الأربعاء، 29 ديسمبر 2010

دولة الاستبداد نقطة الضعف الأولى في بنية الأمة اليوم …. حوار مع الغنوشى (1-5)

المفكر الإسلامي د. راشد الغنوشي أمين عام "حزب النهضة" في تونس لـ " إسلام أون لاين:"
دولة الاستبداد نقطة الضعف الأولى في بنية الأمة اليوم
والإسلام همَّش مذاهب العلمانية ودفعها للاحتماء بعنف الدولة
الحلقة الأولى
أجرى الحوار : وحـيــد تاجا
    يتبوأ المفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي مكانة رفيعة على الصعيد السياسي والفكري ليس في تونس وحدها بل وفي العالم الإسلامي أجمع.
 وفي لقاء مطول لإسلام أون لاين معه رسم المفكر الغنوشي صورة للواقع الذي تعيشه الأمة اليوم، وحلل أسباب فشل النهضة العربية والإسلامية، راصدا الدور الذي لعبه الغرب في إعاقة النهضة. ولم ينس التوقف مطولا عند العامل الذاتي الذي لعب دورا كبيرا في هذه الإعاقة أيضا، كما تحدث أمين عام حزب النهضة التونسي المحظور عن أولويات المفكر الإسلامي في هذه المرحلة؛ مستعرضا أهم سمات الخطاب الإسلامي الواجب طرحه في مايسمى مرحلة العولمة.
   وعرج المفكر الغنوشي على تجربة الحكم الإسلامي في كل من السودان وتركيا وإيران، مروراً بموقف الإسلام من العنف ومن التعددية والديمقراطية، ورأيه في الحوار مع الغرب ومع العلمانيين ومع أهل الكتاب، كما خصصنا جزءاً من هذا الحوار المطول للحديث عن واقع ونشوء الحركة الإسلامية في تونس.
 بداية، اذا حاولنا رسم خارطة تبين وضع العالم العربي والإسلامي اليوم.. كيف ترسم ملامحها؟
 ** بصراحة ما أراه جدل متواصل محتدم بين فريقين من المهمومين بتشخيص أمراض الأمة كالتجزئة، والفقر، واحتلال فلسطين، والأمية، وسائر مظاهر التخلف.
 أحد الفريقين ما يفتأ يؤكد أن السبب هي القوى الخارجية المتربصة بنا والمصممة على عرقلة كل سبيل لنهوضنا تأبيداً لتخلفنا وضعفنا حتى يتيسر لها استمرارها في نهب ثرواتنا وفرض هيمنتها علينا والحؤول دون عودتنا إلى الساحة الدولية منافسين لها عبر امتلاكنا مجدداً لأدوات صنع مصيرنا، ومنها تجاوز حالة التشرذم التي فرضوها علينا بالحديد والنار منذ قرنين؛ حيث رجحت كفة الموازين الدولية لصالحهم، فوضعوا أيديهم على مصائرنا من خلال سيطرتهم على طرق تجارتنا وعلى سائر مواردنا، متخذينها كلأ مباحاً لنهبهم وتيسير رفاهيتهم، حائلين دون توظيفها لصالح نهضة أمتنا وإرساء نهضة علمية وصناعية تحسن اكتشاف ثرواتنا الطائلة، وتحسن توظيفها لاستئصال الفقر والمرض والأمية من حياتنا، ولتطوير أجهزتنا الدفاعية بما يضمن قدرتنا الردعية لكل عدوان على أرضنا، وإرساء أنظمة عادلة ديمقراطية تعبر عن إرادة شعوبنا ومصالحها وتقود الأمة نحو استكمال مشروعها النهضوي، بدءاً بأنظمة ديمقراطية قُطرية، وصولاً إلى اتحاد للأمة ديمقراطي . وكل هذه المطالب تعتبر ضمن الاستراتيجية الغربية – حتى الآن- خطوطاً حمراء، تقديراً من واضعي السياسات الغربية منذ قرنين على الأقل أن تحقيق هذه المطالب يضر بمصالحهم في الهيمنة العالمية ويمثل عائقاً وعقبة كئوداً في طريقها.
وكيف يمكننا ربط كل هذه الخيوط والإشارات ببعضها البعض ؟
 بدأ التفكير منذ أولى غزوات الغرب الحديثة لأمتنا على يد نابليون في غرز خنجر في القلب من أمتنا في فلسطين؛ خنجر يقطع وحدتها الجغرافية ويستنزف مواردها، ثم جمعوا أساطيلهم لتفكيك أول مشروع نهضوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في مصر على يد القائد النهضوي محمد علي، وفعلوا الأمر ذاته مع كل المحاولات التوحيدية والنهضوية التي عرفتها الأمة بعد ذلك.
كانت الأساطيل جاهزة للتصدي للجيش المصري فيما لو حاول التصدي لانفصال سورية على يد زمرة من الضباط المغرر بهم. كما أن الملك فيصل وقبله مصدّق في إيران لقيا المصير نفسه عندما تجرأا على التحكم في ثروة النفط. وتعرض المفاعل العراقي النووي للتدمير. وكان الكيان الصهيوني المزروع في القلب الأداة الغربية الجاهزة؛ وكلب الحراسة المسعور الذي يعد الحفاظ عليه وإمداده بكل مقوّمات البقاء واجباً؛ لا مجرّد البقاء فحسب؛ بل التفوق على البلاد العربية مجتمعة.
وما تتعرض له إيران اليوم من ضغوط رهيبة لمنعها من تجاوز خط من الخطوط الحمراء وامتلاك ناصية التقدم الصناعي المعاصر والتقنية النووية ليس إلا واحداً من شواهد كثيرة على وجود تلك الاستراتيجية الغربية الثابتة - حتى الآن - لعرقلة كل مسعى نهوض حقيقي في أمتنا؛ إن على جبهة توحدها أو على جبهة تقدمها الصناعي أو على جبهة تحولها الديمقراطي.
 فكل باب ومجال للنهضة تقف في وجه أمتنا صوب ولوجه ترسانات من الأسلحة الرهيبة جاهزة للاستعمال، والمبررات أيضاً جاهزة؛ ومؤسسات القانون الدولي عادة لا تتخلف في إضفاء الشرعية القانونية الدولية وحتى الصبغة الإنسانية على مخططات العدوان والهيمنة، وحتى لو تخلفت كما حصل في غزو العراق تمضي الأساطيل عارية من كل غطاء للشرعية الدولية لا تبالي.
أشرت في إحدى حواراتك الى وجود فريقين أو نظرتين لإعاقة مقومات النهوض في أمتنا؟
** ـ هذا صحيح، فهناك فريق يركز على العامل الخارجي ممثلاً في التفوق الغربي والاستراتيجية الثابتة في تعويق مقومات النهوض في أمتنا وهذا الفريق ينقسم طرحه إلى قسمين:
 أ‌-   لا يبرئ الذات من تبعة أوضاع المهانة والضعف التي تتلظى بها الأمة ولكنه يصر على أولوية العامل الخارجي سبباً رئيساً في استمرار هذه الأوضاع وإفشال كل محاولات النهوض.
ب‌- وهو وإن شمل الغرب على وجه التغليب بحكم واحد فإنما يعني القوى الرئيسية فيه وبالخصوص الولايات المتحدة حيث انضافت إلى الدعائم الاستراتيجية لهذه السياسة الغربية التقليدية المعادية لنهضة العرب والمسلمين أسس عقدية منحدرة إلى مراكز القرار من كنائس إنجيلية متعصبة تصاعد نفوذها - وبالخصوص في إدارة جورج بوش الثاني - الذي كان متأثرا برؤيتهم الدينية للصراع العربي - الإسرائيلي الذي أعطي أبعاداً دينية تتعلق بأساطير تتحدث عن معارك نهايات التاريخ وعودة المسيح عبر إعادة بناء هيكل مزعوم.
 وهي الثغرة الأخرى التي دخلت منها مجموعات الضغط الصهيونية المتعصبة للتأثير الذي يكاد ينفرد بوضع السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، عبر عدد من المراكز القوية والمفكرين النافذين على رأسهم مسعر الحرب على العرب والمسلمين وملهم الإدارة الحالية المستشرق المشهور برنارد لويس وتلاميذه أمثال مارتن كرامر ودانيال بايبس وستيفن إمرسون وشارل بيرل وعدد من المتنفذين في البنتاغون أمثال بول وولفيتز ودوغلاس فايث الذين اختطفوا إلى حد بعيد السياسة الأمريكية وبالخصوص المتعلق منها بالشرق الأوسط وبالعرب والمسلمين.
 غير أنه بحكم رسوخ التعدد في المجتمع الأمريكي فإن وجهة النظر الأخرى يبقى لها أنصار وربما يتزايدون بقدر فشل خيار الاستئصال كاشفين عن الأخطاء الفادحة بل الكوارث التي تسببت فيها لأمريكا هذه المدرسة السبتية وعلى رأسها غزو العراق والدعم اللامشروط للتطرف الليكودي في "إسرائيل" وكذا الدعم الأمريكي لأنظمة حكم فاسدة دكتاتورية بدل دعم التحول الديمقراطي، وهو ما شكل الأرضية المناسبة التي يتغذى منها التطرف والإرهاب؛ كل ذلك بحجة مقاومة الإرهاب وهو ما زاد الإرهاب انتشاراً والسياسة الأمريكية تورطاً وبالخصوص في العراق وفلسطين وأفغانستان؛ وهو ما نشر الكراهية للأمريكان على أوسع نطاق في العالم وبالخصوص في عالم الإسلام بل عمَّق الهوة بين عالم الإسلام؛ وعالم الغرب وعرض المؤسسات الدولية لخطر الشلل.
 بينما السبيل الأقوم لدى أصحاب وجهة النظر الأخرى من المفكرين والاستراتيجيين الأمريكان لمقاومة الإرهاب إنما يكون بتضييق منافذه وأسبابه من خلال التشجيع على التحول الديمقراطي في دول العرب والمسلمين حتى ولو أتى ذلك بالتيار الإسلامي الوسطي وهو التيار الرئيسي في الحركة الإسلامية. ومن هؤلاء المفكرين البرفسور جون سبوزيتو وجون فول ولويس كانتوري ومارك قيرشيتس وريتشارد بولليات ونوح فيلدمان والباحثة شيري بيرنارد.
 وعلى أهمية هذه الأصوات تبقى السياسة الأمريكية مختطفة لدى الفريق بالغ العداوة والكراهية للعرب والمسلمين، والمناصر لكل عدو لهم وبالخصوص الكيان الصهيوني؛ إلا أن براغماتية العقل الأمريكي ستدفعه غير بعيد إلى مراجعة هذه السياسة كلما ارتفعت تكاليف تنفيذها وتوالت خيباتها كما يحصل اليوم في العراق، وإلى أن يحدث ذلك فليس هناك غير الثبات والصبر.
 * ـ وما هي نظرة أو رؤية الفريق الثاني ؟
** ـ الفريق الثاني لا يهمل دور الخارج في العرقلة والتعويق؛ ولكنه يعتبر ذلك عاملاً ثانوياً بالقياس إلى العامل الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا وهو العامل الذاتي المتمثل أساساً في الإرث الفكري الثقافي وثقافة الخنوع والاستسلام للأقدار؛ والتهوين من شأن الفرد وحرياته وحقوقه ومسؤوليته على مصيره بما يؤول بشخصيته إلى الانحسار والذوبان كذرة متناهية الصغر في هذا الكون، أو قطرة متلاشية في محيط الأمة والجماعة، فيغدو راضياً بكل ما يعطى قابلاً لكل صورة مصفقاً لكل ناعق محتقراً لنفسه ضائقاً ذرعاً بمجرد ذكرها والشعور بها.
 أما المرأة نصف المجتمع والتي بين أحضانها يتربى النصف الآخر فوضعها أشد تعاسة في مثل هذه المجتمعات؛ إن من جهة النظر إليها وحتى من جهة نظرها لنفسها.
 ولقد تأسس هذا التصور على رؤية للحياة جملةً وللنشاط فيها والبناء والازدهار والاستمتاع الجسدي وللفن والجمال على أن كل ذلك رجس من عمل الشيطان ومن عوائق السعادة في الدار الآخرة ومن مغضبات الرب. ومن شأن كل ذلك أن يثمر حالة عامة من السكون والاستسلام للطبيعة والتحرك فيها للضرورة بأقل جهد، والاستسلام لما هو قائم من أوضاع اجتماعية مثل وضع التفاوت الظالم وأوضاع سياسية مثل وضع الاحتلال الخارجي أو الاحتلال الداخلي ممثلاً في الاستبداد وتأليه الحكام بتقدير كل ذلك جزءاً من نظام الكون الذي أراده الله !!.
 وهكذا قاد هذا الإرث الفكري إلى الاستبداد.
 والأصوب القول إن هناك علاقة متبادلة بين عقائد الجبر في الكلام وسيادة التقليد في الفقه وهيمنة التصوف والطريقة في التربية حيث يغدو الفناء هدف التربية، وسبيلُها أن يغدو المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله، علاقة تبادل بين تلك الثقافة بعناصرها تلك وبين نظام الاستبداد الذي حكم مراحل شاسعة من تاريخنا.
 ويدفع هذا الفريق حجج الفريق الآخر بلفت الأنظار إلى أمم أخرى تعرضت للاحتلال ولمكايد السياسات الغربية ولكن ذلك لم يحل بينها وبين بناء نهضتها ومغالبة كيد أعدائها، مثل دول في أمريكة الجنوبية وأخرى في آسيا كاليابان والصين، بل إن بعضها تعرض لحروب مدمرة ساحقة، ثم من تحت الركام والأشلاء نهضت كالعملاق حتى نافست في التقدم أعداء الأمس، فلماذا يظل العرب وحدهم يلوكون قصة التفسير التآمري للتاريخ؟ ويتهربون بها من مواجهة الأسباب الحقيقية لتخلفهم واستمرار تموقعهم في ذيل الأمم !!؟.
ـ وأين الحقيقة إذاً !؟
 ** ـ الحقيقة واضحة كوضوح الشمس، ففي صميم ثقافتهم وفكرهم ومعتقداتهم وأنظمتهم الجبرية يكمن داؤهم الذي لا دواء له من غير الوعي به ومواجهته بما يستحق من معالجات جذرية لنظامهم الفكري والقيمي، وهو ما حاول رجال الإصلاح الكبار فعله بدءاً بمقاومة عقائد الجبر المترسخة في جذور العقل العربي بالتأكيد على حرية الإنسان ومسؤوليته على أفعاله.
 كما دعوا في مجال الفقه إلى فتح باب الاجتهاد وممارسته والتمييز الواضح بين النص المنزل قطعيِّ الدلالة وهو الملزم للمؤمن وبين ما تأصل في تاريخنا من اجتهادات مهما عظمت مكانة أصحابها لا تعدو بالنسبة لنا كونها حقلاً للتجربة يستفاد منه فيما يناسب عصرنا وحاجاتنا.
 كما دعوا في مجال السياسة إلى مناهضة أنظمة الاستبداد والجبر التي حكمت تاريخنا وانتهت إلى إطفاء شعلة النهضة في أمتنا، وذلك بالدعوة إلى إحياء قيمة الشورى وضبطها بآليات النظام الديمقراطي بتقديره أقوم سبيل معاصر لتجسيد ذلك المبدأ العظيم واستئصال آفة الاستبداد وانفراد الفرد بالتقرير في مصير الجماعة بينما تؤكد الشورى على " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"، فلا يجوز بحال أن يستقل به فرد مهما بلغ علماً وحكمة. بل الاستبداد شرٌ كله ولا يأتي بخير " وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" دلالة كل ذلك واضحة أننا المسؤولون عما حل بنا من تخلف وانحطاط وغلبة الأمم علينا . 
 داؤنا كامن في أحشائنا، من صنع أيدينا قلتم أنى هذا ؟ " قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"، بل حتى حكامنا المستبدون ليسوا إلا الانعكاس المباشر لثقافة مجتمعنا وضحالة قيمة الحرية والكرامة لدى المواطن عندنا، بما يسهل على كل طاغية حشد الناس حوله والتهليل له لدرجة تسليطهم على كل مصلح وتشويه صورته لديهم وتهميشه. وفي ظل هذا النمط من الثقافة تغدو مسألة مصادرة الحريات واضطهاد الأحرار وتزييف الانتخابات مسألة لا تثير غضب الجماهير؛ بل تجد تأييداً غير قليل من قطاعات واسعة من النخب.
