الخميس، 29 سبتمبر 2011

انتهاء حالة الطوارئ…. المستشار/ طارق البشري



(1)‏
الحديث السياسي هذه الأيام‏,‏ منذ حادث السفارة الإسرائيلية وصدور قرار المجلس الأعلي للقوات المسلحة رقم ‏193‏ لسنة ‏2011,‏ هو حديث يثير الجدل الحاد حول حالة الطوارئ‏,‏ المفروضة ويطالب بإنهائها لقد هوجم القرار المذكور بحسبانه بحق يزيد من سلطات الطوارئ في هذه الحالة الثورية التي نحياها‏,‏ وانه يزيد من انطلاق سلطات الدولة الاستثنائية في مواجهة الحراك الشعبي الجاري, ونحن كالعادة وبحق نخشي في تصرفات الدولة من سوء التطبيق والايغال في اجراءات الاستبداد وأفعاله. والظاهر الواضح, من متابعة ما يثيره الحراك الشعبي في هذا الشأن والقادة السياسيون والشباب الثوري, أن الأحزاب جميعها والساسة جلهم وقادة الشباب بأسرهم والصحافة في جملتها, يرون في القرار رقم 193 لسنة 2011 ما يطلق عليه سلطة الطوارئ الاستثنائية بإجراءاتها الاستبدادية الخارجة عن الضمانات القانونية والدستورية المعترف بها للشعب في جماعاته, ولأفراد المواطنين.
في الجانب المقابل, فإن رجال الدولة من مصدري القرار ومن منفذيه ينظرون إلي المسألة من حيث ما يفيده القرار مما يرونه واجبا لدواعي الاستقرار والهدوء والانتظام, وفي مواجهة ظروف يرونها قلقة وملتبسة, ومن حق المصريين طبعا أن يقلقوا كل القلق من كل ما يزيد حالة الطوارئ ويتبعها من حيث المدة التي ناهزت في استمرارها الممتد ثلاثين سنة الآن, من حيث قسوة تطبيق إجراءات الطوارئ التي خبروها جيدا في تاريخهم الطويل.

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

روح الثورات… بلال فضل


حتى الآن أطاحت الثورة بأشخاص كثيرين، لكنها للأسف لم تطح بكل طرق التفكير التى كانت قائمة فى ظل حكم أولئك الأشخاص، وأخطرها طريقة التفكير فى الرأى الآخر على أنه عدو لا بد من تشويهه وإسكات صاحبه. خذ عندك مثلا النغمة التى ترددت على ألسنة عدد من قادة المجلس العسكرى حول العملاء والخونة والممولين من الخارج، بدلا من أن يقوموا بمراجعة أنفسهم ونقد ذواتهم والاعتراف بأخطائهم. ومع الفارق الكبير انظر أيضا إلى بعض الثوريين الغاضبين وطريقة تعاملهم مع كل رأى مختلف يقول إن الانتخابات هى الطريقة المأمونة للخروج بالبلاد من المأزق الذى وقعت فيه بفضل عقم الإدارة العسكرية وتشتت القوى الثورية، إذا قلت ذلك فأنت على طول عميل وخائن ومتخاذل. فى الجانبين ستجد نفس طريقة التفكير المباركية التى تفترض أن كل رأى تكمن وراءه مصلحة رخيصة، وبدلا من أن تعمل على مناقشته فالأسهل أن تقوم بتشويه صاحبه والتفتيش فى نواياه.

لن ألقى دروسا فى احترام الرأى الآخر، فقد كنت كثيرا فى ما مضى أسخر من الرأى المخالف لى، صحيح أننى لم أكن أقع فى فخ التخوين، لكننى لن أعظ أحدا إلا عندما أكون أهلا لذلك، يعنى ممكن على الخميس الجاى بإذن الله، وحتى يحدث ذلك، لن أتورط لا سمح الله فى نصيحة المجلس العسكرى، فهو قانع بناصحيه الذين ورثهم عن نظام مبارك، وهنيئا له بهم، فقط سأتمنى على كل ثائر أو متعاطف مع الثورة ومؤمن بمطالبها أن يبحث عن كتاب شديد الأهمية اسمه «روح الثورات» كتبه عالم الاجتماع الفرنسى الشهير جوستاف لوبون بعد دراسة متعمقة للثورة الفرنسية وآثارها، وترجمه الأستاذ عادل زعيتر سنة 1924، وهو كتاب لا يستمد أهميته من آراء لوبون السياسية، فقد حرص الرجل على أن يورد كل الآراء المتعارضة فى الثورة الفرنسية، بين من يراها مؤامرة ومن يراها ضرورة شعبية، وبين من يراها أمرا رائعا يجعل الفرنسيين مدينين للثوار، ومن يراها سببا فى تخريب المجتمع، لأن كل ما حققته كان يمكن أن يحدث عبر تطورات إصلاحية، ليس هذا ما ستستفيده من الكتاب لأن الثورة الفرنسية أصبحت واقعا تجاوز كل المشككين فيه، وهو ما سيحدث بإذن الله مع الثورة المصرية التى إذا نجحت فى الانتقال إلى الحكم المدنى، لن تصبح هناك أدنى قيمة لسخافات المشكّكين فيها، ما سيهمك فى كتاب لوبون كلامه الرائع عن النفسية التى تسود الشعوب فى مرحلة الثورات، وكيف يكون لها دور خطير فى تحقيق أهداف الثورة أو ضياعها، ستعرف قيمة آراء لوبون إذا كنت قد قرأت له كتابين مهمين هما «سر تطور الأمم» و«روح الجماعات»، والاثنان ترجمهما المرحوم أحمد فتحى زغلول شقيق الزعيم سعد زغلول، وقد قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بإعادة طبعهما فى العام الماضى.

معركة الثورة المصرية الآن هى معركة ضد نفسية اليأس والإحباط التى لم يعد يقوم بنشرها فقط فلول النظام المباركى أو أفراد حزب الكنبة، بل أصبح يقود عملية نشرها بعض الثوار الذين يحلو لهم ترديد نغمة أن الثورة سُرقت وضاعت وراحت فى ستين داهية، وللأسف فإنهم يقومون بذلك منطلقين من روح ثورية صادقة، لكن من قال إن إخلاص الجندى كافٍ لجعله يكسب المعركة؟ مشكلة هؤلاء للأسف تكمن فى عدم وجود اتفاق ولو شبه ضمنى بين القوى التى شاركت فى الثورة على طريقة تحقيق أهداف الثورة، لا أعتقد أن هناك ثوريا محترما يمكن أن يوافق على حكم العسكر، الكل يتحدث عن ضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لكن المشكلة أننا مختلفون على طريقة تحقيق ذلك. طيب، طبقا لقراءة نسب المشاركة فى الفاعليات الثورية الأخيرة يتضح أن الغالبية العظمى مهتمة أكثر بالتركيز على الانتخابات كوسيلة مضمونة للخلاص من حكم العسكر وحكومة شرف الضعيفة، وكسبيل لتحقيق مطلب العدالة الاجتماعية الأكثر إلحاحا لدى ملايين المصريين من مطالب أخرى هى مهمة دون شك لكن الغالبية العظمى لم تقتنع بأهميتها بعد.

هل يمكن أن نصادر على أحد حقه فى التشكك فى حدوث انتخابات نزيهة يكفلها المجلس العسكرى؟ بالطبع لا، هل يمكن أن نمنعه من الشعور بالإحباط بعد ما رآه من سوء إدارة للفترة الانتقالية؟ لا عشنا ولا كنا، طيب ما الحل؟الحل ببساطة فى إرادة الشعب. يا سيدى إذا كنت تعتقد أن الثورة ستنجح إذا تم إعدام مبارك ورفاقه والإطاحة بالمجلس العسكرى دون انتخابات والتخلص من كل من كان له علاقة بالنظام السابق، فعليك أن تقنع الشارع بذلك لكى يلتف حولك وتستطيع تحقيق تلك الأهداف. طيب إذا كان الشارع الثورى الذى ملأ ميادين مصر وأسقط مبارك لم يقتنع بما تقوله، فما بالك بالشارع المتأرجح أو الصامت أو الخائف أو الرافض أو الطاهق من عيشة الذين خلفوه؟لماذا إذن لا تبحث عن وسيلة أخرى للوصول إلى هدفك؟ اسأل نفسك: 
هل كانت الثورة ستنجح فى إسقاط مبارك لو اقتصرت على الآلاف الذين خرجوا فى الخامس والعشرين من يناير، أم أن نجاحها اعتمد على توسيع نطاق الكتلة الحرجة التى جعلتها عصيّة على القمع؟ ستعود الملايين لتقف معك لو ثبت لهم أن هناك من سيضربهم على أقفيتهم ويلغى حقهم فى التصويت الانتخابى، سيكونون معك لو طلبت منهم أن يحموا لجان الانتخابات من العنف والتزوير، سيضحون بأرواحهم من أجل ذلك كما ضحوا بها يوم 28 يناير، سيكونون معك لو طلبت منهم أن يلتفوا حولك لكى ننتقل بمصر إلى حكم مدنى منتخب نحاسبه ونعاقبه ونسقطه إن أردنا، لكنهم -وهذا ما أظنه- لن يكونوا معك إذا لم ترفع مطالب يقتنعون بها، لن يكونوا معك إذا شعروا أنك عصبى ضيق الأفق تضيق بكل من يخالفك، وأخيرا سيقلقون منك كثيرا إذا شعروا أنك مخنوق من عيشتك وترغب فى الشهادة فقط دون أن تفكر فى النصر.

المشكلة أن هؤلاء الذين انتصرتَ كثائر بفضل تشجيعهم وتأييدهم أو حتى صمتهم وطناشهم وعدم نزولهم ليقفوا ضدك، يمكن أن يقفوا ضدك فعلا لا قدر الله إذا شعروا أنك تهدد أمانهم ورزق عيالهم، وساعتها ستكون سببا فى صنع طاغية جديد يحمله الملايين إلى العرش، تماما كما حدث عندما ضاق الناس ذرعا بطيش الثوار الفرنسيين الذين كان حظهم أفضل منك ووصلوا إلى الحكم ومع ذلك فقد تسببت الروح الثورية فى جعلهم يعبثون بالبلاد والعباد، وهذا ما يعرضه جوستاف لوبون بشكل رائع يستحق التأمل، على الأقل لأولئك الذين يرددون كثيرا أن مشكلة مصر تكمن فى أن الثوار لم يحكموا البلاد.

لا تنقذوا مستقبل إسرائيل….. محمد بن المختار الشنقيطي


 كتب توماس فريدمان بصحيفة نيويورك تايمز يوم 17 من سبتمبر/أيلول الجاري: "لم أقلق قط على مستقبل إسرائيل مثلما أنا قلق عليه اليوم. فانهيار الدعائم الأساسية لأمن إسرائيل –السلام مع مصر، والاستقرار في سوريا، والصداقة مع تركيا والأردن- مع وجود حكومة هي أقل الحكومات حنكة دبلوماسية وخبرة إستراتيجية في تاريخ إسرائيل، قد وضعا إسرائيل في وضعية خطيرة للغاية".
 وليس من ريب أن هذا تقييم دقيق للميزان الإستراتيجي المتبدل في المنطقة، بقلم رجل غير متهم في محبة إسرائيل، بل هو يفاخر -في كتابه "من بيروت إلى القدس"- بأنه "عاشق لإسرائيل رغم مساوئها". 

بيد أن الذين يسعون إلى الحصول على اعتراف من الأمم المتحدة بدولة فلسطين اليوم لا يبدو أنهم مدركون لهذا التبدل في الميزان الإستراتيجي لصالح قضية فلسطين. فرغم حسن النيات وراء المبادرة الفلسطينية والعربية للحصول على هذا الاعتراف، فإن المبادرة تبدو لي في الزمان الخطأ تماما، وهي تخدم بقاء الدولة الصهيونية أكثر مما تخدم القضية الفلسطينية التي أصبح الوقت في صالحها لأول مرة منذ نكبة 1948. فقد تكشف الربيع العربي عن تحوير للمحيط الإستراتيجي تحويرا عميقا لصالح الفلسطينيين. وما على الفلسطينيين اليوم سوى الصبر بضع سنين أخرى –ستكون أخف وطأة من سابقاتها- لكي يرتفع عنهم الظلم التاريخي الذي حاق بهم.
 
إن بقاء إسرائيل بتركيبتها الاستعمارية الشوفينية الحالية ارتكز على ركيزتين: الدعم الأميركي الأعمى، وتواطؤ القادة المستبدين في الجوار العربي والإسلامي، أو عدم فاعليتهم. بيد أن الربيع العربي قد وضع هذه المعادلة على أبواب التغيير الحتمي.فثمن إسرائيل يتراكم يوميا على الكاهل الأميركي، وسيصل قريبا إلى مستوى لا يستطيع الأميركيون أن ينوؤوا به. والمحيط الإقليمي قد بدأ تحولا عميقا يخدم القضية الفلسطينية ويسحب البساط من تحت العنجهية الإسرائيلية.
 
لقد فقدت إسرائيل خلال الشهور الماضية أهم ركائز دعمها الإقليمي. فقد طردت القيادةُ التركية السفيرَ الإسرائيلي من أرضها بعد أن كانت تركيا أهم حليف إستراتيجي للدولة اليهودية طيلة نصف قرن، وطرد الشعب المصري السفير الإسرائيلي من أرضه بعد ثلاثة عقود من إخضاع مصر للأهواء الإسرائيلية، وهرب السفير الإسرائيلي من الأردن صاغرا وقد كان يصول في عمَّان صولة الملوك.
 
وحينما ينظر المؤرخون بأثر رجعي إلى هذه الأعوام بعد عقدين من الآن -حينما لا يكون في العالم دولة اسمها إسرائيل- فسيجدون أن الجشع الصهيوني الذي لا حدود له، والدعم الأميركي الأعمى الذي لا رادع له، هما السببان في هلاك مشروع الدولة الصهيونية غير المأسوف عليها، وفي إنقاذ فلسطين من الضياع الأبدي. وكأني بأحد أولئك المؤرخين وقد كتب في حدود عام 2030 يقول: "لقد رفض المستعمرون اليهود بكل جشع تقاسم الأرض مع أهل الأرض حينما كان ذلك ممكنا، كما فعل إخوانهم في العنصرية بجنوب أفريقيا، واستمرؤوا الظلم الفادح في وضح النهار، وأعانهم على ذلك ظهير دولي غربي أعماه الميراث الاستعماري والتحيز ضد العرب، والحقد على الإسلام. ثم جاء الربيع العربي مع مطلع عام 2011 فقلب المعادلات وبدَّل الموازين، فرفض الفلسطينيون بعد ذلك تقاسم الأرض أو قبول الذل، وكانت تلك نهاية دولة إسرائيل" (انتهى الاستشهاد).
 
الحلول المتصورة للقضية الفلسطينيةإن الحلول المتصورة للقضية الفلسطينية تنحصر اليوم في خيارات أربعة:
أولها: خيار التقسيم الجغرافي لفلسطين، وهو حيف في حق الفلسطينيين والعرب، حيث سيحصلون على مناطق جرداء أو مكتظة تستحيل الحياة الكريمة فيها، وتحرمهم من مقدساتهم وآثارهم التاريخية، وتحرم ملايين اللاجئين منهم حق العودة إلى أرضهم. فغاية ما سيؤدي إليه هذا التقسيم هو بلدية فلسطينية (تتسمى باسم دولة) منزوعة السلاح، تدور في الفلك الصهيوني وتعيش في ظلال بطشه. فليس التقسيم الجغرافي لفلسطين خيارا مناسبا على الإطلاق.
 
ثانيها: خيار المصادمة، من خلال حرب عسكرية نظامية شاملة، وهذا غير ممكن في ظل اختلال ميزان القوة العسكرية، وامتلاك الدولة الصهيونية ترسانة نووية. فثمن هزيمة إسرائيل هزيمةً ماحقة –على افتراض إمكانه عمليا- سيؤدي إلى نشوب حرب نووية، وهو ما سيجعل ثمن تحرير فلسطين أكبر مما يمكن القبول به. فلا أحد يريد تحرير القدس أو حيفا بتدمير القاهرة أو دمشق أو طهران أو إسطنبول.

ثالثها: خيار الاستنزاف من خلال حركة مقاومة شعبية صبورة
، وهذا كان ممكنا في الماضي لمّا كانت روح حركات التحرر في عنفوانها منتصف القرن العشرين، وكانت الحاضنة الإقليمية والدولية مواتية. لكن تواطؤ بعض الحكام، وضعف آخرين، حال دون نجاح هذا الخيار في حينه. ولا يزال هذا الخيار مفيدا إذا جاء ضمن إستراتيجية رحبة تشمل عناصر أخرى. فحروب الاستنزاف هي سلاح الضعيف عسكريا، ووسيلته في إضعاف ثقة القوي بنفسه وإزعاجه حتى يقبل التنازل.

رابعها: خيار الامتصاص، والمقصود به امتصاص اليهود الراغبين في العيش في فلسطين ضمن دولة واحدة يتمتع فيها العرب واليهود بحقوق المواطنة المتساوية، ويرجع إليها كافة الفلسطينيين المشردين في أرجاء الدنيا معزَّزين مكرَّمين. وهذا هو الخيار الإستراتيجي الذي ينبغي التركيز عليه، وعدم القبول بغيره في اعتقادي. فهذا الحل -الذي يشبه ما تم اعتماده لتفكيك دولة العنصرية في جنوب أفريقيا- سيكون أفضل الحلول على المدى البعيد، وأقربها إلى تحقيق المصلحة الفلسطينية، وأخفها ثمنا من الدماء.
ولعل أهم ميزات حل الامتصاص هذا، هو الآتي:
أولا: أنه يضمن للفلسطينيين العودة إلى أي مكان من فلسطين التاريخية، وإحياء رابطتهم بأرضهم التي ولدوا عليها أو ولد عليها آباؤهم. وهذا حل جذري لمشكلة ملايين اللاجئين الفلسطينيين.
 
ثانيا: أنه سيقلب المعادلة الديمغرافية لصالح الفلسطينيين، وهو ما سيجعل الوجود البشري الصهيوني غير ذي خطر، بل سيضعه على طريق الاندماج في الثقافة العربية الإسلامية، كما اندمج فيها اليهود في سالف الأيام.
 
ثالثا: أنه يجرِّد الصهاينة من قوتهم العسكرية المسلطة على رقاب أمتنا منذ ستين عاما بكل عنجهية وابتزاز. وهذه مصلحة تتجاوز حدود فلسطين إلى الأمة العربية والإسلامية برمتها.

رابعا: أنه سيفجّر هجرة يهودية معاكسة من فلسطين. فالعديد من الإسرائيليين الذين يحمل العديد منهم جنسية مزدوجة سيفضلون الهجرة إلى الغرب. وفي ذلك فرز مفيد بين اليهودي ذي الجذور الشرقية والآخر الآتي من وراء البحار.

قد يقول قائل: هذه مجرد أحلام شاعر، لن يرضى بها الإسرائيليون ولا ظهيرهم الدولي. وهي أحلام حقا، لكنها أحلام تتأسس على قراءة واقعية للتحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة. لقد خلع الشباب العربي ربقة الخنوع، وأمسك الشعب العربي زمام أمره بيده، ولا تستطيع قوة أن تقف في وجه التحول التاريخي الذي ندعوه اليوم باسم الربيع العربي، وهو تحول سيغير المنطق الإستراتيجي برمته في المنطقة. فالاستبداد كان أهم رأسمال ضامن لبقاء الدولة الصهيونية وأكبر ضامن للنفوذ الغربي، لكنه اليوم يتهاوى أمام شجاعة الشباب العربي الثائر.
 
أما قبول الصهاينة وظهيرهم الدولي بهذا الحل فهو لن يكون عن طيب خاطر بطبيعة الحال، ومتى تحررت الشعوب بمنّة من مستعمريها؟ وإنما سيكون قبولهم بذلك خوفا من خسارة أكبر، بعد تحرر الشعوب العربية وأخذها بزمام أمرها. فلن تكون علاقات الغرب –خصوصا الولايات المتحدة- بالشعوب العربية مستقبلا علاقة تبعية من خلال حاكم مستبد وسيط يمثل الأميركيين لدى شعبه، بدلا من العكس المفترض، وإنما ستكون علاقات ندية مع شعوب عزيزة مستقلة القرار. ويومها سيرتفع ثمن إسرائيل إلى حد يرغم الأميركيين على الاختيار بين أميركا وإسرائيل.
 
لقد صبر الشعب الفلسطيني ستة عقود من الاحتلال والتشرد، ولم يبق أمامه سوى بضعة أعوام من المصابرة والمنازلة مع دويلة تتآكل قاعدة وجودها يوما بعد يوم. وستكون الشعوب العربية والإسلامية مع هذا الشعب الأبيّ في معركته الفاصلة. وقد انتهى الزمن الذي كان فيه قائد أكبر دولة عربية مجرد "شاويش" لدى إسرائيل، وكان فيه أكبر رافع لشعار المقاومة والممانعة مجرد حام لحدود إسرائيل. وبدأت الدولة الصهيونية تواجه الشعوب العربية وجها لوجه في وضح النهار.
 
تحرير الشعوب وتحرير فلسطينإن تحرير فلسطين ما كان ليتم دون تحرر الشعوب العربية التي ظلت ترسف في الأغلال مدة مديدة. وليس من ريب أن الشعوب التي انتفضت في تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق -وهي اليوم تتحفز في حواضر عربية أخرى..- قد شقت طريقا رحبا إلى القدس.
 
ويبقى التساؤل الكبير: هل من العدل المساواة بين صاحب الأرض ومن جاءها مستعمرا صائلا؟ وكيف يرضى الفلسطينيون بمنح حقوق المواطنة على أرضهم لمن ذبحوهم وشردوهم في أرجاء الدنيا؟، لست أدعي أن حل الدولة الواحدة حل عادل، فهو لن يحقق العدل بطبيعة الحال، لكني أزعم أنه حل إستراتيجي حكيم، يرفع بعض الظلم بأقل ثمن ممكن، ويفتح الباب لاندمال جرح تاريخي يضغط على الضمير العربي والمسلم منذ قرن من الزمان.
 
فالتقاسم الديمغرافي لفلسطين خير من التقسيم الجغرافي لها، والميزان الديمغرافي يميل لصالح الفلسطينيين والعرب في الأمد البعيد. أما حل الدولتين الذي يتوسل العربُ العالمَ في سبيله اليوم فهو إنقاذ لمستقبل إسرائيل من العاصفة التي تتجمع في الأفق، وتوشك أن تضرب الوهم الصهيوني في صميم وجوده. فلا تنقذوا مستقبل إسرائيل أيها السادة، ودعوها سادرة في غيها حتى تحين لحظة المفاصلة.

عن اختطاف الربيع العربي….. فهمي هويدي

إذا لم ندرك أن الربيع العربى يتعرض للاختطاف فى المرحلة الراهنة، فمعنى ذلك أننا واهمون أو مغيبون، وأننا ما قرأنا نشرات أخبار الساعة، أو قرأناها ولم نستوعب مغزاها. 
(1)
 فى 22 فبراير الماضى، بعد نحو عشرة أيام من تنحى الرئيس السابق،  نشر لى مقال تحت عنوان: ماذا يدبرون للثوار فى الخفاء؟ ــ وكانت الفكرة الأساسية فيه تقوم على أن الأمريكيين والإسرائيليين ظلوا طوال الثلاثين سنة السابقة يمدون جسورهم ويثبتون أقدامهم فى مصر، ويخترقون كل ما استطاعوا اختراقه من مواقع أو شرائح اجتماعية، لضمان استمرار نفوذهم والابقاء على مصر فى موقف التابع والمنكفئ. ولم يكن سرا أن تلك الترتيبات تمت تحسبا ليوم يحدث فيه أى تغيير «دراماتيكى» فى مصر، كما قيل آنذاك صراحة. وإذ استشهدت فى ذلك بما توفر لدى من وثائق، فإن السؤال الذى طرحته كان كالتالى: هل ذهب كل ذلك الجهد هباء، ومتى وكيف سيتم استثماره؟

ما لم أذكره حينذاك أن صحيفة «نيويورك تايمز» كانت قد نشرت قبل ظهور مقالى بثلاثة أيام (فى 19/2) ان المسئولين الأمريكيين كانوا واثقين فى اليوم الثامن من الشهر ذاته من أن الجيش لن يطلق النار على المتظاهرين فى مصر، وإن أولئك المسئولين قدروا الدور المهم للجيش الذى له روابطه العميقة بالجيش الأمريكى. واستوقفنى فى الكلام المنشور عبارة نسبت إلى المسئولين الأمريكيين قالوا فيها إن ثلاثين سنة من الاستثمار فى مصر كانت لها فائدتها. فيما وجهه الجنرالات الأمريكيون وضباط الاستخبارات من رسائل إلى نظرائهم المصريين عبر البريد الإلكترونى، وخلال الاتصالات الهاتفية التى أجروها معهم. وهى الخلفية التى دفعتنى إلى التساؤل فى ذلك الوقت المبكر عن أهداف هؤلاء وما يدور فى عقولهم بشأننا فى المرحلة المقبلة.

لم يكن هناك شك فى أن الأمريكيين وغيرهم فوجئوا بما حدث، وانهم سارعوا منذ اللحظات الأولى إلى الإفادة من رصيد استثمارهم فى مصر طوال الثلاثين سنة السابقة لكى يكونوا فى «الصورة» قبل الإقدام على أى خطوة. ذلك أن المفاجأة باغتتهم وكانت أقرب إلى الصدمة، التى جاءتهم من حيث لا يحتسبون.
(2)
 أحتفظ بتقرير نشرته مجلة نيوزويك فى 12/6 عن المأزق الذى واجهته واشنطن بوجه أخص، بعدما فوجئت بتجليات «الربيع العربى» إذ أثار انتباهى فيه التركز على أن رجال المخابرات المركزية الأمريكية أقاموا خلال سنوات «مكافحة الإرهاب» علاقات وثيقة مع شخصيات رئيسية فى الجيوش وأجهزة الأمن والسياسيين فى منطقة الشرق الأوسط. وبسبب تلك العلاقات الوثيقة فإن المخابرات المركزية أصبحت أكثر اعتمادا على أجهزة الاستخبارات المحلية، خصوصا فى مصر  التى كان الرئيس السابق حليفا رئيسيا اعتمد عليه، وكان اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة هو الشخصية المحورية فى تلك العلاقة. التى بلغت ذروتها فى تسعينيات القرن الماضى. وهى الفترة التى قامت فيها المخابرات المركزية تتبع عناصر تنظيم القاعدة فى أنحاء العالم، وإرسالهم إلى مصر لاستجوابهم وانتزاع الاعترافات منهم. الأمر الذى ارتفعت وتيرته واتسعت دائرته بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001.

أضاف التقرير الذى كتبه كريستوفر ديكى إن سقوط مبارك أسقط معه اللواء عمر سليمان الذى كانت واشنطن قد رحبت به وراهنت عليه كخليفة له، ولكن خروج الأخير من ساحة المخابرات والسياسة أربك الإدارة الأمريكية لأنها لم تكن مطمئنة إلى الوضع المستجد، وغير واثقة من إمكانية نسج علاقة مخابراتية معه على النسق الذى كان سائدا فى عهد مبارك.

الصورة تكررت فى ليبيا. إذ ذكر التقرير أن المخابرات البريطانية والأمريكية صاغت فى تسعينيات القرن الماضى علاقات وثيقة مع رجل المخابرات الليبية المخضرم موسى كوسا (الذى عين لاحقا وزيرا للخارجية)، وأصبحت العلاقة أكثر قوة بعد الحادى عشر من سبتمبر. وفى ظلها تمت عملية «إعادة تأهيل» العقيد القذافى لكى يصبح أكثر قبولا وتعاونا مع الغرب. وحين قامت الثورة فى ليبيا، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قدمت الدعم الجوى للثوار. لكن «كوسا» انشق بسرعة وذهب إلى لندن. وهو ما أدى إلى حرمان الغرب من قناة الاستخبارات الليبية الأولى.

الوضع لا يقل خطورة فى اليمن ــ هكذا قال الكاتب ثم أضاف إن القيادة الأمريكية كانت قد عملت على ايفاد شبكة من المستشارين الذين قاموا ببناء وحدة خاصة لمكافحة «الإرهاب» تابعة لمنظومة الأمن المركزى فى البلاد، بقيادة ابن أخ الرئيس على عبدالله صالح. وبعد ثورة الشارع اليمنى فإن المستقبل لم يعد واضحا، لكن الثابت أن الوضع لن يستمر كما كان فى السابق.

الخلاصة التى خرج بها  الكاتب من تقريره أن الربيع العربى أفقد الإدارة الأمريكية أهم ركائزها فى المنطقة، ثم إن حالة عدم الاستقرار التى أسفر عنها باتت تشكل بيئة مناسبة لانتعاش «الجهاديين»، الذين يقصد بهم جماعات التطرف الإسلامى التى يعد تنظيم القاعدة من نماذجها، وهو ما اعتبره تهديدا قويا للمصالح والحسابات الغربية. 
(3)
 الثورة الليبية كانت فرصة القوى الغربية لاختراق الربيع العربى واختطافه، ذلك أن أجهزة الاستخبارات الغربية التى فوجئت بما حدث فى مصر وتونس قررت ألا تتكرر المفاجأة. وكان تلك خلاصة المشاورات التى تمت بين ممثلى تلك الأجهزة فى كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا. وحين لاحت نذر الثورة فى ليبيا فإنهم لم يضيعوا وقتا. إذ تحولت تلك المشاورات إلى اجتماعات يومية واتصالات تنسيقية على مدار الساعة. فقد كان الهدف جذابا والصيد ثمينا. إذ إن التدخل السريع فى هذه الحالة يسمح للدول الغربية أن تدخل على الخط وتصبح مباشرة فى قلب الصورة بما يسمح لها بأن تصبح شريكا فى الحدث ومن ثم طرفا مؤثرا فى مسار الربيع ومقاصده. ثم إن ثروة النفط الليبى تمثل عنصرا جاذبا ومشجعا يستحق الهرولة، بما يعيد إنتاج تجربة العراق الذى فازت الإدارة الأمريكية بالنصيب الأوفر فيه. ناهيك عن أن الموقف أفضل كثيرا فى الحالة الليبية، فقد كانت الولايات المتحدة دولة احتلال وطرفا غازيا فى العراق، لكنها مع «الحلفاء الغربيين» تحولت إلى فرقة إنقاذ استجابت لمطلب قيادة الثورة الليبية فى حماية المدنيين من بطش العقيد القذافى وقسوة نظامه. وبرحيله يتخلص الغربيون من حاكم مستبد ومتقلب لا يؤمن جانبه ولا تتوقف مغامراته وحماقاته. إضافة إلى هذا وذاك فإن عملية إعمار ليبيا وتنميتها بعد سنوات التخلف الذى فرضه العقيد على بلاده إبان حكمه، وبعد الخراب الذى تسبب فيه حينما ثار الشعب ضده، تعد هدية كبرى لشركات الإعمار الغربية لابد أن تسهم فى انتعاشها. (المؤسسات الدولية قدرت كلفة إعادة إعمار ليبيا خلال السنوات العشر المقبلة بما يتراوح بين 250 و500 بليون دولار).

هذا التحليل ليس من عندى ولكنه خلاصة لما كتبه أحد الخبراء الأمريكيين، هو فيليب زيليكاو فى مقالة نشرها له موقع صحيفة فاينانشيال تايمز (فى 22/8). وصاحبنا هذا باحث ومؤلف، كان شخصية مهمة فى مجلس الأمن القومى الأمريكى على عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب كما أنه كان أحد أبرز المسئولين عن أداء الحكومة الأمريكية فى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر، وهى المقالة التى علق عليها وناقشها فى 24/8 باحث آخر هو بيل فان أوكين، وكانت فكرته الأساسية فى المقالة، التى جسدها عنوانها هى أن ليبيا فى الوقت الراهن أصبحت نموذجا لإعادة تقسيم العالم العربى التى تتطلع إليها القوى الكبرى فى الغرب.

إلى جانب التحليل سابق الذكر، فقد استوقفتنى فى المناقشة التى دارت بين الرجلين ثلاث ملاحظات هى:

● إن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة حين أدركت أن الثورتين المصرية والتونسية بلا قيادة، فإنها سارعت بكل السبل لمحاولة استثمار ذلك الفراغ لصالحها.

● إن تلك الدول فى سعيها إلى اختراق الربيع وتقسيم العالم العربى استعانت ببعض أصدقائها العرب، ممن يقودون دولا تقمع الحريات فى بلادهم، لكنهم يقدمون يد العون والمساعدة إلى الشعوب الأخرى المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية.

● إن الجهد الغربى لن يتوقف عند ليبيا ولا حتى عند سوريا، ولكن الحبل على الجرار كما يقولون، بمعنى أن الباب لا يزال مفتوحا لانطلاق انتفاضات فى ساحات أخرى مسكونة بعوامل التوتر واحتمالات الانفجار. وإذ تعلمت الأجهزة الأمنية الغربية الدرس من تجربتى مصر وتونس وعنصر المفاجأة فيهما، فإن تلك الأجهزة والقوى التى وراءها لن تكون بعيدة عن تلك الانتفاضات. 
(4)

من يقرأ التعليقات والتحليلات الغربية للربيع العربى يجد أنها لا تختلف حول أربعة مصادر للقلق هى:

1ــ احتمالات تراجع النفوذ الغربى، حيث وصف البعض أجواء العالم العربى الآن بأنها مشبعة بإرهاصات مرحلة ما بعد الحقبة الأمريكية.

2ــ ظهور التيارات الإسلامية على مسرح السياسة المفتوح بعد عقود من الحظر والتعتيم. وكان ذلك اشد وضوحا فى مصر وتونس وليبيا على الأقل. وتحظى ليبيا بتركيز خاص لأن قائد المجلس العسكرى فى طرابلس (عبدالحكيم بلحاج) كان قائدا سابقا للجماعة الإسلامية المقاتلة فى ليبيا، وقد هرب إلى أفغانستان إلى أن سلمته المخابرات المركزية إلى القذافى حيث قضى عدة سنوات فى السجن، ولم يطلق سراحه إلا بعدما اشترك مع بعض زملائه فى إجراء مراجعة فكرية أعلنوا فيها عدولهم عن العنف. كما أن المجلس الانتقالى يضم اثنين من أعضاء الإخوان المسلمين.

3ــ تأثير ذلك الربيع على مستقبل إسرائيل ومصير معاهدة السلام مع مصر ومعاهدة وادى عربة فى الأردن (صحيفة هاآرتس وصفت الربيع العربى بأنه «كارثة» ــ 15/9).

4ــ التداعيات المترتبة على ذلك فى بقية أنحاء الوطن العربى، بما فى ذلك الملكيات التى كان الظن أنها أكثر استقرارا، خصوصا بعدما أصبحت الأصوات الداعية إلى الإصلاح تتردد فى مختلف الأرجاء، من المشرق إلى المغرب مرورا بمنطقة الخليج.

الخلاصة أن قوى الهيمنة فى الغرب حين أدركت أن عالما عربيا جديدا يولد ويتشكل، فإنها سارعت إلى الاحتشاد للتعامل مع الوضع المستجد، بالاختطاف أو الاجهاض أو الاختراق. لكن ذلك كله ليس قدرا مكتوبا، وإنما هو سعى يحتمل الاحباط ولا يصمد أمام الاحتشاد المقابل من جانب القوى الوطنية إذا أدركت مكمن الخطر واجتمعت على التصدى له. وهو ما يقتضى تمييزا واضحا بين التناقض الرئيسى والتناقضات الفرعية. والتصدى لقوى الهيمنة الغربية يتصدر المربع الأول، فى حين أن كل ما عداه يظل تناقضات فرعية تأتى فى المرتبة التالية من الأهمية.

إن المرء لا يستطيع أن يكتم شعوره بالحزن والحسرة، حين يرى الصدام محتدما وعلى أشده فى الساحة المصرية بين مختلف التيارات والقوى، خصوصا الإسلاميين والعلمانيين وإن الجميع مشغولون بتصفية حسابات التناقضات الفرعية، فى حين أن جبهة التصدى للتناقض الرئيسى لا تكاد تجد من يحرسها ويذود عنها.

لا أستطيع الحكم على نوايا الذين يؤججون الخلاف حول التناقضات الفرعية، لكن ما أقطع به أن ذلك الجهد الذى يبذلونه إذا لم يكن سعيا مقصودا لإجهاض الثورة، فهو فى حده الأدنى يمهد الطريق لاختطافها.

بلال فضل يكتب: جماعة الأمر بالإحباط!


 فرحت بشدة عندما حكى لى التفاصيل، وعندما شعرت أن فرحتى مبالغ فيها سألته: هل ما تحكيه أمر عادى وأنا الذى أبالغ فى تقديره أم أنه فعلا يستحق الفرحة؟ استغرب سؤالى وقال لى إن ما حكاه يعتبر أمرا تشهده عائلته لأول مرة منذ وعت على الدنيا.

أخوه الأكبر يشعر بالسعادة لأن مديرية التعليم الأزهرى أخيرا قامت بتعيين عدد كبير من الخريجين الذين توقف تعيينهم لفترة طويلة، والمزارعون فى بلدته سعداء، لأن معاملة موظفى الزراعة تحسنت كثيرا عن ذى قبل، والشرطة لم تعد تعامل الناس معاملة العبيد كما كانت تفعل، ومسؤولو المستشفى المتهالك الإمكانيات أصبحوا يبذلون جهدا إضافيا فى إرضاء الناس وشرح موقفهم لهم، أما أخوه الذى يمتلك كذا أوتوبيس لنقل الركاب بين المراكز فى محافظتهم الصعيدية، فقد كان يوم تجديد رخص الأتوبيسات بالنسبة له يوما أغبر، ليس فقط لكم الرشاوى التى كان يجبر على دفعها عيانا بيانا، بل لحجم العنت والإذلال الذى كان يلقاه وهو يفعل ذلك واضطراره لكتم مشاعر الغضب العارمة التى تتملكه، فقد دفع من قبل ثمن التعبير عن غضبه عندما جعلوه يلف على أكثر من محافظة بزعم أن أوراقه أرسلت خطئا إليها، لذلك لم يصدق نفسه هذا العام عندما لم يطلب أحد منه مليما، ولم يتعامل معه أحد بجلافة تفوق المتوقع من موظف كاره لعيشته، وحصل على حقه بالأصول وفى وقت قياسى، لدرجة أنه أصر قبل مغادرته المبنى على أن يدفع خمسين جنيها كإكرامية للموظفين الذين تمنعوا بدلال لم يفهمه فى البداية، ليخرج من المبنى وهو يعتبر أن إيمانه بالثورة وانحيازه لها لم يكن عبثا، وأخذ يطوف على كل من يعرفه ليبشرهم بما عاشه وشاهده.

لن تقرأ عن هذه الواقعة أبدا فى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمشمومة، لأن الصحافة تنشر الأخبار السيئة فقط طبقا لمدرسة (عض الرجل الكلب)، كنت ستقرؤها فى الصفحة الأولى فقط لو جرت على النحو التالى «مواطن يقتحم وحدة مرور بالصعيد ويطلق النار على الموظفين لكى يحصل على تراخيص ليست من حقه»، وكنت ستقرأ مئة مقال تعقيبا عليها من كتاب لم يكونوا يرون فى حكم مبارك لمصر أمرا يدعو للخجل، ولم يكونوا مشغولين سوى بنيل رضا أغوات مبارك وخصيانه لكى ينالوا منصبا صحفيا أو يقوموا بتأمين فيلا أو حتة أرض عشان العيال، بعد الثورة أصبحوا جميعا ثوريين، ومع أهداف الثورة ومطالبها، لكنهم فى نفس الوقت لا يكفون عن نعى الخراب الذى حل بالبلاد والانفلات الأمنى المفزع وانهيار أخلاق الناس، ربما يكون أحدهم قد عاد من الخزنة لتوه لكى يصرف مكافأته التى ينالها من مؤسسة خاسرة حتى الأذقان، لكنه يجلس ليكتب مقالة ضد مشاعر الطمع التى تجعل المدرسين والأطباء وعمال المصانع وموظفى النقل يطالبون بحقوقهم، بدلا من أن يطالب القائمين على أمور البلاد بأن يحتضنوا الناس ويتحدثوا معهم بشكل يشعرهم بالأمل والمسؤولية فى نفس الوقت، ويتوقفوا عن التعامل معهم بسياسة العين الحمراء واليد الحديدية والأصابع الخارجية.

كنت أسهر قبل أيام مع أصدقاء فى شارع المعز لدين الله، جلسنا على قهوة تتدفق البهجة فى جنباتها، قام بعض الرواد لكى يسألونى السؤال المعتاد «مصر رايحة على فين والبلد بتولع والثورة عملت لنا إيه؟»، قلت لهم: «فى كل ما قرأته عن تاريخ البلاد اللى بتولع لم أجد من قبل بلدا بتولع وأهلها يسهرون حتى الثانية صباحا وهم ميتون على روحهم من الضحك، وأم كلثوم تلعلع من حولهم، والمشاريب والمأكولات نازلة على ودنه، ومحلات الذهب والأنتيكات تحيط بهم آمنة مطمئنة». لم أكن أقول لهم ولا لك إن الدنيا ربيع والجو بديع، بالعكس أنا أؤمن أن البلد فعلا يمكن أن «تولع بينا» لو لم نوقف فورا نشاط جماعة الأمر بالإحباط والنهى عن الانتخابات التى أصبحت الأكثر انتشارا وتنظيما فى مصر..
فى كل شارع فى بلادى صوت الإحباط بينادى.. انظر حولك وستجد ثوارا يولولون على الثورة التى اتخطفت وضاعت وراحت فى ستين داهية.. ظلوا يحلفون بأن الانتخابات لن تعلن مواعيدها فلما أعلنت بدؤوا يتحدثون عن حتمية تزويرها.. ستكتشف أنهم يعتقدون أن هذا الشعب الذى ضحوا بحياتهم من أجل أن يريد، عندما تأتى فرصة أن يريد سيختار لنفسه الشر ويرفض الخير.. إلى جوارهم ستجد مستفيدين من النظام السابق وموالسين له وحالمين برجوعه لا يتوقفون عن بخ سموم الإحباط فى وجوه الناس.. كلما وجدوا سلبية أو مصيبة كانت موجودة ومتجذرة فى واقعنا أخذوا ينفثون سمومهم وهاتك يا نفخ فى نغمة آدى اللى خدناه من الثورة.. وهؤلاء أيضا ويا للعجب يشتركون مع بعض الثوار فى السعى المحموم لتأجيل الانتخابات وتعطيلها بدعوى الخوف على البلاد ودماء العباد.
ومع كل هؤلاء ومن أجل بروزة كل هؤلاء يعمل إعلام قذر يخدم على مصالح مموليه، ويزيد من الإحساس بالفوضى والفتنة، ويتبارى فيه الكل لإظهار نفسه أنه الأكثر بطولة، إما لغسل تاريخه السابق أو لتكريس بطولته الحالية، إعلام اختزل الثورة فى وجوه مكررة ملها الناس وكفروا بها وبما تقوله، وأهدر فرصا عديدة لكى ينقل للناس روح التحرير التى صنعها وحافظ عليها مواطنون عاديون لديهم أحلام وخيال ورؤية، ومع ذلك خاصمتهم الشاشات إما عن عمد وتآمر أو جهل واستسهال..
كل هذا بالطبع كان يمكن أن لا تكون له قيمة لو كانت هناك قيادة حكيمة حاسمة تدير البلاد، لكن البلاد للأسف ابتليت بقيادة متخبطة بطيئة تصر على استخدام أسلحة قديمة فاسدة، بدلا من أن تنشغل بضبط الأسعار وفرض الأمن وتحسين معيشة الناس بقرارات بسيطة ملموسة، لكن ذلك كله ولحسن الحظ لم يعد يعطى جماعة الأمر بالإحباط والنهى عن الانتخابات أرضا جديدة كما كان يحدث سابقا، بل على العكس جعل الكثير من المتشككين فى جدوى الانتخابات يتزايد إدراكهم أن حياة المصريين لن تتغير تفاصيلها إلا إذا انتقلنا فورا من حكم تمام يا افندم إلى حكم مدنى منتخب لن يسمح لهم الشعب بأن يخوفوه ممن سيحكمه فيه، لأن الشعب كما أراد وأطاح بحاكمه الفاسد الظالم، سيحاسب حكامه الجدد وسيراقبهم وسيطيح بهم عبر صناديق الانتخابات إن أخفق، ومن أجل تحقيق ذلك الحلم الذى شارفنا على الإمساك به بإذن الله، لم يعد الملايين ينزلون إلى الميادين، ومن أجله يصبرون على جار السو، ومن أجله سيضحون ثانية إن جرؤ أحد على المساس به.
تحيا مصر، بس نديها فرصة.

الاثنين، 26 سبتمبر 2011

عن مفهوم السمع والطاعه… د/ حسان حتحوت

د. حسان حتحوت وزوجته

ولو سألت عن رأيى فى مسألة السمع والطاعة لاجبت بما صارحت به فى الأربعينات من أن مفكرا واحدا هو للدعوة خير من ألف جندى , وإنما يجب السمع والطاعة فى جيش يحتشد لحرب او يخوض معركة عسكرية , أما فى سياق الدعوة الطويل فالمطلوب إعداد رأى عام مسلم وليس قوة ضاربة مسلمة.

ونعود فنؤكد أنه لامستقبل للحركات الاسلامية إلا إذا كان أسلوب إدارتها و تعاملها مبنيا على نظام عام لا على افراد, وقراراتها صادرة عن المشورة والحوار ، لا على أمر القيادة فردا او حتى أفرادا , ويجب أن تكون القاعدة الشعبية ذات كلمة مسموعة ومطاعة فى تسيير الامور واستنباط النظام الذى يكفل ذلك .

والقاعدة دائما غنية بالمثقفين والعلماء والمقتدرين مما لايسمح الاتجاه الهرمى بوجودهم فى قمة القيادة الضيق والذى رأيناه فى بعض الاحوال يقع فى غلطة الاستحواذ على السلطة .

إن اتجاة السمع والطاعة يجب أن يتغير فيصب من القاعدة إلى القيادة وليس العكس, وإلا استحالت القاعدة إلى عناصر سلبية تستسهل أن تأتمر وتلقى بعبء التفكير وحق التفكيرعلى القيادة وتنفض عنها العنصر الفعالة والايجابيات الفكرية المفيدة التى تحترم نفسها ولا تستطيع الإبداع والإثمار خلال نظام ديكتاتورى .ويظل صحيحا ان ما ننتقدة فى حكوماتنا نمارسه نحن فيما بيننا وفيما بيننا وبين غيرنا , وظللنا نبذل الوقت والطاقة والجهاد نعالج أمور الاسلام وأمور الأمة وأمورنا دون أن نتصدى للداء الاصيل والمرض الاساسي الذى يؤودنا وهو الاستبداد.

ولايخالجنى ريب فى أن باب الحرية إن فتح للجميع فالنصر فى نهاية الطريق الطويل للاسلام , لأن البقاء للأصلح , ويمتاز الخبيث من الطيب , فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث فى الأرض , واذا اقفل باب الحرية فالخاسر هو الاسلام لان شجرته لاتنمو فى غياب الحريه.

الثورتان التونسية والمصرية….. د/ معتزبالله عبد الفتاح


يقول بعض المصريين «يا ليت لنا مثلما أوتى التونسيون إنهم لذوى حظ عظيم» فقد بدءوا ثورتهم قبلنا، اختاروا مسارا غيرنا، وغالبا هم فى وضع أفضل منا.

الحقيقة أن الكثير من الناشطين التونسيين لا يرون ذلك. بل إن بعضهم يقول صراحة إن المسار المصرى أسرع وأكثر أمانا. لماذا؟

على صيغة «الدستور أولا» سيتم التصويت لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية المؤلّفة من 218 عضوا التى ستعيد كتابة دستور البلاد فى 23 أكتوبر المقبل. لكن على الرغم من الحماسة، لا تزال هناك تحدّيات تهدّد مصداقية الانتخابات. يقول الباحث والناشط والمثقف التونسى صلاح الدين الجورشى، «المعضلة هى محدودية ثقافة معظم التونسيين السياسية، وقد يصدمه جهْل العديد منهم بطبيعة المهمّة التى تنتظرهم، حيث لا يزال الخلْط قائما بين خصوصيات المجلس التأسيسى وطبيعة المؤسسات البرلمانية».

ويخشى الجورشى من الصيغة السائدة حاليا فى تونس لأن العملية أحادية تماما والخطاب السياسى لعديد من الأحزاب جعلهم يتصورون أن نتائج الانتخابات القادمة محسوبة لصالحه وبالتالى سيضعون دستور البلاد القادم منفردين لمجرد حصولهم على الأغلبية. كما يظن بعضهم أنه من مصلحتهم إطالة مدة المجلس الوطنى التأسيسى إلى أجَل قد يبلغ لدى البعض خمس سنوات. وفى ذلك منزلق خطير، حسب وجهة نظر الكثيرين، الذين رأوا فى ذلك إطالة لحالة اللاشرعية التى تهدِّد استقرار البلاد وقد تفتح المجال للمجهول.

الخوف الحقيقى عند الكثيرين من السياسيين الليبراليين والعلمانيين التونسيين هو أن حركة النهضة الإسلامية والمحسوبين على التيار الإسلامى يبدون وكأنهم الأكثر استعدادا لانتخابات الجمعية التأسيسية. ولكن المعضلة أن هذه الجمعية ستضع الدستور منفردة بعد تشكيلها وبدون استفتاء للشعب التونسى.

لكن التخوّف الرئيسى يتمثل فيما عبَّر عنه أستاذ القانون الدستورى قيس سعيد، الذى اعتبر أن «المجلس التأسيسى سيكون منتخَبا من طرف عدد قليل من الناخبين، وإذا كانت له مشروعية، فإنها وهمية وشكلية، لأن أكثر التونسيين ــ وهو ما يلاحظ اليوم من خلال الاجتماعات وعبْر الأرقام ــ لم تعد لهم ثقة فى هذه المؤسسات القائمة».

تساءلت هل تونس عندها استقرار أكثر من عندنا لأنهم اختاروا مسار «الدستور أولا» أو أنهم طبقوا قانونا يمنع أعضاء التجمع الدستورى الحاكم فى عهد بن على من الترشح فى الانتخابات العسكرية؟

الحقيقة أن وضع تونس ليس أفضل من مصر من حيث عدم الاستقرار وعدم اليقين والخوف المشروع والمتوقع على مستقبل البلاد. وهو بالضبط كالخوف الذى كان موجودا فى دول أوروبا الشرقية بعد انهيار النظم الشيوعية. مثلا فى 5 يونيو الماضى أصدرت السلطات التونسية قرارا بفرض حظر التجول مجددا فى محيط تونس العاصمة، اعتبارا من التاسعة ليلا وحتى الخامسة صباحا، فى أعقاب تجدد الاشتباكات بين قوات الأمن ومتظاهرين مناهضين للحكومة الانتقالية. صرح مؤخرا رئيس حزب النهضة الاسلامى راشد الغنوشى فقال فى مقابلة ان «الوضع فى تونس خطير» وان التونسيين «يشكون فى مصداقية الحكومة» الانتقالية. كل هذا أدى إلى أن تكتب إحدى الصحف أن «المسار الانتقالى فى تونس مُهدّد مع استمرار الاحتقان والفلتان الأمنى».

بل الطريف أن بعض السياسيين العلمانيين، اعتقدوا أن حظر العمل السياسى لمدة خمس سنوات على أعضاء التجمع الدستورى الديمقراطى الحاكم فى تونس، هو جزء من مؤامرة تسليم السلطة لحزب النهضة وأعوانه.

بل إن محسن مرزوق الباحث التونسى والناشط الحقوقى الشهير يقول: «هناك ثقافة غير ديمقراطية تهيمن على تونس.» بل قال معلقا على الثورتين المصرى والتونسية إن التشابه بين ثورتى مصر وتونس يعود للتشابه بين تاريخ الدولتين وحركات الإصلاح والتحديث القديمة فيها. رغم ذلك أوضح أنه يعتقد أن النخب المصرية أكثر تجربة وحنكة وحكمة من أغلب النخب التونسية. بل وطالب بأن تكون هناك خارطة طريق شبه خريطة الطريق المصرية بحيث يتم وضع الدستور فى 6 أشهر تمهيدا لانتخابات حرة وعامة بعد 6 أشهر ينتخب الشعب خلالها رئيسه وبرلمانه.

إذن المخاض الصعب عند الجميع لأنها آلام ولادة ومخاض صعب، لكنه لازم وضرورى وسينتهى قريبا. قولوا يا رب.

الخميس، 22 سبتمبر 2011

جماهير الإسلاميين…… عمرو الشوبكي


 كثيرا ما اختزل البعض جماهير الإسلاميين فى هؤلاء المغيّب وعيهم الواقعين تحت تأثير رجال الدين البعيدين عن السياسة والداعمين للنظام السابق، والمكرسين لمفاهيم طائفية وظلامية غيبت من وعى كثير من الناس. ولكن هل هؤلاء فقط جماهير الإسلاميين، أم أن اختزالهم على هذه الصورة أمر أراح بعض القوى المدنية (يسارية وليبرالية) ومنعها من التفكير والمراجعة لمعرفة حقيقة الموقف على الأرض بعيدا عن الشعارات والشتائم التى تخصم كل يوم من رصيد الثورة؟.
والحقيقة أن هناك جماهير تؤيد التيار الإسلامى، بعيدا عن التغيب والتجهيل الذى تعرض له المجتمع المصرى، وبعيدا أيضا عما إذا كان قادة هذا التيار سيخذلون هذه الجماهير أم لا، لأنها جماهير حقيقية وجدت فى كثير من كوادر هذا التيار العون المادى والمعنوى، فكانوا الأقرب فى التواصل الاجتماعى وتقديم الخدمات لبسطاء الناس بعد أن انسحبت الدولة وغابت النخب السياسية.
لقد تمسك الإسلاميون بخطاب إصلاحى محافظ (كان مسار نقد واتهام من القوى الثورية الأخرى)، أثبت أن له صدى فى المجتمع المصرى وأن أغلبية الناس ترغب فى الإصلاح وتحسين ظروفها الاجتماعية وأنها حين شاركت فى الثورة اعتبرت أنها ترغب فى القيام بعمل إصلاحى كبير، وليس فعلاً ثورياً دائماً.
يكفى فقط أن نقارن بين الطريقة التى اختلف بها شباب الإخوان مع الجماعة، فرغم ما فيها من تعنت وإقصاء من قبل الأخيرة تجاه الشباب، وصل فى بعض الأحيان إلى تجميد عضوية البعض لأنهم حضروا إفطاراً دعا إليه عبدالمنعم أبوالفتوح فى محافظة البحيرة، إلا أننا لم نسمع جملاً من نوع «محمد بديع الخائن» والجماعة العميلة، ولا اتهام الشباب بأنهم ينفذون أجندة خارجية لهدم الجماعة، وغيرها من المفردات التى يمتلئ بها قاموس كثير من التيارات الشبابية المدنية، فخلاف السياسة يبقى فى السياسة، ويجب أن يظل كذلك لأنه سيعنى فى النهاية خلاف برامج ورؤى لصالح المواطن وليس لتصفية حسابات شخصية.
ولعل الفارق بين تيارات الإسلام السياسى، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، وبعض التيارات المدنية الأخرى، يقوم على اعتبار الثورة وسيلة وليست غاية، وأنها بحكم تركيبتها المحافظة لم تكن هى مشعلة الثورة ولكنها كانت أكثر استفادة منها لأنها امتلكت بنية تنظيمية جاهزة قادرة على جذب المصرى العادى والبسيط لخطاب إصلاحى قريب منه حتى لو كان فى قالب دينى.
وبصرف النظر عن نجاح هذا الخطاب من عدمه إلا أنه ملىء بحاجة موضوعية موجودة فى الشارع المصرى ترغب فى مواجهه الانفلات الأمنى والفوضى وترغب فى تأسيس نظام جديد تعود فيه هيبة الدولة القائمة على العدالة.
لقد نجح التيار الإسلامى فى ملء الفراغ الذى سببه غياب قوى «البناء المدنية»، صحيح أن هناك ثلاثة أحزاب جديدة (العدل والمصريين الأحرار والاجتماعى الديمقراطى) حاولت أن تملأ هذا الفراغ الذى ملأه الإسلاميون بغياب الدولة وفشل النظام السابق ومعارضته، إلا أن نشأتها الحديثة قللت من هذه الفرصة وبدت معها الساحة منقسمة بين تيارات وائتلافات ثورية وأخرى محافظة ووسطية استقطبها التيار الإسلامى.
والمؤكد أن انسحاب الإسلاميين من كثير من الإضرابات الفئوية والاعتصامات السياسية أثار انتقادات العديدين، ولكنه فى الحقيقة راهن على ملايين آخرين من المصريين لم يرتاحوا للاعتصامات الدائمة ولا لخطاب تفكيك الدولة وإهانة الجيش الذى يردده البعض.
إن كثيراً من هؤلاء وجدوا فى التيار الإسلامى ضالتهم، وكثيراً منهم رأوا فى الانتخابات التشريعية طريقهم، وأن الملايين الذين وصفهم البعض بـ«حزب الكنبة» تحركوا أثناء الثورة سواء بترك «الكنبة» والنزول إلى الشارع أو التعاطف معها ولو جلوسا فى أماكنهم، وكثيراً منهم لا يحب الهتاف والضجيج ويتوقف دوره «الثورى» عند التصويت فى الانتخابات، ووجدوا الخطاب الإسلامى يحترمهم وقريباً منهم.
إن مصر العميقة التى لم يرها الكثيرون أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية (وأيضا قبله وبعده) حين قالوا فى كل مكان «كل من نعرفهم سيصوتون بـ(لا) واكتشفوا أن من يعرفونهم ليسوا كل مصر، وليس كل من صوت بـ(نعم) كان مغيباً أو واقعاً تحت تأثير الخطاب الدينى، إنما كان يرى بفطرة وبصيرة، تعامل معها البعض باستعلاء شديد، أن دخول الانتخابات التشريعية بدستور 71 المعدل أفضل من دخولها بلا أى قاعدة قانونية أو دستورية، وذلك قبل أن يسقط المجلس العسكرى دستور 71 ونتائج الاستفتاء لصالح الإعلان الدستورى.
إن مصر العميقة أو المحافظة أو الطبيعية التى تعتبر الثورة وسيلة والنهضة هى الغاية التى استطاع التيار الإسلامى أن يصل إليها ومعه القليل من القوى المدنية، وأن جمهور الإسلاميين فى أغلبهم هم ضحايا الخطاب المدنى الذى فشل فى الوصول للناس.
لم يسأل الكثيرون أنفسهم: لماذا فى هذا التوقيت فاق جمهور الإسلاميين باقى القوى السياسية؟. بعيدا عن الإجابات السهلة والسطحية (الجهل والتخلف والأمية)، ولماذا أيد تقريبا هذا الجمهور نفسه قوى مدنية أخرى فى فترات سابقة على حساب الإسلاميين؟
إن المجتمع المصرى اختار الوفد قبل يوليو، وعبدالناصر بعدها، على حساب الإخوان المسلمين، لأن كليهما قدم مشروعً سياسياً بدا الأول رغم ليبراليته أنه ابن التربة المحلية المصرية، فالوفد كان فى ضمير المصريين هو الحزب المنادى بالاستقلال والتحرر الوطنى وليس فقط حزب «الصالون الليبرالى»، الذى يناقش فيه أحدث النظريات الغربية فى الفلسفة والسياسة، كما كان يفعل حزب الأحرار الدستوريين، الذى كان، كما يقول الكتاب، ليبرالياً بامتياز ولكن، كما يقول الواقع، كان الخاسر فى كل انتخابات نزيهة بامتياز.
وعاد «عبدالناصر» وكرر نفس السيناريو وإن بصورة مختلفة، حين بنى مشروعاً سياسياً شعر المصريون والعرب بأنه نابع منهم (العروبة والتحرر الوطنى والقومى والعدالة الاجتماعية) فتقدم على الإخوان فى الشعبية والقدرة على الإنجاز.
قد يخذل قادة التيار الإسلامى جماهيرهم وقد يغريهم بريق السلطة بمزيد من الاستعلاء، وقد يفشلون فى الاحتفاظ بهذه الجماهير، ولكن كل هذا أمر مختلف عن أن هذه الجماهير حقيقية وأنها تركت فى الفراغ لعقود طويلة ولم تجد إلا التيار الإسلامى يعمل معها صباحا ونهارا.
لقد حان وقت التواصل مع الناس البسيطة واحترامها وعدم الاستهانة بمشاعرها، والانطلاق من الأحلام الصغيرة لبناء المشاريع الكبيرة وليس العكس، كما جرى فى تجارب الفشل حين دهست المشاريع الكبيرة الأحلام الصغيرة، فتحولت الأولى إلى شعارات فاشلة والثانية إلى كوابيس.
إن كل من رأى بالفعل، وليس بالشعار، أن الجماهير فوق البيعة وليس لها حق الاعتراض فأغلق فى وجهها ميدان التحرير لأسابيع، واكتشف أن هذه الجماهير ترد بطريقتها وتوقيتها، فهتفت للجيش وهو يفض الاعتصام، رغم أنها نفس الجماهير التى حملت الثوار فى عيونها، ولم تعبأ بتضرر مصالحها ووقف حالها لكنها كانت مؤمنة بأن إسقاط مبارك كان صحيحاً ولكن ليس كل ما جرى فى الـ7 أشهر الماضية كان صحيحاً.

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

الإسلام والفنون الجميلة…… د/ محمد عمارة

الفنون هي المهارات التي يبدعها الإنسان‏,‏ ويتوسل بها الي التجديد والترقيق والتنمية للملكات والطاقات الإنسانية‏,‏ لتصبح الحياة أكثر جمالا, عندما تنفتح قنوات الاتصال بين النفس الانسانية وبين أيات الجمال التي خلقها الله وبثها في هذا الوجود.
 
 وهذه الوظيفة الراقية للفنون لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت هذه الفنون ذات رسالة أخلاقية, فهنا تكون الفنون جميلة حقا, لأن الجمال ــ الذي هو صفة من صفات الله ــ سبحانه وتعالي ــ لا يمكن ان يقترن بالفن إلا إذا كانت لهذا الفن رسالة إيجابية في عالم القيم والاخلاق.
فالله جميل يحب الجمال ــ كما جاء في الحديث الشريف ــ وهو الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم, وسخر له الزينة والجمال في هذا الوجود.. ولن يستطيع الانسان ان يشكر الله علي نعمة الزينة والجمال التي سخرها له إلا إذا استمتع بهذه النعمة ووظفها لتحقيق المقاصد التي خلقه الله لتحقيقها: عمران هذه الارض, لتزداد جمالا بالعمران الجميل, ولهذه الحقيقة ــ حقيقة ارتباط جمال الفنون برسالتها الأخلاقية ــ قال الفيلسوف ابن سينا:! جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون علي ما يجب له.


ووجدنا ذات المعني عند الأديب والناقد الروسي بلنسكي, 1811ــ1848 م] الذي قال: إن الجمال شقيق الأخلاق إذن, فمعيار الموقف الشرعي من الفنون التي هي مهارات ــ هو علاقتها بالجمال.. أي بمنظومة القيم والأخلاق.. وبهذا تتميز عن مهارات الشرور والأشرار.. ذلك لأن هذه الفنون ــ المهارات ــ لا تخرج عن كونها إبداعا إنسانيا يحاكي ــ علي نحو نسبي ــ الإبداعات الجمالية والجميلة التي بثها الله ــ سبحانه وتعالي ــ في هذا الوجود, والتي زين بها الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما.. فإذا سخرت الزينة الإلهية والزينة الفنية في ترقية زينة النفس الإنسانية, وغدت وسيلة لتجديد الملكات وتنمية الطاقات لتزداد كفاءتها في التسابق علي طريق الخبرات, كانت حلالا.. بل ولربما كانت مستحبة احيانا, وواجبة في بعض الأحايين.

ولقد تفرد القرآن الكريم من بين الكتب المقدسة لدي أصحاب الديانات السماوية بأنه الكتاب الذي يعلم ويدرب القاريء له والمتدبر في آياته فنون البلاغة وجماليات التعبير بالصور الفنية.. كما تفردت العربية ــ لغة القرآن ــ بالحرف الذي استوي فنا جميلا في منظومة الفنون.. وكذلك تفردت عبادات المسلمين ــ التي يتقربون بها إلي الله ــ باقترانها بالزينة والجمال:, خذوا زينتكم عند كل مسجد] ــ الأعراف: 31 ومن هنا رفض الاسلام التقرب الي الله بالقذارة والتجهم ومخاصمة الزينة والجمال. ولقد كان رسول الاسلام ــ صلي الله عليه وسلم ــ وهو القدوة والأسوة ــ يقوم الليل إلا قليلا, ويعشق حياة المساكين, وفي ذات الوقت كان ريحه أطيب من المسك. وعرقه يضاهي اللؤلؤ, وكان يستعيذ بالله في دعاء السفر ــ من كآبة المنظر.. ويدعو ربه ــ في صلاة الاستسقاء: اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها.

ولأن هذا هو موقف الإسلام من الفنون الجميلة, التي تشيع البهجة في النفوس, وتعينها علي شكر الله ــ بعمارة هذه الارض كي تزداد زينة وجمالا ــ ولأن هذه الجماليات الفنية التي يبدعها الإنسان لا تخرج عن السعي لمحاكاة الجمال الذي خلقه الله في هذا الوجود, كان الموقف الإيجابي لعلماء الإسلام من هذه الفنون وهذه الجماليات.
فحجة الإسلام أبو حامد الغزالي, قد ملك طريق العقل مع الشرع لنفي الحرج عن فنون السماع, وتساءل: لا أحد يحرم الأصوات المنكرة, فهل تحرم الأصوات الجميلة لأنها جميلة؟! ولا أحد يحرم الأصوات الجميلة إذا جاءت من الطيور والأشجار, فهل تحرم إذا جاءت من الإنسان؟! ولا أحد يحرم النغمات المختلفة.. فهل إذا ائتلفت ــ في الموسيقي ــ تصبح حراما؟!.. ثم خلص الغزالي إلي أن قال: من لم يهزه العود وأوتاره, والروض وازهاره فهو فاسد المزاج, ليس له علاج!

أما رائد الإحياء والتجديد للإسلام, كي تتجدد به حياة الأمة الاسلامية ــ في عصرنا الحديث ــ شيخ الإسلام الشيخ حسن العطار ــ الذي كان له ولع شديد بفنون السماع, وعلم بأصول الألحان ــ فإنه هو القائل: من لم يتأثر برقيق الأشعار, تتلي بلسان الاوتار, علي شطوط الأنهار, في ظلال الأشجار, فذلك جلف الطبع حمار!
أما إمام الظاهرية وفيلسوفها ابن حزم الأندلسي ــ وهو صاحب اليد الطولي في نقد النصوص والمأثورات ــ فلقد قطع بأن كل المأثورات التي تحرم فنون السماع موضوعة, وقال: ولم يصح في هذا الباب شيء أبدا, وكل ما فيه موضوع.

ولقد جاء الامام محمد عبده, لينطلق من تراث الاسلام الذي رفع الحرج عن الفنون الجميلة.. وليطرق باب الموقف الشرعي من الفنون التشكيلية.. وليقول: إن الرسم: شعر ساكت, يري ولا يسمع, كما ان الشعر: رسم, يسمع ويري.. وحفظ الآثار ـ بالرسوم والتماثيل ــ هو حفظ للعلم بالحقيقة, وشكر لصاحب الصنعة علي الإبداع فيها.. والشريعة الاسلامية.. أبعد من ان تحرم وسيلة من وسائل العلم, بعد تحقيق أنه لا خطر فيه علي الدين, لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل. وليس هناك ما يمنع المسلمين من الجمع بين عقيدة التوحيد ورسم صورة الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية وتمثيل الصور الذهنية..

وإذا كان شيخ الاسلام حسن العطارقد كان خبيرا بأصول الألحان, وله ولع بفنون السماع فإن الفقيه الاصولي القرافي ــ أحمد بن إدريس ــ,684هـ 1285 م] قد مارس فنون النحت والتصوير, هكذا فتح الإسلام ابواب المشروعية أمام الفنون الجميلة, التي تتغيا بين الحياة الإنسانية بالجماليات, التي هي بعض من الطيبات التي أمر الله سبحانه وتعالي ــ الإنسان ألا ينسي نصيبه منها..
وهكذا ميز الاسلام بين النفوس التي تحقق ــ مع الجمال ــ الأخلاق الفاضلة.. وبين تلك التي تشيع الخنا والفسق والفجور في المجتمعات والتي لا تستحق أن تسمي فنونا بأي حال من الاحوال.

إنشاء الأعمال الاجتماعية….. Building Social Business

إنشاء الأعمال الاجتماعية:

النوع الجديد من الرأسمالية يلبي أكثر الحاجات الإنسانية إلحاحا



محمد يونس
أنشأ يونس بنكا بنفسه وأسماه (بنك جرامين) وهي كلمة معناها قرية باللغة البنجلاديشية. لبنك جرامين الآن ثمانية ملايين عميل، 97 في المائة منهم من النساء. أثبتت تجربة يونس الرائدة أن إقراض النساء أكثر فعالة في مكافحة الفقر من إقراض الرجال. كان نجاح بنك جرامين في بنجلاديش مذهلا وشجع عمليات تمويل المشروعات الصغيرة في جميع أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة.

توصل يونس إلى نتيجة مفادها أن المؤسسات المالية في العالم لا تُمَكّن الفقراء لأنها لا تقدم لهم قروضا مناسبة. يولد جميع الناس ولديهم مواهب إبداعية، إلا أن الفقر يمنع العالم من الاستفادة من مواهب الفقراء. ينبغي على المجتمع أن يعدّل مؤسساته، حيث يتسنى الازدهار لجميع الناس. يتطلب هذا تأسيس فكرة العمل الاجتماعي.

يجب على المجتمع أن يستوعب وجود نوعين من الأعمال التجارية الأول يهدف للربح والثاني الغرض منه اجتماعي. من المهم أن يكون النوع الثاني مستدام من الناحية المالية، حيث الأرباح توجه إلى تغطية الحالات الطارئة أو التوسعات.

هناك نوعين من الأعمال الاجتماعية:
  • النوع الأول، حيث يضخ المساهمين أرباحهم لتستخدم في الإصلاحات الاجتماعية، 
  • والنوع الثاني، هو كيان يهدف للربح يملكه الفقراء مثل بنك جرامين.


تلتزم مؤسسات الأعمال الاجتماعية بسبعة مبادئ:
1. أنها تسعى إلى تحسين المجتمع.
2. لا تسعى إلى تحقيق ربح.
3. وأن تكون الشركة قابلة للاستمرار من الناحية المالية.
4. أن يحصل المستثمرون فقط على استثماراتهم الأصلية.
5. تستخدم الأرباح في تمويل التوسعات.
6. تكون المؤسسة صديقة للبيئة.
7. يحصل العاملون بها على رواتب أعلى من المعدلات العادية في سوق العمل ويعملون في بيئة عمل ممتازة.

هناك أزمتان عالميتان كبيرتان كان لهما أثرا كبيرا على الفقراء في العالم؛ وهما:
  • ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والتي تفاقمت بسبب المضاربات الجامحة على السلع،
  • والانهيارات المالية في جميع أنحاء العالم.
تسببت هذه الأزمات في معاناة كبيرة للملايين من الفقراء في العالم، إلا أنها أتاحت الفرصة أيضا لإعادة التفكير في الرأسمالية. والآن صار يتعين على جميع الدول إعادة هيكلة نظمها الاقتصادية للسماح للجميع – وليس الأثرياء فقط - بالوصول إلى الموارد. 

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2011

الفيل العلمانى بين أردوغان وبشارة…. معتز بالله عبدالفتاح

تخيل نفسك تجلس أمام جزء من فيل ولا ترى جزءه الآخر فى حين يجلس شخص آخر أمام الجزء الآخر من الفيل. أنت مستمتع بأن ترى «الزلومة» وبعض حركات الفيل، فى حين أن الشخص الآخر (لا تؤاخذونى) يجلس فى الجهة المقابلة من الفيل، فلا يستمتع بشىء بل يناله من الجزء الخلفى من الفيل ما يسوءه. لو سألتك عن رأيك فى الفيل، فستروى، غالبا، ما يدعم إعجابك به، ولو سألت الشخص الآخر عن رأيه فى الفيل فسيروى ما يدعم ازدراءه له.

انتهى التشبيه، ولنعد إلى موضوعنا الأصلى. تداول الأصدقاء الفيسبوكويون كليبا للمفكر العروبى الدكتور عزمى بشارة ينتقد فيه قطاعا من العلمانيين العرب الذين لم يحسنوا قراءة واستيعاب التراث الإسلامى وما يحويه من قيم يمكن البناء عليها. وهنا غضب بعض العلمانيين وكانت تعليقات بعضهم حادة فى انتقاده لدرجة أن بعضهم اعتبر كلام الرجل يجامل المسلمين المخالفين له فى العقيدة أكثر منه اجتهادا حقيقيا فى الاستفادة من التراث الإسلامى. بل إن بعض الأنسى من ذوى البعد الواحد، كفروا بالرجل، وعلى حد تعبير أحدهم: «كنت أحترمه، لكن سقط من نظرى،» لمجرد أنه تبنى موقفا يخالفه فى الرأى. وكأن المطلوب من كل شخص أن تتطابق آراؤه مع آراء كل شخص آخر تماما وإلا «سقط من نظره».

 وفى موقف مقابل، خرج علينا رجب طيب أردوغان، المحسوب مصريا بين الإسلاميين، ليقول لنا: «لا تخافوا من العلمانية» ليتحول الكثير من الإسلاميين لانتقاده باعتباره انتصر لقضية خاسرة فى مصر. وقال أحدهم بلهجة حزينة: «الإسلاميون فى المجتمع العلمانى يصيبهم لوثة عقلية وعقيدية، والدليل ما حدث مع أردوغان.» وكأن الرجل فسق وخرج عن الدين.

الحقيقة أننى لا أرى تناقضا بين موقفى الرجلين. لماذا؟ تعالوا نعود إلى «الفيل» مرة أخرى. يمكن أن يطلب إليك أن تغير مكانك من الجلوس أمام مقدمة الفيل إلى الجزء المقابل ونفس الكلام للجالسين فى الجهة الأخرى. ما الحكم الذى ستصدره الآن بعد أن رأيت الجانبين؟ قطعا سيكون مختلفا.

هكذا الرجلان، يهدفان إلى التوازن بعد أن رأى كل منهما الفيل وأشقاءه وبدائله بحكم الخبرة والاطلاع. إن التقى أحدهما بعلمانى مبالغ فى رفض الاستفادة من التراث، وجدنا مفكرا عميقا مثل عزمى بشارة يعيدنا إلى التوازن. وإن وجد أحدهما مجتمعا مبالغا فى رفض العلمانية (بالذات فى صيغتها الليبرالية، على ما فيها من عيوب)، آثر على نفسه أن يوضح أن العلمانية هى حقيقة «علمانيات» فما هو فى الصين والاتحاد السوفييتى، ليس ما هو موجود فى فرنسا وألمانيا، وليس ما هو موجود فى انجلترا وأمريكا.

وعلينا أن نعرف قبل أن نبنى حكما نهائيا. إسلامنا عظيم ومنهجه قويم، ولكن لم تكن كل الاجتهادات البشرية على نفس القدر من العظمة والقوامة. العلمانية ليست مناسبة لنا فى شكلها التقليدى السائد فى أى من الدول المذكورة، ولكن دراسة هذه التجارب مهم لأن الفقه الحقيقى هو معرفة خير الشرين وشر الخيرين. وهو فقه يحتاج عمقا وسعة ومرونة وتوازنا لا يعرفها من لم يقرأ فى حياته إلا القليل، ومن يعتقد أن رأيه جزء من كرامته.

وبما أن من يتخصص فى النظرية السياسية يعيش لفترة طويلة فى عالم الأفكار والفلسفات، فهو يرى الفيل وهو يولد ويكبر ويعيش معه فترة طويلة، فعادة ما يكون أقل الناس إنكارا للأفكار والنظريات قبل تدارس موضع تطبيقها. وبما أن هذا ليس متاحا للكثيرين، فليقل أحدنا ما يظنه حقا فى تواضع، مستعدا لأن يتقبل أن يكون رأيه عين الخطأ.

حسن البنا بين الآمال والآلام…. كمال الهلباوى


 عاش الإمام البنا رحمه الله تعالى حياة زاخرة بالآمال والآلام. ورغم أنه قضى فى الثالثة والأربعين من العمر رحمه الله تعالى، إلا أنه ترك تراثا عظيما مليئا بالمفاهيم الإسلامية التى تجددت بعد ذبول أو موات. وتميزت دعوة الإخوان المسلمين فى قوتها بمزايا عديدة منها: الشمول فى الفهم والنظرة الوسطية والعالمية والربانية. فضلا عن سرعة الانتشار والبعد عن الخلافات الفرعية.
 ولا يستطيع دارس منصف أن ينكر أن بعض الممارسات فى الدعوة حتى أيام الإمام البنا رحمه الله تعالى، كانت مخالفة للفهم والتعاليم الصحيحة، مما استدعى الإمام البنا أن يقول فى بعض الممارسات والوقائع والأحداث المؤلمة ــ يقول ــ عمن وقعوا فى الجريمة نتيجة الخطأ فى الفهم والاجتهاد دون امتلاك أدواته وبسبب التأويل الخاطئ أو لأى سبب آخر: ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين.

طبعا الامام البنا هنا لا يقصد التكفير بالمعصية، حتى لو كانت كبيرة مثل القتل، ولكن يقصد أنهم رغم إيمانهم بالدعوة الوسطية والعضوية فى التنظيم، وحصولهم على قدر عالٍ من التربية والانضباط، إلا أنهم لم يمثلوا الإسلام ولا الدعوة تمثيلا صحيحا، وجاء عملهم مخالفا للفهم الصحيح، ولم يعتبرهم الامام البنا من بين المسلمين الجيدين أو الصالحين أو الملتزمين عن وعى رغم عضويتهم الطويلة فى التنظيم وتضحيتهم وحبهم للدعوة.

كما قال أيضا فى موقف مؤلم آخر: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى أيام المأثورات، مما يعنى أنه شاهد ممارسات سيئة لم يقرها الامام، وأصحابها كانوا بحاجة إلى مزيد من الفهم والتربية والإدراك، بل وامتلاك بعض القدرات التى ذكرناها من قبل، فضلا عن الإيمان بأركان البيعة العشرة وهى: الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الطاعة، الثبات، التجرد، الأخوة والثقة، وكذلك التحلى بصفات الأخ المسلم العشر وهى أن يكون: سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، قوى البدن، مثقف الفكر، مجاهدا لنفسه، نافعا لغيره، منظما فى شئونه، محافظا على الوقت، قادرا على الكسب.

ومن أجمل ما قال الامام البنا بهذا الخصوص فى آخر رسالة التعاليم الجامعة عن تلك التعاليم المهمة للأخ وخصوصا فى القيادة ما يلى:

«وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غاياتك، كان جزاؤك العزة فى الدنيا والخير والرضوان فى الآخرة، وأنت منا ونحن منك، وان انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجالس، وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر، وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب. فاختر لنفسك ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق».

ولهذا يكون على الجميع وخصوصا فى القيادة التنفيذية أن يتجنبوا أى اجتهاد فردى شاذ أو مخالف للدعوة داخل الاجتهاد الكبير البارز فى دعوة الإخوان. إن ممارسات بعض أعضاء الجهاز الخاص، الذى يطلق جهاز الأمن فى مصر عليه ــ الجهاز السرى ــ كانت فى وقت بعض الأزمات، ممارسات شائنة وإجراميه ولابد أن نعترف بذلك كما اعترف الامام البنا. وأود أن أؤكد أن مثل هذه الممارسات فى السابق أو الحاضر أو اللاحق ــ إن حدث ــ ستلحق بالدعوة خطرا عظيما، وكذلك أى انحراف عن الصفات أو الأخلاق التى ارتقت بالدعوة.

وليس من حق بعض القيادات الإخوانية التنظيمية أن تغضب من النقد وخصوصا بعد الثورة والعلنية وضرورة الشفافية، أو أن يعيشوا بنفس الروح والعقلية التى كانت سائدة قبل الثورة، وهو ما ألحق بالدعوة أذى كثيرا وعطل برامجها وخططها وأضر بشعبيتها وسمعتها. ولعل الجميع يدركون مغزى ما قال الامام البنا فى صدر رسالة المؤتمر الخامس «ولا بأس أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض برنامجنا، ونراجع فهرس أعمالنا، ونستوثق من مراحل طريقنا، ونحدد الغاية والوسيلة، فتتضح الفكرة المبهمة، وتصحح النظرة الخاطئة، وتعلم الخطوة المجهولة، وتتم الحلقة المفقودة، ويعرف الناس الإخوان المسلمين على حقيقة دعوتهم، من غير لبس ولا غموض».

ثم يواصل الامام البنا الكلام العظيم اللازم للتصويب وتصحيح المسار فى أى دعوة دينية أو سياسية، ويؤكد فيما يقول ويكتب على المنهج الذى تتبعه بعض الجامعات الشهيرة فى الغرب من الافتخار والاعتزاز بخريجيها أمام الممتحنين الآخرين من خارج جامعتهم ويطلق عليهم لفظ «الممتحن الخارجى» فيقول أيضا فى صدر رسالة المؤتمر الخاص:

«لا بأس بهذا، ولا بأس بأن يتقدم إلينا من وصلته هذه الدعوة ومن سمع أو قرأ هذا البيان، برأيه فى غايتنا ووسيلتنا وخطواتنا، فنأخذ الصالح من رأيه، وننزل على الحق من مشورته؛ فإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم». انتهى كلام الامام البنا النفيس.

طبعا مشروع الجهاز الخاص أو التنظيم الخاص أيام الامام البنا كانت وراءه فكرة عظيمة فى وقتها، وهو برنامج غاية فى الأهمية لمواجهة الاحتلال فى مصر، والسعى لدعم الفلسطينيين فى جهادهم ضد المحتل الصهيونى. وهذا واجب الإسلاميين وكل الوطنيين الشرفاء والمؤمنين بالوحدة العربية والإسلامية. وكانت هناك ــ فى ذلك الوقت ــ تنظيمات أخرى مسلحة من غير الإسلاميين فى مصر تسعى لمواجهة الاحتلال كذلك، ولم يكن تفكير الأستاذ البنا رحمه الله تعالى شاذا فى هذا النطاق، بل إن الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة سنة 1952 كانوا يسعون إلى تغيير نظام الحكم وطرد الملك الفاسد، وقد نجحوا فى ذلك أيما نجاح دون إراقة الدماء، وبعضهم كان من الإخوان المسلمين بل ومن التنظيم الخاص أو الجهاز السرى ــ كما يقال ــ وخصوصا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر رحمه الله تعالى.

طبعا سعى الامام البنا بطريقته لتحرير مصر من الاحتلال الخارجى والظلم الداخلى، وكان رحمه الله تعالى قمة فى التفكير والتخطيط والاعداد والترتيب والتكوين واتخاذ الوسائل وقبل ذلك وبعد ذلك الأدب الجم والأخلاق الحميدة، ولكن خذله بعض من لم يفهموا دعوته فهما صحيحا، وجاءت ممارستهم داخل إطار التنظيم لتضع الدعوة فى مأزق بعد آخر، حتى كان استشهاده رحمه الله تعالى. فهل نفهم الدروس ونعمل للدعوة بالروح التى قال عنها الامام البنا فى رسالة دعوتنا، التى تتصدر كل الرسائل المطبوعة للإمام البنا وفى الصفحة الأولى منها: «نحن نعمل للناس فى سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا» أو ما قاله: «ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا».

لا نستطيع أن نعيد عجلة الزمان إلى الوراء، وفى الكون والحياة سنن يجب أن نتداركها ونعمل فى إطارها ونستخدمها كما سخرها الله تعالى لنا. أما معاكستها والوقوف ضدها، نكون كمن يضرب صخرة ليوهنها دون أن يملك أدوات ذلك. ولا ينبغى فى الدعوة حاليا اللجوء لبعض ممارسات النظام الخاص سابقا ومنها: السرية على أى مستوى وهى غير الخصوصية، ومنها الانغلاق بأى صورة من الصور، أو اغتيال تاريخ بعض من غادر التنظيم ــ استقالة أو إقالة ــ أو تشويه سمعتهم واستحلال غيبتهم، أو الطعن فى علاقاتهم أو اتهامهم بالسعى لشق صف الجماعة أو أنهم مدفوعون من الخارج. كل ذلك وأى من ذلك لا يجوز دون بينة واضحة ومحاكمة عادلة. ومشكلة المشاكل التى تواجه الدعوة هى كبت روح الانطلاق لدى الشباب باستخدام مقولات شائهة مثل: امشى وراء الحيط، أو الباب اللى يجيلك منه الريح، أو محدش يدافع عن حد.

والمشكلة الكبيرة فى الدعوة تكمن فى التكتلات وضعف الاستفادة من القدرات والامكانات الهائلة فى الدعوة، التى تنتظر العمل الجاد وفق تخطيط دقيق متقن، أو التشدد الذى يميل إلى التسلف الشكلى، والتردد الذى لا مبرر له فى المواقف الحرجة، فضلا عن تصعيد أصحاب الفهم الضيق والطاعة العمياء وأهل الانغلاق.

وقد ساءنى كثيرا أن أقرأ أن بعض شباب الإخوان قطعوا ومزقوا إعلانات وأوراق للدكتور أبوالفتوح الذى خدم الدعوة سنوات طويلة، بل كان من الذين جددوا الدعوة الإسلامية فى السبعينيات، وضرب أنموذجا فريدا فى الصدع بالحق والقبول لدى معظم طبقات وفئات الشعب المصرى. وإذا فعل شباب الإخوان ذلك مع أحد أساتذتهم فكيف سيفعلون مع بقية الشعب؟ لا يغرنكم أيها الإخوان كثرة المنظمين ولا المطيعين طاعة عمياء، ولا أتمنى أن نرى ممارسات تلجئنا فى هذا العصر إلى أن نقول كما قال الامام البنا «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين». وقد أحسن الامام البنا عندما قال فى آخر رسالة المؤتمر الخامس مشيرا إلى الداء «ضعف الأخلاق وفقدان المثل العليا، وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والجبن عن مواجهة الحقائق، والهروب من تبعات العلاج والفرقة قاتلها الله، هذا هو الداء. والدواء كلمة واحدة أيضا هى ضد هذه الأخلاق، هى علاج النفوس أيها الإخوان وتقويم أخلاق الشعب».

وأقول طبعا قبل تقويم أخلاق الشعب، ينبغى تقويم أخلاقنا وتقديم القدوة والأسوة الحسنة. وقد ثارت عندى مجموعة من الأسئلة من سلوك هؤلاء الشباب الشائن منها: من علّم هؤلاء الشباب أن يفعلوا ما فعلوه أو دفعهم إلى ذلك؟ ولماذا لم تتم تربيتهم على احترام الآخرين كانوا من الإخوان أم من خارج الإخوان؟ ولماذا يقاطع الإخوان من كان معهم وتركهم تنظيميا؟ ولماذا يتجنبون حتى إلقاء السلام على من تركهم أو تركوه، وهو خلاف ما يدعو إليه الاسلام، وليس من أخلاق التنظيم الدعوى. ولماذا يتكلم بعض القادة فى حق إخوانهم الكبار مع الشباب إذا اختلفوا دون سماع وجهات النظر الأخرى؟ ولماذا لا يتم التحقيق الشامل العادل قبل التجميد أو الفصل أو التهديد وخصوصا فى مثل حالة الدكتور محمد حبيب نائب المرشد سابقا؟ أرجو ألا نسمع كلاما سخيفا مثل أن هذا لحماية الدعوة، فهذا واجب كل الإخوان، حتى الذين تركوا التنظيم يهمهم أمر الدعوة ويخافون عليها ويدعون لها بالتوفيق لأنهم يحبون دعوة الاسلام ولكنهم لا يحبون بعض السلوك التنظيمى غير الأخلاقى.

عودوا إلى الصواب أيها الإخوان، وإلى كلمة الحق ولو جاءت من مشرك كما جاء فى مقدمة عيون الأخبار لابن قتيبة «ولن يزرى بالحق أن تسمعه من المشركين ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين، ومن ترك أخذ الحسن من موضعه أضاع الفرصة والفرصة تمر مر السحاب».