الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

السنة السياسية في بناء السلطة وأدائها (1/2)...... د/ محمد مختار الشنقيط


إذا همَّ ألقى بين عينـيه عزمـه *** ونكَّب عن ذكر العواقب جانـبـا 
ولم يستشر في أمره غير نفسـه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا[1] 
هكذا افتخر الشاعر سعد بن ناشب بعدم النظر في العواقب، ونبذ المشاورة، والاحتكام إلى منطق القوة. لكن للإسلام في الشأن العام رؤية مختلفة، أساسها الشورى والعدل والحرية، وترجيح مصلحة الجماعة المؤمنة على ذات الفرد المتضخمة. وغاية هذه الرسالة أن تسهم في تجلية المبادئ الإسلامية المؤسِّسة لبناء السلطة وأدائها، من خلال استقراء لبعض ما ورد في السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين من سوابق سياسية في هذا المضمار. ونحاول عبر استنطاق هذه النصوص استنباط إجابات على بعض الإشكالات ذات الصلة بهذا الشأن، مثل: 
· معايير الكفاءة السياسية في الإسلام 
· والفرق بين الشورى والمشاورة 
· ومن يشملهم الأمر بالشورى والمشاورة 
· ومدى الإلزام والإعلام فيهما 
· ووضع المشاورة في موضعها 
· وتخصيص أهل العلم والخبرة بمكانة خاصة في هذا الأمر 
· واعتبار الأغلبية مرجحا وقت التشاور. 
· وحق المرأة المسلمة في المشاركة في الشورى والمشاورة 
ولسنا نطمح إلى تقديم إجابات شافية على جميع هذه الإشكالات العملية، بل نترك ذلك لأهله المؤهلين له ـ وإنما هي محاولة لكشف جوانب من النموذج الإسلامي في بناء السلطة وأدائها، عسى أن يكون ذخرا للعاملين على بناء سلطة شرعية في البلاد الإسلامية، مع لفت نظر المهتمين بالسياسة نظريةً وممارسةً إلى ثراء السنة النبوية في هذا المضمار، وضرورة الاغتراف منها والاهتداء بهديها. 
*الأمير أجير: "إن خير من استأجرت…" 
"دخل أبو مسلم [الخولاني] على معاوية [بن أبي سفيان]، فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: مه، فقال [معاوية]: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل."[2] ولم يكن ذلك التابعي اليماني الزاهد ـ وهو يستعمل لفظ الأجير ـ متلاعبا بألفاظه أو متطاولا على قائده، وإنما كان منطلقا من التصور الإسلامي الحق لمنزلة الحاكم وعلاقته بالأمة: إنها علاقة الأجير برب العمل. فالأمة هي رب العمل، والحاكم أجير لها، أنابته لأداء وظيفة الحكم، لقاء أجر مادي معلوم، ومكانة معنوية مشروطة، والتزمت معه بعقد اختياري طرفاه: الأمانة والنصح من الحاكم، والطاعة والنصرة من المحكوم. 
ولما كان الحاكم أجيرا للأمة، كان من المطلوب أن يتصف بصفتي الأمانة والقوة اللتين امتدحهما القرآن الكريم في الأجير على لسان ابنة شعيب: "إن خير من استأجرت القوي الأمين."[3] أما الأمانة فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالسلطة والثروة، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيَ نوع من الإساءة كان. وأما القوة، فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكّنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للأمة. 
*اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل: 
وقد اشتهر أفذاذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماع الأمانة والقوة فيهم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "قوي أمين لا يخاف في الله لومة لائم"، وسنورد كامل نص الحديث فيما بعد. ومنهم عتاب بن أسيد رضي الله عنه، الذي ورد فيه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين…"[4]، و"عن عمر بن أبي عقرب سمعت عتاب بن أسيد، وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان."[5] 
كما اشتهر عدد من الصحابة بالأمانة بمعناها السياسي الذي نقصده هنا، منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم "أمين هذه الأمة"، وهو يوليه على نجران: "عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد، صاحبا نجران، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فو الله لئن كان نبيا فلاعنَنَا لا نفلح نحن ولا عقبُنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ماسألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: لأبعثن معكم رجلا أمينا، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة"[6]. 
لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد، وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن، وهنا لب الإشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة"… 
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه مرة رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"…، وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا …لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم""[7]. 
ففي هذا النص التحليلي يورد ابن تيمية مثالين على عدم التوازن في الأمانة والقوة لدى اثنين من الأكابر: المثال الأول هو خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي غلبت عليه صفة القوة، فأحسن الذهبي في وصفه بأنه "سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد"[8]، لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله. وهي التي جعلت عمر يستنكر قتله مالك بن نويرة، ثم يعزله فيما بعد ويقول: "إن في سيف خالد رهقا"[9]. 
يعلل ابن تيمية ذلك بقوله: "لم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية. ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حركه على قتالهم."[10] 
والمثال الثاني هو أبو ذر رضي الله عنه، وقد كان إماما في الزهد والورع وصدق اللهجة ونقاء السريرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يوليه إمارة، وعلل ذلك بضعف أبي ذر الذي يفقده عنصرا من عناصر الكفاءة السياسية بغض النظر عن ورعه الشخصي، إذ إن الأمانة من دون قوة لا تكفي للاضطلاع بأمر المنصب العام، ومثلها القوة من غير أمانة. 
ويورد ابن تيمية مثالا آخر على عدم التوازن بين الأمانة والقوة، هو ذو النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه الذي طغت أمانته على قوته فآنس فيه بعض الطامعين ضعفا. قال ابن تيمية: "…وأما عثمان رضي الله عنه، فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحِلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمِع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا."[11]. 
*المواءمة والتكامل يحفظان التوازن: 
إن عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب الناس يثير إشكالا عمليا يمكن التخفيف منه من خلال مبدأي المواءمة والتكامل. أما المواءمة، فهي إدراك لملابسات المنصب، وصلة ذلك بأشخاص معينين، بغض النظر عن خبراتهم الشخصية. وهو درس يمكن استنباطه من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش لقتال الروم، رغم أن أسامة رضي الله عنه لم يكن في مستوى كبار المهاجرين والأنصار الموجودين في جيشه من حيث التمرس بالحرب والخبرة بالسياسة. لكن النبي صلى الله عليه وسلم "أرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه، لما رآه في ذلك من المصلحة"[12] مصلحة وجود دافع زائد لديه، يضاف إلى الدافع العام الكامن في نفس كل مؤمن. ويبدو أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى هذا الأمر منذ مدة: "قال قيس بن حازم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد [في مؤتة] قال: فهلا إلى رجل قتل أبوه، يعني أسامة."[13] 
أما التكامل، فهو أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوة، لأن التوازن المطلق كمال مطلق، وهو غير متاح للبشر. يشرح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة، فيقول: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه."[14] 
وإذا آنس الحاكم من نفسه قوة، وكان قادرا على مراقبة ولاته ومحاسبتهم بصرامة، أمكنه تولية كل من لديه خبرة مهما يكن مستوى الأمانة عنده ضعيفا، تأسيا بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن تيمية: "كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور، لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله."[15] 
إن منطق المواءمة والتكامل هذا هو الذي دفع أبا بكر الصديق إلى التشبث بخالد بن الوليد في وقت ارتداد العرب ورميهم للإسلام عن قوس واحدة، رغم أنه كانت لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه "المرهق"، وتصرفه في المال، ومخالفته للخليفة، إذ "كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر."[16] لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مأزق الردة، إدراكا منه لرجحان الاعتبارات العسكرية على غيرها يومذاك. ولهذا "حين أشار عليه عمر بعزله، قال أبو بكر: فمن يُجزئ عني جزاء خالد؟"[17] 
*الشورى والمشاورة تعصمان من الزلل: 
إذا كانت دراسة حياة الرعيل الأول تبين الضعف البشري والنقص الفطري من حيث صعوبة اجتماع الأمانة والقوة، واستحالة اجتماعهما بتوازن مطلق، وكان الواقع الحسي يشهد ببعد حكامنا عن مستوى ذلك الرعيل في الصدق مع الله ومع الأمة، فما هو الحل العملي لذلك الإشكال المتمثل في عدم اجتماع الأمانة والقوة غالبا؟ 
لقد قدم الإسلام أروع حل عملي لذلك، وهو سلطان الأمة الذي يتجسد في مبدأين: الشورى في بناء السلطة، والمشاورة في أدائها. فبالشورى تختار الأمة أقرب الناس اتصافا بصفتي الأمانة والقوة، ولا يفرض عليها خيار مسبق بالوراثة أو بالغلبة. وبالمشاورة تستحث الأمة الحاكم الضعيف، وتلجم الحاكم القوي، وتحتفظ بحقها في عزل أي منهما واستبداله بالأصلح. 
ورد مبدأ الشورى في قوله تعالي في وصف المؤمنين: "وأمرهم شورى بينهم"[18]، وورد مبدأ المشاورة في أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر."[19] وما ورد في الكتاب الكريم هنا مجملا، ورد في السنة النبوية السياسية مفصلا بالقول وبالفعل. لكن من المستحسن التمييز منهجيا بين مبدإ الشورى ومبدإ المشاورة، إذ الشورى ترتبط بالمداولات المتعلقة بوجود السلطة ابتداء وبشرعيتها، أما المشاورة فترتبط بالمداولات المتعلقة بأداء السلطة وإدارتها وتسييرها. وهذا التمييز المنهجي مبني على اعتبار شرعي وآخر لغوي: 
أما الاعتبار الشرعي، فهو أن المشاورة وردت في القرآن الكريم في سياق الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر"، أما الشورى فقد وردت في سياق الحديث عن المؤمنين: "وأمرهم شورى بينهم" فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر بالشورى،وإنما أُمر بالمشاورة، أما المؤمنون فهم مأمورون بالشورى نصا، ومأمورون بالمشاورة ضمنا، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة ذلك في التمييز بين الشورى والمشاورة، هي أن الأنبياء لا يستمدون قيادتهم من الأمة، فهم ليسوا بحاجة إلى الشورى ذات الصلة ببناء السلطة وشرعيتها، لأن شرعية الأنبياء السياسية مسألة اعتقادية، فطاعتهم طاعة لله متعينة: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"[20] وبيعتهم بيعة لله لازمة: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله."[21] فحق الأنبياء في القيادة أمر مفروغ منه اعتقادا، وهو تولية من الله تعالى لا من الناس، ولذلك قال تعالى لداود: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض."[22] 
وفي قصة الرجل الأزدي ابن اللتبية دلالة واضحة على الفرق بين شرعية الأنبياء السياسية وشرعية غيرهم، حيث ورد في القصة: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟"[23] وفي روايات أخرى: "قال: أما بعد، ما بالأقوام نوليهم أمورا مما ولانا الله،"[24] "أما بعد، فإني أستعمل رجلا منكم على أمور مما ولاني الله"[25] "إني استعملت أحدكم على العمل مما ولاني الله"[26]، "إنا نستعمل منكم رجالا على ما ولانا الله."[27] فأسند صلى الله عليه وسلم ولايته إلى الله مباشرة، لا إلى الناس. وبذلك يتضح أن نظرية "التفويض الإلهي" التي قال بها ملوك أوربا في العصور الوسيطة هي نظرية صحيحة في الإسلام بالنسبة للأنبياء فقط. أما غير الأنبياء فهم يستمدون شرعيتهم السياسية المباشرة من الخلق لا من الخالق، وكل ادعاء منهم باستمداد الشرعية السياسية من الخالق مباشرة إنما هي تضليل للخلق وافتراء على الخالق سبحانه.. 
أما الاعتبار اللغوي الذي نستند إليه في التمييز بين الشورى والمشاورة، فهو الصيغة الصرفية والإيقاع الصوتي: أما صرفيا، فالأصل في الفعل على وزن "فاعَلَ" أن يكون مصدره القياسي على وزن "فِعال"، مثل "قاتل قتالا" أو على وزن "مُفاعلة" مثل "شاور مشاورة." وبذلك نحمل آية آل عمران "وشاورهم في الأمر" على المشاورة، لا على الشورى. 
وأما الإيقاع الصوتي فرغم الاشتراك في الجذر اللغوي فإن لفظ الشورى يوحي بمعنى الانفتاح والتداول غير المحدود بين أطراف غير محدودة العدد أو الصفة، فناسب عملية بناء السلطة التي يشترك فيها الكل مع الكل. أما لفظ المشاورة فهو يوحي بالثنائية والتداول الحصري، فناسب مشاورة الحاكم لعدد محدود من الناس، أو لعموم الناس حول أمر محدد، لكن في عملية ذات طرفين فقط. وليس استعمالنا للإيقاع الصوتي هنا مجرد انطباع، فالإيقاع الصوتي لألفاظ القرآن الكريم له شأن أحيانا في مدلولاتها، كما بينه كل من الجرجاني والزمخشري من الأقدمين. وقد قدم سيد قطب من المعاصرين دراسة تطبيقية لذلك هي كتابه "التصوير الفني في القرآن"، فأتى بنظرات ثاقبة حول مدلول الجرس الصوتي لبعض ألفاظ القرآن الكريم. 
*الشورى في بناء السلطة واجبة وملزمة: 
كثيرا ما دار الجدل حول إلزامية الشورى وإعلاميتها، بمعنى هل يجب على الحاكم الالتزام بمقتضى رأي أغلب الناس في المسألة المتناولة أم لا. لكن هذا الجدل غالبا ما انطلق من خلط بين الشورى ذات الصلة ببناء السلطة، والمشاورة ذات الصلة بأدائها، فأدى إلى تشويش وبلبلة. 
وبالانطلاق من هذا التمييز المنهجي تتضح الصورة أكثر: فالشورى ذات الصلة ببناء السلطة لا بد أن تكون ملزمة، وإلا فقدت مدلولها الشرعي وثمرتها المصلحية. وكل نصوص السنة في الموضوع تدل على وجوبها ابتداء وإلزاميتها انتهاء، بل تتوعد بأسوإ العواقب من يخرج على جماعة المسلمين بعد أن يستقر رأيهم على اختيار قائد يرضونه لدينهم ودنياهم، ومن يفتات عليهم في أمر اختيار قادتهم، وهذا أبلغ وأقوى تعبير عن إلزاميتها. 
وأول ما يسترعي الانتباه هنا هو حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك لأمته حق اختيار قادتها، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت مستخلفا أحدا دون مشورة لاستخلفت عليهم ابن أم عبد."[28] وفي روايات أخرى: "لو كنت مستخلفا أحدا على أمتي دون مشورة لاستخلفت عليهم عبد الله بن مسعود"[29] و"لو كنت مؤمرا على أمتي أحدا دون مشورة منهم لأمرت عليهم ابن أم عبد."[30] وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 
وقد جهِد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد لأمته نصحا، لكنه لم يلزمها باختيار شخص بعينه قائدا لها من بعده. لذلك روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمرا تجدوه قويا أمينا لا يخاف بالله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا ـ ولا أراكم فاعلين ـ تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم إلى الطريق المستقيم."[31] فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يزكي لأمته الأكفاء من أبنائها، لكنه يترك الأمر في أيديها بكل حرية، فهي صاحبة الحل والعقد والتأمير والعزل، كما هو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن تؤمروا… وإن تؤمروا". كل ما في الأمر أن على الأمة إتباع مبدأ الشورى عند اختيار القادة، ثم إلزام أولئك القادة بمبدإ المشاورة بعد اختيارهم، حتى يبقى الأمر بيد الأمة بدءا وختاما. 
وقد اشتط الشيعة في دعواهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافة علي رضي الله عنه، وهذا الحديث ـ وهو من رواية علي نفسه ـ يرد عليهم. كما اشتط بعض من ردوا على الشيعة من أهل السنة وادعوا أنه صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بناء على حديث عائشة رضي الله عنها أنها "قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر."[32] والحديث دليل صريح أن النبي صلى الله عليه قرر أن يترك للأمة خيارها في النهاية، وهو ليس صريحا في أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد تضمين الكتاب النص على شخص أبي بكر رضي الله عنه، بل من الجائز أن يكون أراد كتابة مبادئ وإجراءات لاختيار الخليفة، لا تعيين اسم الخليفة. كما أن قوله: "ويأبى الله والمؤمنون…" يدل على أن اختيار المؤمنين قائدهم هو الأصل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد مصادرة اختيارهم في نهاية المطاف، حتى وإن كان يرغب في أن يختاروا أبا بكر. 
أما ربط بناء السلطة بالشورى، فقد قال فيه عمر رضي الله عنه: "من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا"[33]، "ألا من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع لا هو ولا من بويع له تَغِرَّة أن يقتلا"[34]، "ألا وإنه بلغني أن فلانا قال لو قد مات عمر بايعت فلانا، فمن بايع امرأ دون مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ولا للذي بايعه"[35]، وقول عمر: "لا خلافة إلا عن مشورة"[36]. 
ومن وصية عمر رضي الله عنه وهو على فراش الموت "ثم اجمَعوا في اليوم الثالث أشراف الناس وأمراء الأجناد فأمروا أحدكم، فمن تأمر من غير مشورة فاضربوا عنقه"[37] وفي رواية"تشاوروا ثم أجمعوا أمركم في الثلاث واجمعوا أمراء الأجناد، فمن تأمر منكم دون مشورة من المسلمين فاقتلوه"[38] وفي أخرى: "فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه."[39]، بل إن في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم كفاية للمستكفي: "عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه."[4]، ومن المعلوم أنه من دون الشورى لن يكون أمر الناس مجتمعا على رجل واحد. 
وتدل هذه الأحاديث والآثار دلالة لا لبس فيها على وجوب الشورى المتعلقة ببناء السلطة، وعلى إلزامية نتيجتها، كما تدل على أن السلطة الشرعية قائمة على عقد اجتماعي مقدس هو البيعة الاختيارية من غالب الناس، وأن من خرق قدسية هذا العقد الاجتماعي المقدس فقد أهدر دمه. أما السلطة غير الشرعية فليست بقائمة على تعاقد، وليس لها من حرمة أو إلزام شرعي في رقاب الناس، بل هي من غليظ المنكر الذي يجب تغييره. 
ولا يشترط الإجماع في اختيار الحاكم لتعذره عادة، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من "منهاج السنة"، وإنما يكفي حصول أغلبية. بل هذا هو عمل الصحابة رضي الله عنهم. فقد اعترض على بيعة أبي بكر الصديق سعد بن عبادة مدة حياته، واعترض عليها علي بن أبي طالب مدة ستة أشهر، ثم بايع بعد ذلك "ولم يكن بايع تلك الأشهر."[41] 
لكن ذلك لم يؤثر في شرعية قيادة الصديق ووجوب طاعته. كما اعترض على بيعة علي بن أبي طالب عدد من كبار الصحابة في المدينة ـ حصرهم البعض في سبعة عشر ـ واعترض عليها أهل الشام، ومع ذلك "فخلافته صحيحة بالإجماع، وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره."[42] ..(يتبع).. 
——————————————————————————————————————————-
1]البيتان لسعد بن ناشب على المشهور من أقوال مؤرخي الأدب، انظر مثلا ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1|149، وإن كان التنيسي نسب البيت الأول منهما إلى مالك بن الريب. انظر التنيسي: المنصف للسارق والمسروق منه ص 136. وقد أورد البيتين أبو حيان ضمنتفسيره آية المشاورة. أبو حيان: البحر المحيط 3/41 
[2]الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/13 
[3]سورة القصص، الآية 26 
[4]ابن حجر الإصابة 4|43 
[5]ابن حجر: الإصابة 2/451 وقال: "إسناده حسن" 
[6]البخاري 4|1592 وابن ماجه 1|48 
[7]ابن تيمية: السياسة الشرعية 16-17 وحول حديث :"اللهم إني أبرأ إليك …" انظر البخاري 4/1577 و6/2628 وصحيح ابن حبان 11/53 والبيهقي: السنن الكبرى 9/115 والنسائي: السنن الكبرى 3/474، وعبد الرزاق: المصنف 1/174 أما حديث :"يا أبا ذر …" فقد رواه مسلم 3/1457 والبيهقي في الكبرى 3/129 وفي شعب الإيمان 6/45 والنسائي في الكبرى 4/112 وفي المجتبى 6/255 والبزار 9/435 
[8]الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/369 
[9]ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 5/3 
[10]ابن تيمية: منهاج السنة 4/487 
[11]منهاج السنة 7/452 
[12]منهاج السنة 4/279 
[13]الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/52 
[14]ابن تيمية: مجموعالفتاوى 4/455 
[15]ابن تيمية: الخلافة والملك ص 36 
[16]ابن حجر: الإصابة 1/414 
[17]نفس المصدر والصفحة 
[18]سورة الشورى، الآية 38 
[19]سورة آل عمران، الآية 159 
[20]سورة النساء، الآية 8 
[21]سورة الفتح، الآية 1 
[22]سورة ص، الآية 26 
[23]البخاري 6/2632 
[24]ابن حبان 1/373 
[25]أبو عوانة 4/391 
[26]عبد الرزاق4/54 
[27]الطبراني في الأوسط 7/359 وفي الصغير 2/9 
[28]رواه الحاكم في المستدرك 3/359 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" 
[29]النسائي 5/73 
[30]الطبراني في الأوسط 6/272 والبزار 3/73 وأحمد 1/17. وانظر أيضا في اختلافألفاظ الحديث: الترمذي 5/673 وابن أبي شيبة 6/384 والبزار 3/83 وأحمد 1/76 و1/95 
[31]عبد الله بن أحمد بن حنبل: كتاب السنة 2/541 وقال محققه د. محمد سعيد القحطاني: إسناده حسن" والمقدسي: الأحاديثالمختارة 2/86 وقال محققه عبد الملك بن دهيش: "إسناده صحيح"، وذكر ابن حجرأن الحديث "في مسند أحمد بسند جيد"، انظر الإصابة 2/5 
[32]مسلم 4|1857 وابن حبان 14|564 والنسائي 4|253 والحاكم 3|542 
[33]البخاري 6/255 وعبد الرزاق 5/445 
[34]البزار 1/32 
[35]ابن حبان 2/148 
[36]النسائي 4/272 وابن أبي شيبة7/431 
[37]البيهقي في الكبرى 8/151 
[38]عبد الرزاق 5/481 
[39]صحح إسناده ابن حجر، انظر فتح الباري 7/8 
[40]مسلم 3|148 والطبراني في الكبير 17/145 وأبو عوانة 4/412 
[41]البخاري 5/1549 ومسلم3/138 وابن حبان 11/153 
[42]النووي: شرح صحيح مسلم 15/149

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق