الجمعة، 31 ديسمبر 2010

الغنوشي: الحرية أكبر مطالب الإسلام السياسي (3-5)

في حواره مع إسلام أون لاين راشد الغنوشي (3-5)
الغنوشي: الحرية أكبر مطالب الإسلام السياسي
 أجرى الحوار: وحيد تاجــــا
    يتحدث المفكر الإسلامي وزعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي في هذه الحلقة من حواره الشامل مع إسلام أون لاين عن التجارب الإسلامية التي وصلت إلى سدة الحكم، فيستعرض التجربة السودانية معتبراً أنها فشلت فشلاً ذريعًا، كما تحدث عن التجربة الأفغانية في عهد المجاهدين وخلال حكم حركة طالبان.
 وتوقف طويلا عند التجربة التركية معتبرا أنها الأفضل بين التجارب الإسلامية الحديثة.
 كما تطرق الحديث مع المفكر الإسلامي التونسي إلى الإسلام السياسي ومدى تعارضه مع الإسلام التقليدي، وإلى جدوى مؤتمرات حوار الأديان التي تنظم في السنوات الأخيرة.
 نص الحوار
 التجربة الأفغانية
 * حدثنا عن رؤيتك لممارسة الإسلاميين على صعيد الحكم؛ سواء في تركيا أو في غيرها من البلدان التي تولت فيها الحركات الإسلامية تسيير شؤون البلاد ؟
 ** هناك ثلاث تجارب يمكن الإشارة إليها على صعيد ممارسة الإسلاميين الحكم، أولها التجربة
الأفغانية - إن في عهد المجاهدين أو في عهد طالبان - ورغم ظروفها الخاصة فهي في العموم شهادة ليست بحال لأصحابها ولا للإسلام، وإنما شهادة مضادة وخصم من الحركة الإسلامية المعاصرة وليست بحال إضافة. والأسباب ليست بالغة الخفاء وتتمثل أساساً - إضافة إلى المعوقات الخارجية- في طبيعة الساحة التي تحرك فيها الإسلام هناك، وهي ساحة تتسم بالتمزق القبلي والطائفي والتخلف الاجتماعي والثقافي ولم تكن التشكيلات الحزبية التي حكمت في المحصلة غير نتاج لطبيعة التخلف السائدة، فالمجاهدون انحاز كل منهم للعرق والقبيلة.
 فقلب الدين حكمتيار ناصر الباشتون، وشاه مسعود رحمه الله مالَ للطاجيك، فكانت حرباً قبلية تغذيها القوى الدولية والإقليمية. الباكستان وراء حكمتيار؛ والهند وروسيا وراء شاه مسعود والشعب الأفغاني هو الضحية، فكانت إسلامية الفريقين غاية في القشرية.
 واستُخدم الإسلام استخداماً توظيفياً، وأثبتا عجزاً فاضحاً في مستوى التدين وكذا في مستوى السياسة الحديثة، إذ راهن كل منهما على الانفراد بالأمر جملة في مجتمع متعدد الأعراق والملل.
 لقد شهدا على عقم موروثنا في السياسة الإسلامية، وأثبتا العجز عن إدارة التعدد سلمياً والرهان على السيف سبيلاً لإلغاء التعدد، وكان من عدل الله أن يسلط عليهما قوة تزيحهما معاً، عندما جاءت جماعة طالبان التي كانت عقائديتها أعمق منهما، وكذا تفاعلها مع تراث البلد الديني.
 فهم طلبة علوم دينية أي هم القيادة الدينية الشرعية في البلد؛ ولذلك سهل عليهم اجتياح كل من وقف في وجههم، إلا أن مشروعهم كان غاية في البساطة إلى حد السذاجة، بينما يتعاملون مع عالم معقد ومجتمع متعدد ومن وراء كل فريق مصالح إقليمية ودولية لم يلق لها طلبة العلم الديني الطيبون بالاً، فكان مشروعهم جمع البلد كله فوق نقطة واحدة هي الإسلام كما صاغته العصور الخوالي، ومن خلال رؤية مذهبية ضيقة ليس وراءها في معتقدهم إلا الضلال والكفر، وهو نهج شاذ عن سنة الله في خلقه، " وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (*) إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ….".
 وهكذا سرعان ما تَصَرَّمَ الأمر، فكثر أعداؤهم في الداخل والخارج بسبب ضيق أُفقهم وتصورهم لإسلام مستل من بطون أسفار كتبت في القرون الخوالي، أحسنوا الظن في كفايتها لتنظيم دولة حديثة ولإدارة مجتمع معقد والتعامل مع تحديات عالم متربص ومتشابك.
 ومن ضيق أفق طالبان أن مشروعهم الإسلامي لا يكاد يتضمن شيئاً؛ غير قائمة من المحظورات، كالخمر والميسر وحلق الذقون وشغل المرأة وتعليمها، حتى إذا أنجزوا ذلك لم يجدوا غير الفراغ فشنوا حرباً على الأحجار المنحوتة منذ القرون الخوالي في الجبال ومرت من عندها أجيال من المسلمين لم يفكر أحدهم في محاربتها.
 ومن بساطتهم وضيق أفقهم فتحهم البلاد لجماعات المجاهدين الذين لفظهم النظام الدولي بعد أن قضى وطره منهم وعقدوا معهم العهد، فلما طولبوا بتسليمهم لمعاقبتهم على ما اقترفوا تمسكوا بما قطعوا على أنفسهم من عهد فكانت نهايتهم، وكان حالهم شبيهاً بقوم مكثوا مئات السنين في كهفهم ثم غادروه؛ وتمكنوا من دخول المدينة وفرضوا عليها حكمهم بحسب ما استقر في ثقافة القرون الغابرة. إن السنن غلابة ومنها سنة التطور " وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً".
 التجربة السودانية
 * وماذا عن التجربة السودانية ؟
** للأسف، فشل التجربة السودانية أمر واقع، وهل يُتوقع ممن فشل في إدارة الحوار في صلب جماعته، أن ينجح في التوافق مع جماعات طالما أعلن عليها الجهاد؛ ولم يدخر وسعاً في التعبئة ضدها وتضليلها وتخوينها والحلف جهاراً نهاراً أمام الملأ أنه لن يعيد تلك الأحزاب الطائفية!؟ هل يتوقع ممن أسس مشروعه على استبعاد الآخرين والانفراد بالسلطة ونظّر لذلك ورتب عليه أمره أن يتراجع عن ذلك ويتحول إلى ديمقراطي يحترم حقوق الآخر ويفي بما يعاهد عليه؟
 إن الفشل في هذه التجربة خلافاً لسابقتها مثير للغرابة وحتى للاستهجان، مع أن المشروع الإسلامي يتحرك هنا أيضاً في بيئة ممزقة، وفي وطن لم يستكمل مقومات وجوده بعد، ما جعل بنيان الدولة هشاً، فالدولة ليست هي محور الاجتماع وإنما القبيلة والطائفة واللون.
 ورغم شدة المكائد الدولية والإقليمية وتشابك المصالح وتصادمها، فالثابت أن المشروع الإسلامي في السودان - وإن كانت له بعض الإنجازات كنجاحه في استغلال ثروة البترول رغم العرقلة الأمريكية، ومثل توسيع دائرة التعليم وتعريبه، ومثل وقف زحف التمرد بل دحره في مواقع كثيرة- ربما صنع توازناً مع التمرد أقنعه بضرورة التفاوض والرضى باقتسام البلد وإطفاء حريق لم يعد مقبولاً استمراره بجوار حقول النفط الواعدة والتي تتعلق بها مصالح دولية ضغطت على الجميع لإطفاء الحريق والقبول بقسمة السلطة، بينما كان كل من التمرد وجماعة الإنقاذ طامعاً في الانفراد بالأمر كله. إلا أن النجاح المنجز في الاتفاق مع التمرد لاقتسام السلطة والثروة معه على أهميته لا يعني في المحصلة حسماً للداء من أساسه ما استمر فشله في اقتسام السلطة مع بقية المكونات الرئيسية للبلد عبر الحوار والتفاوض توصلاً للإجماع الوطني.
 إن البلد اليوم أشد انقساماً من اليوم الذي استولى فيه الإنقاذ على السلطة، وكأن الجسم الوطني السوداني يتفجر من جميع أجزائه عنفاً وتمرداً على السلطة المركزية، وقد استقر في ذهن جميع الفئات أن السلطة لا تفاوض إلا من يحمل السلاح، حتى إن زعيم أكبر حزب بالبلد الصادق المهدي هدد بحمل السلاح إذا لم يلق من الحكم ما يستحق، وهو ما أغرى أيضاً جماعة المؤتمر الشعبي رفاق الدرب وقد أقصوا ولوحقوا بالطرد من الإدارات وتجريدهم من كل مركز قوة هم فيه من قبل إخوانهم متهمين بأنهم وراء فصائل من التمرد في دارفور، وقد يلامون إن هم فعلوا ذلك ولكنَّ لصاحب الحق مقالاً.
 * هل تبرر الظروف الداخلية والخارجية الصعبة التي عمل فيها المشروع السوداني فشله؟
 ** صعب أن يُلتمس لهذا الفريق من الإسلاميين ما يُلتمس لجماعة طالبان من الأعذار؟ لأن هذا الفريق لم يخرج لإدارة الدولة الحديثة من بطون التاريخ ومدارس التقليد الفقهي، بل هو فريق حديث متخرج من جامعات حديثة مقدَّرة، مستوعب للعصر، تأسس على تصور إسلامي إصلاحي وليس تقليدياً.
 هو فريق تقلب في شؤون الإدارة والحكم، وزراء وبرلمانيون ومدراء لشركات وبنوك، فكيف سولت لهم أنفسهم بعد أن نجحوا في الانقلاب على الآخرين أن ينفردوا بحكم السودان وإلى الأبد!؟ مراهنين كأي جماعة من جماعات الحداثة العلمانية (وهم الإسلاميون) على الاستيلاء على الدولة والانفراد بها واستخدام مؤسساتها الحديثة في تفكيك بنية المجتمع بحسبانها متخلفة طائفية أنتجت كيانات سياسية طائفية تقليدية، فلتحل، وليخضع الشعب لمبضع الجراح الحداثي الإسلامي يفككه؛ سبيلاً لإعادة تركيب هويته بحسب الأنموذج الذي نريد، وذلك عبر بسط التعليم على أوسع نطاق لا بتقدير العلم قيمة في ذاته أو سبيلاً للنمو وإنما أداة سياسية لتقويض بنية الكيانات التقليدية المنافسة رهاناً على صنع هوية جديدة للشعب.
 ذلك هو الرهان الأساسي لمؤسس المشروع الدكتور حسن الترابي الذي طالما شكا وردد تلاميذه شكواه من تغلغل الطائفية في بنية المجتمع السوداني، ما جعل أحزاباً متخلفة في رأيهم مثل الاتحادي والأمة تعتصم بقواعد لها شعبية واسعة، فشلت حداثة الشيوعيين كحداثة الحركة الإسلامية في تقويضها اللهم إلا ما انتزعته منها عبر التعليم، فلتمتد الجامعات في كل أرجاء البلاد، وليستولي أبناء الحركة الإسلامية على كل مراكز القوة والنفوذ الأمني والعسكري والتعليمي والإعلامي والاقتصادي بخلفية تفكيك تلك البنية الاجتماعية المتخلفة سبيلاً لإعادة تشكيلها.
 إنه رهان كل صنوف الحداثات القومية والوطنية والشيوعية نفسه، رهان على الدولة محركاً للتغيير بخلفية احتقار وعي الشعب كما هو في الواقع، ودمغه بالتخلف وبالرجعية والطائفية بما يسوِّغ إخضاعه للجراحات الضرورية.
 غير أن حسن الترابي ليس فقط رجل دولة حديثة تحتل الدولة مركز فكره مثل سائر الحداثيين، ويسهل عليه تسويغ ما تقرره الدولة من جراحات على الجسم الاجتماعي المتخلف بما يقيم شبها بينه وبين ناصر وسوكارنو وبورقيبة وصدام والقذافي بل إنه أيضاً حقوقي ومناضل من أجل الحرية ومن أجل المبادرات الفردية وسلطة مؤسسات المجتمع المدني والشورى والديمقراطية، وهو كلما اصطدم مشروعه الحداثي للدولة بصعوبات حقيقية هنا أو هناك تذكر الجانب الآخر من شخصيته مدافعاً عن الحرية والشورى ومبادرات الفرد والمجتمع فيهم بالنهوض من كبوته ليصلح ما أثمر تدبيره ومشورته من مفاسد وإخلال، ولكن يكون الوقت قد فات.
 فالدولة الحديثة ليست لعبة يستخدمها هذا أو ذاك ثم يلقي بها جانباً، إنها كفيلة بصناعة رجالها المرتبطين بها مصيرياً والمستعدين لأن يفعلوا كل شيء من أجل استمرار سطوتها واستمرار المصالح الخاصة للرجال الذين ظنوا أنهم يوظفونها فوظفتهم.
 ولقد أحسن الترابي التعبير عن هذه الحقيقة في قناة الجزيرة إذ قال: «لقد أرسلنا رجالنا إلى الدولة لتوظيفها، فلما اختلفنا معها انحازوا إليها وتركونا».
 لقد أدرك الترابي المأزق الذي قاد إليه مشروعه والمتمثل في تحويل مشروع إسلامي يبشر بالحرية والشورى ويقود حركة التجديد في الحركة الإسلامية المعاصرة في اتجاه التأصيل لسلطة الشورى والمؤسسة وسلطة المجتمع المدني، تحوّل ذلك المشروع إلى حكم سلطوي قامع وتحولتْ طائفة كبيرة من رجاله إلى رجال دولة في حكم مستبد، يزاحم كثيرٌ منهم لنفسه ولأسرته على المشاريع التجارية والشركات والمناصب والمصالح، ويبذلون ما بوسعهم للاستئثار بالمناصب والمصالح لأنفسهم وأبناء قبائلهم.
 لقد عزم على العود بمشروعه التجديدي إلى أصله وربما الوصول إلى غلق القوسين اللذين فتحهما الانقلاب والقبول بمشاركة الآخرين ضمن احترام آليات الحكم الديمقراطي المتعارفة، فسن لذلك دستوراً لدولة تعددية تحترم فصل السلطات بل توزع فيها السلطات على نطاق واسع على الولايات فتكون لها برلماناتها المنتخبة وتنتخب حكامها، وبدأ التداول حول هذا الدستور إلا أن القائمين على الدولة من تلاميذه أدركوا أن المشروع يتجه إلى سلبهم سلطاتهم المطلقة فرجوه إرجاء المشروع إلا أنه مضى إلى البرلمان الذي يترأسه مستهيناً بما غرست يداه، فوجد أبواب البرلمان موصدة وأبواب السجن مفتّحة تحتضنه.
 ذلك هو المشروع الإسلامي في السودان؛ هو امتداد لعجز أصيل في تاريخنا السياسي، العجز عن إدارة الاختلاف سلمياً والمسارعة إلى سيف الحَجاج، أو أدوات الدولة العنفية والإقصائية لإقصاء الآخر، ولم تشذ تجارب الحكم في بلاد العرب - خصوصاً - على اختلاف إيديولوجياتها من ليبرالية واشتراكية وإسلامية عن هذا النهج بما يؤكد استمرار فعل التاريخ فينا جميعاً بالمسارعة إلى نقل الاختلاف من مستواه السياسي - وكل منازعاتنا الكبرى كانت خلفياتها سياسية تنازعاً على السلطة - إلى ضرب من ضروب تكفير الآخر، فإذا كانت الثقافة الدينية هي السائدة فالمخالف ضال أو مبتدع أو كافر أو خارجي أو صاحب فتنة.
 وإذا كانت الثقافة السائدة ثقافة وطنية فهو خائن للوطن، وإذا سادت الثقافة التقدمية فهو رجعي عميل للإمبريالية، وكلها ضروب من التكفير تهرباً من مواجهة الحقيقة التي تقول إن اختلافنا حول السلطة ولكن ليس بأدوات سياسية سلمية تعترف بالتعدد وبحقوق في الوطن متساوية وفي حق المشاركة في السلطة.
 التجربة التركية
 * وكيف يمكن الحديث عن التجربة التركية لاسيما بعد ما تشهده من امتداد في ظل قيادة أردوغان، وما مبرر اعتبار هذه التجربة إسلاميةً، مع أنها لم تحمل - مثل غيرها - مشروعا لتطبيق الشريعة الإسلامية؟
 ** يمكن الحديث عن التجربة التركية إن في عهد نجم الدين أربكان مؤسس الحركة أو في عهد تلميذه أردوغان. ويمكن تناول هذه التجربة من خلال النقاط التالية:
 - إن مبرر اعتبار هذه التجربة إسلاميةً مع أنها لم تحمل مثل كثير من أخواتها مشروع تطبيق الشريعة الإسلامية هو أن إسلامية مشروع للحكم لا يتحدد بحجم ما يطبقه أو يدعو إلى تطبيقه من البرنامج الإسلامي، ذلك أن الإسلام ولئن كان منهج حياة شاملاً من حيث المبدأ فهو عند التطبيق يخضع لقانون الممكن " لا يُكَلفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها"، وفي الحديث: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
 - وإنما تتحدد إسلامية مشروع بما يعلم عن حَمَلَتِهِ مما يحملون من معتقدات وما يتربون عليه من قيم وأخلاق والتزامات وما ينسبون أنفسهم إليه من مذاهب وأيديولوجيات. وهذا الأمر - إذا نحن نأينا بأنفسنا عن الجدل العقيم واقتربنا من العرف السياسي - كفيل بأن يدلنا بوضوح وبكل يسر على تصنيف واضح متعارف عليه بين عامة الناس وخاصتهم؛ تصنيفٍ للأحزاب الرئيسية ونوعية الأيديولوجية القائمة عليها.
 فإذا أطلق اسم الحركة الإسلامية في مصر، فسينصرف أولاً إلى الإخوان المسلمين، وإذا أطلق في اليمن سينصرف إلى الإصلاح؛ وإذا أطلق في تونس فسينصرف إلى النهضة؛ وإذا أطلق في تركيا سينصرف إلى هذا التيار الذي ظل يتبلور منذ أربعين سنة على يد أربكان وتلاميذه ومن أشهرهم أردوغان.
 فهذه مدرسة متميزة في التيار الإسلامي عرفت من بين المنتظم الإسلامي التركي بمرجعيتها الإسلامية وهي تصرح بذلك ضمن السقوف التي تتحرك تحتها ومنها السقف العلماني، حيث لا يسعها أن تتحدث عن الإسلام أكثر من كونه ثقافة وتراثاً. فهل تسلب عن أهلها الصفة الإسلامية مع ما عرفوا به وأوساطهم الأسرية من حرص على الالتزام بأخلاقيات الدين وشعائره وإيمانهم بمشروعه الشامل؟ ولم يعرف عن واحد منهم طرحه لنظرية في الإسلام تنكر جزءاً من شريعته وتنقل ممارستها الإسلامية المحدودة بسقف العلمانية، إلى تنظير ينكر الشريعة، ومن ادعى ذلك فليأتنا بنص واحد صادر بيقين عن رمز من رموز هذا التيار.
 هل لأنهم عندما حكموا لم يطبقوا كل المشروع الإسلامي تسلب عنهم الصفة الإسلامية؟ ومن ذا الذي يقدر أصلاً على تطبيق الإسلام كله في زمن هذا الاستضعاف!؟ وهل كلفنا الرحمن الرحيم بما يرهقنا ويتجاوز ما نطيق؟ كلا. هل تسلب الصفة الإسلامية عن الزعيم البوسني عزت بوغوفيتش رحمه الله لأنه حكم فلم يطبق الشريعة؟
 هل يعامل الطيب أردوغان وحزب العدالة بالتقدير نفسه الذي يعامل به أستاذه أربكان من حيث إنهما زعيمان إسلاميان؟
 لا مسوغ للخوض في الخلافات التي لا تمس جوهر المشروع الإسلامي والتي أفضت إلى انفصال غالبية الحزب عن المؤسس. إن انشقاقاً بهذا الحجم لا يمكن إلا أن تكون له مبررات موضوعية.
 ورغم أن قيمة الوحدة راسخة في قيم الإسلام وفي هوى كل مسلم إلا أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة وعلينا معشر المسلمين أن نروّض أنفسنا ترويضاً على النظر إلى الاختلاف على أنه سنة ثابتة وليس شذوذاً عن الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، وأنه إذا كانت الوحدة مطلوبة وهي الوجه الآخر للتوحيد فهي ليست تلك الوحدة البسيطة الصماء التي لا عوج فيها ولا أمتا؛ فذلك مما تفرد به المولى سبحانه، إنه الواحد الأحد أي واحد من كل وجه، بينما الوحدة التي انتدبنا إليها الشارع ولا بد أن نسعى إليها هي وحدة نسبية؛ أي وحدة فيما نتفق عليه مع بقاء أوجه للاختلاف يعذر بعضنا بعضاً فيها ونتراحم فيها.
 وطالما نقلنا موروثنا الفقير في ثقافة الاختلاف وإدارته سلمياً من الوحدة الصماء إلى القطيعة والاستنفار للتحارب كلما اختلفنا. ولو أننا تركنا اليوم جانباً ما يرمي رفقاء الدرب الإسلامي في تركيا بالأمس بعضهم بعضاً، وتفحصنا ملياً فروق السياسات التي سلكها الأستاذ بالأمس عندما حكم وقارناها بالتي ينتهجها التلميذ اليوم لوجدناهما في المحصلة يتحركان تحت ذات السقف.
 فكلاهما التزم بثوابت السياسة التركية في الاقتصاد والعلاقات الدولية والإقليمية، مثل العلاقة مع الحلف الأطلسي ومتابعة السير نحو أوروبا، والعلاقة مع الكيان الصهيوني، مع أنه يسجل للتلميذ نجاح أكبر في محاصرة العسكر، وتحسنت أوضاع حقوق الإنسان بما لا سابق له في أي عهد من عهود الجمهورية؛ وكفت أيدي العسكر إلى حد بعيد؛ وناور أردوغان مناورات ذكية أنجت تركيا من التورط في المستنقع العراقي.
 ولأول مرة تبدي تركيا علناً معارضتها لإسرائيل، فتسحب سفيرها احتجاجاً على فظائع الصهاينة في غزة، وكان ما كان من إرسال أسطول الحرية لفك الحصار عن القطاع، كما تحقق نمو معتبر في العلاقات التركية – العربية، وبالخصوص مع سورية حتى طالبت تركيا بالعضوية الشرفية في الجامعة العربية.
نحن إذاً أمام مشروع إسلامي واحد يتحرك بذكاء ضمن المتاح؛ لتحقيق أهداف الإسلام تدرجاً… ألم تتنزل شرائعه منجّمة؟
 *   كيف تقيم التجربة التركية بين التجارب الإسلامية الثلاث التي عرضتها؟
 ** تعد التجربة التركية هي الأرشدَ بين التجارب الإسلامية الثلاث التي عرضناها باختصار. وربما يعود السبب الرئيسي إلى أنها تحركت ضمن إطار منضبطِ لمجال المغامرة، والطموحاتُ فيه محدودة بما حد من الرغائب الثورية المجنحة، والأخيلة الجامحة التي قد تغري المتربع على عرش السلطة في لحظات انفعال أن الشعب الذي بين يديه بل العالم من حوله صلصال يمكن لجهاز الدولة العتيد أن يعيد تشكيله كما يشاء؛ كما فعلت كل الثورات التي مرت بالمنطقة ومنها الثورية السودانية الإسلامية؛ لكنها تكتشف - وغالباً بعد فوات الأوان - أن هويات الشعوب تأبى على جهاز الدولة مهما عتا أن يفككها؛ بل هي ترد الفعل فتزداد انغلاقا.
 ولن أتعرض هنا لتجربة تطبيق إسلامي أعقد هي التجربة الإسلامية في إيران، فهي ذات خصوصية تحتاج إلى فسحة أكبر.
 غير أن من دروس هذه التجارب المستفادة أن التدرج في التطبيق الإسلامي بعد غربة طويلة أجدى وأن تمركز الجهد على إصلاح الإنسان ومؤسسات المجتمع أولى من التمركز حول الدولة وعدِّها أعزَّ مطالب الحركة الإسلامية، فأعز مطالب الإسلام وبالخصوص ضمن الظروف الدولية القائمة هو مطلب الحرية قيمةً إسلامية كبرى وبوابةً رئيسة لكل إصلاح.
وخير من الانفراد بالحكم ولو كان ذلك مقدوراً عليه انتخابياً فالمشاركة فيه – إذا كان ولا بد منها- خير من تحمل مسؤوليته باستقلال.
 مفهوم الإسلام السياسي
 * هذا الكلام يدفعني للسؤال عن مفهومكم للإسلام السياسي؟ وهل لا بدّ له بالضرورة أن يختلف ويتعارض مع الإسلام التقليدي، إن صحّ التعبير؟
 ** الإسلام من جهة مصادره واحدة؛ وهو ما أجمع عليه المسلمون على امتداد الزمان والمكان عقائد وأركاناً وشعائر وأخلاقيات، ثم يأتي الاختلاف في سياق هذه الدائرة والمعالم الكبرى، وقد يضيق الإسلام في مفهوم بعض المسلمين حتى يقتصر على عدد من الشعائر المفصولة من الجسم العام للإسلام، وقد تضيق أكثر من ذلك فتقتصر على مجرد الانتساب الشكلي أو الجغرافي.
 وربما ذلك هو ما يعرف بالإسلام التقليدي مقابل الإسلام الحركي أو السياسي الذي نظر للإسلام بعدِّهِ منهج حياة؛ تمتزج فيها العقيدة بالعبادة وبالمعاملات وبسائر مناهج الحياة، لأنَّ الإسلام ليس مجرد دين؛ وإنما دين وأمة وحضارة وثقافة ودولة.
 والحقيقة أنه قبل مرحلة تعرض الأمة لمصيبة الاحتلال الأجنبي، وتفريخ أجيال من النخبة منفصلة عن روحها ضائقة ذرعاً بانتسابها لهذه الأمة مراهنة على تفكيك هويتها وإعادة تشكيلها على صورة الغرب، قبل أن تبتلى الأمة بمثل هؤلاء ما كان أحد من نخبة المسلمين ولا من عامتهم يشكك في أن الإسلام - كما يقول ابن القيم - روح عامة تجري في كيان المسلم الفردي والجماعي سريان الماء في العود الأخضر.
 وإذا كان الجهل والانحطاط قد قلّصا ظل الإسلام فانحسر عن جملة ميادين الحياة التي كان يغطيها؛ فقد عملت الحركة الإصلاحية منذ قرنين على تحرير أشرعة سفينته من كثير من القيود التي تكبلها، فعاد الإسلام ينشر ظلاله على مساحات واسعة من حياة المسلمين كانت مذاهب العلمنة قد زحزحته عنها، وذلك هو المعنى الأساسي للإسلامية أو لما يسمونه الإسلام السياسي مقابل الإسلام التقليدي؛ ولك أن تقول التدين الانحطاطي المصادم لجوهر عقيدة التوحيد الأساس الأعظم للإسلام التي تحمل للمسلم توجيهاً في كل مجالات الاعتقاد والفكر والشعور وسائر علائقه ومسالكه ترجمة لهذا البيان الإلهي العظيم الذي يلخص رسالة الإسلام التوحيدية " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، 
 وذلك هو جوهر صراع الإسلام مع العلمانية، فهي تناضل من أجل إرساء عالم محوره الإنسان،حيث يمكن لضرب من صورها المعتدلة أن يسمح للدين فيه بمكان هامشي شريطة قبول هذا الأخير بجملة من الجراحات تعيد صياغته بما يتوافق مع أنموذجها، بينما جوهر رسالة الإسلام وكل النبوات الدعوة إلى إرساء عالم محوره الله جل جلاله بارئ الأكوان ومكرّم الإنسان بالاستخلاف على كل شيء؛ لله عليه سيادة كاملة ثم تكون للإنسان السيادة في الكون، فكل شيء من أجله خلق، أما هو فمخلوق لله، ويجب أن يمارس سلطانه في الكون ضمن سيادة الله المطلقة التي جاءت النبوات ترجماناً عنها وختمت بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
 ولذلك أحسن الإمام البنا أحد الآباء المؤسسين للمشروع الإسلامي الترجمة المعاصرة عن هذا التصورإذ رفع شعار: القرآنُ دستورنا؛ أي المصدر الأعلى للقيم وللتشريع، في إطاره يجب أن تتحرك سلطة العقل في الاجتهاد والتشريع وكل سلطة أخرى في أي مجال، إلا أن التوحيد الإسلامي لم يتجسد في فرد ولا في مؤسسة للتعبير عن الحقيقة المطلقة بما يجعل سلطة تفسير النصوص مفتوحة وقابليات التعدد الاجتهادي بلا عدد، تفاعلاً مع ما يستجد من علوم ومعارف ومشكلات.
 وعندما يتعلق الأمر بقرار يخص الجماعة فيمكن الاسترشاد بأفضل سبيل متوافر للتعبير عن مصلحتها واتجاهها العام بما يدرأ سوءة الاستبداد وانفراد فرد أو أفراد بالقرار الذي يخص الجماعة، مما هو النقيض من كل وجه للشورى التي تجد في أساليب الديمقراطية المعاصرة في الوصول إلى القرار الجماعي ودرء منكر الاستبداد آلية مناسبة جدا قابلة للتطور الدائم.
 ذلك هو الفرق الأساسي بين التدين الانحطاطي أو التقليدي وبين التدين الذي ما فتئ الإصلاحيون الإسلاميون على اختلاف اتجاهاتهم يكافحون من أجله منذ أزيد من قرنين، التدين قاوم باسم الإسلام ولا يزال الاحتلال الغربي، وفي الداخل تصدى للاستبداد وعبأ الأمة لمواجهة التجزئة المفروضة سعيا نحو الوحدة، وقاوم ما أشاعه الانحطاط من سلبية قدرية وتزهيد في العمل الدنيوي، وميل إلى الانطواء على الذات ونفور من السياسة والعمل الجماعي لتغيير الأوضاع الفاسدة واجهة التحديات. هذا التدين التقليدي بحكم سلبيته يجد التشجيع من الحكام الظلمة، وحتى من دعاة الحداثة بمن فيهم العقول التي توجه السياسات الدولية مثل مؤسسة راند التي نصحت صناع السياسة في الدولة الأعظم بتشجيع التدين التقليدي والتدين الصوفي.
 الإسلاميون وقضايا الحوار
 * هناك دعوات كثيرة للحوار بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، ما هي برأيك أسس هذا الحوار كي يكون فاعلاً؟
 ** الحوار مع العلمانيين تجاوز مرحلة الحديث والدعوة والإقناع. هناك مؤسسات اليوم ليست لمجرد الحوار وإنما للعمل المشترك بين التيارين القومي العلماني وبين التيار الإسلامي ولك أن تقول القومي الإسلامي مثل مؤسسة المؤتمر القومي الإسلامي ومؤسسة الأحزاب العربية، ذلك على الصعيد القومي.
 أما على الصعيد القطري فهناك حجم من التنسيق والتعاون لا بأس به بين التيارين في الأردن مثلا وفلسطين واليمن وسورية والعراق والجزائر ولبنان وموريتانيا.. وبقدر أقل في تونس ومصر.. سواء أكان ذلك التعاون في الهموم القُطرية مثل قضية الدفاع عن الحريات في مواجهة تغول الدولة واستبدادها بالجميع، أم كان في مواجهة الفساد المتفاقم والتفويت المفروض في القطاع العام لصالح الرأسمال الدولي ووكيله المحلي، ضمن سياسة التفريط فيما تبقى من استقلال البلاد دخولاً في الأحلاف وتطبيعاً مع العدو الصهيوني.
 وعلى الصعيد القومي والدولي تصديا للهجمة الدولية على الأمة في أشكال مختلفة، ونضالاً من أجل وحدة بلاد العرب ودعم التضامن والتعاون بين المسلمين، ودعم قضايا التحرر في مقاومة الاحتلال في فلسطين والعراق.
 المطلوب الارتفاع بمستويات هذا التعاون على أساس الاعتراف للجميع بحقوق المواطنة المتساوية وبالديمقراطية آليات لتنظيم وإدارة الشأن العام، والاعتراف بالإسلام مقوماً أساسياً لهوية الأمة واستقلالها الفكري، واعتبار وحدة بلاد العرب هدفاً استراتيجياً مشتركاً، وكذا التصدي للهيمنة الدولية ولتدمير الطبيعة ومقومات الحياة، ممّا يفرض التعاون مع القوى التحررية في العالم مثل القوى المناهضة للعولمة وللقوى الشيطانية المصممة على نزع كل قداسة عن أي شيءٍ في الحياة وتدمير الأسرة والإنسان واختزاله في غرائزه.
 تلك مجالات واسعة للتعاون بين التيار الإسلامي والتيار العلماني والقومي ومع أهل الديانات الأخرى كما حصل في مؤتمرات السكان من تعاون بين الأزهر وقوى التيار الإسلامي وبين الفاتيكان في الدفاع عن الأسرة تصدياً لتيارات التفسخ والدعوة إلى الجنس الآمن و«الأسرة المثلية»!!.
 * كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الحوار بين الأديان وعقد أكثر من مؤتمر لهذه الغاية.. ما رأيكم في هذه المسألة وما هي أبعادها وآفاقها؟
 ** اعترف الإسلام منذ لحظة التأسيس بالتعدد الديني، وخص أهل الكتاب بمعاملة خاصة وأفسح أمامهم منزلة المواطنة « الذمة» فكان لهم الإسهام المقدّر في بناء حضارة الإسلام ودولة الإسلام.
 غير أن الآخرين لم يبادلوه الاعتراف بل ظلوايطعنون في كبريات يقينياته من أنه دين منزل مثل دياناتهم ومن ذات المصدر. لم يفرض عليهم الاعتراف به شرطاً ليعترف بهم أو لتمتيعهم بحقوق المواطنة وذلك من سماحته، بينما هم ينظرون بل يصرحون بأنه مجرد هرطقة، واستمروا على ذلك حتى يوم الناس هذا.
 ومن ذلك أنه على إثر إحدى ندوات الحوار الإسلامي المسيحي اليهودي دار نقاش حول صيغة اقترحها الطرف الإسلامي في مشروع البيان الختامي تنص على أن ممثلي الديانات السماوية الثلاث يدعون… فاعترض طرفا الحوار على هذه الصيغة معللين ذلك بأنهما لا يؤمنان بسماوية الإسلام، وهو ما جعل الحوار غير متكافئ بل مختلاً، بما تأثّل في الثقافة المسيحية واليهودية من روح العداوة والاحتقار للإسلام وأهله والرغبة في العدوان عليهما، حتى ما يكاد يمر أسبوع دون أن تصدر عن جهة يهودية أو مسيحية إهانة أو تدنيس لأحد مقدسات الإسلام بالقول أو الفعل، فهذا يكتب آيات من الكتاب العزيز على حذاء وآخر يرسمها على ملابس نسويّةٍ داخلية وثالث يدنس المصحف وخامس يهدد بقصف الكعبة المشرفة وخامس يكتب اسم الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس خنزير…. بينما لا تلاقي مقدسات اليهود والنصارى وحتى الوثنيين لا تلاقي من المسلم غير الاحترام.
 فأي حوار مع من لا يعترف بك !؟، ثم إنهم كثيراً ما يعمدون إلى اختيار محاوريهم من بين مسلمين متفسخين ليسمعوا منهم عن الإسلام ما يريدون. لقد اعتذرت البابوية لكل من أساءت إليهم إلا المسلمين الذين أفتت بإبادتهم في إسبانيا، ولم تخفف عنهم وطأةَ ما أصابهم بشطر كلمة أسف.
 ولئن كان الوجود المسيحي في الشرق تم بحماية الإسلام وفي ظل حضارته فإن دخول الإسلام إلى أوروبا لم يكن من بابها؛ بل من باب تنحيها عن سدة السيطرة لصالح العلمانية. إنها الضرورات الاقتصادية وليست السماحة الدينية. ومع ذلك دعوة الإسلام إلى التعاون مع كل البشر على ما فيه خير البشرية في القضايا المشتركة لا تستثني جهة بما في ذلك أهل الديانتين.
 وللحوار بقية ..

المبادرة ﺇلى الخيرات … د/ محمد راتب النابلسى


شرح الحديث الشريف- رياض الصالحين- الدرس (014-101): باب المبادرة ﺇلى الخيرات(بادروا بالأعمال سبعاً….., سيرة عمر بن الخطاب) . 
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي- تاريخ 25-9-1988م.
         الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . 

ماذا يعني النبي بقوله: بادروا بالأعمال ؟

 
       أيها الأخوة المؤمنون, مع الحديث النبوي الشريف، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟))
      [أخرجه الترمذي في سننه]
 
        هذا الحديث ورد في باب المبادرة إلى الخيرات، وفيه حثٌ على الإقبال على الله بالجد من غير تردد .
        ومعنى كلمة: (بادروا), أي سابقوا، وربنا عزَّ وجل أشار إلى هذا المعنى في القرآن الكريم فقال:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾
 
[سورة آل عمران الآية: 133]
 
        فإذا كنتَ في أزمة سكن حادة، وأنت بحاجة ماسة إلى بيت، وبلغك أن ثمة بيتًا في منطقة ممتازة، وسعره أقل من سعر أمثاله، والبيت فارغ، وجاهز للسكن، وثمن هذا البيت تملكه، ماذا تفعل؟ أغلب الظن أنك تذهب إلى المعني بالبيع في وقتٍ متأخرٍ من الليل، يقال لك : غداً، تقول: لا، لعل أحداً يسبقني إليه .
        لو أنكم لاحظتم: كيف يتصرف الإنسان في أموره الدنيوية؟ وكيف يتسابق الناس إلى الخير، أو إلى ما يظنه خيراً؟ كيف يسابق الناس؟ كيف يسارع؟ كيف يحب أن يفوز؟ كيف يحب أن يتفوَّق في الدنيا؟ الشيء الذي فيه مغنم الناس يقبلون عليه .
        النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((بادروا بالأعمال …))، كأن جوهر الحياة الدنيا العمل الصالح، والدليل: هؤلاء الذين يموتون على ماذا يندمون؟ قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾
 
[سورة المؤمنون الآية: 99-100]
 
        فهذا الذي ندم عندما جاءه الموت، على ماذا يندم؟ على أنه فرَّط بالعمل الصالح، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 132]
        والعمل الصالح يرفعك, قال تعالى:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾
[سورة الكهف الآية: 110]
 
        أنت وجدت في هذه الدنيا من أجل أن تعمل صالحاً، لمَ العمل الصالح؟ من أجل أن يكون هذا العمل الصالح صالحاً لقبولك عند الله عزَّ وجل، من أجل أن يكون هذا العمل الصالح سبباً في دخول الجنة، لذلك جاء في تفسير بعض الآيات:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
 
[سورة الليل الآية: 5-7]
 
        (اليسرى): هو العمل الصالح الذي هو ثمن الجنة، فالإنسان لو أنه في الحياة الدنيا كسب مالاً وفيراً، وحقق نجاحاً كبيراً، واعتلى أعلى الدرجات، وفاز بكل الملذات، وجاب مختلف الأقطار، وأكل أطيب الطعام، وسكن في أجمل البيوت، ولم يكن له عملٌ صالح فهو خاسر، فهو أشد الناس خسارةً, قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
[سورة الكهف الآية: 103-104]
 
        نبيٌ كريم حريصٌ علينا يقول: ((بادروا بالأعمال….)) .
        أحدنا يسأل نفسه هذا السؤال: أنا ما عملي؟ ما عملي الصالح؟ ربِحْنا اليوم أرباحاً طائلة، هذه لك، وتناولنا طعاماً طيباً، هذا لك، لبست هذا الثوب الجيد، هذا لك، نريد ماذا فعلت ؟ ماذا قدَّمت؟ ما الذي قدَّمته للناس حتى يرضى الله عنك؟ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحب العبد إلا إذا كان ذا نفعٍ عميم, ((الخلق عيال الله, وأحبهم إلى الله, أنفعهم لعياله)) .
        فهذا أمرٌ نبوي، ولا تنسوا أن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: ((ثلاثةٌ أنا فيهن رجل, وفيما سوى ذلك, فأنا واحدٌ من الناس: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى)) قال تعالى:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
[سورة النجم الآية: 3]
        هذا النبي العظيم الذي وصفه الله سبحانه وتعالى, قال تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
 
[سورة التوبة الآية: 128]
 
        يقول لك هذا النبي, الحريص عليك، الرؤوف الرحيم: ((بادروا بالأعمال …)) .
        لذلك المؤمن الصادق شُغْله الشاغل العمل الصالح، فلعل الله يرضى عنه، فلو أن أحداً عرض عليك أن تعمل صالحاً، فكانت إجابتك: ليس لدي وقت، فمثلك كمثل طبيبٍ, بقي يدرس ثلاثين عاماً, إلى أن حاز على أعلى درجة علمية, وجاء إلى بلده، وفتح عيادة، وكتب على العيادة الدوام من الساعة الخامسة حتى الثامنة، وجلس ينتظر الزبائن, ليسد الديون التي أرهقته، وليؤمن طعاماً لأولاده، فجاءه مريضٌ, وقال له: ليس لديّ وقت لأعالجك, إذًا: لماذا أنت هنا يا أيها الطبيب؟ لماذا أنت هنا في العيادة؟ لماذا كل هذه الدراسة؟ لماذا هذه الشهادات؟ لماذا أسست هذه العيادة؟ لتقول للمرضى: أنا مشغول؟ مشغول بماذا ؟ .
        هذا الذي يقول لك: أنا مشغول، وقد دعي لعملٍ صالح, هذا لا يعرف لماذا هو على وجه الأرض؟ ضائع، تائه، في ضلال، ما عرف مهمته، أنت جئت إلى هذه الدنيا, من أجل أن تعمل صالحاً, يصلح للعرض على الله عزَّ وجل، يكون هذا العمل نوراً لك في قبرك، من أجل أن ترقى به في الجنان إلى أبد الآبدين، لذلك السيدة عائشة رضي الله عنها, حينما وزع النبي شاةً, وزع أضلاعها، أطرافها، صدرها، وما بقي شيء، فقالت له: ((يا رسول الله, لم يبقَ إلا كتفها، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بل بقيت كلها إلا كتفها))
 
[أخرجه الترمذي عن السيدة عائشة في سننه]
        هذا الذي وزعناه هو الذي يبقى .
        سيدنا عمر أمسك تفاحةً وقال: ((أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت)) .
        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي, فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَنَزَلَ بِئْرًا, فَشَرِبَ مِنْهَا, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ, يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي, فَمَلَأَ خُفَّهُ, ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ, ثُمَّ رَقِيَ, فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ, فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا!؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
 
        فيا أيها الأخوة الأكارم, إذا امتنع الإنسان عن العمل الصالح، فو الله الذي لا إله إلا هو, ما عرف لماذا هو على وجه الأرض أبداً؟ إنك هنا في مهمة، لذلك في مئتي آية, يقول الله عزَّ وجل:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
 
[سورة البروج الآية: 11]
 
        اسأل نفسك هذا السؤال مساءً: ماذا فعلت من خير في هذا اليوم؟ تفتح محلاً تجاريًا، تزينه، تعرض بضاعة جيدة، تعمل إعلانًا، تعمل لافتة، تنتظر في الأيام الأولى, فلا يأتي ولا زبون، في الأيام التالية بيع قليل، وبعدها تكتب برسم التسليم إذا لم تربح، كذلك تسأل نفسك كل يوم: ماذا فعلت من خير في هذا اليوم؟ .
        يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا بورك لي في يومٍ, لم أزدد فيه من الله قربًا -بالعمل الصالح- ولا بورك لي في يومٍ, لم أزدد فيه من الله علماً)).
        فقبل أن تنام اسأل نفسك: ماذا فعلت اليوم فعلاً يرضي الله عزَّ وجل؟ هل عدت مريضاً؟ هل أنفقت مالاً؟ هل عاونت فقيراً؟ هل عاونت أخاً لي؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((واللهِ لأن أمشي في حاجة أخٍ مؤمن, أحب إلي من صيام شهرٍ, واعتكافه في مسجدي هذا)) .
        يا ترى: هل خدمت أخًا؟ ساهمت في عمل خيري؟ دعوت إلى الله؟ نصحت إنسانًا؟ دللته على الله؟ ساعدت أرملة من أقربائكم؟ قدمت لها مساعدة؟ رعيت يتيما؟ لك قريب بعيد فقير؟ زرته جبراً لخاطره؟ لك بنت أخ, وأخوك توفى, يا ترى رعيتها؟ اعتبرتها ابنتك؟ بحثت لها عن زوج؟ وجَّهتها؟ نصحتها؟ أم قلت: لا علاقة لي؟ .
 

ما الأمور السبعة التي حذر منها النبي أن تدرك اﻹنسان ﺇذا لم يبادر ﺇلى العمل الصالح ؟
 
1- الفقر المنسي :
        النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((بادروا بالأعمال سبعاً …))، فإذا أراد أحدنا الدنيا وزينتها، فلا بدَّ أن يأتيه أحد هذه السبعة، أي إذا أعرضنا عن طلب الآخرة، إذا أعرضنا عن العمل الصالح، إذا تعلقنا بالدنيا، انكببنا عليها، جعلناها كل همنا، ومبلغ علمنا، حرصنا عليها، ماذا ننتظر؟ فالحديث دقيق، اعمل عملاً صالحاً قبل أن يأتيك أحد هذه السبعة، إن أحد هذه السبعة لابد آتٍ ، هذا معنى .
        المعنى الثاني: اعمل عملاً صالحاً لئلا يأتيك أحد هذه السبعة، فسارع إلى عملٍ صالح, من أجل أن تكسب وقتك, قبل أن تأتيك أحد هذه السبعة، أو اعمل عملاً صالحاً لئلا يأتيك أحد هذه السبعة .
        ما هذه السبعة؟ قال: ((هل تنتظرون إلا فقراً منسياً …)) .
        سيدنا علي كرم الله وجهه يقول: ((كاد الفقر أن يكون كفراً))، حالات يصبح الفقر كالكفر، حالات إذا جاء الفقر مع الجهل, ربما كفر هذا الفقير، الفقر أحياناً ينسيك أن تصلي، ينسيك أن تؤدي واجباتك نحو عيالك وأولادك، فالفقر المنسي نعوذ بالله منه، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ((اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً)) .
        الكفاية هذه أرادها النبي لنا، أرادها لمن يحبه، لمن يحبه النبي، هناك فقرٌ ينسي، ربما لا يملك الإنسان ثمن أجرة ركوب سيارة عامة، يمشي ساعة ونصف، يحس بشعور عجيب، هذا الفقر منسٍ، وربما لا يملك ثمن الدواء لأولاده، أو لا يملك ثمن الطعام، فهذا الفقر نعوذ بالله منه، وقد يكون هذا الفقر للمؤمن رفع درجات، لأن المؤمن ثابت, لا يتغير لا في الغنى ولا في الفقر، لا في إقبال الدنيا ولا في إدبارها، المؤمن إذا افتقر, ففي هذا الافتقار رفعٌ لدرجاته، وكشفٌ لبنيته الطيبة، تعريفٌ للناس به، رفعٌ لمقامه، امتحانٌ له, قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾
 
[سورة البقرة الآية: 214]
 
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
 
[سورة العنكبوت الآية: 2]
 
        فإذا آمن الإنسان بالله, فعليه أن يوطِّن نفسه على كل شيء، أنت عرفت الله, وأسلمت له في السرَّاء والضراء, صدق القائل:
هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا          فليس لي عنهم معدلٌ وإن عدلوا
            واللهِ وإن فتَّتوا في حبهم كبدي          باقٍ على حبهم راضٍ لـما فعلوا
        حالة المؤمن مع الفقر استسلام لله عزَّ وجل، هو يسعى، ويبذل قصارى جهده في رفع مستوى دخله، لكن إذا ضاقت به الحيل, ماذا يفعل؟ يستسلم، يرضى، هكذا أراد الله, وهكذا شاء، لكن إذا جاء الفقر لإنسان لا يعرف الله عزَّ وجل, ربما سبَّ الإله، هذا يفعله بعض الناس، ربما نسي فروض طاعته لله عزَّ وجل، نسي أن يصلي، نسي أن يطيع الله عزَّ وجل .
        فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((هل تنتظرون إلا فقراً منسياً …))، نعوذ بالله من الفقر المنسي .
        سمعت مرة أحد الأخوان يقول: اللهم أنزِلْ بي مرضًا، فقلت له: هذا خلاف الشرع، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الأنبياء قال: ((إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي)) .
        مَن أنت؟ أتجترئ على الله عزَّ وجل؟ أتظن أنك أعظم من النبي؟ النبي عليه الصلاة والسلام هكذا دعا، فالإنسان يطلب من الله السلامة، يطلب البحبوحة، يطلب الرزق، لا يقل: يا رب امتحني، أنا أصبر، لا، اطلب من الله السلامة إذا ضاقت, فهو امتحان للمؤمن رقي، ولغير المؤمن امتحان . 
        ((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ, وَآخِرَكُمْ, وَإِنْسَكُمْ, وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))
 
 [أخرجه مسلم عن أبي ذر في سننه]
 
        كن فيكون، تقنين ربنا ليس تقنين عجز، بل تقنين تأديب، الإنسان يقنن تقنين عجز لضعفه .
        قال لي أحدهم اليوم: إنَّ المزارعين في المنطقة الشمالية الشرقية, قبضوا مبالغ فوق حد الخيال، قال لي: قبضوا واحدًا وسبعين مليونًا من الدولة، ثمن القمح على السعر الرسمي، ذلك بأن الكيس أعطى سبعين كيسًا من القمح، إنّ الله إذا أعطى أدهش, قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾
 
[سورة الأعراف الآية: 96]
 
﴿وَأَلَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾
 
[سورة الجن الآية: 16-17]
 
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 66]
        فربنا غني إذا أعطى أدهش, قال تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾
[سورة الحجر الآية: 21]
 
        لكن إذا قنن ربنا عزَّ وجل يكون التقنين في محله, إن الله ليحمي أحدكم من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام, كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة .
        فأنت استسلم، إذا أعطاك اشكره على عطائه، وإذا منع عنك منعه عطاء, قال ابن عطاء الله السكندري: ((ربما أعطاك فمنعك)) .
        -رجل أعمال من الدرجة الأولى، وقتك كله مليء اجتماعات، وقرارات، وصفقات، ورحلات، وسفرات للعمل، وسفرات نزهات، وما عندك وقت إطلاقاً, ربما أعطاك فمنعك- .
        ثم قال: ((وربما منعك فأعطاك)).
        ضيقها عليك فالتفت إليه، قرأت كتابه فتعرفت عليه، فكرت بالكون، تصدقت، صليت، عملت أعمالاً صالحة، فلا يعترضنَّ أحدٌ على الله عزَّ وجل، ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء .
        ولكن أنا أُؤكِّد لك: لما ربنا عزَّ وجل يكشف الغطاء، ويريك الذي ساقه لك, وما الحكمة منه، سوف تذوب خجلاً من الله سبحانه وتعالى على كل شيءٍ ساقه إليك، هذا جعله لا ينجب أولادًا ذكورًا، هذا جعله عقيمًا، هذا جعله فقيرًا، هذا جعله غنيًا، هذا جعله عليلاً، هذا جعله صحيحًا، هذا جعل عمله شاقًّا، هذا عمله سهل، هذا من أب غني، هذا من أب فقير، هذا أتى في آخر الزمان، هذا من أول الزمان، هذا معه عاهة طفولية، هذا معه قصور كبد مزمن .. إلخ، حينما ينكشف لك الغطاء لا تملك إلا أن تقول كلمةً واحدة, قال تعالى:
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[سورة يونس الآية: 10]
 
        لذلك سيدنا علي رضي الله عنه يقول: ((والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً)) .
        والقاعدة الأساسية: أن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، هذه البطولة، وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي, لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا, قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ, وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا, وَقَالَ: ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا, فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ, وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
 
        استسلم، هو محبٌ لك أكثر من حبك لنفسك .
        ((عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إليهم، وانتظاري لترك معاصيهم، لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إلي، هذه إرادتي بالمعرضين, فكيف إرادتي بالمقبلين؟!)).
 
2- الغنى المطغي :
        (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً …): دخله محدود وهو مستقيم، من مسجد إلى مسجد، على الدخل الكبير من ملهى إلى ملهى، يريد أن يرى النوادي، وشوارع معينة في باريس يريد أن يزورها، صار غنيًّا، يعمل عرسًا مختلطًا في الفندق الكبير، يريد الاختلاط .
        (أو غنىً مطغياً …): يريد الشهوات، عنده مكتب, يريد سكرتيرة، لا يريد موظفا،((أو غنىً مطغياً …))، نعوذ بالله، والله هو البلاء كله، الغنى من دون علم لجهنم .
        (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً …): أكبر محل حلويات, كان في لبنان ، يصدر للدول النفطية طائرة بضاعة محملة بإنتاجه يومياً، دخل مرة على المعمل, فلم تعجبه عجينة المعمول، أمسك العجينة ووضعها على الأرض، ودهسها بنعله، قال له العامل: سيدي, فرد عليه قائلاً: الناس من تحت حذائي يأكلون، بعد شهر انقطعت ركبتاه بالـ (غرغرين), داء الموات، الآن هو في لندن يعاني، الغنى مطغٍ، صار معه مئات الملايين, ولم يعد يرى أحدًا أحسن منه .
        البطولة أن تكون في قمة نجاحك متواضعاً لله عزَّ وجل، النجاح فيه خطورة كبيرة، النجاح مزلق، النجاح في كسب المال، النجاح في المراتب العليا، النجاح في القوة، النجاح في كل شيء مزلق خطير .
 
3- المرض المفسد :
        (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً… ): معه مئات الملايين, لكن فيه علة خطيرة، توقفت كليتاه عن العمل، قال أحدهم: نأخذه إلى بلد أجنبي, قال له: لا أمل، ((… أو مرضاً مفسداً))، يفسد عليك حياتك, لهذا النبي الكريم قال: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ, مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))
 
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن محصن في سننه]
 
4- الهرم المفند :
        (أو هرماً مفنداً …):كبر كثيرًا, ونشأ في معصية الله، فلما كبر خرف، يقول: ما أطعموني، الآن أطعموك، يتدخل فيما لا يعنيه، يعيد القصة مائة مرة، يمل منه الناس، يهربون منه, ويتركونه وحيداً، هذا نعوذ بالله من الهرم المفند، صار موضع سخرية، موضع ازدراء، موضع تأفف, يتمنى أقرب الناس له موته بقولهم: الله يخفف عنه .
        أما المؤمن: من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت, المؤمن كريم على الله عز وجل, لا يرد إلى أرذل العمر، لا، بل يزداد عزاً، وجاهاً، ومحبة، وعقلاً، وذكاء .
 
5- الموت المجهز :
        (أو موتاً مجهزاً …): اشترى أحدهم بيتًا, فلم يعجبه البلاط فكسره، لأنه عتم قليلاً، عمل أقواسًا، رتب، أتى بطاولة من رخام, غالية الثمن، رتب البيت، ويوم أراد أن يسكنه مات,((أو موتاً مجهزاً …))، لا اعتراض، ((أو موتاً مجهزاً …))، البطولة أن تعمل لهذه الساعة، للآخرة .
 
6- الدجال:
        (أو الدجال …): الكلام كالعسل والفعل كالصبر، أي إنسان يعطيك من طرف اللسان حلاوةً، ويروغ منك كما يروغ الثعلب، هذا نموذج، تجد كلامه طيبًا, فإذا عاملته فما أصعب فعله، وباطنه ليس كظاهره، وظاهره ليس كباطنه .
 
7- الساعة :
        (أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر):الساعة يعني يوم القيامة, قال تعالى:
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 68]
 
        هذه النقاط السبع تنتظر كل واحد منا، فسارع إلى عمل صالح لئلا تصاب بالغنى المطغي، أو الفقر المنسي، أو المرض المفسد، أو الهرم المفند، أو الموت لا بد منه .
        لكن بينما أن يكون الإنسان في توفيق من الله عزَّ وجل, وفي حفظ, أو في طرد من رحمة الله عز وجل، عمره سبع وتسعون سنة، بصره حاد، أسنانه في فمه، قامته منتصبة، سمعه مرهف، أسنانه سليمة، زوجته، قال له: يا سيدي, ما هذه الصحة؟ قال: يا بني, حفظناها في الصغر, فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً .
        فإما أن نسارع إلى الأعمال الصالحة لئلا نصاب بأحد هؤلاء، وإما أن نسارع بالعمل الصالح قبل أن يهلكنا أحد هؤلاء، فاحفظوا هذا الحديث ورددوه دائماً، فإنه كالمكابح للإنسان، والله سبحانه وتعالى أكرم، وأعظم، وأوفى من أن يضيِّع مؤمناً، ما دمت قد عرفته في شبابك ، عرفته في فورة الشباب، فالله سبحانه وتعالى يحفظك في مقتبل عمرك، وهذا العمل الرذيل, قال تعالى:
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾
[سورة الحج الآية: 5]
        ليس من شيمة المؤمنين, لأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم .
 

من عظمة عمر بن الخطاب :

 
        والآن إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه .
        أيها الأخوة, بذكر الصالحين تتعطر المجالس، وبالحديث عن أصحاب رسول الله, تتنزل الرحمات .
        سيدنا عمر أعظم ما فيه: أنه مع تفوقه الشديد في مجالات عديدة, ما تمكن الغرور أن يصل إليه, وكما قلت قبل قليل: هؤلاء الناجحون معرَّضون لخطرٍ عظيم، ألا وهو الغرور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو لم تذنبوا, لخفت عليكم ما هو أكبر -ما هو الشيء الذي هو أكبر من الذنب؟- قال: العجب العجب)) .
        العجب أكبر من الذنب، أن تقول: أنا, قالها إبليس فأهلكه الله، قال:
﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
[سورة الأعراف الآية: 12]
 
        ثلاث كلمات مهلكات: أنا، ولي، وعندي قالها قارون, قال تعالى:
 ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 
[سورة القصص الآية: 78]
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾
[سورة القصص الآية: 81]
        لي, قالها فرعون, قال تعالى:
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾
 
  [سورة الزخرف الآية: 51]
 
        فكل عظمة هذا الخليفة, تفوقه، مثلاً: دخل الإسلام في حفاوةٍ بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، صار الإسلام بعد إسلامه ديناً جهوري الصوت، المسلمون قبل إسلامه كانوا يستخفون، بعد إسلامه أصبحوا يعبدون الله جهراً، سمَّاه النبي بالفاروق, لأنه فرق الله بإسلامه الحق والباطل، أصبح خليفة، وله آراء نزل بها وحي اسمها: موافقات عمر, ((لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر)) .
        هذا قمة النجاح، ومع ذلك ما استطاع الغرور أن يصل إلى قلبه .
        قال مرة عن نفسه: ((لقد كنا ولسنا شيئاً مذكوراً, حتى أعزنا الله بالإسلام، فإذا ذهبنا نلتمس العز في غيره, أذلنا الله)) .
        كل هذه العظمة، كل هذا التفوق، رآه فضلاً من الله عزَّ وجل يستوجب الشكر، فإذا ذهبنا نلتمس العز بغير دين الله, أذلنا الله سبحانه وتعالى، هذا درس بليغ لنا معشر الأمة العربية, أعزنا الله بالإسلام، فإذا أردنا أن نلتمس العز في غيره, أذلنا الله عزَّ وجل .
 

ما رأيكم أن نصغي السمع لراوي هذه القصة عن عمر بن الخطاب ؟
        الأحنف بن قيس, يروي هذه القصة، قال: ((كنت مع عمر بن الخطاب, فلقيه رجل, فقال له:يا أمير المؤمنين, انطلق معي, فأعدني على فلان, فقد ظلمني، سيدنا عمر رفع درته, وخفق بها رأس الرجل, وقال له: تدعون أمير المؤمنين, وهو معرضٌ لكم، مقبلٌ عليكم، حتى إذا شغل بأمرٍٍ من أمور المسلمين, أتيتموه أعدني أعدني, فانصرف الرجل, فندم عمر بعدما عنَّفه، فقال: عليَّ بالرجل, فلما عاد ناوله مخفقته, وقال له: اقتص لنفسك مني، تعالَ اضربني, فقال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله، وانصرف.
        عاد عمر إلى بيته، فصلى ركعتين, ثم جلس يحاسب نفسه, ويقول: يا بن الخطاب, كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، فما حملك على رقاب الناس؟ فجاءك رجل يستعديك فضربته, فماذا تقول لربك غداً؟ .
        -هذا هو كل الدين، كل الدين في هذه الكلمة: ماذا تقول لربك غداً؟ لماذا طلقتها؟ لماذا أكلت مال فلان؟ لماذا احتلت على فلان؟ لماذا كذبت على فلان؟ لماذا غررت بفلان؟ لماذا خنت العهد؟ لمَ فعلت هذا؟ ماذا تقول لربك غداً؟ .
        يا أيها الأخوة الأكارم, إذا كنت بطلاً, فهيِّئ جوابًا لله عزَّ وجل, عن كل عمل عملته في الدنيا؛ اشتريت، بعت، غضبت، خاصمت، عاديت، أعطيت، منعت، وصلت، قطعت، عليك أن تأتي بجوابٍ مقنعٍ لله عزَّ وجل, ماذا تقول لربك غداً؟ النبي الكريم قال: ((لعن الله الذواقين والذواقات)) .
        تجده لسبب تافه يطلق امرأته، ويوبخها، ويعنِّفها، علِّمها، وضح لها الأمور، هكذا الله عزَّ وجل أخذ عليك العهد- .
       ثم قال: ماذا تقول لربك غداً؟ هو ذا يؤم الناس في الصلاة، فيسمع بكاءه ونشيجه أصحاب الصف الأخير)) .
 
 
من مواقف عمر بن الخطاب :

 
        مرة ثانية: كان يعدو ويهرول وراء بعيرٍ, أفلتت من معصمها، ويلقاه علي بن أبي طالب فيسأله: ((إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فقال له: بعيرٌ ندَّ من إبل الصدقة أطلبه, فيقول له علي كرم الله وجهه: لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك، وأهلكتهم، أنت خليفة, تلحق إبلاً, هربت من مكانها، لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك, فيجيبه عمر بكلماتٍ متهدِّجة: والذي بعث محمداً بالحق, لو أن عنزةً, ذهبت بشاطئ الفرات, لأخذ بها عمر يوم القيامة، ولو أن بغلةً تعثرت, لحاسبني الله عنها, لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟)) .
        هذا الكلام لنا، أنت صاحب محل سيارتك على الباب، لماذا هكذا عملت؟ فماذا تقول لربك غداً يا عمر؟ .
 
 

ﺇليكم العبرة من هذا الحديث الذي دار بين عمر وبين أبي موسى الأشعري :

 
        مرة سيدنا عمر قال لجليسه أبي موسى الأشعري: ((يا أبا موسى, هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتنا معه، وشهادتنا، وعملنا كله يرد علينا لقاء أن ننجوَ كفافاً لا لنا ولا علينا؟ -يتمنى هذا الخليفة العظيم أن ينجو بجلده، لا له ولا عليه, وهذا الإسلام، وهذه المجاهدة، وهذه الحروب- فيجيبه أبو موسى: لا والله يا عمر؛ لقد جاهدنا ، وصلينا، وصمنا، وعملنا خيراً كثيراً، وأسلم على أيدينا خلقٌ كثير, إنا لنرجو ثواب ذلك, فيجيبه عمر, ودموعه تنحدر من على وجنتيه كحبات اللؤلؤ: أما أنا فو الذي نفس عمرٍ بيده, لوددت أن ذلك يرد علي، ثم أنجو كفافاً رأساً برأس)) .
        لمَ لا يكون كذلك؛ وهو يرى النبي عليه الصلاة والسلام, يقضي ليله كله متهجداً متعبداً، ونهاره كله صائماً مجاهداً، فإذا قيل له: ((يا رسول الله, لمَ تتعب نفسك, وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبه عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكورا؟)) .
 

اقرأ ما كتبه عمر ﺇلى عامله في البصرة :
 
         كتب مرة سيدنا عمر إلى عامله على البصرة عتبة بن غزوان، قال له: ((قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلَّطاً، وملكاً مطاعاً، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيالها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، وتبصرك على مَن دونك، تحوط من النعمة, تحوطك من المعصية، هذه نعمة لكنها مزلق خطير، فلهي أخوفُ عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك، فتسقط سقطةً تطير بها إلى جهنم، أعيذك بالله, وأعيذ نفسي من ذلك)) .
        إنّ أخطر شيء في النجاح الغرور، أن ترى أنك شيءٌ عظيم، أخطر شيء يقع الإنسان فيه أن يغتر بنفسه، والمؤمن دائماً يعزو نجاحه إلى الله عزَّ وجل، لولا فضل الله عليك ما كنت كذلك, قال تعالى:
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 113]
 
        إذا أراد ربك إظهار فضله عليك, خلق الفضل ونسبه إليك, فأنت كمؤمن موحِّد: يا رب لك الفضل، هذا فضل الله عزَّ وجل .
 

من روائع عمر بن الخطاب :
         ومرة زاره حفص بن أبي العاص، وكان عمر جالساً إلى طعامه، فدعا إليه حفصًا، تطلع حفص, فلم يعجبه الأكل، فرأى قديداً يابساً, يأكل منه عمر، فلم يشأ أن يكبد نفسه عناء ازدراده، ولا أن يجشم معدته مشقة هضمه، فاعتذر شاكراً، وأدرك أمير المؤمنين سر عزوفه عن هذا الطعام، فرفع بصره نحوه, وسأله: ((ما يمنعك عن طعامنا؟ فقال: إنه طعامٌ خشن، وإني راجعٌ إلى بيتي, وأصيب طعاماً ليناً, قد صنع لي، قال له عمر: أتراني عاجزاً أن آمر بصغار المعزة، فيلقى عنها شعرها، وآمر برقاق البر، فيخبز خبزاً رقيقاً، وآمر بصاعٍ من زبيبٍ, فيلقى في سُعنٍ, حتى إذا صار مثل عين الحجل, صب عليه الماء، فيصبح كأنه دم غزالٍ, فآكل هذا, وأشرب هذا, فقال له حفص وهو يضحك: واللهِ إنك بطيب الطعام لخبير, واستأنف عمر حديثه, فقال: والذي نفسي بيدي, لولا أن تنقص حسناتي, لشاركتكم في لين عيشكم، ولو شئت, لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، ولنحن أعلم بطيب الطعام من كثيرٍ من آكليه، ولكننا ندعه ليومٍ, تذهل فيها كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وإني لأستبقي طيباتي, لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوامٍ:
﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾
[سورة الأحقاف الآية: 20]
 
والحمد لله رب العالمين .