فى المجتمع. الأمر الذى يضطرنا إلى إعادة النظر فى تعريف «المدنية» التى يرمز إليها الفريق. أما إذا أردنا أن نأخذ الأمر على محمل الجد، فسوف نكتشف أننا بصدد صراع موهوم بين مشروعين افتراضيين، لا علاقة بالرجلين بهما. فموضوع الدولة الدينية ليس واردا فى مصر، كما أن الفريق شفيق لا علاقة له من قريب أو بعيد بالدولة المدنية. إلا فى الحدود «المدنية» التى سبق ذكرها.

إننى أستغرب ما يتحدث به البعض عن احتمالات إقامة الدولة الدينية فى مصر. وأرجح أنهم يلوحون بذلك لمجرد التشهير والتخويف لا أكثر، حيث لا يخطر على بال أى أحد أن عاقلا فى هذا الزمان يمكن أن يدعى أنه ظل الله فى الأرض وأن كلامه تعبير عن المشيئة الإلهية. وإذا اختل عقله وفعلها تحت أى ظرف، فإن أحدا لا يتصور أن المجتمع يمكن أن يقبل منه ذلك. وأغلب الظن أنه سيتحول إلى مادة للتندر والسخرية. هذا إذا لم يطالب البعض بإيداعه فى أحد مستشفيات الأمراض العقلية.

صحيح أن الدين ظل العامود الفقرى وحجر الأساس فى الدولة الإسلامية على مدى تاريخها، لكن ذلك لم ينشئ دولة دينية بالمفهوم السائد فى التجربة الغربية. حيث لم يمنح الحاكم ولا السلطة قداسة من أى نوع، الأمر الذى شجع أحد المسلمين على أن يقول فى وجه الخليفة الثانى أبوبكر الصديق: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. وهى ذات الحقيقة التى جعلت تكليف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يستهدف أهل السلطة بالدرجة الأولى. وهى ذاتها التى قننت وحرضت المسلمين على مقاومة الظلم، وأنتجت ما يعرف بفقه الخروج على الحاكم الجائز، الذى يستأثر بالسلطة والمال، إلى غير ذلك من الأدلة والقرائن التى تجعل الترويج لفكرة الدولة الدينية بمثابة شائعة خبيثة سيئة النية، أو مزحة ثقيلة تبعث على الاستياء والامتعاض.

المروجون لفكرة الدولة الدينية لم يكتفوا بذلك، وإنما انتقوا من كل بلد له علاقة بالإسلام أسوأ ما فيه وخوفوا الناس من اقتباسه فى مصر. من فرض الحجاب فى إيران، إلى محاربة الفنون وإغلاق البنوك فى أفغانستان طالبان، إلى منع النساء من قيادة السيارات فى السعودية، إلى مهاجمة الحانات فى تونس، وصولا إلى انفصال الجنوب فى السودان ــ ولأسباب مفهومة لم يخطر على بال أحد منهم أن يكون حظ مصر أفضل، بحيث تمضى فى الطريق الذى سلكته تركيا أو ماليزيا أو حتى إندونيسيا.

التدليس فى مسألة الدولة الدينية قابله كذب صُراح فى ادعاء تمثيل الدولة المدنية من جانب المرشح الآخر. ناهيك عن التغليط غير البرىء فى وضع المدنى نقيضا للدينى، بعد العبث بالمصطلح وتفريغه من مضمونه، ومن ثم تحويله إلى أداة فى الصراع السياسى بدلا من استثمار الفكرة الأصلية لصالح المصلحة الوطنية العليا. ذلك أن المرشح الذى يريد إقناعنا بأنه رمز للدولة المدنية، فى حين يعتبر مبارك مثلا أعلى له، وتعتبره إسرائيل كنزا استراتيجيا أكثر أهمية من رئيسه السابق، لا يخدعنا فحسب، وإنما يهين الدولة المدنية ويشوه صورتها.

حتى إذا أدخل بعض التعديلات وركَّب بعض الأقنعة على نظام مبارك الذى يمثله فإن ذلك لا يمكنه أن يطمس حقيقة الدولة البوليسية الكامنة فى تلافيف النظام. وقد أفصح الرجل عن ذلك فى حديثه إلى غرفة التجارة المصرية الأمريكية، الذى فضحته صحيفة «نيويورك تايمز»، وقوبل بتصفيق حاد من قبل رجال الأعمال الحاضرين، حسبما ذكرت الصحيفة الأمريكية.

حين قرأت قول المرشح المحترم الذى كان رئيس وزراء مبارك «إننا صنعنا ثورة ناجحة» مراهنا على بلاهة وغباء الشعب المصرى، الذى لم ينس أنه كان رئيس الوزراء المسئول سياسيا عن معركة الجمل، فإننى لم استغرب اجتراءه على الادعاء بأنه يمثل الدولة المدنية. لقد صرنا بإزاء صراع مفتعل بين أكذوبتين، واحدة تخوفنا من الدولة الدينية، والأخرى تخدعنا باسم الدولة المدنية، والأولى مجرد وهم أطلق فى الفضاء الإعلامى والثانية تحولت إلى ورقة توت لستر عورة نظام مبارك ــ لذا لزم التنويه.

عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب …… نعوم تشومسكي


(1) استراتيجيّة الإلهاء:
هذه الاستراتيجيّة عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتغييرات التي تقرّرها النّخب السياسية والإقتصاديّة، ويتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. استراتيجيّة الإلهاء ضروريّة أيضا لمنع العامة من الإهتمام بالمعارف الضروريّة في ميادين مثل العلوم، الاقتصاد، علم النفس، بيولوجيا الأعصاب و علم الحواسيب. “حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة. اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضيعة مع بقيّة الحيوانات.” (مقتطف من كتاب أسلحة صامتة لحروب هادئة)

(2) ابتكر المشاكل … ثم قدّم الحلول:
هذه الطريقة تسمّى أيضا “المشكل – ردّة الفعل – الحل”. في الأول نبتكر مشكلا أو “موقفا” متوقــَعا لنثير ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، و حتى يطالب هذاالأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الإجتماعية وتردّي الخدمات العمومية كشرّ لا بدّ منه.
(3) استراتيجيّة التدرّج:
لكي يتم قبول اجراء غير مقبول، يكفي أن يتمّ تطبيقه بصفة تدريجيّة، مثل أطياف اللون الواحد (من الفاتح إلى الغامق)، على فترة تدوم 10 سنوات. وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو-اقتصاديّة الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات كانت ستؤدّي إلى ثورة لو تمّ تطبيقها دفعة واحدة.
(4) استراتيجيّة المؤجّــَـل:
وهي طريقة أخرى يتم الإلتجاء إليها من أجل اكساب القرارات المكروهة القبول وحتّى يتمّ تقديمها كدواء “مؤلم ولكنّه ضروري”، ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينيّة. أوّلا لأن المجهود لن يتم بذله في الحين، وثانيا لأن الشعب له دائما ميل لأن يأمل بسذاجة أن “كل شيء سيكون أفضل في الغد”، وأنّه سيكون بإمكانه تفادي التّضحية المطلوبة في المستقبل. وأخيرا، يترك كلّ هذا الوقت للشعب حتى يتعوّد على فكرة التغيير ويقبلها باستسلام عندما يحين أوانها.
(5) مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار:
تستعمل غالبية الإعلانات الموجّهة لعامّة الشعب خطابا وحججا وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي، وكثيرا ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوّق ذهنيّا. كلّما حاولنا مغالطة المشاهد، كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة. لماذا؟ “إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعل مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة الطفل ذي الإثني عشر عاما.” (مقتطف من كتاب أسلحة صامتة لحروب هادئة)
(6) استثارة العاطفة بدل الفكر:
استثارة العاطفة هي تقنية كلاسيكية تُستعمل لتعطيل التّحليل المنطقي، وبالتالي الحسّ النقدي للأشخاص. كما أنّ استعمال المفردات العاطفيّة يسمح بالمرور للاّوعي حتّى يتمّ زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيّات.
(7) إبقاء الشّعب في حالة جهل وحماقة:
العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطّرق المستعملة للتحكّم به واستعباده. “يجب أن تكون نوعيّة التّعليم المقدّم للطبقات السّفلى هي النوعيّة الأفقر، بطريقة تبقى إثرها الهوّة المعرفيّة التي تعزل الطّبقات السّفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطّبقات السّفلى” (مقتطف من كتاب أسلحة صامتة لحروب هادئة)
(8) تشجيع الشّعب على استحسان الرّداءة:
تشجيع الشّعب على أن يجد أنّه من “الرّائع” أن يكون غبيّا، همجيّا و جاهلا
(9) تعويض التمرّد بالإحساس بالذنب:
جعل الفرد يظنّ أنّه المسؤول الوحيد عن تعاسته، وأن سبب مسؤوليّته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته. وهكذا، عوض أن يثور على النّظام الإقتصادي، يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب، وهو ما يولّد دولة اكتئابيّة يكون أحد آثارها الإنغلاق وتعطيل التحرّك. ودون تحرّك لا وجود للثورة!
(10) معرفة الأفراد أكثر ممّا يعرفون أنفسهم:
خلال الخمسين سنة الفارطة، حفرت التطوّرات العلميّة المذهلة هوّة لا تزال تتّسع بين المعارف العامّة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النّخب الحاكمة. فبفضل علوم الأحياء، بيولوجيا الأعصاب وعلم النّفس التّطبيقي، توصّل “النّظام” إلى معرفة متقدّمة للكائن البشري، على الصّعيدين الفيزيائي والنّفسي. أصبح هذا “النّظام” قادرا على معرفة الفرد المتوسّط أكثر ممّا يعرف نفسه، وهذا يعني أنّ النظام – في أغلب الحالات – يملك سلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم

الخميس، 14 يونيو 2012

المدنية قناع لا قيمة….فهمي هويدي


 تجربة تشكيل لجنة المائة التى يفترض أن تضع الدستور المصرى الجديد جاءت كاشفة لجوانب مهمة للمشهد السياسى بعد ثورة 25 يناير، من ذلك مثلا أنها سلطت الضوء على مفهوم القوى المدنية، وكيف أعادت تشكيله بعض عناصر النخبة المصرية التى فرغت المصطلح من مضمونه واعتبرت نفسها الوكيل الحصرى له، ومن ثم أعطت نفسها الحق فى تصنيف الآخرين بإجازتهم أو إقصائهم.

فنحن حتى عهد قريب كنا نعرف أن القوى المدنية هى تلك التى تحترم القانون وتتحرك فى إطاره، فى حين تسعى إلى إقامة دولة المؤسسات التى تؤمن بالديمقراطية وتداول السلطة. والمدنية بهذا المعنى ليست مقابلا للعسكرية. ولكنها صيغة تخرج من حكم الفرد وهواه إلى حكم المؤسسة والقانون.

وهذه هى الخلفية المتعارف عليها لدى علماء الاجتماع السياسى. وقد استندت إليها  وانحزت إلى صفها حين كتبت قبل نحو عشر سنوات مقالا كان عنوانه: دفاع عن المجتمع المدنى. وكان ظنى ولايزال أن المدنية بهذا المفهوم بمثابة قيمة سياسية واجتماعية لا علاقة لها بالأيديولوجية، سواء كانت مرجعية دينية أو علمانية، إذ كما أن الحضارة الإسلامية أسهمت فيها بدور بارز مؤسسة «الوقف» الذى نقلته عنها التجربة الغربية، فقد استقرت الصيغة المؤسسية فى المجتمعات العلمانية.

 وإذا كانت تلك الصيغة قد أصابها الخلل فى بعض الأقطار الإسلامية، فإنها واجهت المصير ذاته فى بعض المجتمعات العلمانية. أعنى أن ذلك إذا كان قد حدث فى أفغانستان طالبان، فإنه تكرر بصورة أسوأ وأتعس فى ظل حكم الأسد بسوريا وبن على فى تونس، وهما ينتسبان إلى الأصولية العلمانية.

فى حالة لجنة الدستور وبعدما انتقد كثيرون هيمنة أغلبية الإخوان والسلفيين على تشكيلها الأول، الذى أبطلته المحكمة الإدارية العليا، فإن عملية إعادة التشكيل التى استمرت خلال الأيام العشرة الأخيرة استهدفت تمثيل مختلف شرائح المجتمع الأوسع.

 وتخليص اللجنة من هيمنة الحزبين الإسلاميين. وهى العملية التى مرت بأطوار عدة تتعدد فى شأنها التفاصيل والروايات، لكن أهم ما فيها أن بعض أحزاب الأقلية نحت جانبا المضمون المتعارف عليه فى شأن القوى المدنية، فلم تعد مهتمة بفكرة المؤسسية أو احترام القانون ولا المصالح العليا المرجوة منهما، ولكنها اعتبرت المدنية نقيضا للدينية، فى تعريف شوه المصطلح وأفرغه من مضمونه العلمى والتاريخى. وبتلك الصيغة المبتدعة فإنهم أحدثوا قطيعة بين الدينى والمدنى. بالتالى لم يعد مستساغا لديهم القبول بمدنية أية جهة منتسبة إلى الواجهة أو المرجعية الإسلامية. كانت نتيجة ذلك أن مؤسسة مثل الأزهر جرى تصنيفها ضمن قوى الإسلام السياسى، كما أن حزب الوسط الذى قدم نفسه منذ نحو 15 عاما بحسبانه حزبا مدنيا ديمقراطيا له مرجعيته الإسلامية، رفض ضمه إلى القوى المدنية. وعند مناقشة ترشيحات الأعضاء فإن حزب غد الثورة رشح أحد الأشخاص ليكون ضمن حصة القوى المدنية.

 ولكن ترشيحه قوبل بالرفض، وحين أثار ذلك دهشة البعض، قيل لواحد منهم همسا إن الشخص المرشح مشكوك فى مدنيته، لماذا؟ ــ لأن آثار السجود فى الصلاة كانت ظاهرة على جبهته.
!!!
هذا الموقف المستغرب بالإضافة إلى قرائن أخرى مماثلة جاء كاشفا عن حقيقة بات من الضرورى الالتفات إليها، وهى أن وصف المدنية فى الحوار الجارى بمصر لم تعد له علاقة بما نعرفه عن مضمونها، وإنما هو فى حقيقة الأمر مجرد قناع يخفى وجها آخر مختلفا تماما. ذلك أننا لسنا بصدد صراع بين ما هو مدنى ودينى، وانما هو فى جوهره حلقة فى الصراع الممتد بين القوى العلمانية والمهيمنة منذ الاستقلال وبين القوى الإسلامية الصاعدة. إن شئت فقل إن هدف الاشتباك الراهن ليس الدفاع عن مدنية الدولة بالمفهوم المتعارف عليه، ولكنه إقصاء أو إضعاف التيار  الإسلامى الذى يحاول أن يثبت حضورا ويكتسب شرعية فى ظل الوضع السياسى المستجد.

ليس عندى دفاع عن مواقف أو أخطاء المنتسبين إلى ذلك التيار الأخير، فذلك ملف آخر له كلام آخر، إنما أكثر ما يعنينى هو إزالة ذلك الالتباس الذى ظلم المدنية حين اختزلها فى العلمانية واعتبرها قناعا لها. أدرى أن ذلك ليس موقفا جديدا.

 وأن العلمانيين أدركوا خلال السنوات الأخيرة أن المصطلح سيئ السمعة فى مصر، ولذلك سعوا إلى اخفائه فى ثنايا المدنية، ولو أنهم أسقطوا القناع وصارحوا الناس بالحقيقة لكانوا أكثر صدقا وشجاعة، خصوصا أن العلمانية ليست شرا كلها، علما بأن النموذج التركى دال على إمكانية المصالحة بين العلمانية من ناحية وبين الإسلام والديمقراطية من ناحية ثانية. إلا أن ذلك طور فى الممارسة الديمقراطية لم نبلغه بعد فى مصر، لأنه يتطلب تسلحا بدرجة من التسامح والثقة لم تتوافر بعد لمختلف القوى السياسية.