ولك أن تقارن بين ردود أفعال نخب وجماهير غربية على تزييف محدود جداً للانتخابات في بلادها حيث تندلع المسيرات العارمة ملتفة حول نخب معارضة موحدة لا يصرفها قر ولا حر ولا تهديد عن مواصلة وتصعيد تحركاتها فلا تعود إلى بيوتها وأعمالها حتى يسقط الدكتاتور أو تعاد الانتخابات، قارن بين ما حدث في يوغسلافيا وجورجيا وأوكرانيا وبين ما حدث ويحدث في عدد من الدول العربية، حيث التزييف السافر لإرادة الجماهير فلا يتعدى الاعتراض إصدار بيانات الشجب المحتشم. أليس ذلك عائداً إلى الفرق بين قيمة الحرية في المنظومتين الغربية والإسلامية؟ وهل يرجى تحول في أوضاعنا قبل أن نعي بهذه الحقيقة الوعي الكامل؟، فنقدم على إحداث الجراحات الضرورية في جسمنا الثقافي تأسيساً جديداً في ثقافتنا لقيمة الإنسان وحقوقه المقدسة في الحرية والكرامة ولقيم الاختلاف والتعددية والإنسانية وسلطة الأمة أساساً لشرعية الحكم.؟؟
غير أنه رغم ما تتوفر عليه هذه الأطروحة من حقائق ومن منهجية إصلاحية، ترفض صرف طاقات الجماهير تهيم بحثاً عن مشجب تعلق عليه مشاكلها، بل تردّها إلى ذاتها تبحث فيها عن أسباب فشلها وانحطاطها وغلبة الأمم عليها من مثل التأكيد على قيمة الحرية وما أصابها من إعطاب - بل دمار - جراء طغيان عقائد الجبر عليها، وأنظمة الجور ومناهج الجمود الفقهي والتربوي، مما انصبت عليه جهود المصلحين المسلمين المعاصرين بالنقد والإصلاح، بما جعل هذه الأطروحة تبدو على قدر غير قليل من التماسك والواقعية والفاعلية.
ـ ألا تتفق مع القول إن السبيل الأفضل لتغيير سلوك الإنسان يمر حتماً بتغيير منهجه الفكري والعقدي؟
 ** ـ من المؤكد أني اتفق مع هذا الرأي، ولكن رغم ذلك فالأطروحة لا تخلو من جانب جدلي شكلي؛ ومن مبالغات غير قليلة قد تصل إلى حد جلد الذات وتبرئة العدو والإنتهاء بالأمة إلى حال من تعميق الشك في قدراتها واليأس من إصلاح ذاتها. وأخطر من ذلك قفزها فوق حقائق الواقع والعلم، إذ تقع فيما يشبه خطيئة القياس - مع وجود الفارق - فيما تستظهر به من أمثلة لدول حققت نهوضها رغم تعرضها للاحتلال وللمكائد الاستعمارية مثل الصين واليابان وألمانيا ودول في أمريكا اللاتينية
الفارق واضح بين الموقف الغربي من دول وأمم لا تمثل للغرب منافساً حضارياً وإنما هي مجرد منافس سياسي أو اقتصادي يمكن ضبطه، وبين أمة إسلامية تعد تاريخياً المنافس الأساسي للحضارة الغربية. ولكم أن تقارنوا بين رد فعل كل من أمة اليابان والأمة الألمانية على الاحتلال الغربي، إذ قبلتا بشروط المتغلب فاندمجتا بالكامل في إطار منظومته الحضارية والاقتصادية والعسكرية، فلم تكد تنطلق منهما رصاصة واحدة مقاومة للهيمنة الغربية، فقد قبلتا السير بكل انضباط على السكة التي رسمها لهما المحتل، قارن بين ذلك وبين ردود أفعال أمتنا على الاحتلال الغربي وآخرها احتلال العراق، حيث لم تنته الحرب بسقوط الدولة بل هي قد بدأت، إذ بسقوط الدولة تحررت الأمة من نقطة ضعفها الأساسية: الدولة المستبدة المغتربة، لتتولى أمرها بنفسها من دون وصاية، مفجّرة مقاومة أذهلت المحتلين والمتعاونين معهم، بينما كانوا موعودين باستقبالات وردية وكان العراق موعوداً بأن يجعل منه الاحتلال الأمريكي أنموذجاً للتقدم في الشرق الأوسط يكرر الأنموذج الياباني والألماني لو أنه ودع خطيئة المكارم جانباً كما نصح الزبرقان:
          دع المكارم لا ترحل لبغيتها   *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولكن شطراً كبيراً من شعب الرافدين صمم على رفض ما عرض عليه مما تتمتع به مجتمعات النمل؛ وأبى إلا أن يرحل يبتغي مكارم الحرية والعزة والاستقلال على غرار ما فعلت شعوب إسلامية وحرة أخرى، ولذلك هو يتعرض اليوم للسحق على يد أشرس آلة عسكرية عرفها تاريخ البشرية من أجل أن يفرض عليه القبول بشروط المتغلب كما قبلت بها أمم أخرى.
وهو ما يفسر لنا أيضاً ازدواجية الموقف الغربي من تقديم كل صنوف الحماية والدعم لانتفاضات معينة كالسلافيين والجورجيين والأوكرانيين من أجل الديمقراطية وصمتهم على الدبابات الروسية وهي تدك البرلمان، ومباركتهم لما تقوم به أنظمة حليفة لهم في بعض الدول العربية من تزييف سافر لإرادة الشعب.
* ـ وكيف تبرر الازدواجية في الموقف الغربي في هذه الحالة ؟
 ** ـ السبب واضح. الديمقراطية في أوربا الشرقية سبيل لنقل أمم من صف العدو إلى الانضواء تحت لواء الحلف الأطلسي والسوق الرأسمالي، ولذلك تستحق الدعم؛ بينما الديمقراطية في دول أخرى قد تطيح بأصدقاء وتأتي بفريق أقل ما يقال عنه إنه غير مضمون، وهو ما يفسر ازدواجية الموقف الغربي تجاه طلبات الانضواء في الاتحاد الأوربي، فقد قبلت دون عناء دولاً خرجت لتوها من المعسكر الشيوعي بينما ظل الطلب التركي تحت الأخذ والرد رغم ما بذل الأتراك من جهود محمومة لخلع ملابسهم الشرقية الإسلامية طمعاً في القبول بهم غربيين ولكن دون جدوى.
 ومنذ مائتي سنة باءت بالفشل الذريع محاولة مماثلة من قبل محمد علي في السير سيرة الغربيين من أجل الحصول على بركات التقدم العلمي والقبول به في النادي الغربي.
 وانظروا ما فعلت القيادة المصرية منذ السادات من مساع محمومة من أجل القبول بمصر شريكاً لـ " إسرائيل" في تمثيل المصالح الأمريكية في المنطقة أملاً في الفوز بمستحقات "الحراسة" ولكن دون تحقيق نجاح يذكر، لأنها لم تنسلخ من جلدها بالكامل. بينما ينعم الكيان الدخيل بدعم وحماية غير محدودين.
 وأين يوصلنا تجاهل العامل الخارجي في إعاقة النهضة العربية والإسلامية؟
** ـ إن تجاهل العائق الخارجي لكل مشاريع نهوض أمتنا أو التخفيف والتهوين من شأنه ممثلاً في ميزان القوة الدولي المائل ضد أمتنا ضرب من تجاهل حقائق العلم والواقع، وأسلوبٌ من جلد الذات وتبرئة العدو. جلد الذات الذي نهايته اليأس من أنفسنا بدوام اتهامها وترسيخ مشاعر القصور الذاتي.
 وإننا وقد فشلنا في تحقيق أهدافنا الكبرى فلسنا نصلح لشيء ولن يصلح حالنا دون الانضواء تحت ألوية الآخر والسير سيرته فيما يحب ويكره من أجل أن نكون له أنداداً كما نصح طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة بمصر.
 إذا كانت الأمة بسبب العوائق الخارجية واستمرار العوائق الداخلية لم تحقق أهدافها في الوحدة والنهوض وتحرير فلسطين فهل يعني هذا أن جهود قرنين من النهضة والإصلاح ذهبت سدى؟ 
**-كلا؛ لقد أمكن لجهود الإصلاح هذه أن تعيد قطاعاً واسعاً من المسلمين إلى ساحة الفعل التاريخي بعد أن همشه الانحطاط. وكان من ثمار ذلك:
  •  إعادة الربط بين الدين والحياة، واستيعابه لثمار الحداثة دون أن يضحي بشيء من تعاليمه وقيمه، خلافاً للمنتظمات الدينية والثقافية الأخرى التي اخترقتها الحداثة واحتوتها.
  •  وكان من نتائج ذلك قيام حركات على امتداد العالم الإسلامي لمقاومة الاحتلال، حتى اضطرت دول الاستعمار إلى الانسحاب مدحورة وما بقيت غير بقاع محدودة من عالم الإسلام تحت الاحتلال لا تفتأ ضربات الجهاد تلاحقه فيها وتدخل عليه الرعب وتوقع به أشد الخسائر رغم تفوقه المادي.
  •  وهاهي صحوة عارمة تخترق عالم الإسلام وحيثما وجد مسلمون؛ مناضلة من أجل إصلاح أنظمة حكم تابعة فاسدة تمثل الخارج أكثر مما تمثل شعوبها، صحوة تبغي استرجاع دول اغتربت وتحرير إرادة شعبية قهرت.
  •  الثابت اليوم أن الإسلام قد أمكن له أن يهمش في كل أقطاره مذاهب العلمانية وألجأها إلى الاحتماء بعنف الدولة والظهير الخارجي للبقاء.
  • والثابت كذلك أن الأجيال الجديدة في العالم الإسلامي أحسن إسلاماً من سالفاتها منذ قرون بما لا يرتاب معه دارس جاد أن جيل المستقبل في عالم الإسلام على كل المستويات بما في ذلك مستوى الحكم، إسلامي بإذن الله.
  •  ومن مؤشرات ذلك حمل الإسلام لأنبل الرايات، مثل راية الجهاد لتحرير فلسطين والعراق وحمل راية الحرية والديمقراطية والدفاع عن المستضعفين ومقاومة الفساد والتبشير باستعادة وحدة الأمة المغدورة، وذلك عبر تعميق وتوسيع مشروع الإصلاح، فلا يقف عند المستوى الفكري العقدي والتربوي وتعبئة الأمة ضد الاحتلال الخارجي؛ وهي منطلقاته الأساسية بل هو قد عمل فيها تعميقاً وتوسيعاً وامتد بها إلى كل المستويات الاجتماعية وكل مؤسسات المجتمع المدني وعلى امتداد العالم.خذ على سبيل المثال ما أنجزه على مستوى الطبقة الوسطى عبر نقاباتها: الأطباء والمهندسون والمحامون والصحفيون.. إلخ، من اختراقات هائلة فضلاً عن فئة الشباب والنساء، فضلاً عن إنجازاته المتفوقة في خدمة المجتمع عبر الانتشار الواسع في مؤسسات المجتمع الأهلي مثل الجمعيات الخيرية والمدارس والنوادي الرياضية. ولولا كوابح الدكتاتورية وحواجزها وما تلقاه من دعم خارجي غير محدود، لفاضت سيوله على السهل والوعر.
  •  الثابت أيضاً أن الإسلام لأول مرة في التاريخ يغدو عالمياً بالجغرافيا، فهو أسرع الديانات انتشاراً على خريطة الكرة الأرضية، ولأول مرة يصبح تناول الإسلام في الصحافة الغربية جزءاً من صفحاتها المحلية، ولن يمض زمن بعيد حتى تنمو مشاركته على كل صعيد.
 وسيقتنع الغرب بدءاً بالأمم الأكثر براغماتية مثل الأمريكان والإنكليز أنه لا سبيل لضمان المصالح الغربية في عالم الإسلام دون قبول بشراكة إسلامية مع الإسلام وأمته، وتخلٍّ عن فكرة المركزية الغربية أو أمركة العالم؛ أي القبول بدل ذلك بتعددية حضارية، وذلك من خلال التعامل مع التيار الوسطي في الحركة الإسلامية اقتناعاً وقبولاً بدور للإسلام في تحديد السياسات الدولية بعد قرن أو يزيد من التهميش.
 وهل تعد كل ذلك فشلاً؟
 ** قد يكون، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار ميزان القوة الدولي المستمر ميلانه منذ قرنين لصالح القوى الغربية، ولكنه يتحول تدريجاً لصالح الإسلام وأهله وفي اتجاه عالم متعدد على أنقاض المركزية الغربية. إن النصر - أي تحقيق الأهداف - قابل للتجزئة، فيمكن تحقيقه بالنقاط أي التقدم التدريجي صوبه وليس فقط بالضربة الحاسمة.
 فهل ما ذكر من نقاط قليل حتى لا يبقى في قاموس خطابنا غير الحديث عن الفشل؟  اللهم إلا في اعتبار بعضهم أن مقياس النجاح هو مدى تحقق القطيعة بين الدين والحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية للأمة على غرار ما يعتقد أنه سبب نهوض الغرب، إذا كان الأمر كذلك فحقيق عليهم إدمان الصراخ صبحاً وعشياً بفشل الأمة.
 هل يقاس نجاح المشروع الإسلامي في الحصول على الدولة أو النجاح في إدارتها ؟
 **- مع أن هذا الهدف ليس أعز مطالب الحركة الإسلامية في زمن اختلال موازين القوى لصالح خصوم الإسلام - وهو ما يفسر جزئياً على الأقل تعثر تجارب الحكم الإسلامي (إيران) أو فشلها الذريع (السودان) - والحقيقة أن جوهر المشروع ليس سياسياً هو الدولة وإنما فكري اجتماعي تربوي متجه أساساً إلى الفرد، وإلى المجتمع، وإلى الناس كافة وعلى أساس ما ينجزه في هذه الصعيد يقاس نجاحه أو فشله، وهو ما يجعل الحرية والعدالة على رأس مطالبه بحسبانهما قيمة أساسية في الإسلام ومدخلاً لا بديل عنه لكل إصلاح. وما أحسب أنها قليلة على هذا الصعيد منجزات المشروع الإسلامي وذلك رغم استمرار العوائق الخارجية أساساً وعلى رأسها دولة الاستبداد نقطة الضعف الأولى في بنية الأمة اليوم، وما تستظهر به على الأمة من قوى خارجية، على رأسها اليوم الكيان الصهيوني وحماته الغربيون وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ثم العوائق الداخلية عائق التجزئة، وعوائق فكر التغريب وفكر الانحطاط ومن هذا الأخير قلة رسوخ فكر الحرية والتعددية في موروثنا بما يجعل التوصل صعباً إلى الإجماع الضروري لكل اجتماع وكل تغيير وكذا إدارة الحوار والتعامل مع الاختلاف سلمياً بحثاً عن المشترك.
 وما حصل بين الجماعات الأفغانية الجهادية المنتصرة من تقاتل استكمل تدمير البلاد وأسلمها لأشد عناصر الإسلام تخلفاً (طالبان) الذين انتهوا بحماقاتهم إلى توجيه الدعوة إلى الأمريكان إلى احتلال البلد بديلاً عن الاتحاد السوفياتي. وليس بعيداً من ذلك ما انتهى إليه أهل المشروع الإسلامي في السودان من تنازع ذهب بريحهم ودفعهم إلى التسابق على الاستظهار على بعضهم بعضاً بالتمرد، كل ذلك ثمرة لهزال بضاعتنا في ثقافة الحرية والتعددية وفن إدارة الاختلاف سلمياً، وهو ما نجح فيه الغرب بعد عصور من الفتن والتقاتل، فطفق يتقدم بثبات صوب الإجماع صارفاً الأنظار عن مواطن الاختلاف؛ يهملها مرة ويدعها لعامل الزمن يعالجها مرةً أخرى؛ بينما يحرن قومنا عند كل نقطة اختلاف، فتتضخم عندهم حتى تغشي أبصارهم عن ساحات الوفاق الفسيحة.
 لا بد من تأكيد الشورى أساساً لكل نهوض، وضبطها بآليات الديمقراطية الحديثة والعمل فيها تطويراً عبر الممارسة
 - يُتبع في الحلقة القادمة بإذن الله -

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق