الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

هل هو انقلاب على الانقلاب؟ فهمي هويدي


 إذا صحت المعلومات التي تتداولها دوائر السلطة في الأسابيع الأخيرة، فهي تعني أن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي يوم الأربعاء الماضي (21/11) هو خطوة استباقية لإجهاض انقلاب قانوني كان يجري الإعداد له، بما قد يصف قراره بأنه انقلاب على الانقلاب.
(1)
يستطيع المرء أن يستشف ذلك من ملاحظة النقطة الجوهرية في الإعلان (الواردة في المادة الثانية) التي نصت على أن الإعلان الدستوري والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية حتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نافذة ونهائية وغير قابلة للطعن عليها. وهي المادة التي أريد بها تحصين ما يصدره الرئيس من قرارات ضد دعاوى الطعن والإلغاء التي لا تتم إلا من خلال القضاء.

* إن ثمة إشارات وقرائن دلت على أن بعض أعضاء المحكمة الدستورية يتبنون مواقف سياسية تتجاوز حدود صلاحياتهم القانونية، الأمر الذي دفعهم إلى إعلان معارضتهم للحكومة في قضايا منظورة أمامهم. ولم يكتف أولئك البعض بإعلان مواقفهم تلك عبر وسائل الإعلام، ولكن منهم من شارك في أنشطة واجتماعات تم خلالها ترتيب بعض الطعون التي استهدفت إضعاف موقف رئيس الجمهورية.
وقد قيل لي إن هناك أربعة أمور تكمن في خلفية إيراد هذه المادة هي:
* إن المحكمة الدستورية العليا كانت قد ألغت قرارا للرئيس محمد مرسي قضى بعودة مجلس الشعب للانعقاد، بعدما تم حله بصورة متعسفة من جانب المحكمة الدستورية، التي نصت على الحل في الحيثيات وليس في نص حكم لها بخصوص طعن في دستورية انتخاب ثلث أعضاء مجلس الشعب.

* إن المعلومات التي توافرت في الآونة الأخيرة أشارت إلى أن هناك تنسيقا بين بعض القضاة في المحكمة العليا وآخرين من قضاة مجلس الدولة، في توزيع المهام والأدوار ضمن حملة تكثيف الضغوط القانونية لصالح تبنى مواقف معينة تمثل نوعا من المعارضة السياسية.
* تسربت معلومات عن اعتزام المحكمة الدستورية المعينة من قبل الرئيس السابق إصدار أحكام يوم 2/12 المقبل تستهدف إحداث فراغ دستوري كبير في البلد، كما تستهدف فتح باب الطعن في شرعية قرارات الرئيس محمد مرسي. الأمر الذي يعيد المجلس العسكري إلى السلطة. وتلك نقطة خطيرة تحتاج إلى مزيد من التفصيل.
(2)
إذ من المقرر أن تنظر المحكمة الدستورية العليا في الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول (الأحد المقبل) في ثلاثة أمور: الطعن في تشكيل الجمعية التأسيسية، والطعن في تشكيل مجلس الشورى، وتكييف الوضع القانوني للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي يوم 12 أغسطس/آب الماضي، والذي حل بمقتضاه المجلس العسكري وأحال رئيسه إلى التقاعد.
ذلك أن ثمة طعنا في ذلك الإعلان اعتبره عائقا ماديا من شأنه تعطيل تنفيذ الإعلان الدستوري المؤقت والشرعي -من وجهة نظرهم- الذي سبق أن أصدره المجلس العسكري يوم 17 يونيو/حزيران من العام الحالي (2012)، وبعدما بدا أن رائحة الهوى السياسي تفوح من بعض قرارات المحكمة الدستورية (الأمر الذي تجلى بوضوح في قرار حل مجلس الشعب) فإن سيناريو اتخاذ قرارات سلبية في الموضوعات المعروضة في ذلك اليوم ظلت واردة بقوة، عزز ذلك وأكدته المواقف التي عبرت عنها شخصيات من بين أعضاء المجلس، أيدت حلّ لجنة الدستور وحل مجلس الشورى، واعتبرت الإعلان الدستوري الذي أصدره الدكتور مرسي باطلا بسبب تعطيله للإعلان الذي أصدره المجلس العسكري، الأمر الذي يرتب النتائج التي سبقت الإشارة إليها.
رجح ذلك الاحتمال أن بعض أعضاء المحكمة الدستورية أعلنوا في وسائل الإعلام انحيازهم إلى الرأي الذي يدعو إلى بطلان قرارات الرئيس مرسي، وبالأخص الإعلان الذي أصدره في شهر أغسطس/آب الماضي.

ذلك كله ليس مقطوعا به ولكنه احتمال وارد، رغم الرسائل التي وجهت وتحدثت عن احتمال تأجيل البت في تلك الملفات من جانب الدستورية العليا. إلا أن ذلك لم يكن كافيا لسببين، الأول أن الباب لا ينبغي له أن يظل مفتوحا لأية مفاجآت، حتى إذا كانت نسبتها محدودة.
الثاني أن مجرد قبول الطعن في شرعية قرارات الرئيس مرسي يفتح باب الجدل حول مصير الإعلان الدستوري الذي سبق إصداره، ناهيك عن أنه يشي بأن ثمة نية لتأزيم الموقف السياسي.
ذلك أنه إذا تم حل اللجنة التأسيسية للدستور وكذلك حل مجلس الشورى، وتم إبطال الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي، فسوف تواجه مصر أزمة فراغ كبير، إلى جانب أن ذلك سيعيد الثورة إلى نقطة الصفر، حين كان المجلس العسكري هو الذي يدير البلاد، ويمسك بزمام السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهو ما يدخل البلاد في نفق العواقب الوخيمة التي يعلم الله وحده نهايتها أو كيفية الخروج منها.
(3)
ليس ذلك وحده المؤرق في المشهد، لأنه قيل لي إن وقائع أخرى مريبة تثير العديد من علامات الاستفهام، حول حقيقة القوى التي تقف وراء الانقلاب المفترض، من ذلك مثلا أنه تم القبض في الإسكندرية هذا الأسبوع على ضابط لا يزال يعمل بأحد الأجهزة السيادية يوزع أموالا على بعض المشاركين في المظاهرة المعادية للإخوان والتي حاولت حرق مقرهم بالمدينة. وقد سلم الضابط إلى الشرطة، التي أحالته إلى النيابة العامة. وبعد اتصالات قوية قام بها الجهاز الأمني المختص مع كبار المسؤولين في النظام والداخلية أطلقت النيابة العامة سراحه. إلا أن ملف القضية لم يغلق لأن الواقعة أثارت أسئلة كثيرة حول دافع الضابط إلى ما فعله، وحول الجهة أو الجهات التي تقف وراءه. وهو ما تحاول التحقيقات الجارية الآن تتبع خيوطه وفك ألغازه.
هذه الخلفية إذا صحت فإنها توسع من دائرة الاشتباه، وتسلط الضوء على زوايا غير مرئية في المشهد. وما يتردد في هذا الصدد يثير أسئلة عديدة عن أسباب تجديد الاشتباك وتأجيج الانفعال في مناسبة ذكرى أحداث شارع محمد محمود، التي سقط فيها قتلى وجرحى ومثلت ذروة المواجهات بين المتظاهرين والسلطة.
كما أنه يشير إلى أدوار لبعض رجال الأعمال الذين ارتبطوا بالنظام السابق واستفادوا منه، واجتماعهم بنفر من "الفلول" وعدد من العاملين السابقين في الأجهزة الأمنية، والمعلومة الأخيرة استدعت ملاحظة أخرى خلاصتها أن قيادات الشرطة وأمن الدولة العاملين في بعض المحافظات اتخذوا موقفا سلبيا من المظاهرات التي استهدفت بعض مقار الإخوان. بل قال لي مسؤول كبير إن الأمر يتجاوز المواقف والمبادرات الفردية، وأن هناك تنظيما يحرك الحملة المضادة والمظاهرات المعادية، وأن فئات عدة من أصحاب المصالح ضالعون فيه، من بينهم بعض رجال القانون وآخرون من العاملين في الحقل الإعلامي.
كما تحدث المسؤول الكبير عن تمويل من جانب بعض رجال الأعمال في الداخل، وآخر من جانب بعض الدول الخليجية. وحين قلت له إن التمويل يمكن تتبعه من تحويلات البنوك كان رده، إن الأموال التي قدمت من الخارج جاءت في حقائب محمولة باليد.
(4)
أرجو أن تكون قد لاحظت أن أول ثلاث كلمات أوردتها في النص الذي بين يديك هي: "إذا صحت المعلومات"، الأمر الذي أردت به أن أنبه من البداية إلى أن الكلام منقول عن الدوائر التي أصدرت الإعلان الدستوري وتبنته. وهو ما لا يعني التشكيك في صحة المعلومات أو الطعن في الإعلان الدستوري، ولكنني أردت بذلك التنويه أن أعطى المعلومات حجمها الحقيقي، وأن أعرض لخلفية "الضرورة" التي ألجأت الرئيس محمد مرسي إلى إصدار الإعلان الدستوري.
وإذا جاز لي أن أسجل ملاحظاتي على ما سمعت في هذا الصدد فإنني أضع في مقدمتها ما يلي:

* إنه إذا كانت الفكرة الجوهرية في الإعلان هي قطع الطريق على توظيف القضاء لتحقيق المآرب السياسية فإن الخطأ الجوهري الذي وقع فيه تمثل في التوسع في تحصين ما يصدر عن الرئيس ليس فقط من إعلانات دستورية أو قوانين وإنما أيضا عن "قرارات"، وهو الخطأ القاتل الذي أثار الزوبعة وأشعل الحريق الذي يكاد لهيبه ودخانه يسد الأفق في بر مصر. وقد أحسن مجلس القضاء الأعلى حين دعا في البيان الذي أصدره يوم الأحد الماضي (25/11) إلى ضبط صياغة المادة بحيث يقتصر التحصين على القرارات السيادية دون غيرها.

* إن التعامل مع مجمل الملف يبعث على الحيرة لسببين، أولهما أن مستشاري الرئيس لم يحاطوا علما بالصيغة التي تم إعلانها، بل إن فريق المستشارين الذين كلفوا منذ أسابيع عدة بإعداد مسودته فوجئوا بأن ما أعلن غير الذي قدموه، الأمر الذي أثار استياءهم ومنهم من عبر عن غضبه وطلب من الرئيس إعفاءه مما كلف به، وثمة جهد يبذل هذه الأيام لمعالجة ذلك الشرخ.

السبب الثاني أن الرئيس فاجأ الرأي العام بالإعلان، ولم يحطه علما بالظروف التي استدعت إصداره، والمعلومات التي سبقت الإشارة إليها، معززة بالأدلة المتوفرة لدى الجهات المعنية، الأمر الذي يعني أن إدارة العملية كانت بحاجة إلى قدر أكبر من الحنكة السياسية، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الرئيس الأميركي باراك أوباما حين أعد مشروعه للضمان الاجتماعي المهم في حياة الأميركيين فإنه أرسله إلى الكونغرس، وبعد ساعة من إرساله وجه خطابا بخصوصه إلى الشعب الأميركي، ثم قام بجولة في عشر ولايات ليشرح للرأي العام وجهة نظره فيه. والفرق بين الحالتين يعكس الفرق بين الكفاءة الديمقراطية هناك والتعثر الديمقراطي عندنا.
* إن الطريقة التي عالج بها الرئيس مرسي الموقف أحدثت شرخا في صفوف أنصاره، كما أنها عمقت كثيرا من الاستقطاب الحاصل في مصر بين الإسلاميين من ناحية والعلمانيين والليبراليين واليساريين من ناحية ثانية. وإذا أخذنا على الرئاسة أنها لم تتعامل مع الموقف بالحذق اللازم، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل أن الطرف الآخر تصيد ثغراته للانقضاض على النظام القائم ومحاولة هدم المعبد على من فيه. وكانت الإثارة والتهييج التي اتسم بهما الأداء الإعلامي من الوسائل الأساسية التي استخدمت في ذلك (ذكرت صحف أمس مثلا أن معظم القضاة أضربوا عن العمل ولم يكن ذلك صحيحا، لأن الأغلبية الساحقة منهم أدت عملها كالمعتاد).
* إنني استغربت مظاهر المبالغة في الاستقواء التي مارسها بعض الذين أعلنوا تحدِّيهم للرئيس وإعلانه، من جانب أطراف سارعت إلى ركوب الموجة، في حين أننا لم نعرف عنهم بطولة ولا شجاعة في مواجهة مفاسد النظام السابق. بذات القدر فإنني استغربت رفع البعض الآخر شعار "لا حوار إلا بعد إلغاء الإعلان الدستوري" في استنساخ للشعار الذي رفع في مواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، معلنا أنه "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء".
علما بأن الثورة المضادة ونظام مبارك هو المستفيد الأكبر والأكثر جاهزية لقطف ثمار احتدام المواجهة الراهنة. وإذ أفهم أن تعلن تحفظات وشروط معقولة للحوار، فإنه يصعب مطالبة الرئيس بالانتحار أولا، وقد تقبل الحجة من برلمان منتخب يحاسب الرئيس وله أن يحاكمه، لكنها لا تقبل من أشخاص حضورهم في الإعلام وبرامج التلفزيون أكثر من حضورهم في الواقع.
إنني أذكِّر الجميع بأن استمرار الثورة ينبغي أن يقدم على ليّ ذراع الرئيس مرسي أو تجريحه. وللأسف فإن كثيرين مشغولون بالثانية دون الأولى.

السبت، 17 نوفمبر 2012

دستور دولة النخبة…….. إبراهيم الهضيبى


 مسودة الدستور الجديد، على ما بذل فيها من جهد، تعبر عن رغبة فى «إصلاح» دولة يوليو التسطلية بإزالة ما يعوق مؤسساتها عن العمل بفاعلية، ولا تعبر بحال عن رغبة فى «تغيير» بنية النظام بتمكين المجتمع وحفظ حقوقه، على النحو المبتغى وجوده فى أعقاب الثورة. 
●●●

تعددت مسودات الدستور، واختلفت بعض تفاصيل نصوصها، غير أنها - فى مجملها- أبقت البنية التسلطية للدولة، فبالرغم من تقرير الدستور مبدأ سيادة الشعب (مادة ٥ من مسودة ٢٢/١٠/٢٠١٢)، والتأكيد فى غير موضع على المسئولية المشتركة للدولة والمجتمع (المواد ٩، ١٠، ٢٨، ٦١، ٧٧ مثلا) فى حفظ النظام العام وحقوق المواطنين والأمن القومى، فإن نصوصه خلت مما يمكن المجتمع من مشاركة الدولة هذا الدور.

وتبدو النزعات الإصلاحية فى الدستور واضحة فى سعى المشرع إعادة تنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة بما يضمن توازنها، كالمادتين ١٢٨ و١٤٣ الهادفتين لتنظيم العلاقة بين الرئيس والبرلمان بما يضمن عدم استئثار ايهما بالسلطة، والمواد المنظمة للإعلام والصحافة (٢١٥، ٢١٦) والتى تنشئ هيئة مستقلة لإدارة الإعلام وتنظم صلاحياتها وعلاقتها بالمؤسسات الأخرى من غير أن تتناول كيفية تشكيلها وضمانات الديمقراطية والمهنية فيه.

ومجمل المواد على هذه الشاكلة: تهتم بتنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة المختلفة بدلا من إعادة ترتيب العلاقة بينها والشعب، فأبقت المواد هذه المؤسسات بعيدة عن السيادة الشعبية، إذ منعت المحاسبة الشعبية للبرلمانيين بأن قصرت الحق فى إسقاط عضويتهم على مجالسهم دون الناخبين أصحاب الحق الأصيل (مادة ١١١)، وأوجدت بدائل تتجنب اللجوء للشعب صاحب السيادة فى حسم النزاع بين المؤسسات المختلفة (مواد ١٠٣، ١٠٤ مثلا)، ولم توجب اللجوء للاستفتاء إلا عند حل البرلمان والتعديل الدستورى، وجعلت اللجوء له فيما وراء ذلك «حقا» لرئيس الجمهورية (مادة ١٥٥)، بل لم توجب العودة للشعب فيما يتعلق بالتعديل فى أراضى الدولة، واكتفت باشتراط موافقة البرلمان على ذلك (مادة ١٥٠).

وفى حين جعلت المادة ٧٧ حماية الأمن القومى «واجبا على كل من المجتمع والدولة» فإن المفهوم يبقى فضفاضا، تملك الدولة دون المجتمع إمكانية تعريفه، والآليات التنفيذية لحمايته، على نحو يبقى للدولة، وبالأخص الأجهزة الأمنية فيها، شرعية للبقاء خارج إطار القانون، ويمكنها- فى ظل غياب التعريف المنضبط للأمن القومى- من التوسع فى حجب المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق عن المواطنين، متذرعة بالاستثناء الخاص بما يتعلق بالأمن القومى فى المادة ٤٣ من المسودة.

وتقلص المواد المتعلقة بالقوات المسلحة من مساحة السيادة المدنية، إذ تنزع من نواب الشعب صلاحية مناقشة الميزانية العسكرية، أو مناقشة ما يتعلق بتأمين البلاد، بقصر هذه الصلاحيات على مجلس للدفاع الوطنى (مادة ١٩٥)، كما تقلص من سلطان المدنيين بالنص الشاذ على وجوب تعيين وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة (مادة ١٩٧).

وثمة مواد أخرى ترسخ لهيمنة الدولة على المجتمع، كالمادة ١١ التى تعين الدولة واصيا على «الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع المصرى!» (على افتراض وجودها ومحموديتها)، والمادة ٢١٣ التى تفتح بابا واسعا - فى ظل عدم تحديد كيفية تشكيل الهيئة العليا لشئون الوقف- لتدخل الدولة فى الأوقاف متذرعة بالسعى لضمان الادارة الاقتصادية الرشيدة، والمادة ٥٢ التى تلزم جميع المؤسسات التعليمية «العامة والخاصة والأهلية وغيرها بخطة الدولة التعليمية وأهدافها» فى ظل انعدام الحديث عن آليات وضع هذه الخطة وضمان تعبيرها عن التنوع وعدم تبعيتها للسلطة التنفيذية.

وإجمالا فإن هذه المواد ترسخ وصاية الدولة على المجتمع (التى هى من أركان نظام يوليو)؛ كما تنزع عن المجتمع عمليا أى حق فى الدفاع عن نفسه إزائها (وإن كان تقرر هذا الحق نظريا)، وهو حق لابد من تنظيمه لشدة الاحتياج إليه فى القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها.

●●●

بالتوازى مع هذه المحافظة السياسية، التى تبقى صناعة السياسات بعيدا عن أيدى المواطنين وتبقى الدولة فوق الشعب، تغلب على المواد المحافظة الاقتصادية/ الاجتماعية، ومن ذلك اللجوء لصياغات عامة، مبهمة، لا تترتب عليها مسئوليات وواجبات محددة للدولة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مواد ٥٢، ٥٦، ٥٧، ٦٠)، كما يخلو الدستور من أى مواد تبين آلية تحصيل هذه الحقوق، وكيفية قيام المجتمع بواجبه فى الدفاع عنها إزاء السلطة إذا ما هى تجاوزت وأهملت الحقوق على النحو الذى كان قائما، وهى المشكلة التى تعاملت معها بعض الدساتير الحديثة (كدستور البرازيل) بالنص على آليات تحصيل هذه الحقوق.

ويبدو انحياز المشرع للنخب واضحا فى تعريفه لمستحقى الحقوق، كما فى تأكيده على حق ممارسة الرياضة (مادة ٦١)، والذى انشغل فيه المشرع بالتأكيد على واجب الدولة فى «اكتشاف الموهوبين رياضيا ورعايتهم» (وهى مهمة القطاع الخاص بالأساس، ومقصده البطولة) عن توكيد مسئوليتها فى إيجاد البنية التحتية التى توسع من قاعدة المشاركة (وهو واجب الدولة لو انحازت لحقوق الأغلبية لا النخب)، وكذلك فى حديثه عن الأزهر والذى ضمن فيه لا استقلال المؤسسة وإنما استقلال شيخها، بتحصينه ضد العزل وإن كان عن طريق مؤسسته (مادة ٤).

لم يخل الدستور - مع ذلك - من إيجابيات، كإشارته لفكرة «الثروات الوطنية» التى يحظر تحويلها لملكية خاصة (مادة 16)، وتخفيف القيود الخاصة بتكوين الجمعيات والأحزاب (مادة 48)، غير أنها إيجابيات لا تناقض هذا الطابع النخبوى للدستور، إذ تقتصر الثروات الوطنية على مياه النيل والموارد المائية، على نحو يتجاهل المشكلات الاجتماعية المتعلقة بخصخصة الساحل الشمالى بكامله على سبيل المثال، كما يستثنى تخفيف شروط التكوين فى المادة 48 النقابات العمالية، ولا يضمن تعددية النقابات.

●●●

تأتى كتابة هذا الدستور فى أعقاب ثورة مارس المصريون فيها بغير وسيط سلطانهم السياسى، وتتوازى مع حركة احتجاج اجتماعى- ربما تكون الأوسع فى التاريخ الحديث- تصر على تحصيل الحقوق والاقتصادية والاجتماعية وكسر احتكار النخبة للدولة، وتأتى بنية الدستور - مع ذلك - شديدة المحافظة، على نحو يعبر بدقة عن الانفصال القائم بين الساسة - على توجهاتهم المختلفة الإسلامية والمدنية- والمجتمع، ويؤكد استمرار الصراع لا بين الإسلاميين والمدنيين، وإنما بين المواطنين ودولة الخبراء أو النخبة، والتى ورثها شعب مصر من النظام المخلوع.

الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

مقالات في الإبداع (1) تعريف الإبداع…….. بقلم: مهندس / محمود صقر


الإبداع من المعاني التي تم اختزالها وابتذالها، بما يدعونا للعودة لمعنى الإبداع.
ولنكن مبدعين في تعريف الإبداع، فلن نلجأ إلى التعريفات الجاهزة، ولكن لنعد إلى الإبداع كحالة إنسانية يحتاجها الإنسان في أمرين أساسيين. 


الأمر الأول: تلبية حاجة الإنسان في أن يرى الوجود جميلاً . وينبثق عن تلك الحاجة، الإبداع في مجال الفكر، والفن، والفلسفة، وسائر العلوم الإنسانية، …………


والأمر الثاني : هو تلبية حاجة الإنسان في أن يتحدى قوانين الطبيعة ويطوعها لتلبية حاجاته، والوصول إلى رفاهيته .
وينبثق عن تلك الحاجة ، الإبداع في مجال الصناعة ، والطب ، والزراعة ………….

بهذا النوع من الإبداع يستطيع الإنسان أن يتحدى قانون الجاذبية ويطير ، أو يطوع الأثير فيتواصل مع إنسان في أقصى حدود الأرض ، ويستطيع أن يعالج المرض بالطب والدواء ………..
إذاً معنى الإبداع يتسع لكل ما يجعل الوجود جميلاً ونافعاً .

وكل فنان أو فيلسوف أو طبيب أو زارع أو صانع يسهم في هذا المجال فهو من أهل الإبداع الذي يجب أن تحتفي به البشرية .
الحاجة الأولى حاجة جمالية والجمال قيمة وحالة وجدانية تختلف من نفس إلى نفس ، ومن بيئة إلى بيئة ، ومن عصر إلى عصر ، ولكنها في كل حال تنبثق من منظومة القيم السائدة في المجتمع . فلا يمكن أن يرى المجتمع شيئاً جميلاً – حتى وإن كان جميلاً في ذاته – إذا اصطدم بقيم المجتمع ، مثال ذلك التماثيل العارية التي اشتهرت بها فنون اليونان والرومان ، برغم أنها جميلة في ذاتها من حيث الاداء والدقة الفنية ، لا يمكن أن تكون فناً جميلاً في المجتمع الشرقي .
والفلسفة الوجودية قد تلقى رواجاً في أوربا ، ورفضاً في الشرق . 


أما الحاجة الثانية فهي ليست مجال خلاف بين البشر ، فالكل يريد أن يستفيد مما وصل إليه غيره من إبداعات في مجال تطويع الطبيعة لخدمة ورفاهية الإنسان .

بناءاً على هذا الفهم للإبداع نستطيع أن نؤكد أنه ليس كل شئ جديد وغير مسبوق - وهذا هو المعنى اللغوي للإبداع – يعتبر إبداعاً بالمعنى الاصطلاحي إلا إذا كان يضيف شيئاً جمالياً في الوجود ، أو يضيف شيئاً في خدمة الإنسان وتحقيق رفاهيته .
بهذا الفهم للإبداع نستطيع أن نؤكد أيضاً أن الفنون بشتى مجالاتها المقرؤة والمسموعة والمنظورة ، تمثل حاجة من حاجات الإنسان الأساسية في الوجود ، لأنها تشكل مظهراً من مظاهر الجمال في الوجود .

وتربية الشعوب على حب الجمال وتذوقه ، يطبع في ثقافة الشعب نزوعاً إلى الإحسان في العمل ، وتوخياً للكريم من العادات .
إذا اتفقنا على هذا الفهم للإبداع ، والذي يتسع ليشمل كافة المجالات التي تضيف للوجود جمالاً ونفعاً ، مع الاعتراف بأن الجمال حالة وجدانية تختلف باختلاف النفوس والشعوب والأزمان .
فسيكون سهلاً علينا أن نناقش في المقالات التالية بهدوء وأسلوب علمي ، حالة الغليان المجتمعي التي تشهدها بلادنا حول حرية الإبداع .

حب الجمال…… بقلم : مهندس / محمود صقر


التربية على حب الجمال وتذوق الفنون ليست ترفاً ولكنها ضرورة تربوية واجتماعية.
فالتربية على رؤية مظاهر الجمال فيما أبدعه الله وفيما سوته يد الإنسان، ومحاولة الوقوف على أسرار الجمال فيها، والتأمل فيما يتجلى فيها من تكوين محكم، وتنسيق بديع، وفيما تضفيه على ما حولها من ظلال وأضواء، كل هذا يشحذ في الإنسان قوة الملاحظة، وصفاء الفكر، ورهافة الحس، وتنمية الذوق، وتزكية النفس.

وهذه التربية التي ندعو إليها هي عينها التي ربى الله تعالي عليها المؤمنين به من خلال آيات القرآن.
وتأمل معي قوله تعالى : " أنظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه "
هل نحن نفلح الأرض ونزرع الزرع كي ننظر إليه أم لناكله وننتفع بتجارته ؟

وتأمل قوله تعالى " والسماء بنيناها وزيناها" فهل السماء بنيت كضرورة من ضروريات بناء الكون؟ أم هي للزينة؟
في نظرة الإسلام للكون كلا الأمرين مطلوبين، المنفعة المادية، والاستمتاع بالجمال.
 


ولتأكيد المعنى ، تأمل معي قوله تعالى : " وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) " النحل ( 5 – 8 ) .
فالجمال عنصر أصيل في نظرة الإسلام فيما تقع عليه العين، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب، بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات، تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني.


والتربية الإسلامية على حب الجمال لا تقف عند حدود المنظور والمسموع والمحسوس فحسب، بل تتخطاه إلى الخلق الإنساني، فالمتأمل في خطاب القرآن يلاحظ أنه يصف العديد من الأخلاقيات بوصف الجمال، مثل " الصبر الجميل". " الصفح الجميل". " الهجر الجميل". " السراح الجميل "، وكان من دعاء النبي (ص) "اللهم جملني بالتقوى، وزيني بالحلم."
ومع تجميل الخلق، تجميل السلوك الإنساني "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ " لقمان ( 19)
و"تبسمك في وجه أخيك صدقة "


وعليه فإن نظرتنا المنبثقة من نظرة الإسلام للجمال تتغلغل في كل دقائق حياتنا فيما تقع عليه العين أو تسمعه الأذن أو تشمه الأنف أو تلمسه الحواس، وكذلك في كل خلق إنساني نبيل يتمثل في حسن المعاملة، وفي كل سلوك إنساني يتعود على الإحسان في كل شئ من أعماله اليومية.
وبناءاً على هذه النظرة نصل إلى خصوصيتنا في رؤيتنا للجمال والتي تتمحور حول شمولية الجمال لحركة الإنسان في الحياة من ناحية ومن ناحية آخرى مهمة أن الجمال عندنا لا ينفصل أبداً عن الأخلاق، فالقيمة الجمالية تنضبط بالقيمة الخلقية، والقيمة الخلقية تتزين بالقيمة الجمالية.

نقول هذا ونحن على علم كامل بأن فلسفة الجمال بالمنظور الغربي ، تجعل منه قيمة قائمة بذاتها لا تقبل توجيه أو هيمنة القيمة الأخلاقية ، بل إن القيمة الجمالية في المفهوم الغربي قد تفقد قيمتها ومعناها إذا هيمنت عليها القيمة الأخلاقية.

وهذا أيضاً يمثل نقطة نزاع جوهرية في حرية الفن بين من يتبنى فلسفة الجمال بالمنظور الإسلامي ومن يتبناها بالمفهوم الغربي.
ونرى أن حركة المجتمع نحو النهضة المنشودة لن تؤتي ثمارها بغير الاهتمام بهذا الجانب الجمالي المنضبط بالخلق والسلوك.
لأن المجتمع الذي يعتاد على سماع ورؤية الأشياء القبيحة في شوارعه ووسائل إعلامه سيظهر حتماً أثر هذه المناظر في أفكاره وسلوكه .

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

تطبيق الشريعة الإسلامية يحتاج إلى ثورة!………… حازم علي ماهر

 

جرت العادة في مصر عند الحديث عند أي تعديل للدستور أو عند وضع دستور جديد، أن يكون التركيز منصبًا على قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو أمر وإن كان يعتبر مؤشرًا إيجابيًا على تمسك المصريين بشريعة دينهم، وعدم استطاعة أحد نزع حُب هذه الشريعة من قلوبهم، إلا أنه يكشف كذلك دائمًا عن العديد من الجوانب السلبية الخطيرة والمتجددة في منهج التعامل مع هذه القضية الأساسية، والتي تحتاج إلى ثورة فكرية تجديدية للخلاص من هذه السلبيات، وهي:
  1. عدم وضوح المقصود بمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية عند الكثيرين؛ فمنهم من يضيق به حتى يحصره في “الحدود” و”فرض الحجاب على المرأة” وإطلاق اللحية بالنسبة للرجال (وهذا أمر يتساوى فيه بعض الذين يسمون بـ “السلفيين”، وكذلك بعض “العلمانيين”)، ومنهم من يتوسع فيه إلى درجة المساواة بينه وبين مفهوم “الحل الإسلامي” الشامل والذي يتعدى الجانب القانوني إلى ما عداه من جوانب الشريعة الأخرى.
  2. تصور أن الشريعة الإسلامية هي كيان تشريعي جاهز تمامًا للتطبيق، ولا تحتاج لاجتهاد جديد، أو حتى تدرج لفرضها على الناس، باعتبار أنها اكتملت باكتمال رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾ (سورة المائدة: 3).
  3. تصور أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يتم إلا عبر نص دستوري واضح ومحدد ينص على مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع، مما يجعل كل مساس بالدستور ينتج عنه معركة شرسة بين المؤيدين لتطبيق الشريعة والمعارضين له، تؤدي دائمًا إلى غفلة عن نصوص دستورية أخرى هي ذاتها قد تحول دون التطبيق الصحيح للشريعة بل ودون النهوض بالوطن نفسه، مثل تلك النصوص التي من شأنها ترسيخ الاستبداد والحكم الفردي، وتقنين الاعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم.
  4. عدم الإدراك الصحيح للبيئة السياسية والتشريعية والقضائية التي يراد تطبيق الشريعة الإسلامية فيها؛ فقد يتصور البعض –على سبيل المثال- أن المشكلة الأساسية والعائق الأكبر الذي حال دون تطبيق الشريعة هو أن نص المادة الثانية من الدستور يتحدث عن “مبادئ الشريعة” كمصدر رئيسي للتشريع، وليس عن “أحكام الشريعة” أو عن  ”الشريعة الإسلامية” بدون إضافة مبادئ أو أحكام، غافلين عن أن المشكلة الحقيقية لم تكن في النص الدستوري نفسه بل كانت تتمثل في انعدام الإرادة السياسية لتطبيق الشريعة، ووجود حاكم فرعوني استخف المحكومين فأطاعوه، وأن هذا الأمر –لا غيره- هو الذي دفع بالمحكمة الدستورية العليا إلى تحجيم النطاق الزمني والنطاق الموضوعي لنص المادة الثانية من الدستور، فجعلتها لا تسري على القوانين السابقة على نفاذ هذا النص بعد تعديله سنة 1980، وضيقت من مفهوم مبادئ الشريعة الإسلامية فحصرته في الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة وحدها، وجعلت الخطاب في النص موجهًا للمشرع وحده وليس للقاضي كذلك، وبما أن المشرع –أي مجلس الشعب- كان تحت الهيمنة الكاملة لرئيس الدولة الذي هو نفسه رئيس السلطة التنفيذية، فإن المشرع لم يتحرك قيد أنملة نحو تفعيل هذا النص، فبقي شبه منعدم الأثر يستدعى فقط عند أي تعديل دستوري لإلهاء المواطنين عن إصدار المزيد من النصوص السالبة لحرياتهم وكرامتهم!
وإذا كانت هذه هي السلبيات -باختصار- فما هو السبيل إلى المنهج الصحيح في النظر إلى قضية تطبيق الشريعة الإسلامية؟
يحتاج الأمر إلى ثورة حقيقية للتخلص من تلك السلبيات والتوصل إلى التطبيق الصحيح المنشود للشريعة الإسلامية، ويمكن تلخيص معالم هذه الثورة في النقاط الآتية:
  1. الوعي بأن الشريعة الإسلامية وإن كانت قد اكتملت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تطبيقها على الواقع يحتاج إلى وعي واجتهاد وتدرج في التنزيل حتى لا يساء تطبيقها فيردها الناس جملة واحدة.
  2. أن ندرك أن العبرة في الإلزام بتطبيق الشريعة الإسلامية ليست بالضرورة في وجود نص دستوري حاسم وجازم يضمن هذا التطبيق، بل إن العبرة تتمثل في وجود رأي عام قوي وواعي يؤمن بالهوية الحضارية الإسلامية للوطن، ويضمن هذا التطبيق ويحميه حتى لو كان النص الدستوري يكتفي بأن “الإسلام دين الدولة” فهذا وحده كافٍ للاستناد إلى مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع باعتبار أن الدين الإسلامي لا يمكن فصل الشريعة فيه عن العقيدة، فضلا عن أن الوضع في مصر قد تغير الآن وأصبحت هناك إرادة سياسية معلنة بتبني تطبيق الشريعة في ظل وجود رئيس للدولة ينتمي إلى جماعة إسلامية كبيرة، واحتمالية وجود أغلبية برلمانية إسلامية في مجلس الشعب المقبل من السهل عليها –حينئذ- سن قوانين تستمد من الشريعة الإسلامية أيا كانت صيغة نص المادة الثانية من الدستور.
  3. أن ندرك أن الشريعة الإسلامية ليست حدودًا وحجابًا للمرأة فقط، فهي شبكة مترابطة من  عقيدة وشعائر (عبادات) وأخلاق ومعاملات، ولن يفلح أي تطبيق يتغاضى عن أي من هذه المكونات، ولاسيما العقيدة التي تحرم الشرك بالله سبحانه، ومن ثم تستلزم القضاء على “الشرك” الذي حال دون التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية، وهو “الاستبداد” الذي فضلا عن أنه يدمر الأخلاق، فإنه يمثل منازعة لله في حكمه، ويجعل من حاكم البلاد وكأنه إله يقول للشيء كن فيكون، مما جلب التبعية والفساد للبلاد، فأذل وأفقر العباد.
  4. إدراك أن فشل جميع تجارب تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحديث كان ناتجًا –في الأساس- عن التركيز المبالغ فيه على الحدود الشرعية التي تمثل الجانب العقابي في التشريع الإسلامي وعلى الاهتمام ببعض الجوانب الفرعية والشكلية الأخرى، غافلة عن أن الأولى كان البدء بتحرير الإنسان أولا من “شرك” الاستبداد، وإقامة الدولة العادلة الحرة المستقلة، والتي تحفظ للإنسان كرامته وحريته، وتضمن له عيشة هنية سوية، وبعد ذلك وليس قبله تطبق الحدود التي تبقى سياجًا منيعًا تحول دون تضييع مكتسبات تطبيق الشريعة الإسلامية وتحقيق مقاصدها.
  5. ويبقى بعد ذلك الإيمان بحقيقة أن تطبيق الشريعة الإسلامية في النهاية هو تطبيق “بشري” لنصوص إلهية، ومن ثم فهو سيكون دائمًا عاجزًا عن تحقيق الفردوس الأرضي لأن هذا سينافي سنة إلهية قضت بأن الإنسان خُلق في “كَبَد” ومشقة، وأن كل بني آدم خطاء، وأن واجبنا فقط أن نسعى غاية وسعنا إلى التخفيف على الناس والتيسير عليهم في إطار الالتزام بمرجعية الشريعة الإسلامية وبما يحقق مقاصدها ومكارمها.

الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

هل يَفُك مُرسى عُقدة الإخوان؟ …………… مصطفى كمشيش



 خرج الرئيس مرسى من (ضيق) تنظيم الإخوان إلى (رحابة) العمل العام, فقد كان من قبل أحد المسئولين عن التنظيم (فقط) فأصبح مسئولاً عن الدولة (كلها)، ومعطيات التنظيم غير معطيات الدولة، وإدارة (تجانس) التنظيم تختلف عن إدارة (تنوع الدولة)، وخطاب التنظيم ووسائله وآليات اتخاذ القرار فيه جد مختلفة عن خطاب وسياسة لعموم الناس, ودرجة استجابة (عموم) الناس لن تكون كدرجة استجابة (أعضاء) التنظيم..
لقد صرح الفارس النبيل (أبو الفتوح) من قبل أنه تلقى اتصالاً هاتفيًا من د. البرادعى، قال خلاله إن الرئيس لم يوجه له أى دعوة للقائه منذ فوزه فى انتخابات الرئاسة, وقال أبو الفتوح إنه التقى بالرئيس قبل جولة الإعادة حينما كان الرئيس مرسى يسعى لحشد مؤيدى أبو الفتوح لمناصرته, لكن د. مرسى لم يتصل به منذ أن فاز.. ودعاه (النبيل) إلى لقاء الرموز السياسية والوطنية ويتحاور معهم لما فيه صالح الوطن.
وحسنًا فعل الرئيس مرسى حين استجاب أخيرًا, ودعا رموز القوى السياسية للقاء معه, وأعتقد أنه استدراك جيد من الرئيس, وخاصة فى ظل الظروف التى يمر بها الوطن والتحديات الضخمة داخليًا وخارجيًا.. وعلى اعتبار خلفية الرئيس مرسى الإسلامية فإنه أولى من غيره للالتزام بمبدأ (لأنه ليس بحديث): ما خاب من استخار ولا ندم من استشار.. ولا نستطيع أن نزايد على الرئيس حين نُذكر بأمر الشورى الصادر من رب العالمين لسيد الخلق (المعصوم) حين قال سبحانه: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين[آل عمران:159], وقال سبحانه: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] سورة الشورى: آية 38‏.
كان الإخوان يعانون من عدم استجابة الأنظمة لهذه القيم, ودومًا كانوا يطالبون بها, وحينما أصبحت فى محل الاستحقاق لا المطالبة لم تحتمل (بعض) القيادات (قدرًا من الاختلاف) من بعض الرجال والشباب من أبناء التنظيم, مما بعث برسالة سلبية للمجتمع مفادها أنه إذا كانت قيادة الإخوان لم تحتمل اختلافًا (ما) من بعض شبابها ولم يكن علاج الاختلاف إلا بالفصل مع وجود مساحة للمشترك قد تصل إلى90% - فكيف يتعاملون مع غيرهم حيث لا تتجاوز مساحة المشترك 10%؟.
شباب إلكترونى
كثير من شباب الإخوان يتعامل مع شبكة الإنترنت, وقد لا يستطيع أن يتريث فى مساهمته التى يكتبها, أو يُقلب النظر فى منافعها وأضرارها, وأغلبهم يتعامل مع مخالفى الإخوان بحدة وعصبية, فلا يجد فى البرادعى إلا قبلة طبعها على خد أنجلينا جولى (قال أنصار البرادعى إنها بروتوكولية فى الحفلات), لكنه لا يتوقف بإنصاف مع خطاب د. مرسى لبيريز (قال أنصار مرسى إنه بروتوكولى فى الخطابات)، والإنصاف كان يقتضى القول إن هذه وتلك سيئة بنفس المقدار والدرجة.
لقد خاض شباب الإخوان هجومًا ضاريًا على معارضى الرئيس, وهم يتصورون أنهم (يُحسنون) صنعًا, ولم أدر كيف تحول شباب الإخوان (الخلوق) الذى تربى على مائدة القرآن والسنة إلى هذه الحدة والسخرية, فكم سخروا من حمدين صباحى (واحد خمنا) ومن البرادعى (وقبلته لأنجلينا جولى)، ومن أبى الفتوح وإخراجه من الجماعة, ومن القضاة ومن غيرهم.. لقد استحضر بعض شباب الإخوان الحديث الصحيح حينما قال صلى الله عليه وسلم لحسان ابن ثابت (اهجهم وروح القدس معك) دون إدراك الفارق الجوهرى والكبير بين هجاء حسان بن ثابت (للكفار) وهجاء شباب الإخوان (لبنى الأوطان).. حيث تعكس هذه القضية إشكالية ثقافية ضخمة, لعل الرئيس مرسى بحواراته مع القوى الوطنية يفككها فى عقلية كثير من شباب الإخوان (بل ولدى بعض رجالهم)، وهى استدعاء الآيات والأحاديث فى غير موضعها.
نفهم أن الدين هو المكون الرئيسى للرصيد الفكرى والمعرفى والثقافى لدى كثير من الإخوان, لكن يجب التفرقة بين آيات وأحاديث تتحدث عن صراع بين المشركين والمؤمنين لا يجوز الاستشهاد بها البتة فى حديث عن أبناء الوطن الواحد الذى أغلبه من المسلمين.. لقد أخطأ الإخوان (وغيرهم) كثيرًا فى المشهد السياسى المصرى منذ قيام الثورة حتى الآن,  وبدأت بعض الاعترافات البسيطة من الإخوان (وهذا نهج جديد) بهذه الأخطاء, فقد سمعنا د. مرسى أثناء الحملة الانتخابية يتحدث عن ثلاثة أخطاء (وقال مازحًا: خطأ كل شهر)، منها تشكيل الجمعية التأسيسية, والعجلة فى التصريح بعدم تقديم الجماعة مرشح للرئاسة, وتكلم د. البلتاجى عن تراجع الإخوان عن نجدة إخوانهم الثوار فى ملاحم محمد محمود وقصر العينى وغيرها, ثم عن شرعية البرلمان لا شرعية الميدان ونزول الإخوان لحراسة مجلس الشعب, ثم نزولهم فيما سُمى "جمعة الحساب" مما أدى للتشابك مع القوى التى سبقت وأعلنت النزول, وهكذا.
حينما عارض معارضون مثل هذه التصرفات (التى أقر الإخوان لاحقًا بأنها كانت خطأ) لم يسلم (عند معارضته إياها) من سهام نافدة, ورماح مصوبة, واتهامات شتى, دون أى إدراك (متواضع) أنهم (أى الإخوان) بشر يصيبون ويخطئون!!.
بعد اللقاء
لقد تحدث الأستاذ حمدين صباحى (ولتختلف معه ما شاء الله لك أن تختلف) بعد لقاء الرئيس عن مصر بأنها لا يمكن أن تكون علمانية, وعن ضرورة دعم ومساندة الرئيس (بالاتفاق معه حينًا وبالاختلاف أيضًا لتقويم مساره البشرى), وتحدث عن أن نجاح الرئيس هو نجاح لمصر والثورة وعن ترحيبه الفورى باللقاء لكسر حدة الاستقطاب, وعن ضرورة التوافق الوطنى, وأنه كما لا يجوز إقصاء غير الإسلاميين فلا يجوز أيضًا إقصاء الإسلاميين, وغير ذلك من الكلام الموضوعى.. كل ذلك حدث بلقاء واحد, فكيف لو أعقب اللقاء لقاءات, وكيف لو تم قبول بعض الاقتراحات لتتحول اللقاءات من شكليات إلى واقع ملموس؟, سيؤدى ذلك إلى تطييب قلوب الناس وإزالة هواجسهم ومخاوفهم, وكيف لا؟ وربنا ومولانا الخالق الأعلم بنفوس وقلوب من خلق قال: (ادفع بالتى هى أحسن, فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم), وهو القائل سبحانه (فبما رحمة من الله لنت لهم) أفلا يجب أن نلين نحن؟.
هل يتصور شباب الإخوان وبعض رجالهم أن السخرية والتهكم والهجوم ورمى التهم يُمكن أن يلطف الأجواء ويطيب الخواطر ويحقق سلامة المسيرة؟، هل يمكن أن يحول هذا النهج الخصوم إلى محبين أو محايدين؟، لا أدرى كيف تحول د.عصام العريان الذى كان يحظى بتواصل واحترام وتقدير (يستحقه) من كثير من القوى السياسية إلى هذه العصبية, وكذلك الجزار وأخيرًا البلتاجى (وكلهم كانوا رموزًا إصلاحية بامتياز)؟..
لقد سعى الإخوان بالتحالف الانتخابى قبل انتخابات مجلس الشعب, وعند تشكيل الجمعية التأسيسية إلى إشراك (الآخر) معهم, لكنه لم يتجاوز الشكل (إلى المضمون) لأن الإخوان (فى تركيبتهم الثقافية) يتصورون أن فهمهم هو أرقى الأفهام، وأنهم (لانحيازهم إلى الدين) ينحازون إلى (المُطلق)، وكيف لأحد أن يختلف مع (المُطلق)؟، دون إدراك أنهم ينحازون إلى (فهم معين للدين), كما أن مساحة الاجتهاد هى مساحة (حرة) لم يقل فيها الإسلام قولاً قاطعًا (كالحديث عن الدستور والتأسيسية ومجلس الشعب ونزول الميادين والسياسات الاقتصادية والخيارات المجتمعية)..
حينما قال د. البلتاجى إن ممدوح حمزة طلب منه المشاركة فى مشروع النهضة, ففضحه على الملأ, وكان الأجدى به أن يقنع إخوانه بإشراكه كسرًا لخصومته (وقبل أن يطلب), وكان من الممكن أن تسع صدور الإخوان ومقاعد السلطة بعض الصحفيين والإعلاميين والسياسيين المعارضين لمبارك لعلهم يجدوا (فى دولة الإخوان) ما لم يجدوه فى دولة مبارك حتى لا يظلوا على حالة عنادهم ومعارضتهم..
لقد أحسن من أشار على الإخوان بأهمية إشراك عصام سلطان وأبو العلا ماضى (صاحبا الخلاف الأشهر مع الإخوان منذ 1996) فى الجمعية التأسيسية ومحمد محسوب فى الوزارة.. هل يمكن مقارنة مواقف هؤلاء الآن مع مواقفهم السابقة؟.
لقد قلت يومًا فى أكثر من مجال (مقال وخطبة وحلقة فضائية) إن سيد الخلق بسط رداءه عند وضع الحجر الأسود ليسع الجميع, وكان ذلك قبل الإسلام, وأعطى مسلمة الفتح غنائم حُنين وحجبها عن (أنصاره), وكان بعض الناس يقولون (كان محمد أبغض الناس إلينا فظل يعطينا ويعطينا حتى صار أحب الناس إلينا)..
وأخيرًا: هل إذا أشرك الرئيس مرسى قوى المجتمع إشراكًا فعليًا (لا شكليًا) فى المشهد العام المصرى, وسار على دربه الإخوان فهل سيحقق ذلك (رضا) كل الناس؟، قطعًا لا.. فلم يؤمن برب العالمين (كل البشر), فكيف ببشر مع بشر.. لكنه سيقلل كثيرًا من الخصومة بل والعداوة.. لأنه بالعطاء ورحابة الصدر وسعة الأفق والسماحة وعدم التجريح تهدأ الخواطر وتطيب النفوس وتتحقق الأهداف..

الأحد، 4 نوفمبر 2012

رحلة مع “حكم ابن عطاء”: غلبة السنن الإلهية………… د. جاسر عودة

سَوَابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدارِ

 

بدأت الرحلة في السلوك إلى الله بحكمة ترشدنا إلى الرجاء فيه سبحانه وتعالى، وإلى عدم تأثر هذا الرجاء ولو بالخطأ الذي يرتكبه الإنسان، لأنه لا خطأ يعظم على رحمة الله سبحانه وتعالى إذا صحت التوبة.
ولكن أحياناً حين يبدأ الإنسان بداية جديدة تأخذه الهمة ويأخذه الحماس، ويحاول أن يغير نفسه وأسرته والمجتمع والعالم والكون في ليلة! أو يحاول ويجتهد أن يحصّل نوراً أو علماً أو فكراً أو خيراً أياً كان دون مراعاة لما أطلق عليه ابن عطاء رحمه الله هنا (أسوار الأقدار).
يقول ابن عطاء رحمه الله ورضى عنه: (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار). ما معنى هذا الكلام؟
الهمم: جمع همة، والهمة هي النشاط والنية في العمل والحركة، هذه الهمة حتى لو كانت سابقة، حتى لو كانت من سوابق ومعالي الهمم، فهى لا تخرق قدر الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
فهناك أقدار لله سبحانه وتعالى لن نستطيع أن نخرقها ولو ارتفعت الهمم. وهذه الأقدار هي سنن الله في كونه الذي خلقه متسقاً معها، وقال: {لن تجد لسنة الله تبديلاً}، وقال: {ولن تجد لسنة الله تحويلاً}.
فمن سنن الله تعالى: أنه خلق الحياة بنظام معين وخلق لها ظروف معينة تترتب عليها نتائج معينة، ولا يستطيع المسلم ولا غير المسلم أن يخرق هذه الأسوار مهما كان، أو أن يصل إلى النتائج دون المسببات والخطوات والظروف ونواميس الكون!
  • فمثلًا قال سبحانه وتعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}؟ هذه سنة الابتلاء، وهي من سنن الله تعالى في الناس، أي إذا ادعيت الإيمان والصدق فإن الله عز وجل سيبتليك، ولا تستطيع أن تتجاوز الابتلاء ولو علت الهمة، ولو حاولت أن تهرب، لأن هذه من سنن الله وقوانين الكون.
  • ومن سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه: قضية الوقت والتدرج. فالوقت شيء خلقه الله سبحانه وتعالى للبشر يدركونه كلُ حسب علمه، ولكن الوقت لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، ليس لله قبل ولا بعد ولا عنده زمان كذا أو ساعة كذا. هذا الشيء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى وإنما هو للبشر.
  • ومن سنن الله تعالى في الكون ومن طبائع الأشياء أن تأخذ الأهداف وقتاً حتى تنجز. لا نستطيع أن ننقل العالم من حال إلى حال في لحظة، ولا تستطيع أن تغير نفسك في لحظة، ولن تستطيع أن تغير الأشياء من حولك في لحظة. هذا لن يحدث. و(من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه)، كما يقول الفقهاء. وإنما لابد من العمل الدءوب، ولابد من التدرج، ولابد من الوقت.
هذه من أسوار الأقدار التي يتحدث عنها الشيخ. وقد يصيب الإنسان الذي يريد أن ينقل نفسه أو يغير العالم في دقائق – قد يصيبه اليأس؛ لأنه لم يدرك هذه السنّة، أن لله سبحانه وتعالى له في خلقه أقدار هى أسوار ليس في القدرة البشرية تجاوزها أو تخطّيها.
  • هذا، ومن أسوار الأقدار التي ينبغي للمسلم أن يضربها على نفسه أحيانًا، ما يسميه العلماء بـ (واجب الوقت)، أي أن هناك مرحلة من حياتك لابد فيها أن تعتني بالصغار أو الكبار -مثلاً- وتهتم بشئونهم بشكل قد يستوعب الكثير من وقتك وجهدك، وهناك مرحلة من حياتك لابد أن تعمل عملاً دءوباً حتى تكتسب مالاً لتتزوج مثلاً، وهناك مرحلة من حياتك لابد أن تسافر فيها، ويقتضي واجب الوقت عليك أن تتغرب، أو يقتضى الوقت عليك أن تتفرغ لتحصيل العلم، أو يقتضى الوقت عليك أن ترتاح إذا مرضتَ مثلاً لا قدر الله. ولا تستطيع في هذه الأمثلة وغيرها أن تخرق أسوار الأقدار، لا تستطيع أن تتصرف بعد المرض كما كنت قبل المرض، أو بعد السبعين كما كنت قبل الأربعين مثلاً، هذه كلها من أسوار الأقدار ومن مراعاة واجب الوقت.
ولابد أن تراعي واجب الوقت حسب ما تعلمه أنت من نفسك، فتعلم أن من واجب الوقت في هذه المرحلة من حياتك أن تتفرغ للعلم وللمذاكرة وللتحصيل مثلًا، وأن تبتعد عن كل ما يشغلك؛ لأن هذا هو واجب الوقت، أو تعلم أن أولادك في ضائقة مثلًا وواجب الوقت أن تساعد الأولاد وأن تضع من الجهد والوقت أكثر مما هو معتاد، لأن واجب الوقت اقتضى عليك أن تساعد الأخ أو الأب أو الأم أوالأخت أو الصغيرة.
وإذا تفرغت من هذا كله فلعل واجب الوقت أن تتفرغ للعبادة، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. ولن تخرق أسوار الأقدار في ذلك أيضاً. فلعلك تقول: (أنا عندي من الوقت ما يسمح أن أحفظ القرآن)، لكنك لن تحفظ القرآن في يوم ولا في شهر، وإن حفظته في شهر فستنساه في شهر، وإنما لابد أن تأخذ واجب الوقت وتراعي سنن الله في خلقه.
هذه السنن الإلهية وهذه القوانين الكونية لا تستطيع أن تحطمها بل هي التي قد تحطمك إن عارضتها. إذا أردت أن تقف أمام قوانين الكون وسنن الله عز وجل في الكون، فاعلم أن هذه السنن سوف تتعبك، (إن هذا الدين متين)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (فأوغل فيه برفق)، أي حتى اكتساب الدين له مراحله؛ لن تستطيع أن تتعلم كل الدين، أو تمارس كل الدين، يعني تنتهي من كل الواجبات والمندوبات في يوم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى): أى أن الذي يأخذ الدابة ويسافر بها ليل نهار لا يتوقف ولا يستريح ولا يعتبر بسنن الله ولا بأسوار الأقدار، هذه الدابة ستفنى حتى لو علت الهمة! وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أرضاً قطع)، أي لم يقطع المسافة المطلوبة، (ولا ظهراً أبقى)، أي لو كان هذا الظهر دابة حقيقية فستموت الدابة، ولو كان هذا الظهر هو أنت بجسدك المحدود، فسينهار هذا الجسد.
وهذه الحكمة ترشدنا إلى التوازن بين الهمة وبين القدر، بين ما تهم به وتتمنى أن تفعله بالكون وبين (أسوار الأقدار) وسنن الله عز وجل، وواجب الوقت، كما مر.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الهمم العالية، وأن يلهمنا معها الحكمة، حتى نتوازن في أفعالنا، وحتى لا نحاول أن نخرق أسوار الأقدار، ولا أن نتعب هذه الدواب التي أعطانا الله عز وجل إياها حتى تفنى. فإن (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار)، والبداية المتوازنة الهادئة –مع الهمة- أحرى أن تستمر وتدوم.

السبت، 3 نوفمبر 2012

النساء بين الشريعة والتغريب …….. رباب المهدى


 للأسف لن يستفز عنوان المقال معظم من سيقرأه. بل على العكس ربما كانت الغالبية مدفوعة لقراءته لمحاولة معرفة إذا كان سيدافع عن «الشريعة» أم عن المساواة على النمط «الغربى» تحت دعوى الحداثة. هذه الثنائية ظهرت جلية فى النقاش حول المادة ٦٨ من الدستور والخاصة بحقوق المرأة والمساواة «بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية»، والتى جاءت من دستور ١٩٧١ وتمت إضافة بعد الجمل الإنشائية عليها مثل حق الإرث ورعاية المطلقات والأرامل. 

هذه الثنائية بين من يتصورون أنهم حماة الشريعة من جهة وبعض المدافعين عن حقوق النساء من جهة أخرى هى قلب ما يسمى بالفكر الاستعمارى الذى من المفروض أن يرفضه معسكر حماة الشريعة وهى منظومة الاستشراق التى وضحها المفكر الراحل إدوارد سعيد. وهى ثنائية ليست بالجديدة كما يتصور ويروج بعض المدافعين عن حقوق النساء الآن وليست مرتبطة بصعود تيار الإسلام السياسى ولكنها ثنائية حكمت عمل الحركة النسوية ومنتقديها منذ نشأتها فى أوائل القرن الماضى وتجلت فى مفهومى الأصالة ــ التقاليد فى مقابل المعاصرة ــ الحداثة. هذه الثنائية ليست بين إسلاميين وعلمانيين كما يتصور ويروج المعسكران بل بين من يتبنى تصور ذكورى عن العالم تشترك فيه تيارات من الإسلاميين وغير الإسلاميين على حدٍ سواء، وتصور أخر يرى فى حقوق النساء جزءا من حقوق أفراد المجتمع ككل ويرفض الاستغلال والتهميش بكل أشكاله.

●●●

ومشكلة هذه الثنائية أنها تهين النساء وفى نفس الوقت تتعامل مع الشريعة باستخفاف. فتعامل معظم التيارات الإسلامية مع قضايا النساء يذكرنى بتعامل إدارة جورج دبليو بوش واليمين الأمريكى الذى صور الحرب على أفغانستان كمحاولة لتحرير النساء من قبضة طالبان. فى الحالتين يضع اليمين الدينى (سواء كان غربيا أو إسلاميا) الشريعة فى تضاد مع حقوق النساء، فنحن نريد المساواة التى لا تتعارض مع الشريعة وهم يريدون المساواة التى تحررنا من الشريعة وبالتالى فى التصورين تبقى الشريعة وكأنها قيد على النساء. 

وما لا يدكه هذا التيار بطرفيه (الإسلامى و«الغربى») إن الفكر النسوى فى تعدديته قد تجاوز هذه الثنائية. فالمساواة تتطورت من ما يسمى «المساواة كتشابهة» Equality in Sameness لما يسمى «المساواة فى الاختلاف» Equality in Difference. فى الأولى ــ وهو التصور السائد حتى منتصف القرن العشرين ــ المساواة تعنى الحصول على ذات الأشياء دون تمييز، أما فى الثانية ــ وهو ما طوره ظهور تيارات مثل الإسلامية النسوية ونسوية الملونات ــ فالمساواة تعنى مساواة فى الحقوق والواجبات تدرك اختلاف الاحتياجات ووضعية النساء. فمثلاً إعطاء المرأة إجازة وضع مدفوعة الأجر أو كوتة فى الانتخابات يتعارض مع الفكرة الأولى عن المساواة ولكنه فى صميم التصور الثانى لأنه يدرك أن فى محاولة مساواة الطرف الأضعف فى المجتمع تحتاج لبعض إجراءات التمييز الإيجابى ويدرك أيضاً اختلاف الأدوار الاجتماعية للنساء والرجال، ولكن لا يرى فى هذا الاختلاف مدعاة لحرمان النساء من أى من حقوقهن كمواطنات كاملات الأهلية (مثل الحق فى العمل أو الدور السياسى).

أما ادعاء بعض الأسلاميين أن هناك خوفا من المطالبات بحق متساو فى الإرث أو تعدد الأزواج (كما قال لى عضو من أعضاء التأسيسية) فهو عين الاستسهال فى التعامل مع الشريعة والذى يغفل منظور «المساواة فى الاختلاف». فلو أن هذه هى المخاوف من الممكن إيضاح أن قوانين الأحوال الشخصية والتى تطبق على الرجال والنساء سواء، مستمدة من الشريعة (على وسعها) وليس تخصيص مادة حقوق النساء لتكون هى المكان الوحيد التى تذكر فيه أحكام الشريعة، وكأنها  لمنع النساء من الحصول على حقوقهن.

نفس هذا الاستسهال والتفريط فى التعامل مع قضايا النساء والشريعة نراه فى باقى المادة وباقى مواد الدستور. فباقى المادة يذكر «حق الإرث» بالتخصيص وكأنه شكل التمييز الوحيد فى الحقوق الاقتصادية، ويذكر المرأة المعيلة والمطلقات والأرامل وكأنهن مجموعات مصمتة ولا فرق بين من تنتمى لطبقة عليا وعاملات المنازل مثلاً، ويتناسى أيضاً أن أشكال التمييز تتغير حسب الوضع الاجتماعى والمجتمع المحلى فأشكال التمييز الواقعة على نساء البدو تختلف عن الريف تختلف عن الحضر ونساء الطبقة البرجوازية فى مقابل نساء الطبقة العاملة.  وبناءً على هذه الاختلافات التى تتغير بتغير الزمان والمكان، على الدستور تأكيد المبدأ العام فى إقرار المساواة فى الحقوق و التمكين وليس تحديد جمل إنشائية لا تدل إلا على عدم دراية واضعيها بقضايا النساء وعدم إطلاعهم على المداخل المختلفة للتعامل مع التمييز ضد المرأة.

●●●

 فالمعسكران «المدنى» و«الإسلامى» فى التأسيسية لم يتراءى لهما أن يجعلا وضعية النساء وقضايا النوع الاجتماعى من القضايا الحاكمة فى الدستور أو ما يسمى «gender mainstreaming” بمعنى أن تكون فكرة المساواة ليست محصورة فى مادة واحدة مكبلة ولكن أن تشمل الدستور كله ويتم التأكيد عليها فى كل مواد الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل المساواة فى الفرص التعليمية والحصول على الخدمات الصحية والتأمينات والوظائف…إلخ. وهى أشياء على غير ما يتصور البعض يقع فيها تمييز كبير ضد النساء تنبهت له الدساتير الجديدة فتعاملت مع قضايا التمييز ليس على أنها قضية النساء ولكن على كونها قضية المجتمع ككل وبالتالى يجب أن تغزل فى الدستور ككل وليس فقط فى مادة لقيطة.

نعم كرمت الشريعة النساء ولكن أنتم تهينون الاثنين بإصراركم على وضعهم كضدين تماماً مثلما يفعل بعض من «الغرب» الذى ترفضونه.

الخميس، 1 نوفمبر 2012

السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية (طارق البشري) …عرض/ حازم علي ماهر


في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر بعد أن نجحت ثورة شعبها – حتى الآن - في إزالة رؤوس النظام الذي حرمها من حريتها ومن استقلالها السياسي والثقافي، يأتي كتاب "السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية" للمستشار طارق البشري المفكر والمؤرخ والفقيه القانوني الذي ترأس لجنة التعديلات الدستورية التي تشكلت بعد نجاح الثورة، وهو كتاب صغير الحجم عظيم النفع يتعرض فيه كاتبه لما أسماه "المشكل القانوني" الذي حدث في مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن، متتبعًا مسار استبدال المرجعية الوضعية بمرجعية الشريعة الإسلامية والعوامل التي أدت إليه والآثار الناجمة عنه، ويلخص الخبرة التاريخية التي يمكننا الاستفادة بها من تتبع ذلك المسار الذي استمر نحو قرنين من الزمان.