الخميس، 1 نوفمبر 2012

السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية (طارق البشري) …عرض/ حازم علي ماهر


في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر بعد أن نجحت ثورة شعبها – حتى الآن - في إزالة رؤوس النظام الذي حرمها من حريتها ومن استقلالها السياسي والثقافي، يأتي كتاب "السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية" للمستشار طارق البشري المفكر والمؤرخ والفقيه القانوني الذي ترأس لجنة التعديلات الدستورية التي تشكلت بعد نجاح الثورة، وهو كتاب صغير الحجم عظيم النفع يتعرض فيه كاتبه لما أسماه "المشكل القانوني" الذي حدث في مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن، متتبعًا مسار استبدال المرجعية الوضعية بمرجعية الشريعة الإسلامية والعوامل التي أدت إليه والآثار الناجمة عنه، ويلخص الخبرة التاريخية التي يمكننا الاستفادة بها من تتبع ذلك المسار الذي استمر نحو قرنين من الزمان.

الأثر السلبي للطرح السياسي لقضية تطبيق الشريعة الإسلامية
_______بعد أن يلفت الكاتب نظرنا إلى أهمية القانون كأحد المجالات الثقافية التي تصوغ العقل البشري، سواء عقول الأفراد أو العقل الجمعي العام الذي يربط الجماعة بآصرة وثقى، ينبه إلى أن الشأن الثقافي بصفة عامة يتجاوز بطبيعته الحدود القطرية لدولنا والحدود الزمانية لحاضرنا، ويرجع ذلك إلى أن حركية العنصر السياسي أسرع أكثر فاعلية في تكوين الدول منه في تكوين الثقافات.
ويخلص مؤلف الكتاب بعد ذلك إلى فكرة رئيسية مؤداها أن العنصر السياسي يفسد النظام القانوني إذا ما أراد حصره في نظام سياسي معين، أو صيغة حكم لدولة معينة؛ باعتبار أن ذلك من شأنه أن يستدعي قوة الدولة وسطوتها القاهرة لفرض نسق قانوني بذاته أو إزاحته تمامًا حسبما يتراءى للدولة صالحها الذرائعي، وبعيدًا عن العناصر الثقافية والتاريخية العامة التي تشكل سمة هذا النسق.
ويزيد الأمر وضوحًا حين يقول بشكل مباشر وصريح إن "تلكؤ استعادة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا كان بسبب أنها حُملت بمعان سياسية تتعلق بأنظمة الحكم؛ مما جعلها أدخل في سياسات النظم والحكومات من كونها تتعلق بالمجال الثقافي العام؛ لأنها صورت بحسبانها عنصرًا أساسيًّا من عناصر الصراع على تولي السلطة؛ ولأن من دعاة استعادة الشريعة من صورها هدفًا مرتبطًا بالوصول إلى الحكم".
ولهذا لاحظ "البشري" أن الحكومات عملت على معاداة الحركات الإسلامية المطالبة في الأساس بتطبيق الشريعة الإسلامية، في حين تركت المجال لكبار المختصين في الفقه والقانون يعملون على صياغة مشاريع للتشريعات الإسلامية، وأتاحت لهم الوصول إلى مراكز كبيرة في هيئات هذه الدولة في تخصصاتهم العلمية، وتركت لهم المجال لأن ينشطوا داخل هذه الهيئات لبلورة صياغات التشريعية المطلوبة، وتشهد على ذلك مشروعات القوانين التي قدمتها لجان مجلس الشعب المصري في الفترة بين عامي 1978 و1982م، ويشهد عليها كذلك ما صدر من مجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وما عقد من مؤتمرات، وضرب مثلا لهؤلاء المختصين بكل من الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والمستشار عبد الحليم الجندي.
وقد أدى صبغ الحركات السياسية موضوع استعادة تطبيق الشريعة الإسلامية بالصبغة السياسية إلى نقل موضوع المرجعية التشريعية برمته من مجال المتخصصين في الفقه القادرين على الجدل البناء المؤدي إلى الإثراء الفكري إلى مجالات الصراعات الفكرية العامة. ويعزو البشري -في موضع آخر من كتابه- هذه الأسباب المؤدية إلى تلك الصراعات الفكرية بجانب العنصر السياسي، إلى أن المشتغلين بالفكر السياسي والاجتماعي أو بالفكر الفلسفي، تشغلهم العموميات الفكرية وتصرفهم عن تفهمكيفيات المعالجات الفنية المتخصصة لهذا المجال الفقهي المتخصص، على عكس رجال الفقه والقانون في مجالي الفقه الإسلامي والقانون الوضعي؛ لأن كلا من الفريقين يعرف أصالة الفقه الإسلامي وصياغاته الفنية والبالغة أعلى مستويات الدقة، وكل منهما يعرف ويعترف بالحد الأدنى من الأسس التي تقوم عليها وجهة النظر المقابلة، وكل منهما مدرك الوسائل الفنية والمناهج التطبيقية التي تمكن من الملاءمة بين عناصر الثبات والتغير، ولذلك كان الحوار فيما بينهما أهدأ وأوغل في التفاصيل ودقائق المسائل، وأكثر قدرة على الوصول إلى الحلول، من ذلك الصخب العجيب الذي يجري التعامل به بين رجال الفكر السياسي والفلسفي. ولهذا يدعو البشري إلى أن يتولى فقهاء الشريعة الإسلامية وفقهاء القانون من العرب أمر هذا الحوار.
جذور المشكل القانوني في بلاد العالم الإسلامي
بعد أن يتعجب "البشري"من أن مناهج الفكر الحديث تنظر دائمًا إلى حركة الواقع وجموده بحسبانها السبب لحركة الفكر أو جموده، ولكن هذا الفكر ينتكس على منهجه عندما ينظر إلى واقع العالم الذي ساد فيه الفكر الإسلامي، فيرى في جمود الفكر سببا لجمود الواقع!
يقرر المؤلف أن الركود الفكري والتشريعي الذي حدث في أقطار العالم الإسلامي في خواتيم القرن الثامن عشر وفواتح القرن الذي يليه، كان – بوصفه ظاهرة ثقافية - أثرًا ونتيجة للركود السياسي والاجتماعي الذي انحدر إلينا على مدى القرنين أو القرون الثلاثة السابقة منذ نهايات حكم "سليمان القانوني"، وأن مشكلتنا على مدى القرنين الماضيين تتحصل في التضارب الذي قام بين عناصر ثلاثة سبق أن ذكرها في كتابه "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي" ويؤكد عليها هنا، وهي:
الأول: متطلبات النهوض والتجدد.
والثاني: وما نحتاجه من علوم الغرب وفنونه وصنائعه ونماذج نظمه مما هو لازم للنهوض والتحصن.
والثالث: هو ما يفرضه علينا الغرب بموجب تفوقه وسعيه للهيمنة وفرض السيادة.
هذا التضارب أربك خياراتنا فيما نستبقي من فكرنا ونظمنا الموروثة وما ندع، وفيما نطلبه من فكر الغرب ونظمه وما نرفضه، ونحن في هذا كنا نحتاج إلى الصيدلاني أكثر من حاجتنا إلى الطبيب.
كيف تحولت المرجعية التشريعية إلى القوانين الوضعية
ينفي البشري أن بداية الخروج عن المرجعية الإسلامية كانت في عهد محمد علي ويقرر أن محمد علي كان واعيًا بما تحتاجه نهضة الأمة من علوم الصنائع وفنونها والعلوم العسكرية وفنونها، وما يساعد ذلك من فنون الطب والطب البيطري، دون الحاجة إلى استيراد التشريعات والقوانين من الغرب، ولذلك أرسل بعثاته لاستيراد ما نحتاجه فقط في جانب العلوم الحديثة، واعتمد على السياسة الشرعية فيما يخص المجال التشريعي أو ما أطلق عليه "السياسة نامة".
ولكن الحال تغير في عهد خلفاء محمد علي حيث استبدلوا علوم الشرائع بعلوم الصنائع حين ازداد النفوذ الأوروبي وتزايد الوهن الإسلامي والذاتي، وصرنا منذ أربعينيات القرن التاسع عشر نأخذ بالقوانين الغربية بدلا من علوم الصنائع في ظل سعي الغرب إلى السيطرة وفرض الهيمنة واقتحام البيئات المحلية بفكره وأساليبه وأذواقه ونظمه، لا لتقوى البلاد التي يطمع فيها ولكن لتسهل قيادته لها، ولتشكل مادته الثقافية "مراسي" تستقبل سفنه الحاملة حضارته وثقافته وقواعد تتهيأ لهبوطه السياسي وإحكام سيطرته، والسعي في ذلك لتغييب الوعي والإدراك بالذات لدى البلاد المطموع فيها وشعوبها ليسهل الانصياع.. وكذلك كان دخول القوانين الغربية إلى بلادنا.
أثر استبدال المرجعية على النظام القانوني المصري
بعد أن يستعرض الكاتب -باختصار- مراحل تغلغل التشريعات الغربية في النظام القانوني السائد في الدولة العثمانية ومصريصل إلى أن الأمر قد آل إلى أن أصبح النظام القانوني والقضائي في البلد الواحد ذي السيادة التشريعية والقضائية الواحدة إلى ثلاثة نظم تشريعية وقضائية لكل منها مرجعية مختلفة، وهي: القضاء الشرعي، والمحاكم المختلطة (1875- 1949)، والقضاء الأهلي "ذو المرجعية الغربية". وقد أدى تنوع مرجعيات هذه الأنظمة إلى قيام "تعدد مختلف" فيما بينها وليس "تعدد مؤتلف"؛ بمعنى أن تعددها أفضى إلى التضارب بين أطرافه مما أفضى إلى الانتقاص والطرح لا الإضافة والجمععلى النحو الذي يؤدي إليه "التعدد المؤتلف"، مثل الذي قام عليه اختلاف المذاهب الإسلامية ذو المرجعية الواحدة وهي مرجعية الشريعة الإسلامية.
ولم يقتصر أثر تحويل المرجعية على إحداث هذا التضارب في النظم التشريعية والقضائية، بل إنه نظرًا لأن "التقنينات الأهلية" في بلادنا بأساسها الوضعي، لا تصدر عن المرجعية السائدة في الغرب؛ لأنها ينقصها ما يتوافر لهذه المرجعية السائدة هناك من مجال ثقافي يعكس جملة المسلمات الثقافية الوضعية التي صارت تاريخيًّا ذات تقبل اجتماعي وجماعي هناك بفكرة القانون الطبيعي وبمواثيق الحقوق السياسية والاجتماعية ذات الانتشار، بينما "التقنينات الأهلية"في بلادنا تصدر مستندة إلى شرعية وحيدة في بلادنا هي "مشيئة الدولة"، أي صارت الشرعية في المجتمع شرعية إجرائية فقط، تتعلق فحسب بما إذا كان التشريع قد صدر بالإجراءات المتعارف عليها في البلد المعني بتوقيع حاكم فرد أو مجلس نيابي توافرت في قراره الأغلبية العددية المطلوبة، ويخضع له القاضي والمفتي على السواء. وقد أدى هذا إلى تقوية سلطة الدولة الحديثة في بلادنا، بقدر ما إن فك عقالها من الخضوع لأية قيم ومفاهيم سائدة في المجتمع وبين الجماعة المحكومة، وكذلك أدى إلى أن الحكام مصدري هذه القوانين والنظم لم يكونوا مصدرين للتشريعات فقط، بل صاروا هم أنفسهم مصدر الشرعية، فكأننا استبدلنا مقولة الخليفة أبي بكر الصديق يوم تولي خلافة المسلمين: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم" وحولناها إلى "أطيعوني ما أطعت نفسي"، أو مبدأ: السيادة للحاكم. وزاد من هذا التأثير التجزئة السياسية التي حدثت في العالم الإسلامي إلى دول قطرية متعددة، مما أدى إلى التأكيد على التجزؤ القطري وتدعيم بقائه واستمراره.
محاولات استعادة المرجعية في عهود الاستقلال
يقرر المستشار طارق البشري أنه يمكن القول أن المرحلة بين عامي 1775و1875 بالتقريب هي المرحلة التي تغلغل فيها النفوذ الأوروبي في الأقطار العربية والإسلامية، وقد كان تغلغلا يغلب عليه الطابع الاقتصادي والسياسي، كما كانت مرحلة ورود التنظيمات القانونية والنظامية والمعارف الخاصة بعلوم الصنائع وفنونها.
ويمكن القول أيضا أن المرحلة من 1875 إلى 1925 تقريبًا وبشكل عام هي مرحلة اكتمال السيطرة الأوروبية على هذه الأقطار، وهي مرحلة شمول هذه السيطرة بالاحتلال العسكري، وبالممارسة المباشرة أو شبه المباشرة لشئون الحكم في هذه البلاد. ويمكن القول ثالثًا بأن المرحلة التالية بالتقريب وبشكل عام هي من 1925 إلى منتصف القرن العشرين كانت هي انحسار مرحلة السيطرة الغربية وانحسار الحكم الغربي المباشر أو شبه المباشر، وهي مرحلة ما عرف بـ"حركات الاستقلال السياسي" والظهور التدريجي لحكومات الاستقلال الوطني في هذه الأقطار والتي استمرت بالزيادة والنقصان عبر عقود من النصف الثاني لذات القرن.
وهذه المرحلة الثالثة تعتبر هي مرحلة الدعوة إلى "الاستقلال التشريعي" والتي عرفتها مصر في عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين وما تلاهما من عقود، وقد بدأت هذه المرحلة سنة 1933بدعوة السنهوري إلى تمصير الفقه والتشريع والتخلص من الاحتلال الفرنسي له، ثم بعقد "اتفاقية منترو الدولية سنة 1937" التي ألغت الامتيازات الأجنبية وحددت لذلك اثنتي عشرة سنة كمرحلة انتقالية تنتهي فيها المحاكم المختلطة في أكتوبر 1949، حيث بدأت حركة الاستقلال التشريعي وتم وضع القانون المدني المصري، إلا أنه جاء نصًا وضعيًّا مستقلاً، لم يتبع قانونًا أجنبيًا معينا ولا مدرسة أجنبية معينة، إنما اعتمد على علم القانون المقارن طبقًا لأحدث التشريعات المعمول بها في الغرب، ولم تكن صلته بالشريعة الإسلامية وفقهها إلا بمقدار الاستفادة من حلول لها فقهية وتطبيقية لعدد من المعاملات والعلاقات والأحكام مع الصياغات الفنية المناسبة، ومع ما يتفق مع أعراف الناس وعاداتهم المتبعة.
فالقانون المدني جاء معبرًا عن الثقافة القانونية المدنية الغربية، ولكنه مستقل عن أي من فروعها ومدارسها الثقافية، وعن أي من تشكيلاتها العينية والمؤسسية، وهو بالدقة استقلال تشريعي يرد على صورة الاستقلال السياسي الذي كان تحقق في هذه المرحلة، والذي عرفته بلادنا والبلاد المحيطة وقتها، أي أنه استقلال يدور في الإطار الغربي!.
وعلى الرغم من ذلك، يرى البشري أن القانون المدني الذي وضعه السنهوري كان يسير في طريق تحقيق الاستقلال التشريعي ولكن في إطار الممكن التاريخي وقتها، فنص في مادته الأولى على أنه إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن للقاضي تطبيقه، فهو يلجأ إلى العرف، فإذا لم يجد به حكمًا حكم "بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة"،وهذا نص مهم لأنه وضع العرف أولاً مدركًا أنه حسب الثقافة السائدة في المجتمع لا يوجد عرف يتوافر له ركن الإلزام إلا إن كان مصدره الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد عرف لجأ مباشرة إلى مبادئ هذه الشريعة، وجعل اللجوء إلى الشريعة مقدمًا على اللجوء إلى الوضعية الرجعية المتمثلة في القانون الطبيعي.
ويشير البشري بإيجاز إلى المناقشات التي دارت حول مشروع القانون المدني في مجلس الشيوخ سنة 1948 ويلاحظ أنها ركزت على مصدرية الشريعة الإسلامية، وأن ذلك النقاش لم يكن لا من رجال الأزهر والمعاهد الدينية ولا ممن يعرفون باعتبارهم علماء الدين المتخصصين في علومه وبحوثه، إنما غلب على غالبية –إن لم يكن كل- من أعدوا القانون وناقشوه أنهم من رجال القانون المحدثين مما تعلموا وتربوا في كليات الحقوق غير الأزهرية، ومن درسوا الشريعة في تخصصاتهم، ولم يكونوا ممن يتصلون بمذهب سياسي محدد أو حزب معين أو جماعة بذاتها، ولا كانوا من أنصار حكومة بعينها أو حزب معارض بعينه، إنما هم مصريون من المصريين يسعون إلى تحقيق الاستقلال المنشود لا من الوجهة السياسية والاقتصادية فقط، ولكن من الوجهة الثقافية أيضًا.
مصدرية الشريعة والوحدة التشريعية العربية
يعرج مؤلف الكتاب بعد ذلك إلى بيان العلاقة بين مرجعية الشريعة الإسلامية وتحقيق الوحدة التشريعية المنشودة بين الدول العربية، ويؤكد على أن مسألة المصدرية الشرعية للتشريع لا تتصل فقط بالتشكل الثقافي العام للأمة، ولا بمسألة الاستقلال والتبعية فقط، ولكنها متصلة بهذين الأمرين، فهي تتصل بموضوع الوحدة التشريعية للبلاد العربية، ويذكر أن هذه التوجهات بدأت منذ قامت حكومات الاستقلال الوطني في بلادنا، ومنذ قامت جامعة الدول العربية، وتعززت بعد سفور الوحدة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
ويضرب المؤلف مثالا على ذلك بأن مؤتمرات المحامين العرب منذ بدء انعقادها لم تخلُ من الدعوة إلى توحيد التشريعات العربية، وقد سيطرت على الداعين إلى تلك الوحدة فكرة أن التوحيد التشريعي هو من أفضل الخطوات لتحقيق الوحدة السياسية، وعلى الرغم من أن عددا من الباحثين قد تبنوا فكرة أن يكون القانون المدني هو الأساس في هذا التوحيد، وأن ينسج على منواله في الدول الأخرى، مثلما حدث في سوريا وليبيا، إلا أن الاتجاه الذي كان الأكثر إلحاحًا في دعوته –في رأي المؤلف- هو الذي اعتمد على اعتبار الشريعة الإسلامية هي أساس التوحيد، ويكفي أن واضع القانون المدني المصري الدكتور عبد الرزاق السنهوري قد أوضح في مقالته المعنونة: "القانون المدني العربي" أن الهدف الذي قصد إليه هو أن يكون للبلاد العربية قانون مدني واحد يُشتق رأسًا من الشريعة الإسلامية، ولكنه رأى أن هذا الهدف بعيد، ثم ذكر أن الأمر كان يحتاج إلى مرحلتين، أولهما استخلاص ما وصلت إليه الثقافة المدنية الغربية في آخر تطوراتها، وهذا ما تحقق بالقانون المدني المصري، وثانيهما وضع هذه الثقافة المدنية الغربية بجانب الفقه الإسلامي، وهذا ما تحقق في القانون المدني العراقي الذي وضعه السنهوري بنفسه، ثم ترد مرحلة التفاعل بين القانونين، مع وجوب عقد الدراسات المقارنة بين المذاهب الفقهية كلها، سنية كانت أو شيعية، أو خارجية أو ظاهرية، ثم عقد المقارنات بين فقه الشريعة والفقه الغربي، ثم يكون الهدف الذي نرمي إليه وهو تطوير الفقه الإسلامي وفقًا لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانونًا حديثًا يصلح للعصر الذي نحن فيه.. القانون النهائي الدائم لكل من مصر والعراق ولجميع البلاد العربية، إنما هو القانون المدني العربي الذي نشتقه رأسًا من الشريعة الإسلامية بعد أن يتم تطويرها.
ويذهب المستشار البشري أن ما دعا له السنهوري قد تحقق في مجمل الأعمال الجماعية والفردية  والبحوث التي أعدها الباحثون والعلماء في فروع القانون المدني بين فقه الإسلام وفقه الغرب، وذلك على مدى سنوات القرن العشرين جميعها، وقرر أنه –حسبما يرى- إذاتم جمع هذه الدراسات والبحوث وصنفت يمكن أن نستخلص من ذلك ما طلبه السنهوري من التهيؤ لإصدار قانون مستخلص كله من الفقه الإسلامي.
ويختتم البشري كتابه ببيان أننا نسير في إطار التوحد التشريعي بقدر ما ينهض في بعث تراثنا الفقهي وبقدر ما نستخرج منه ما يناسب زماننا من حلول وصياغات للنظم والأحكام والمعاملات، وبقدر ما نستطلع نماذج النظم والتعامل النافعة والحميدة التي ظهرت في الخارج ونتمكن من هضمها واستيعابها في الإطار المرجعي للثقافة الإسلامية ولمعايير الاحتكام والتقويم التي تتحدد بها مصادر الشرعية لدى العرب والمسلمين، وبمراعاة أن توحيد التشريعات لا يعني استبعاد التنوع؛ "لأن التوحيد يعني التشارك في الثوابت والأصول العامة، مع المرونة والقابلية للتنوع بما يناسب كل قطر وكل بيئة عربية، ويتوافق مع أوضاعها السياسية والجغرافية السياسية وخصائصها الاجتماعية النوعية. وترد مشاريع القوانين التي أعدتها لجان بمجلس الشعب المصري في الفترة من 1978 إلى 1982 في هذا السياق.
انتهيت من قراءة الكتاب وأنا تتزاحم الأفكار والتساؤلات في رأسي؛ ماذا لو كانت الحركات السياسية قد ركزت على مهمتها الأساسية بالعمل على تحقيق الاستقلال السياسي وتركت الاستقلال التشريعي والثقافي لأهله يعملون لأجله في صمت؟!
وماذا لو توجه الجهد في تطبيق الشريعة الإسلامية إلى الأمة بدلا من توجهه إلى الدولة، كما دعا المستشار طارق البشري -نفسه- من قبل منذ بحثه المعنون "منهج النظر في دراسة القانون مقارنًا بالشريعة" والذي قدمه منذ عام 1995م؟ هل كنا لا نزال جامدين في أماكننا "محلك سر" كما نحن الآن أم أننا كنا تحركنا إلى الأمام متخللين النظام القانوني في الدولة دون ضجيج واعتقالات وصراعات؟!
ما الذي يمنعنا من متابعة الجهود التي بذلت في أطروحات الدكتوراة وغيرها في المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي والاستفادة منها في تطبيق عصري للشريعة الإسلامية ينتقل تدريجيًّا إلى البلاد العربية والإسلامية فيوحدها تشريعيًّا على طريق توحدها السياسي؟
إن لو تفتح عمل الشيطان، ولكنها قد تقود إلى الاعتبار بدلا من ذلك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق