الثلاثاء، 28 يونيو 2011

ثورة مصر تبحث عن “بوصلة” ….. فهمي هويدي

أدري أنه من المبكر وربما من الظلم أيضا أن نتحرى حصاد الثورة بعد مضي خمسة أشهر فقط على قيامها، لكننا لا نستطيع أن نغفل إشارات وعناوين ظهرت في فضاء ما بعد الثورة، مسكونة برسائل ينبغي الوقوف عندها.

(1)
لم أصدق عينيّ حين وقعت على المشهد أمام مبنى التلفزيون المصري في «ماسبيرو»، إذ لا أخفي أنني حديث عهد بالمكان الذي ظللت ممنوعا من دخوله طوال نحو أربعين عاما، وقد فاجأني وأدهشني كم الخيام المنصوبة حوله وأعداد البشر الممددين على رصيفه، وحزام الأسلاك الشائكة الذي يحيط به وكم الجنود المدججين بالسلاح المرابطين على أبوابه والمنتشرين في طابقه الأرضي.
جاء من ساعدني على الوصول إلى مدخل التلفزيون. وإذ لاحظ دهشتي فإنه تمتم قائلا إن هؤلاء هم أهالي مدينة السلام الذين طردوا من محال إقامتهم ووعدوا بالحصول على مساكن بديلة، ولكنهم وجدوا أنفسهم يقيمون بمخيم أقيم في العراء. وحين لم يجدوا أحدا يحل مشكلتهم أو يستمع إليهم فإنهم قرروا الاعتصام أمام مبنى التلفزيون لكي يوصلوا شكايتهم.
حين تحريت الأمر قيل لي إنهم قضوا أربعة أشهر في المخيم وعاشوا في ظروف شديدة البؤس، فالمكان لا يختلف كثيرا عن حظائر الحيوانات، مياهه ملوثة وحماماته شديدة القذارة، وأكوام القمامة متناثرة في المكان مطلقة روائحها الكريهة وجاذبة إليها القطط والفئران.
قيل لي أيضا إن الأمر لم يختلف كثيرا حين انتقل بعضهم للاعتصام أمام ماسبيرو. ما جد عليهم هو شاطئ النيل الذي أصبحوا يغسلون عنده ويقضون حاجتهم فيه، ورغم أن اثنين ماتا غرقا أثناء الاستحمام في النيل وثالثة دهستها سيارة، فإن وجودهم في المكان أقنعهم بأنهم بذلك حملوا مشكلتهم إلى الشارع، وأعطاهم أملا في أن يرى المسؤولون المارون صورهم بعد أن فشلوا في إسماعهم أصواتهم.
حين دعيت إلى التلفزيون قيل لي إن موضوع الحوار هو «أسئلة الساعة» التي على رأسها السؤال: الدستور أولا أم الانتخابات أولا؟ من ثم فإن ذهني كان مشحونا بأصداء الضجيج الإعلامي المثار حول الموضوع، إلا أن صدمة المشهد الذي رأيته أمام مبنى التلفزيون أطارت من رأسي ما أعددته ورتبته من أفكار لمناقشة الموضوع، حتى بدا ذلك المشهد وكأنه دبوس تم غرسه في بالونة كبيرة فذوبها وأعادها إلى حجمها الضئيل الذي تعتصره الأصابع الواهنة، الأهم من ذلك أن المقابلة بين هم الناس الممددين على الرصيف وبين الضجيج الذي يملأ الفضاء الإعلامي في مصر حول أيهما أولا، هذه المقابلة جاءت كاشفة لاتساع وعمق الفجوة بين هموم الناس وحسابات النخبة.

(2)
الذين خرجوا إلى الميادين والشوارع وتصدوا للشرطة و"البلطجية" لم يخرجوا لكي يطالبوا بالدستور سواء كان أولا أم آخرا، ولا بالانتخابات. لم يخرجوا لتكون مصر ليبرالية أو مدنية أو إسلامية أو مهلبية. خرجوا فقط للأسباب التي تلمس واقعهم. أسعار الطماطم والملابس والمساكن التي ترتفع بجنون. أمين الشرطة الذي يوقف «ميكروباص» شقيقه ليسرق منه خمسين جنيها. الضابط الذي حرر له محضرا واحتجزه وعذبه عدة أيام بلا ذنب. أخته التي لا يملك نقودا لتزويجها. عمه الذي تم تسريحه من عمله بعد خصخصة المصنع. ابن عمه الذي خسر كل شيء في أراضى شباب الخريجين التي مات فيها الزرع عطشا بعد تفضيل أراضى الكبار. خالته التي ماتت بالسرطان بعدما لم يجد لها سريرا بالمستشفي الحكومي… إلخ.
«هل كان يتصور أحد أنه سيأتي يوم يقول فيه البعض إن عدم وضع الدستور أولا هو خيانة لدماء الشهداء، ليرد عليهم فريق الانتخابات أولا قائلين إننا أكثر من قدم الدماء والتضحيات دفاعا عن الثورة؟ بالنسبة للفقراء المعدمين في مصر، فإن كل الصراع حول الدستور أو الانتخابات ونظام حكم البلد عبارة عن «كلام جرايد» لا يمثل أي شيء، إلا بقدر تأثيره المباشر جدا على فرص عملهم ورواتبهم وظروف معيشتهم».


هذه الفقرات ليست لي، ولكنها مقتبسة من تدوينة ثرية لناشط لا أعرفه اسمه محمد أبو الغار (سجلها في 18/6) تطرق فيها إلى الحديث عن مؤتمر لممثلي المنظمات الإسلامية عقد في التسعينيات. تحدث فيه السيد رجب طيب أردوغان الذي كان رئيسا لبلدية إسطنبول وقتداك. فلم يشر إلى تطبيق الشريعة أو نشر التعاليم الإسلامية بين الناس، وإنما قال للحاضرين إنه سيعمل على حل مشكلة الصرف الصحي في مدينته، وهو ما ضج له الحاضرون بالضحك. وعلق صاحب المدونة على القصة قائلا إن هذا المنطق هو الذي أوصل تركيا إلى ما وصلت إليه.
فالناس لا يصوتون لأردوغان لأنه إسلامي أو لأنه سيضع دستورا أكثر ديمقراطية، ولكن لأنه أثبت قدرته على حل مشاكلهم الحياتية اليومية. ثم ختم قائلا «ليس لدينا أردوغان مصري. لدينا فقط العواجيز النخبويون المملَّون من كل الأطراف، الذين لا يزالون غارقين في تنظيرات إسلامية وعلمانية، ويتجادلون حول الدستور أولا أو الانتخابات أولا. ولهم جميعا أقول: الفقراء أولا».

(3)
هذا النداء الذي استدعى قضية العدل الاجتماعي ترددت أصداؤه بسرعة في الفضاء السياسي، جاء كاشفا وفاضحا للنخبة التي انشغلت وشغلت الرأي العام معها بأشياء عدة لا تمثل الأولوية الحقيقية لأهداف الثورة، الأمر الذي يستدعى مجموعة من الملاحظات هي:
إن موضوع السلطة أصبح محور الاهتمام العام، الأمر الذي صرف الانتباه عن قضايا المجتمع وهموم الناس الحقيقية. والمفارقة التي أشرت إليها توا ليست سوى نموذج صغير نجد صورة مكبرة له في المجال العام. فالانشغال برئاسة الدولة يحتل حيزا كبيرا من الاهتمام، في حين أن أحدا لا يتحدث عن انتخابات مجلس الشعب ولا عن المجالس المحلية أو غير ذلك من المؤسسات التي تمثل المجتمع وتدير حركته.
حتى الجماعات الأهلية والدينية باتت مشغولة بتكوين الأحزاب وإثبات الحضور السياسي، وانصرفت عن خدمة الناس وتحسين أوضاعهم، خصوصا فئاته الفقيرة والمستضعفة. أما النخب صاحبة الصوت العالي، فإننا لم نسمع لأحد منهم دعوة أو رأيا في التعامل مع كارثة انحطاط مستوى التعليم أو تدهور الخدمات الصحية أو بؤس العشوائيات وسكان القبور أو مشكلة القرى المحرومة من المياه النقية والصرف الصحى… إلخ.
إن الجدل والتراشق الذي يشهده الفضاء المصري تديره وتؤججه القوى القديمة صاحبة الانقسامات التقليدية في المجتمع المصرى، الذين وصفهم الناشط محمد أبو الغار بأنهم «العواجيز النخبويون المملون». أعنى أنه اشتباك له جذوره الممتدة إلى الماضي، أما الأجيال الجديدة فهى ليست طرفا فيه وربما أصبحت ضحية له.
في هذا الصدد فإنني أزعم أن الثقة والعلاقة بين شباب الإخوان المسلمين مثلا وشباب الوفد والتجمع والحزب الناصري، أفضل كثيرا من علاقة القيادات التي تتصدر الواجهات على الجانبين، وإذا صح ذلك فهو يعنى أن القوى القديمة التي لا تثق في بعضها البعض ظلت طول الوقت مشدودة إلى الماضي بأكثر من تفاعلها مع الحاضر أو تطلعها إلى المستقبل.


إنه في ظل الفراغ السياسي المخيم فإن حضور الناشطين السياسيين أصبح يتم على شاشات التلفزيون، في حين لا نكاد نرصد له حضورا مماثلا على أرض الواقع. حتى غدت الثرثرة في برامج الفضائيات بديلا عن الفعل السياسي. والأول أسهل وأقل تكلفة وأكثر وجاهة.
لأن الإعلام بات ساحة الحضور والتأثير السياسي، فإن مرحلة ما بعد الثورة شهدت تحالفا جديا بين رجال الأعمال والإعلام، ظهر بديلا عن تحالف الثروة والسلطة الذي تبناه النظام السابق. ولست واثقا من دقة الخبر الذي ذكر أن 25 قناة فضائية جديدة ستفتتح في مصر، لكن لدينا من معطيات الواقع ما يكفي في التدليل على أن ثمة تسابقا بين رجال الأعمال للعب دور في الحياة السياسية من خلال الدخول إلى ساحة الإعلام المرئي فضلا عن المكتوب.
ولا غضاضة في ذلك من حيث المبدأ. خصوصا أنه حاصل في الدنيا بأسرها. ومفهوم ومقبول مهنيا وسياسيا أن تعبر المجموعة الإعلامية عن هذا التيار أو ذاك، لكن المشكلة عندنا أن أجندة رجال الأعمال وتحيزات المنابر المعبرة عنها أصبحت تتدخل في صياغة الأخبار وتلوينها، غير مكتفية بالتعبير عن تلك الأجندة في مجال الرأي. ومثل ذلك التلاعب في صياغة الأخبار أصبح يتم بصورة فجة في بعض الصحف المصرية خصوصا في الآونة الأخيرة. الأمر الذي يخل بالثقة في حياد وصدقية ما ينشر من أخبار، ناهيك عن أنه يعتبر إهدارا لقيم المهنة ومبادئها.

(4)
أكرر أننا ينبغي ألا ننسى ونحن نطالع هذه الصورة أن عمر الثورة لم يتجاوز خمسة أشهر، وأننا ما زلنا في مرحلة رفع الأنقاض بعد هدم النظام القديم. بالتالي فلئن بدا أن ثمة خللا في البوصلة أو تخبطا في الخطى فمن الإنصاف أن يحمل ذلك على قصر الفترة التي مرت بعد قيام الثورة، إضافة إلى خصوصية وفرادة الحدث ذاته. إذ حين تقوم في مصر ثورة شعبية عارمة لا رأس لها ولا قيادة، وحين يتسلم السلطة بعد ذلك طرف آخر غير الذي قام بالثورة، وحين يقع ما وقع في بلد يعانى الجدب السياسي والفراغ الهائل، فلا يستغرب أن يعاني الوضع الجديد أمثال تلك الأعراض وأكثر منها.
لقد أدركنا من خلال تجربة الأشهر الخمسة الماضية أن الثورة لا تزال بحاجة إلى «بوصلة» يتوافق عليها الجميع ويهتدون بها. وتلك وظيفة النخبة بالدرجة الأولى. ولكن النخب، المصرية رسبت في اختبار الاستفتاء الشعبي الذي أصبح يطعن فيه البعض وفي الأغلبية التي صوتت فيه حين جاءت النتيجة بغير ما يشتهون.


ولعبت القوى القديمة دورها في إذكاء تلك الفتنة التي كادت تفضي إلى استقطاب خطر يقسم البلد ويجهض الحلم، وأخطر ما في تلك الفتنة ليس فقط أن «الليبراليين» كانوا طرفا أساسيا فيها انطلاقا من المخاوف والظنون، ولكن أنها جرفت الحوار بعيدا عن مسار الثورة، حين انشغلت النخبة عن هموم الجماهير الغفيرة بالعراك حول هيكلة السلطة.
وترتب على ذلك أن ظل المجتمع عاجزا عن التقدم إلى الأمام طيلة الأشهر التي خلت. وكان لذلك اللغط صداه في دوائر صناعة القرار، حتى رأينا أن رئيس الوزراء يتحدث عن تأييده لتأجيل الانتخابات في حين كرر المجلس العسكري أن الانتخابات ستجرى أولا وفي موعدها.
لقد لاح أخيرا بصيص من الضوء حين طرحت فكرة تقول: إذا كنتم خائفين من الجهة التي ستضع الدستور، فلماذا لا يتم التوافق من الآن حول مبادئ تبدد ذلك الخوف وتسمح للمسيرة بالتقدم والخروج من الجمود الراهن؟ وهو حل يبدو مسكنا ومهدئا للخواطر، لكنه لا يكفي لتوفير «البوصلة» المنشودة وإن فتح الطريق إلى ذلك. أما إذا استمر صراع القوى القديمة فأخشى ما أخشاه أن تصبح تلك القوى عقبة في طريق الثورة، وأن يتأجل شعار الفقراء أولا، ليصبح دعوة إلى الخلاص من النخب أولا.

الاثنين، 27 يونيو 2011

الإخوان والشباب.. الدعوة تنفي طيبها!! ….. عصام تليمة


عبرت في مقالي الأخير عن مخاوفي فيما يخص علاقة مجموعة من الشباب في جماعة الإخوان المسلمين، وبعض المسؤولين في الجماعة فقلت: إلى أين تسير الجماعة في تعاملها مع الشباب، إن قلبي ينفطر مما يصلني من بعض الشباب من ممارسات بعض المسؤولين معهم، لماذا نضع الشباب بين خيارين أحلاهما مر: إما أن يضرب رأسه في الحائط، وإما أن ينفجر في الجماعة.
وقد حملت الأيام الفائتة خبر تكوين مجموعة من شباب الجماعة، مع عدد من شباب الثورة، حزبا حمل اسم (التيار المصري)، وهو ما يعني خلافا آخر، وربما صداما آخر بين بعض الشباب، وقيادات الجماعة، وأرى خروجا من هذا الخلاف، وحلا للأزمة، أن تتبنى الجماعة هنا منهج الإمام حسن البنا في التعامل مع مثل هذه القضايا، ومنهجه في التعامل مع الشباب بوجه عام.


السبت، 25 يونيو 2011

حزب “الحرية والعدالة” الإخواني : هاجس الاستقلالية.... خليل العناني


للمرة الأولى منذ تأسيسها العام 1928، تتقدم جماعة "الإخوان المسلمين" رسمياً بطلب إنشاء حزب سياسي تحت اسم حزب "الحرية والعدالة". وقد بلغ عدد الأعضاء المؤسسين للحزب حوالي 9 آلاف شخص، أي بما يزيد بنحو 4000 آلاف عضو عن العدد المطلوب كما نص عليه قانون الأحزاب السياسية الذي تم تعديله بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني. وعلى الرغم من أن إنشاء حزب سياسي للإخوان يعد علامة فارقة في تاريخ الجماعة، إلا أن حزب الحرية والعدالة أثار العديد من القضايا من حيث مضمون برنامجه، وطريقة اختيار قياداته، ومدى التوافق داخل الجماعة حول مستقبل العلاقة بين الحزب وبين الجماعة.
على الرغم أن الدين الإسلامي لايزال المرجع الرئيس لحزب "الحرية والعدالة"، الا أن تعديلات عدة أدخلت على البرنامج الحزبي الذي طرحته جماعة الإخوان عام 2007 وأثار انتقادات عديدة.ولعل الاختلاف الأبرز بين البرنامجين هو قيام جماعة الإخوان عمداً بحذف الفقرات المثيرة للجدل في برنامج 2007 ومنها ما يتعلّق بدور رجال الدين في الحياة السياسية والتشريعية. فلم ينص برنامج حزب "الحرية والعدالة" على ضرورة وجود رقابة رجال الدين على عملية إصدار التشريعات البرلمانية مثلما كانت عليه الحال في برنامج 2007والذي شبّهه البعض بنظام "ولاية الفقيه" في إيران. ثانياً، تم حذف الفقرة الخاصة بأهمية وجود وظائف دينية للدولة والتي كانت تعني ضمنا إقصاء الأقباط وغير المسلمين من تولي منصب رئيس الدولة. وثالثاً، لم يعارض الحزب في البرنامج الجديد انتخاب المرأة الى مناصب حكومية بل اختار عدم الخوض البتة في مسألة حقوقها السياسية. وبشكل عام، آثر الحزب التزام الصمت حيال القضايا المثيرة للجدل وقرر تجاهلها كي لايقع في حرج أمام مختلف القوى السياسية والمجتمع المدني.

ثمة ثلاثة ملامح رئيسة لبرنامج حزب "الحرية والعدالة"،
أولها الحضور الكثيف للدين في برنامج الحزب على الرغم من إصرار القائمين عليه على أنه حزب مدني. فيبقى الهدف الأساسي المعلن لحزب "الحرية والعدالة" ليس الوصول إلى السلطة، كشأن أي حزب سياسي مدني، بل "تعميق الأخلاق والقيم والمفاهيم الإسلامية في حياة الأفراد والمجتمع" كما نص برنامج الحزب، وهي أهداف أقرب إلى جماعة دينية وليس إلى حزب سياسي.
ثانياً الغموض والتضارب في استخدام المصطلحات والمفاهيم في نص البرنامج. فعلى سبيل المثال، عند الحديث عن طبيعة الدولة، يستخدم برنامج الحزب كلمة الشورى باعتبارها أعم وأشمل من الديمقراطية، وأحياناً يتم الجمع بين الكلمتين، مايعكس تضارباً وخلطاً بين الرؤية الدينية والمشروع السياسي للحزب. وربما يعكس أيضا اختلاف الرؤى السياسية داخل جماعة الإخوان بين المحافظين والإصلاحيين. فاستخدام كلمة الشورى ربما يكون لإرضاء المحافظين، في حين تم استخدام الديمقراطية لإرضاء الإصلاحيين.
ثالثاً، في ما يتعلق بالرؤية الاقتصادية لحزب "الحرية والعدالة"، حدث تطوّر نوعي في الفكر الاقتصادي لجماعة الإخوان الذي يتبنى الآن مفاهيم الليبرالية الاجتماعية.فالبرنامج ينص علي دعم مبادئ الحرية الاقتصادية التي تحقق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل، فضلاً عن تشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي. وهنا يوجد اختلاف واضح عن برنامج 2007 الذي كان يتخذ من النظام الاقتصادي الإسلامي نموذجاً ومرجعية للنشاط الاقتصادي.
أما في ما يتعلق بطريقة تأسيس الحزب واختيار قياداته فقد كانت أيضا مثيرة للجدل. إذ لم يتم اجراء انتخابات نزيهة وعلنية لاختيار قيادات الحزب ومنهم رئيس الحزب محمد مرسي ونائبه عصام العريان والأمين العام للحزب ووكيل المؤسسين محمد سعد الكتاتني. ما حدث هو أن مجلس الشورى العام لجماعة الإخوان، وهو بمثابة الهيئة العليا للإخوان ولا توجد له أي علاقة رسمية بحزب "الحرية والعدالة"، قام باختيار قيادات الحزب وتحديد مناصبهم بشكل سري،. وهذا ما أثار اعتراضات عديدة خاصة لدى شباب الإخوان الذين رأوا أن الجماعة تحاول فرض وصايتها علي الحزب منذ تأسيسه. الا أن رئيس الحزب محمد مرسي أشار إلى أن القيادة الحالية هي قيادة انتقالية مؤقتة إلى حين عقد مؤتمر للحزب سيتم من خلاله تنظيم انتخابات داخلية.
في اطار محاولة القيادة اظهار الحزب على أنه حزب لكل المصريين بمنأى عن دينهم، تم تعيينرفيق حبيب كنائب رئيس له، وهو قبطي عمل مستشاراً للمرشد العام السابق للجماعة مهدي عاكف. وإذا كان ذلك أمراً محموداً، إلا أن ثمة علامات استفهام حول طريقة اختيار حبيب وهل تم ذلك لكونه قبطياً أم لأفكاره وقناعته بمبادئ حزب "الحرية والعدالة" وأهدافه. وكان لافتاً عدم وجود تمثيل للشباب أو النساء في المناصب القيادية في الحزب، وذلك على رغم مشاركة ما يقرب من ألف إمرأة في الهيئة التأسيسية للحزب. وبوجه عام فإن جميع المناصب القيادية هيمن عليها المحافظون داخل الجماعة ولايوجد تمثيل لمن يوصفون بالتيار الإصلاحي وذلك بسبب انحسار قياداته بعد استقالة إبراهيم الزعفراني من الجماعة والموقف السلبي للإخوان من القائد الإصلاحي عبد المنعم أبو الفتوح بسبب إعلانه الترشح لرئاسة الجمهورية مستقلاً.
وفي ما يخص مستقبل العلاقة بين حزب "الحرية والعدالة" وجماعة الإخوان المسلمين، فإن الإشارات الآتية من قيادات الجماعة تشي بأنها سوف تكون علاقة تبعية في المجالين السياسي والفكري، وعلاقة استقلال في المجالين المالي والإداري. فمن المتوقع أن يكون الحزب ذراع سياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ما يعني عدم قدرته على اتخاذ مواقف سياسية بعيدة عن مواقف الجماعة الأم. وهذا تكرار واستنستاخ لتجربة حزب "جبهة العمل الإسلامي" الأردني، ما سيعوق نشاط حزب "الحرية والعدالة" وربما يؤدي إلي حدوث انقسامات بين الحزب والجماعة.
على الرغم من سعى حزب الحرية و العدالة و جماعة الاخوان المسلمين إلى توضيح مواقفهم إزاء حقوق المرأة و الأقليات، والعلاقة بين الدين والدولة، لا تزال علاقة الجماعة بالحزب تثير العديد من التساؤلات حول استقلالية الحزب سياسياً وإيديولوجياً. وقد يتوجب على قيادة الحزب توضيح تلك العلاقة والتركيز على استقلالية الحزب لخفض التوتر مع القطاعات غير الإسلامية ولتهدئة مخاوف شباب الحزب الذين يشعرون بالتهميش في ظل الترتيبات القائمة حاليا.
—————————————–
خليل العناني، خبير في الإسلام السياسي ومؤلف كتاب "الإخوان المسلمون في مصر: شيخوخة تصارع الزمن"، دار الشروق، 2007.

علاقة جماعة الإخوان المسلمين بحزب الحرية والعدالة…. فورين بوليسي، ناثان براون، الجمعة 27 أيار/مايو 2011

بعد فترة وجيزة من بدئي بالتدريس، جاءتني إحدى الطالبات إلى المكتب أثناء الدوام لأنها كانت مريضة وفاتها جزء من الحصة. كان ذلك أمراً مألوفاً، ولكن مابدا غير مألوف قليلاً هو أنها أحضرت والدتها معها. شرحت للطالبة أن بإمكانها الحصول على مساقات غير كاملة، لكنّي نصحتها بذلك كملاذ أخير فقط، لأنه لن يكون من السهل التعويض عن العمل بعد أن تكون بدأت مجموعة جديدة من الدورات في الفصل الدراسي المقبل. قالت والدتها بصوت خفيض، "إنه محق يا عزيزتي. أنت تعرفين كيف أشعر بشأن الدرجات الناقصة".
هذه كانت أول مقابلة لي مع " الأم أو الأب الحوّامة" ( الهيليكوبتر) Helicopter Parent (*)، أي الوالدة أو الوالد اللذان يغطان فوق أبنائهم وبناتهم البالغين كالحوامات، ويرصدون خياراتهم، ويقدمون لهم المشورة غير المرغوب فيها، ويتدخلون في تفاعلاتهم اليومية.

ليس ثمة صورة أفضل من تلك لوصف سلوك جماعة الإخوان المسلمين المصريين تجاه الحزب السياسي الذي تدّعي أن دورها يقتصر على إطلاقه فقط. وربما هذه تفرض مشكلة على الديموقراطية المصرية. إذ تقول الجماعة الأم الإخوان المسلمين أن حزب الحرية والعدالة الجديد سيكون حراً في تحديد خياراته. بيد أنه لايمكن لجماعة الإخوان بوصفها "الأم الهيليكوبتر" مقاومة إغراء أن تشير على ذريتها الذين سيكونون قادة الحزب الجديد، حول ما يرمز إليه، وكيف سيتم تنظيمه، ومن الذي ينبغي أن ينضم إليه، ومن سيكون مرشحوه. الحزب مستقل تماماً في عملية صنع القرار – طالما أنه يقوم بما يطلب إليه بالضبط. وبالفعل، ليس الحزب وحده هو الذي يقال له مايجب أن يقوم به - فقد قيل لأعضاء من حركة الإخوان المسلمين بألا ينضمّوا إلى أي حزب آخر، وأن يطيعوا قواعد سلوك الحركة في المجال السياسي. هذا النوع من العلاقة بين الحركة وبين الحزب هو مايجعل الإخوان بالفعل شريكاً صعباً بالنسبة إلى الجهات السياسية الفاعلة الأخرى. وعلى المدى الطويل، فإن ذلك قد يجعل الإسلاميين أطرافاً مُربِكة في الانتخابات.

كان من المتوقع أن تقوم علاقة وثيقة بين الحزب وبين الحركة، بيد أن هذه العلاقة هي بالفعل أكثر من وثيقة، حيث تتم إدارتها بكل تفاصيلها. ففي الاجتماع الأخير لمجلس شورى جماعة الإخوان (هيئة اتخاذ القرارات التي تضم ما يقرب من 100 من الأعضاء لم تكن قادرة على الاجتماع في سنوات حكم مبارك خوفاً من الاعتقال)، وكذلك في سلسلة من القرارات الأخرى التي تم الإبلاغ عنها على نطاق واسع في الصحافة المصرية، قامت الحركة الأم الحامية بالخطوات التالية:
  • بعد الإصرار مراراً وتكراراً على أن الحزب سيكون قادراً على اختيار زعيمه، لم تتمكن جماعة الإخوان من مقاومة تقديم هدية سخية على نحو غير عادي إلى ذريتها: سينتقل ثلاثة من أعضاء هيئتها العليا - مكتب الإرشاد - إلى الحزب لإدارته. الثلاثة جميعاً (محمد مرسي وسعد الكتاتني وعصام العريان) مهرة وذوو خبرة في جميع النواحي، مثل التحدث إلى الصحافة، وتنظيم وإدارة شؤون الحركة، والعمل كأعضاء في البرلمان. وفي حين أن شخصياتهم متباينة جداً، فإنهم جميعاً يعطون انطباعاً بأنهم أشخاص أكفاء جداً. لكن يتميّز الثلاثة أيضاً بأنهم موالون جداً لحركة الإخوان.

  • يقال أيضاً إن الحركة (وليس الحزب) وضعت اللمسات الأخيرة على برنامج الحزب الأساسي.وليس من المحتمل أن يكون هذا البرنامج وثيقة مقتضبة أوغامضة، ففي وقت سابق أشارت مسودات مسرّبة إلى مجموعة مفصّلة من المقترحات الخاصة بالسياسات.

  • لم تكتف الحركة بكتابة برنامج الحزب فقط، بل صادقت أيضاً على نظامه الداخلي. وفي سياق هذه العملية، تركت الحركة بصمتها القوية جداً. إذ يوضح النظام الداخلي، على سبيل المثال، أن الحزب ملتزم بالإصلاح السلمي والتدريجي على أسس إسلامية. إصلاح ماذا؟ يسعى الحزب إلى "إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والحكومة، ومن ثَمَ مؤسسات الدولة". إصلاح المؤسسات السياسية أمور معيارية. لكن الأمر يحتاج إلى نوع خاص جداً من الأحزاب السياسية لتقول للناخبين أنها تريد إصلاحهم وإصلاح أسرهم كذلك. في الواقع تلك هي المهمة التقليدية للحركة الأم "الإخوان"، إذ من المنطقي أكثر بالنسبة إلى حركة كالإخوان التركيز على مساعدة أعضائها لتطوير أنفسهم من قيام حزب بالترشح على أساس إصلاح الفرد والأسرة كبرنامج له.

  • قررت الحركة (وليس الحزب) أنها ستنافس على نصف المقاعد في البرلمان. (في وقت سابق، أشار قادة الحركة على الدوام إلى أنهم سيسعون في الغالب إلى الحصول على ثلث المقاعد، على الرغم من أنهم كثيراً م كانوا حريصين على إضافة أنه لم يتخذ أي قرار نهائي. ولم يتم توضيح الآفاق الانتخابية الزائدة للحزب بشكل جيد، وكانت الحجة الأكثر قبولاً هي أن المنافسة على المقاعد الإضافية ستكون أفضل وسيلة لضمان بلوغ الحزب الهدف الذي يبدو أنه يريده: ربع أوثلث مقاعد البرلمان أو شيء من هذا القبيل؛ والإشارات المتقاطعة المحيطة بالقرار ربما تكون أيضاً نتيجة لنقل السلطة من مكتب الإرشاد الصغير والأكثر تماسكاً إلى مجلس الشورى الأكبر حجماً والأكثر تنوعاً والأقل سيطرة.

  • الحركة لاتحدّد فقط عدد المرشحين للانتخابات النيابية التالية، بل يبدو أيضاً أنها تختار الأسماء. ووفقاً لإحدى الروايات على الأقل، تعدّ الحركة فعلاً قوائم منفصلة للمرشحين، بعضها خاص بنظام القائمة الحزبية (مليئة بأسماء البرلمانيين الأكفاء)، وبعضها خاص بنظام يستند إلى الدائرة (مليئة بأسماء من يرجّح أن يخدموا دوائرهم الانتخابية المحلية أيضاً). ولذلك، فإن القائمة النهائية للمرشحين لن تحدّد حتى يوضح القانون الانتخابي الجديد نظام التصويت االمختلط الذي يعتمد القائمة والدائرة الانتخابية.

  • أوضحت الحركة أيضاً توقعاتها في شأن مدى التزام أعضائها بتوجيهاتها في المجال السياسي. ليس مطلوباً من أعضاء جماعة الاخوان المسلمين الانضمام إلى الحزب، لكن يقال لهم ألّا ينضمّوا إلى أي حزب آخر. وقررت الحركة ألّا ينافس أعضاؤها على الرئاسة، وإذا ماترشّح عضو مكتب الإرشاد السابق عبدالمنعم أبو الفتوح بالفعل، فسيكون ذلك على الأرجح سبباً لطرد هذا القائد المُقصى أصلاً من التنظيم. وثمة روايات عديدة تقول إن جماعة الإخوان المسلمين تتجاوز مسألة إبلاغ أعضائها بما لاينبغي أن يفعلوا؛ كما يقال إن الفروع المحلية للجماعة تقترح أسماء أعضائها الذين يجب أن يدخلوا ميدان العمل السياسي للحزب.
عندما يتم الضغط عليهم بشأن إدارتهم الدقيقة للحزب، يستجيب مسؤولو الحركة مدافعين: فهم يزعمون أنه يتم القيام بذلك كي يعمل الحزب بنجاح ليس إلّا. وحالما يتم تأسيسه، فهو حر في أن يتطوّر كما يرى أعضاؤه أنه مناسب لهم. ولكن بما أن الجماعة هي التي شكّلت هيكل الحزب وقادته وأعضاءه وبرنامجه بشكل وثيق، فليس من المرجّح أن يتطور كثيراً على الإطلاق.
تدرس الحركة حاليا الخيارات المتاحة أمامها في مجالات بعيدة عن المجال السياسي. فقد أشارت إلى نواياها بتكوين نواد للشباب، ووسائل للبث الإعلامي، وحتى تشكيل فرق لكرة القدم (ما حدا ببعض المصريين إلى القول مازحين إن اللاعبين الإخوان سوف يتبعون مسار الحزب السياسي من خلال السعي لتحقيق التعادل فقط في كل مباراة).
إذا لم تتطوّر حركة الإخوان في اتجاهات مختلفة كثيرة مع الإبقاء على مراقبة شديدة على مختلف جوانبها، فإنها ستفرض صعوبات على المؤسسات الديموقراطية المصرية. تاريخياً، كان تركيز جماعة الإخوان الواسع ومصالحها المتنوعة بالضبط، هو ماجعل منها شريكاً صعباً في التحالفات. فعندما يجلس زعيم سياسي علماني مع شخص من الإخوان، فإنه/فإنها يجد أن الشريك المحتمل حذر، وحريص على حماية مروحة واسعة من الأنشطة، ويقظ بشأن الالتزام بأجندات محدّدة أو بحلّ وسط بشأن القضايا القائمة على برامج أو خطط.
لقد أوضح المرشد العام للإخوان في الآونة الأخيرة أنه في حين أن الحركة تدعم الديموقراطية والحرية، فإنها فعلت ذلك في إطار مرجعية إسلامية، وأن " الديموقراطية لايمكنها تحليل الحرام أو تحريم الحلال"، من الناحية الدينية، "حتى لو اتفقت الأمة بأكملها على ذلك".
هذه الصيغة العامة في الواقع تنطوي على صدى شعبوي على نحو ساخر في سباق مجتمع يبقى محافظاً ومتديّناً إلى حد ما. سوف تحدث المشكلة عندما يراقب قادة الحركة عن كثب للتأكد من أن الحزب يفسّر تلك الصيغة العامة وفقاً لتعليماته الصارمة. ومن المرجّح أن تجد الجهات السياسية الفاعلة الأخرى في حزب الإخوان المرتبط ارتباطاً وثيقاً بمثل هذه الحركة شريكاً في لعبة السياسة الديموقراطية المضطربة. وفي الواقع، يظهر التحالف الثوري الذي أسقط حسني مبارك مؤشرات جدية على وجود نقاش حادّ بشأن مثل هذه القضايا على وجه التحديد. فقد غابت جماعة الإخوان عن بعض الاجتماعات والمظاهرات الأخيرة التي عقدتها القوى السياسية الأخرى ذات النكهة المعارضة. لكنها لم تتردد في إرسال ممثليها إلى اجتماع تمت المصادقة عليه رسمياً.
 إن العلاقة الوثيقة مع الجماعة ربما تخدم الحزب بشكل جيد في المجال الانتخابي في المدى القصير. إذ سيكون لديه جيش من العمال المكرّسين لتنظيم حملته في جميع أرجاء البلاد. لكن على المدى الطويل، لدى الجماعة والحزب دوافع تنظيمية مختلفة جداً. فالحزب المعني بالفوز في الانتخابات يريد جذب أعداد كبيرة من الناخبين. والحركة المعنية برسالة إديولوجية تهتم بمستوى التزام أنصارها الأساسيين. وقد تمّ في الأيام الأخيرة، تصوير عضو سابق في البرلمان عن جماعة الإخوان على شريط فيديو وهو يقول لأعضاء الجماعة إن عليهم أن يتزوجوا فقط من داخل الحركة. هذا النوع من المواقف الانعزالية - التي خدمت الجماعة جيداً في ظل ظروف سلطوية قاسية - هو الذي يجعل الانتقال إلى السياسة الديموقراطية الشاملة تحدياً كبيراً. ولكن في ظل المراقبة الوثيقة التي تمارسها الجماعة على الحزب، ليس من المرجّح أن يكون التوتر بين السعي لكسب أعداد كبيرة من الأصوات وإنجاز رسالة الحركة محسوساً على المدى القصير.
إن مقارنة حزب الحرية والعدالة بطالبتي التي تفكّر بالمساقات غير الكاملة ليست قياساً دقيقاً. فعندما يتعلق الأمر بالتحوّل الديموقراطي، فإن الحركة التي تربي الحزب على طريقة "الأم الحوّامة"، تعطي ذريتها بالضبط المشورة المعاكسة لتلك التي تقدّمها والدة طالبتي: إنه لشيء كثير أن تتم التوصية بمساقات ناقصة.
———————————————
(*)"الأم أو الأب الحوّامة ( الهيليكوبتر) Helicopter Parent تعبير عامي بالإنكليزية برز في الولايات المتحدة في أوائل القرن الحادي والعشرين للإشارة إلى العناية والرقابة المُفرطين بالأطفال من قِبَل الأهل. (المترجم).

الجمعة، 24 يونيو 2011

التوافق أولا وليس الدستور أو الانتخابات...... عبد الفتاح ماضي

يعالج هذا المقال موضوع الانقسام السياسي الراهن في مصر بشأن موضوع الانتخابات أولا أم الدستور أولا. وينطلق المقال من أهمية إحداث قدر من التوافق الوطني أولا قبل الحديث عن الدستور أولا أو الانتخابات أولا.

فالمراحل الانتقالية التي تعقب الثورات لا تحتاج ولا تحتمل أن ينتصر فريق لرأيه على حساب الفريق الآخر. كما لن يُكتب النجاح لمسار فرض أصحابه رؤيتهم على الآخر دون حوار وتوافق.

هذا بجانب أن في معظم حالات الانتقال الديمقراطي الناجح، لا يتم وضع الدستور، ولا يُطلب من الجماهير الذهاب إلى صناديق الانتخاب، بعد أسابيع أو شهور من انهيار النظام القديم. ليست هذه دعوة إلى إطالة المرحلة الانتقالية في مصر، وإنما هي دعوة إلى بذل كل الجهود من أجل الوصول إلى حل نهائي وحاسم يقوم على التوافق والحوار ويبتعد كلية عن الانتصار لرؤية فريق واحد. 

الانفراد سبب الاستقطاب 
لا بد من الاعتراف، بداية، أنه يوجد انقسام سياسي في مصر حول أفضل طريق لبناء النظام الديمقراطي ووضع الدستور، والأخطر أن هذا الانقسام السياسي اقترن، للأسف، باستقطاب أيديولوجي حاد منذ استفتاء 19 مارس/آذار.

سببان أساسيان لهذا الانقسام،
  • أولهما ارتباك المسار الذي حدده المجلس العسكري بعد ساعات من سقوط مبارك، وتشكيله لجنة لتعديل الدستور غير متوازنة في تشكيلها، ثم تصميمه على تمرير التعديلات دون حوار أو نقاش حقيقي، ثم انفراده بتعديل القوانين المكملة للدستور، وفي تعيين المحافظين والوزراء.
كان على المجلس العسكري أن يُشرك كافة القوى والشخصيات الرئيسة، التي صنعت الثورة وساهمت فيها، في صنع كافة القرارات المصيرية خلال المرحلة الانتقالية.
  • والسبب الثاني هو قبول الإخوان المسلمين، واصطفاف التيار الإسلامي كله تقريبا وراءهم، بهذا المسار وخروجهم عن الإجماع الوطني الذي كان قائما قبل تشكيل لجنة تعديل الدستور.
للأسف لقد ربط معظم هؤلاء بين تعديل الدستور من جهة وبين بقاء المادة الثانية من الدستور وصد هجوم "علماني" متخيل على الحياة السياسية في مصر من جهة أخرى، أو هكذا صُورت الأمور لهم.

كان على هؤلاء التمسك منذ البداية بضرورة الانتصار لمسار توافقي -أيا كان هذا المسار- بدلا من الاصطفاف وراء مسار لم يخضع للمشاورة والنقاش، وأدى إلى تفريق الجماعة الوطنية. ولنتذكر جيدا أنه بدون دعم الإخوان، والتيار الإسلامي، ما كان لهذا المسار أن يرى النور.

خطأ اللجوء إلى الشعب قبل التوافق
واقع الأمر أن خطأ هذا المسار ليس بالأمر الهين، ففي معظم تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة لا يتم اللجوء إلى الشعب -إنْ في شكل استفتاءات أو انتخابات- بعد أسابيع من انهيار النظام القديم، ليس لعدم جاهزية قوات الأمن فقط كما تصور البعض في مصر، وليس لعدم استعداد الأحزاب الجديدة للحشد أو التعبئة، وإنما لسبب آخر أكثر أهمية هو عدم تصدير خلافات النخب إلى الشارع قبل التوافق حولها.

كما أن وضع دستور جديد لم يتم، في معظم حالات الانتقال، بعد انهيار النظام القديم مباشرة، إذ اقتضى الأمر أن تمنح الجمعيات التأسيسية، التي يُنتخب أو يُعين أعضاؤها، الوقت الكافي للوصول إلى التوافقات المطلوبة لوضع الدساتير.

هكذا سارت الأمور مثلا في جنوب أفريقيا، حيث تم العمل بدستور مؤقت صغير من عام 1993 إلى 1996 ثم دخل الدستور الجديد حيز التنفيذ عام 1996. وفي بولندا بدأ الانتقال الديمقراطي أواخر الثمانينيات أما الدستور الجديد فقد رأى النور بعد استفتاء أجري عام 1997. وفي البرازيل، بدأ الانتقال في النصف الأول من السبعينيات ووضع الدستور الجديد عام 1988. وفي الهند استغرق العمل في الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور نحو ثلاث سنوات من عام 1946 إلى 1949.

وفي أعقاب الثورات على وجه التحديد -حيث تنكسر حالة الخوف لدى الجماهير ويتصور الكثيرون أن بإمكانهم النزول في الشارع متى أرادوا لتحقيق ما يرغبون فيه- يتطلب الأمر إجراء توافقات بين النخب حول مسار المرحلة الانتقالية قبل الذهاب إلى الاستفتاء للاحتكام إلى الشعب.

لهذا كان الأسلم والأوجب في مصر هو حسم الخلافات حول أفضل طريق لوضع الدستور أو لإدارة المرحلة الانتقالية بالتوافق أولا في غرف مغلقة ثم تقديم الأمر للناخبين.

وكان لابد أن تطرح التعديلات لنقاشات وحوارات أوسع ثم تعاد إلى اللجنة لإدخال تعديلات على النصوص المعدلة في ضوء النقاشات التي تمت ثم طرحها مرة أخرى للنقاش، وهكذا حتى حصول أوسع قدر ممكن من التوافق الوطني على التعديلات.

لم تفهم معظم النخب أهمية هذا الأمر، بل وراح البعض يستخف بالدروس والعبر المستمدة من تجارب الآخرين، ويتصور أن مصر حالة فريدة. وقد تحدثت كثيرا عن خطورة هذه الأمور في عدة محافل وفي مناسبات مختلفة، وحذرت من أن أي مسار لا يحظى بتوافق وطني واسع لن يكتب له النجاح. فهذه سنة كونية تكررت في حالات انتقال أخرى.

وقد تأخرت القوى السياسية المعارضة لهذا المسار  -وقد كنت بينهم- في التصدي لهذا المسار وفشلت في التوافق على أفضل طريق لمواجهته، بل وراح البعض يهاجم أنصار التيار الإسلامي ويحذر الناس منهم ويتصور أن هناك صفقة بين المجلس العسكري والإخوان وأن مصر مقبلة على دولة دينية.

وذلك حتى كانت نتيجة الاستفتاء التي فاقمت، كما توقعت، حالة الاستقطاب السياسي. وفي أعقاب صدور تصريحات غير مطمئنة من أفراد محسوبين على التيارات الإسلامية تصاعدت مخاوف التيارات الأخرى وظهرت مطالب بوضع الدستور أولا، لندخل مرحلة استقطاب أيديولوجي حاد، أعادتنا إلى نقطة البداية: الدستور أم الانتخابات؟ وهكذا أصبحت البلاد أمام مسارين لكل منهما شرعية ما وحجج قوية. 

الحلول الوسط حلول توافقية
في مثل هذه الحالات لا يجب أن يتصور أحد أن بإمكانه فرض رؤيته على الآخر، فالمباراة ليست صفرية ويجب ألا تكون صفرية إذا أردنا الوصول إلى حل وسط.
  • الحل في اعتقادي لا بد أن يكون توافقيا عن طريق توافق النخب وقادة القوى السياسية في القاعات المغلقة وبعيدا عن الانفراد والإقصاء، على أن يأتي دور الجماهير لاحقا بالذهاب إلى صناديق الانتخابات بعد أن تتوافق النخب وليس قبله لتفادي انتقال انقسامات النخب إلى الشارع مرة أخرى كما هو حادث اليوم.
  • والحل التوافقي يقتضي معرفة مخاوف كل طرف من الطرف الآخر، ثم العمل على معالجة هذه المخاوف. أي يجب أن يعالج الحل الوسط مخاوف أنصار الدستور أولا، والتي أهمها احتمال سيطرة الإسلاميين على البرلمان وانفرادهم بتشكيل اللجنة التأسيسية ووضع الدستور.

  • كما يجب أن يعالج مخاوف أنصار مسار الانتخابات أولا، والتي تدور حول أن المسار تمت الموافقة عليه شعبيا ورسميا في استفتاء شعبي، بجانب أنه لا يجب معاقبة أي فريق على تنظيمه وقوته الشعبية، والمخاوف الخاصة بإلغاء أو تعديل المادة الثانية.

  • تتطلب الحلول الوسط توقف كل طرف عن محاولة إقناع الطرف الآخر برؤيته أو محاولة فرضها عليه. كما يجب إدراك أن هذه الحلول لن تحقق مطالب طرف واحد فقط.

فعلى النقيض من هذا، لا بد أن يطرح كل طرف على نفسه السؤال التالي:
ما الذي يمكن أن أقدمه للطرف الآخر لكي لا تستمر حالة الاستقطاب ولكي أمنع وصول البلاد إلى حالة قد أفقد فيها كل مطالبي؟ لا بد أن تسأل كل القوى السياسة نفسها هذا السؤال حتى لا نفشل جميعا، وحتى لا تستمر أو تتعاظم حالة الاستقطاب وتسود الفوضى وتطول المرحلة الانتقالية ويعود النظام القديم بواجهات جديدة.

ويجب أن ينطلق الحل التوافقي من المشتركات التي يعلنها الطرفان في مناسبات مختلفة. فالطرفان يعلنان عددا من الأمور ينبغي البناء عليها، على رأسها: عدم انفراد طرف واحد بوضع الدستور، ووضع ضمانات للديمقراطية والتداول على السلطة، والوقوف ضد الحكم العسكري والحكم الثيوقراطي. 

عهد وطني لإدارة عملية الانتقال 
وأتصور أنه يمكن بلورة الحل الوسط التوافقي في اتفاق أو عهد وطني توقعه كافة القوى الوطنية، يبدأ من الإبقاء على مبدأ الانتخابات أولا مع وضع توافقات وضمانات لكافة الأطراف في شأن ثلاثة أمور رئيسة، هي:
ضمانات الحكم الديمقراطي وعدم الانقلاب عليه في النظام السياسي المنشود، وتشكيل اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور وضمان تمثيل كافة القوى الرئيسة فيها، والتنسيق في انتخابات البرلمان القادم وضمان عدم وصول فلول النظام البائد إليه.

يمكن صياغة هذا العهد ليتضمن توافقات حول ديمقراطية النظام ومدنيته في شكل مواد فوق دستورية، أهمها: 
  • احترام حكم القانون واستقلال القضاء والتداول على السلطة، الحفاظ على المادة الثانية كمرجعية عليا مع إضافة عبارات لضمان حقوق الأقباط والأقليات الأخرى، حياد الجيش وعدم تسييسه ومدنية جهاز الشرطة، المواطنة ومبدأ الكفاءة في التعيينات، ضمان الحريات الأساسية السياسية والمدنية.

  • كما يجب أن يتضمن العهد معايير لضمان تمثيل أوسع كافة القوى السياسية الرئيسة في اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور، وضم خبراء النظم السياسية والقانون الدستوري وممثلين عن الجمعيات الحقوقية والمجتمع المدني والنقابات العمالية والمهنية وائتلافات الشباب.

  • بجانب الاتفاق على اتخاذ القرارات داخل اللجنة التأسيسية بمبدأ الإجماع، وفي حالات الاختلاف الحاد يتفق على أغلبية محددة مثل 75% أو حتى 80% من الأعضاء.

  • هذا بجانب التعهد بالتنسيق بين كافة القوى السياسية الرئيسة في الانتخابات القادمة بالتوافق على قوائم موحدة وعدم التنافس في الدوائر الفردية إن وجدت.

  • أتصور أخيرا أنه من أجل ضمان الوصول إلى هذه الوثيقة واحترامها يجب اشتراك كافة القوى السياسية الرئيسة في التوافق على الوثيقة والتوقيع عليها من قبل قادتها، فلا يمكن تصور نجاحها من دون فصيل سياسي أساسي.

وأتصور أن أهم هذه القوى هي: الإخوان، الجمعية الوطنية، الوفد، حزب الغد، حزب الجبهة، حزب التجمع، الحزب الناصري، الكرامة، الوسط، ائتلافات الشباب الرئيسة، وكافة القوى الرئيسية التي شاركت في الثورة.

وأتصور أيضا أنه يجب دعوة قادة أو مؤسسي الأحزاب الجديدة التي ظهرت مؤخرا بما في ذلك الأحزاب السلفية والليبرالية والاشتراكية، بل ومرشحو الرئاسة أيضا. كما يجب البعد عن الإعلام قدر الإمكان وإنجاز المهمة أولا في جلسات مكثفة والتوقيع عليها قبل الحديث عن مضامينها في الإعلام.

الخميس، 23 يونيو 2011

مواد دستورية محصنة ….. معتز بالله عبدالفتاح

هذا مصطلح سبق لى استخدامه، وأرى أن الأدق منه «مواد أساسية غير قابلة للتعديل فى الدستور». تستخدم أدبيات العلوم السياسية مصطلحين وكأنهما مترادفان: «entrenched clauses» أى «عبارات محصنة» و«supra-constitutional articles» أى «مواد دستورية أعلى من الدستور» ولكن المعنى عند الفقهاء الدستوريين مختلف. وهذا مفهوم لأن هذه المصطلحات لا تنتقل بين العلوم دون أن يصيبها تحول وتحور.
المهم أن وجود «مواد أساسية غير قابلة للتعديل» ليست اختراعا مصريا، وإنما هناك فى العديد من دساتير العالم بعض المواد التى ينص الدستور صراحة على أنها غير قابلة للتعديل على الإطلاق أو يمكن تعديلها فقط من خلال أغلبية خاصة جدا تكاد تكون مستحيلة التحقق.ولنأخذ بعض الأمثلة:
فى الدستور الألمانى هناك مادة 79 والتى يسمونها (Ewigkeitsklausel) أى (مادة الخلود) تمنع تغيير بعض المواد مثل المادة الأولى التى تتضمن إشارة لاحترام حقوق الإنسان الأساسية، والمادة 20 التى توجد فيها المبادئ العامة للدولة الألمانية مثل الديمقراطية والجمهورية واحترام القانون.
وهو نفس ما نص عليه الإيطاليون فى المادة الأخيرة من دستورهم بأن «الجمهورية» لا يمكن أن يتم تعديلها فى الدستور. والدستور البرتغالى كذلك ينص على 15 مبدأ لا يمكن تجاوزها أو معارضتها عند أى تعديل لاحق. وهو ما فعله الهنود بلغة أقل تفصيلا من خلال حكم المحكمة الدستورية العليا هناك بأنه «لا يمكن لأى تعديل دستورى أن يتعارض مع البنية الأساسية للدستور الهندى».
والمادة 60 من الدستور البرازيلى تنص صراحة على أنه لا يمكن إجراء أى تعديل دستورى ينال من أربعة أنواع من المواد: كل المواد المرتبطة بحقوق الإنسان، تغيير الإطار العام للدولة، الفصل بين السلطات، والطبيعة الفيدرالية لجمهورية للبرازيل.
ولنا أن نتوافق على نسختنا المصرية من هذه المواد، وأن يشارك فيها الجميع. 
إن صنعة الدساتير تقتضى أربع مراحل: مرحلة النقاش العام حوله، مرحلة الصياغة الأولية له، مرحلة التصويت المبدئى داخل لجنة الصياغة عليه، ثم مرحلة التصديق عليها إما من لجنة منتخبة للتصديق أو من جميع الشعب فى استفتاء.
ومن الممكن أن تكون مرحلة الصياغة أولا ثم النقاش لاحقا، فتبدأ بعض الدول بلجنة أو أكثر لصياغة ما يتصورونه الصيغة الأمثل ثم يتم النقاش لاحقا على هذه المواد. أو أن يحدث ما نراه فى مصر الآن من نقاش واجتهادات فى التوافق على مبادئ عامة تراها كل مؤسسة أو شخصية عامة ثم تكون اللجنة المنتخبة هى التى تقوم بالصياغة النهائية (الهند وسيريلانكا مثالان). ومن هنا يكون من المفيد الحوار المجتمعى الدائر الآن، فمثلا الأزهر أخرج لنا مبادئ جيدة لما يراه بشأن مستقبل مصر، وهو جهد مطلوب ومحمود.
والدكتور البرادعى قدم وثيقة توافقية جدا تستحق التقدير والنقاش. وبعض القوى السياسية، بما فيها الإخوان والوفد، تتحرك فى اتجاه مماثل، وهذا مطلوب للغاية. «دار الشروق» تقوم بجهد جيد منذ فترة فى نفس الاتجاه، وهذا مفيد.
لا أرى خطأ فى تعدد الاجتهادات، بل أختلف مع الأصدقاء الذين يرون أن التشابه الشديد فى كلام القوى السياسية والحزبية مؤشر سلبى. بل على العكس هذا هو التوافق المطلوب، وهؤلاء هم الذين يمثلون التيار الرئيسى فى كل تجمع من هذه التجمعات وهم الذين سيصنعون التيار الرئيسى المصرى. 

الأربعاء، 22 يونيو 2011

صوتك يا مواطنة بلا قيمة….. عمرو حمزاوي


أخطر ما تتجاهله القوى السياسية والشخصيات الوطنية المحترمة التى تتبنى الآن الدعوة إلى «الدستور أولا» هو الانطباعات شديدة السلبية التى تتركها دعوتهم فى نفوس المواطنين المصريين بشأن القيمة الفعلية للممارسة الديمقراطية.
فكيف لمن طالب المواطنين بالمشاركة الفعالة فى بناء الديمقراطية والتصويت فى استفتاء التعديلات وتشجيع آخرين على التصويت والامتناع عن المقاطعة أن يقترح عليهم تجاهل نتيجة الاستفتاء دون الاستناد إلى تجاوزات وخروقات فعلية تبطل الاستفتاء قانونا (وهى لم تحدث)؟ قطاع عريض من المواطنات والمواطنين يرى فى هذا استخفافا بهم وبمشاركتهم وعودة إلى عقود «صوتك يا مواطنة لا قيمة له» أو ربما بصيغة معدلة «صوتك يا مواطنة لا قيمة له إلا حين تصوتين تماشيا مع قناعاتى».
كيف لمن يريد تحولا ديمقراطيا أن يشكك المواطنين فى القيمة السياسية لمشاركتهم فى الممارسة الديمقراطية بتجاوز ما وافقوا عليه فى استفتاء التعديلات؟ وكيف يقتنع المواطنون فيما بعد، فى اختبارات ديمقراطية قادمة، بأن مشاركتهم وأصواتهم سيتم احترامها وسيعتد بها؟ هل يمكن، وبعد عقود من الاستبداد رسخت لدى المواطنين الشك فى السياسة والساسة والأحزاب ونستدعى ذاكرتها الأليمة بتجاهل نتيجة الاستفتاء، إقناع المواطنين بمغزى المشاركة الواعية فى الانتخابات البرلمانية وبقيمة الصوت الانتخابى إن كانوا يعلمون أن بعضا ممن سيشارك بالانتخابات قد لا يقبل النتائج ويجرد العملية الانتخابية من الشرعية؟ بالقطع لن ننجح فى إقناع المواطنين بالمغزى الديمقراطى وسنتركهم مجددا فريسة للعزوف عن السياسة وعن نخبها المتعالية.
والمؤكد أن من يتحرك خارج دوائر النخب السياسية يستطيع أن يدرك جيدا الشعور بالمرارة لدى الكثير من المواطنين لتجاهل تفضيلاتهم من قبل نخب تناقش قضايا الوطن فى العاصمة وكأنها امتلكت الوطن أو لديها توكيل عام بالوصاية عليه. بغض النظر عن أسباب ومرتكزات تفضيلات واختيارات المواطنين والتى دفعت أغلبية منهم للتصويت بنعم فى استفتاء التعديلات، لا يجوز ديمقراطيا التعامل مع التفضيلات والاختيارات هذه باستعلاء وصلف. كتبت أكثر من مرة، وأصدق القراء القول بأننى بت أشعر بألم شديد من الحاجة لتكرار هذا بين الحين والآخر، إن من صوتوا بنعم هم أيضا مواطنون كاملو الأهلية ويتمتعون بحس وطنى وضمير يقظ يبتغى مصلحة الوطن العامة وأن إرادتهم لابد وأن تحترم. حديث بعض ممثلى النخب عن هؤلاء بصلف على أنهم جهلاء لا يدركون مصلحة الوطن سبب ومازال إحباطا شديدا لدى مواطنين باتوا يبتعدون تدريجيا عن السياسة وعن نخب لا يشعرون فقط أنها لا تمثلهم، بل وتتعالى عليهم.
لا تملك القوى السياسية حق احتكار الحديث باسم الضمير الوطنى ولا حق التعامل باستخفاف مع أصوات المواطنين مبررا بادعاء أنها تدرك طبيعة الخيارات الأفضل للوطن. فمثل هذه التوجهات لا تعدو إلا أن تكون صيغا معدلة من مقولات الاستبداد التقليدية من شاكلة «نحن ندرك مصلحة الوطن والمواطنين» والتى لا تترك للمواطن سوى مساحات الفعل التابع والأخير نقيض للممارسة الديمقراطية التى تبنى المواطن الحر الواعى المسئول.
أرجو القوى السياسية الداعية إلى الدستور أولا من تيارات ليبرالية ومدنية، وأنا منهم، إلى إعادة النظر فى موقفها والتدبر فى تداعياته السلبية على انفتاح المواطنات والمواطنين المصريين على الإسهام فى بناء الديمقراطية والمشاركة فى اختباراتها.

الثلاثاء، 21 يونيو 2011

الذاتي والموضوعي والتاريخي في ترشح عبد المنعم أبو الفتوح (2-2)..... د. هشام الحمامي

د. هشام الحمامي يكتب في خلفيات ترشح د. عبد المنعم أبو الفتوح لانتخابات الرئاسة القادمة
الذاتي والموضوعي والتاريخي في ترشح عبد المنعم أبو الفتوح (2-2)
مبادرة أبو الفتوح.. ودروس خبرة العدالة والتنمية


عرفت د. محمد سليم العوا منذ ما يقرب من عشرين عاما في منزل الأستاذ الكبير صالح أبو رقيق ثم ما لبثت علاقتي أن توثقت عبر د. عبد المنعم أبو الفتوح. وفى أحد الأيام طلبت من د. عبد المنعم أن نزوره لأن عندي مشروع لتأسيس جمعية دراسات فكرية باسم رشيد رضا. واستقبلنا الرجل في مكتبه بحفاوته المعتادة حين يلقى من يحب، وشرحت له وجهة نظري في ذلك من قلقي على صفة الأخ (مثقف الفكر) التي ذكرها الأستاذ البنا في صفات الأخ، وأنني أريد أن تكون هذه الجمعية عمقا فكريا للجماعة تمدها بالدراسات والأبحاث وتتابع حركه الأفكار وتطورها في العالم العربي والغربي على السواء.

الإخوان المسلمون، بين العسكري والمدني …… د/ عزام تميمي


قرر الإخوان المسلمون في مصر فصل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عقاباً له على مخالفته قرار الجماعة بعدم ترشيح أحد أعضائها لانتخابات الرئاسة في مصر

لا أدري كيف استقبلت قواعد الإخوان في مصر هذا القرار ولكن بالنسبة لي ولكثيرين مثلي، نحن الذين عرفنا عبد المنعم أبو الفتوح منذ كان شاباً يافعاً، ما كنا نتوقع مثل هذا الإجراء حتى لو قبلنا بأنه ارتكب مخالفة صريحة للأوامر القيادية في قضية اجتهادية بحتة. لقد عرفنا الرجل وأعجبنا به وأحببناه وتعلمنا منه، وهو الذي قضى جل حياته في صفوف الحركة ناشطاً مناضلاً حاملاً لرسالتها ومدافعاً عنها وملهماً للأجيال الشابة من المنتسبين إليها والمتعاطفين معها

ليست تلك هي المرة الأولى التي تضحي فيها الحركة بأفضل أبنائها، وكم تكرر ذلك منذ استشهاد مؤسسها حسن البنا رحمة الله عليه. حينها اضطرت الحركة إلى تكريس الذهنية الأمنية العسكرية دفاعاً عن وجودها المهدد، ولعلها كانت معذورة حينذاك. إلا أن هذه الذهنية أصبحت السمة المهيمنة بسبب إلجاء الحركة إلي العمل السري الذي يتطلب طاعة شبه مطلقة لمن يبايعون على هذه الطاعة في المنشط والمكره، وكأنهم في سرية أو غزوة أو في معركة من معارك الفتح الإسلامي الأول

ولعل من أعجب ما شهدناه في تاريخ التنظيمات الإخوانية أن الذهنية العسكرية وأسلوب العمل السري أصبح هو السائد، وكأنه الأصل، حتى في الأقطار التي لم تتعرض فيها التنظيمات لمنع أو ملاحقة أو اضطهاد. بل تقمصت قيادات تلك التنظيمات الشخصية المضطهدة في تضامن مع إخوانهم الذين اضطهدوا في مواقع أخرى.

مثل هذه الذهنية تضيق حيز الاجتهاد وتقضي على هامش الاختلاف المشروع، وخاصة في الحالات التي تتلبس فيها القيادة سواء من حيث أدركت أو لم تدرك صفة الملهم المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. في مثل هذه الحالة يصبح ما تراه القيادة هو الصواب الذي لا ينبغي أن يحيد عنه الأتباع، ومن حاد عنه فقد عصى الله ورسوله لأن في رقبته بيعة.

وأكثر ما تسوء فيه أوضاع الحركة، هي الحالة التي يغيب فيها عن البال أن الأشخاص المؤتمنين على شؤون الحركة إنما هم بشر كالبشر يصيبون ويخطئون، ويهتدون ويضلون، وأن احتمال خطأ قرارهم أو توجههم في ظرف من الظروف قد لا يقل عن احتمال صوابهم. وقد شهدنا كيف كان قرار قيادة الإخوان في أكثر من ظرف كارثياً، خذ مثالاً على ذلك حينما كان في سوريا مدمراً وفي الأردن مضيعاً لفرص ثمينة، وفي الجزائر مخيباً للآمال ومحرجاً أيما إحراج، وفي مصر مصدراً للأزمة من أزمة مع الخارج إلى أزمة مع الداخل، ولا يتسع المجال هنا للتفصيل، ولمن أراد الإطلاع على جزء يسير من ذلك فليقرأ ما كتبه بعض كبار الإخوان سابقين وحاليين من مذكرات أو ما صرح به لي بعضهم في سلسلة برامج مراجعات التي بثت على قناة الحوار خلال السنوات الخمس الماضية.

رأينا قيادات التنظيمات الإخوانية من وقت لآخر تغير رأيها تجاه نفس القضية، صحيح أنه في بعض الأوقات بسبب تغير الظروف، ولكن في أوقات أكثر بسبب تغير الأشخاص أو المزاجات، وفي أوقات بسبب هوى في النفس لدى المتنفذين في موقع القيادة، وبين حالة وحالة تنزف الحركات الإخوانية من خيرة أبنائها وممن كان لجهودهم وتضحياتهم ومساهماتهم الفضل الكبير على هذه الحركات. والسؤال الذي يطرح عادة في هذه الحالة هو لماذا تتجرأ قيادات الإخوان في بتر بعض أعضائها لمجرد خلافات على اجتهادات. فالقيادة يسمح لها أن تشارك في الوزارة، أما لو شارك فرد من أفرادها لمصلحة يرتأيها فإنه مخالف ويفصل، ويسمح للقيادة أن تشرع المشاركة في انتخابات ما أما لو كان ذلك قرار فرد من أفرادها فتلك هي الطامة الكبرى، والقيادة وحدها تقرر متى تشارك ومتى تقاطع، ومن خالف فمصيره الشطب والتشهير.

بعض الذين خرجوا أو أخرجوا من الإخوان تحولوا إلى خصوم، فلم يستفيدوا ولم يفيدوا، وهؤلاء ربما كان بعضهم محقاً في البداية إلا أنه فقد الحق بسبب الإغراق في الرغبة في الانتقام لشخصه من حركة اعتقد يقيناً بأنها ظلمته ولم تقدره قدره، فوقع في محظور إذا خاصم فجر.

إلا أن النسبة الأكبر ممن ضحت بهم قيادات الحركات الإخوانية عبر عقود طويلة آثروا الانشغال بما يفيد الأمة بأسرها الأمر الذي عاد بكثير من الفائدة أيضاً على الحركة التي لفظتهم لأنها تظل جزءاً من الأمة ولأنهم يظلون في نظر المتلقين لفكرهم والمستفيدين من جهدهم خريجي المدرسة الإخوانية التي ينتشر المعجبون بها والناهلون من معينها والمستفيدون من ثرائها حول العالم، ولو أردت أن أعد قائمة بأسماء هؤلاء العظام وإنجازاتهم ومساهماتهم لألفت مجلداً أو مجلدات.

أتوسم في عبد المنعم أن يكون من الفئة الثانية، فالرجل شخصية وطنية في مصر، وشخصية عامة عروبية وإسلامية على المستويين العربي والإسلامي، ورغم فصله التعسفي من الجماعة إلا أنه قادر على استمرار التواصل مع محبيه داخل الجماعة وخارجها، يفيدهم ويلهمهم، ويقدم لهم تجربته الثرية عبر عقود طويلة من النضال.

إن خروج عبد المنعم أبو الفتوح ومن في مثل قدره من الجماعة خسارة للجماعة أكبر مما هو خسارة له، لأن المرء حينما يصبح شخصية عامة فإن الجماعة تحتاجه أكثر مما يحتاجها، وتستفيد منه لو أرادت أكثر مما يستفيد هو منها. لعل خروج عبد المنعم أبو الفتوح من الإخوان ليس بالأمر السيء، حيث أن ذلك سيحرره من القيود التنظيمية التي تفرضها الجماعة في العادة على منتسبيها وسيفتح أمامه من الأفاق ما لم يكن متاحاً من قبل بسبب العقبات البيروقراطية لتنظيم ماتزال تطغى فيها السمة العسكرية على السمة المدنية.

عِبَر تركية لمن يريد أن يعتبر ….. فهمي هويدي


وجهت الانتخابات التركية حزمة من الرسائل التى ينبغى أن تقرأ جيدا، ليس فى تركيا وحدها وإنما فى مصر والعالم العربى أيضا، وهذه الأخيرة هى الأهم عندى.
(1)
الرسالة التى وجهها الأتراك إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم تقول ما خلاصته إن الشعب التركى يريد أردوغان رئيسا وليس سلطانا. لقد صوتوا له ولحزبه بمعدل واحد من كل ناخبين اثنين. وحين حصل على 50٪ من الاصوات فقد كانت تلك هى المرة الثالثة فى التاريخ التركى المعاصر. إذ لم يسبقه إلى ذلك سوى اثنين هما عدنان مندريس فى عامى 1950 و1954 وسليمان ديمريل عام 1965، كما أنها المرة الأولى التى يحتفظ بها حزب واحد بالأغلبية، يشكل الحكومة منفردا فى ثلاث دورات متتالية. وبشهادة الجميع فقد كان أداء الحزب خلال الانتخابات ممتازا، على الاقل من حيث حرصه على أن يمثل مختلف شرائح الشعب التركى واتجاهاته الفكرية والسياسية والعرقية، خصوصا العلويين والأكراد، (كانت له مرشحة يسارية فى استنبول هى عائشة نور) واستطاع أن يدخل إلى البرلمان 78 سيدة، أغلبهن من انصاره (كن 50 فى الانتخابات السابقة) ومن بين ممثليه عن استنبول شاب عمره 26 سنة اسمه بلال مجيد) وبهذه التركيبة الثرية قدم حزب العدالة نفسه بحسبانه حزبا وطنيا يمثل الأمة بمختلف مكوناتها وليس حزبا إسلاميا يمثل فئة بذاتها.
إذا أضفت إلى ذلك النجاحات التى حققها الحزب على صعيد الاستقرار وفى مجال التنمية الاقتصادية والفاعلية السياسية، فإنك تستطيع أن تدرك لماذا صوتت أغلبية الناخبين لصالحه ولماذا حقق فوزه الكبير، لكن الواضح أن المجتمع التركى أراد أن يجعل الفوز مشروطا، بحيث يمكن حزب العدالة ورئيسه من تشكيل الحكومة، لكنه لا يطلق يده فى تعديل الدستور منفردا، كيف؟
كنت قد ذكرت من قبل أن أردوغان أعلن على الملأ أن إحدى المهام الاساسية للبرلمان الجديد هى اصدار دستور جديد يؤسس للجمهورية الديمقراطية، بديلا عن الدستور الذى اصدره العسكر فى عام 1982، لترسيخ أقدام الجمهورية الكمالية الخاضعة لسلطة العسكر والتطرف العلمانى. وهو ما اعتبرته فى الاسبوع الماضى ميلادا جديدا ينقل تركيا من ولاية العسكر إلى ولاية الأمة، وإذا كان الانفراد بتشكيل الحكومة يتطلب الحصول على أغلبية، فإن اصدار الدستور الجديد من جانب حزب العدالة يتطلب فوزه بأغلبية الثلثين، والذى حدث أن حزب العدالة والتنمية فاز بأغلبية الاصوات حقا، لكنه لم يكمل نصاب الثلثين، الأمر الذى يعنى ان طريقه أصبح ممهدا لتشكيل الحكومة، أما طريقه إلى تعديل الدستور فقد أصبح شائكا وملغوما.
لقد كان حزب العدالة يرنو للفوز بـ367 مقعدا فى البرلمان (550 عضوا) لكى يعد الدستور ولكنه فاز بـ363 مقعدا فقط، الامر الذى غل يديه فيما انتواه وتعين عليه ان يتفاهم مع الاحزاب الاخرى فى هذا الموضوع، ولكن ذلك ليس امرا سهلا وهو أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح.
(2)
تتحدث الطبقة السياسية فى استنبول عن أن فكرة اعداد دستور جديد ينقل السلطة من العسكر إلى الامة أمر لا خلاف عليه لكن ثمة خلافا جوهريا حول مسألة التحول الى النظام الرئاسى التى يتبناها رئيس الوزراء الحالى رجب طيب أردوغان. وكما قال لى نائب رئيس حزب الشعب أوغوز ساليشى فإنهم متفقون مع الحزب القومى الممثل فى البرلمان على رفض ذلك النظام لسبب جوهرى هو انه يشكل خطورة فى بلد ثقافته متأثرة بنظام السلطة العثمانية الذى استمر ستمائة عام. ولهذا فإنهم يعتبرون ان النظام البرلمانى يوفر ضمانات لحماية الديمقراطية فى تركيا بأكثر من النظام الرئاسى.
فى هذا السياق فإن البعض يرون أن النظام الرئاسى يشكل أحد الخيارات المتاحة امام اردوغان، الذى لا يسمح له قانون حزبه بتولى رئاسة الحكومة لثلاث مرات متتالية. ولأن هذه هى فرصته الثالثة والأخيرة فإن أمامه ثلاثة خيارات لمستقبله، إما أن يترشح للرئاسة بعد ذلك بما يخرج الرئيس الحالى عبدالله جول من الساحة (يرشحه البعض لسكرتارية الأمم المتحدة). وإما ان يخرج من السلطة ويتفرغ للحزب مدة أربع سنوات ثم يعود للترشح مرة اخرى لرئاسة الحكومة بعد ذلك. الخيار الثالث أن يقر الدستور النظام الرئاسى فيصبح هو رئيس الدولة وهو رئيس الوزراء فى الوقت ذاته وذلك هو الخيار الافضل بالنسبة له.
يزيد من صعوبة تمرير التعديل الدستورى بالصورة التى يريدها اردوغان أن البرلمان الجديد يضم عناصر قوية من حزب الشعب والحزب القومى إضافة الى قوة الاكراد الصاعدة (لهم الآن 36 نائبا، كانوا 20 فقط فى انتخابات عام 2007). لهذا السبب فإن ثمة أصواتًا تحدثت عن أن موضوع الدستور الجديد قد لا يصدر فى ظل وجود البرلمان الحالى، وهو الذى عبر عنه صراحة الكاتب التركى مصطفى اوزجان. واذا صح ذلك فإنه قد لا يؤثر على قوة وثبات حزب العدالة والتنمية، لكنه قد يضع اردوغان امام خيارات صعبة لا يفضل ايا منها بعد أن أدرك أن المجتمع التركى يريده، لكنه ليس راغبا فى ان يعطيه صَّكا للمستقبل على بياض.
(3)
ما خصنا من رسائل الانتخابات التركية أقرب إلى الدروس التى يتعين استيعابها والاعتبار منها. سأضرب ثلاثة أمثلة مستقاة من سلوك حزب العدالة والتنمية الذى يعرف الجميع جذوره الاسلامية، باعتبار انه خرج من عباءة حزب الرفاه ذى الاتجاه الاسلامى الصريح الذى اسسه البروفيسور نجم الدين اربكان (توفى هذا العام). وكان اردوغان مسئول الشباب فى الحزب فى مدينة استنبول ثم رئيس الحزب بالمدينة وبهذه الصفة رشح لرئاسة بلدية استنبول فى عام 94، ودخل السجن بسبب انتمائه للحزب، وحين خرج طور من أفكاره وأسس مع بعض رفاقه حزب العدالة والتنمية عام 2001، الذى فاز بالاغلبية فى العام التالى مباشرة.
ولأن حجاب الرأس يشكل علما ورمزا له أهميته البالغة فى تركيا جعلته بمثابة حد فاصل بين الانتماءين الاسلامى والعلمانى، فإن تهمة الأسلمة ما برحت تلاحق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لمجرد أن زوجتيهما محجبتان وكذلك الحال مع أغلب قيادات الحزب، مع ذلك فتعال نَرَ كيف تعامل الحزب مع المجتمع ومع الانتخابات.
الملاحظة الاولى أن الحزب ظل يقدم نفسه بحسبانه مشروعا لخدمة الناس وليس منبرا لوعظهم. وقد فهم السياسة ليس بحسبانها فن الممكن كما هو التعريف السائد فى الغرب ولكنه تعامل معها من منظور فقهائنا الذين قالوا انها كل ما كان به الناس أقرب الى العلاج وأبعد عن الفساد. بالتالى فإن الحزب اختار من البداية أن يقنع الناس بأنه أنفع لهم من غيره، وأنه مؤتمن على مصالحهم ومشغول بهمومهم وأوجاعهم. ومن ثم ترجم السياسة إلى ضرورة أن يكون حالهم أفضل وحلمهم أقرب إلى التحقيق. وكان ذلك هو الباب الذى دخلوا منه إلى البلديات، حيث تنافسوا على خدمة الناس. الأمر الذى أوصلهم بسهولة إلى قلوبهم. وهى رسالة أهديها إلى التيارات الإسلامية التى تتسابق الآن على تشكيل الأحزاب وأعينها معلقة على المؤسسات السياسية ومدارج السلطة، ولم نر أحدا منها مشغولا بالمجتمع وخرائطه.
الملاحظة الثانية تتمثل فى الجهد الذى بذله حزب العدالة لاحتواء الأطياف المختلفة على النحو الذى حوله إلى حزب وطنى مهجوس بمستقبل الأمة وليس مشروع الجماعة. إذ حين يستعرض المرء هويات المرشحين واتجاهاتهم يدهشه أن قادة الحزب كانوا مشغولين طول الوقت بقضية النهوض بالوطن وليس تعزيز موقع الجماعة، مدركين أن الوطن غاية والحزب وسيلة، وهى المعادلة المختلة عندنا، حيث تتعدد لدينا الشواهد الدالة على أن الجماعة أو الحزب هو الغاية بينما الوطن مجرد وسيلة تستخدم لتقوية الغاية.
الملاحظة الثالثة تتمثل فى موقف حكومة حزب العدالة وقيادته من قضية الحجاب الذى لا يزال العلمانيون المتطرفون يعتبرونه خطرا يهدد الجمهورية والعلمانية. ولا يزالون يرفضون تصديق أن زوجتى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء محجبتان، ويعتبرون ذلك من الكوارث التى حلت بالبلاد منذ سنة 2002. ومعلوم أن القوانين التركية تمنع دخول المحجبات إلى دواوين الحكومة والمؤسسات الرسمية، كما تمنع انتظامهن فى المدارس والجامعات الحكومية. ولكن هذه القبضة تراخت بصورة نسبية بضغط المجتمع بالدرجة الأولى منذ تولى حزب العدالة والتنمية للسلطة. ولكن الحجاب لم يسمح به قانونا. وحين صوتت أغلبية أعضاء البرلمان على الإلغاء فى عام 2007. فإن ذلك استنفر أركان المعسكر العلمانى الذين تحركوا لرفع قضية أمام المحكمة الدستورية العليا لحل حزب العدالة والتنمية بما يؤدى إلى إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات جديدة. وكانت النتيجة أن تم سحب المشروع بسرعة لتجنب أزمة سياسية كبيرة تهدد استقرار واقتصاد البلاد. وحين طلبت بعض المحجبات أن يترشحن للانتخابات البرلمانية الأخيرة، فإن قيادة الحزب آثرت عدم الاستجابة لطلبهن، لتجنب تأزيم الموقف فى البرلمان، فضلا عن التذرع بهذه الخطوة لحل الحزب وإخراجه من المشهد السياسى.
حين ناقشت بعض القيادات فى الموضوع فإنهم قالوا إن ذلك القرار اتخذ فى ضوء موازنات تمت بين الضرر الأصغر والضرر الأكبر، وإن مسألة الحجاب تحل بالتدريج وطول النفس.لأن المحجبات دخلن إلى مجالس البلديات، وليس ثمة عجلة فى إدخالهن إلى البرلمان. وهناك مصلحة مجتمعية فى زيادة تمثيل النساء فى البرلمان من 50 إلى 78 سيدة، وهذه تتقدم على المصلحة التى تترتب على ترشيح عدد محدود من المحجبات، فضلا عن أن هذه الفرصة لابد آتية يوما ما، فى الانتخابات القادمة غالبا، وذلك درس فى التدرج والموازنة يصعب على كثيرين الاقتناع به فى بلادنا.
(4)
الرسالة الأخرى التى يصعب على كثيرين استيعابها فى المشهد التركى هى أن حزب العدالة والتنمية رغم أنه يعتبر نفسه حزبا وطنيا ومدنيا وليس حزبا إسلاميا، فإن الباحث المدقق يستطيع أن يلحظ أنه يتحرك فى إطار المقاصد الإسلامية، التى توصف فى الأدبيات السياسية بالمرجعية الإسلامية. وهذه نقطة تحتاج إلى تحرير.
وقبل أن استطرد أذكر بأن ما أسجله هنا هو اجتهادى الشخصى وليس منسوبا إلى أحد من حزب العدالة والتنمية. ذلك أننى أفرق بين المقاصد التى هى الأهداف الكلية والعليا، وبين الوسائل أو الأحكام التفصيلية. ومحور المقاصد هو إقامة العدل وتحقيقه بين الناس، باعتباره أمر الله وكلمته بنص القرآن. ويدخل فيه احترام كرامة الإنسان وحقه فى مقاومة الظلم وممارسة الحرية والشورى، وتحرير عقله وعصمة دمه وعرضه وماله.. إلى غير ذلك من المقاصد التى تشكل ساحة رحبة للقاء مع الآخرين، وطريقا واسعا للنهوض بالمجتمعات. وهى هنا مرجعية إسلامية لأن لها تأصيلا شرعيا يدعمها ويؤسس لها. أما تنزيل تلك المرجعية على أرض الواقع فيختلف من مجتمع إلى آخر. فهناك مجتمع يقبل المقاصد وليس مهيأ لاستقبال الوسائل كما هو الحاصل فى تركيا، وهناك مجتمع آخر يحتمل الاثنين. وفى كل الأحوال فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ــ والله أعلم.

خديعة الرموز- بقلم جاسم سلطان

رموز يحيطون بنا في كل مكان، وصناع رأي يتصدرون أغلفة الجرائد والمجلات، يعتبرهم الناس أعلاماً يتلقون عنهم أفكارهم، ويشكلون من خلالهم تصوراتهم، رموز سياسية وإعلامية ودينية، يمثلون طليعة أي مجتمع، وهم الدرع الفكري والتوجيهي الذي يتترس بهم المجتمع، لكنهم في ذات الوقت قد يكونون هم الخديعة الكبرى.
والخديعة هنا تصيب الرمز أولاً، ثم يمارس هو الخديعة بعد ذلك بوعي أو غير وعي، أي أنه يبدأ مخدوعاً ثم يتحول إلى زعيم الخداعين.
فالرمز السياسي والديني عادة يكتسب شعبيته بقوة طرحه، وجدة فكرته، وحيوية ما ينادي به، وهو عادة يبدأ بالتوجيه في نطاق ضيق، ثم لا تلبث وسائل الإعلام أن تكتشف وجوده، فتشحذ كلاليبها، وتأتي به إلى منصة عامة حيث يراه الجميع، ثم تعلن بعد ذلك نبأ إعدامه. كم من رموز أسقطتها الكاميرات!!
فالرمز بعد فترة قد تخدعه آلة الإعلام وتحرفه عن مساره، فتزين له هذه الحالة من الوفرة الإعلامية، وبدلاً من أن يتخذ من الإعلام معراجاً لتسديد ضربة قاضية للواقع المؤلم، إذا به يصبح سلعة إعلامية، هذه السلعة يجب أن تغلف بشكل يتناسب مع احتياجات التسويق، وإدرار العوائد المادية الضخمة. ثم تتحول ”الشهرة” إلى وظيفة يخشى فقدانها، ويصبح افتقاد الكاميرا هو الديدن، أخشى أن أحدهم سيسمي ابنته ”عَدَسَة”!!
وبداية من هذه النقطة يتحول الضحية إلى جان، ويتحول المخدوع إلى خادع، ويبدأ الاتجار بالكلمة، وتبدأ ”مافيا الرموز” في العمل!!

أقول علينا أن نحذر الخديعة، لأن بعض الرموز يبدأون زاهدين في الإعلام، وينتهون متشبثين به، يبدأون مستخدمين له، وينتهون عبيداً أجراء عنده، يبدأون بأفكار نحن في أمس الحاجة إليها، ثم ينتهون بأفكار لا حاجة لنا بها، يبدأون بالإنفاق من جيوبهم من أجل أن تصل رسالتهم وأفكارهم الفعالة للناس، وينتهون بوضع أيديهم في جيوب الناس قائلين لهم ”صوتوا للبرنامج”، ”ابعثوا رسائل”. وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، إذ يظهر صبية تعلموا الصنعة، فيبدأون من حيث انتهى أساتذتهم، فيضعون أيديهم في جيوب الناس مباشرة.
لكن ترى ما هو المطلوب إزاء ”مافيا الرموز”؟!
إن أي أمة بحاجة إلى رموز، لكنها بحاجة كذلك إلى رقابة مدنية على أولئك الرموز، فالرمز ليس مطلوباً لذاته، وهو يكتسب قيمته من دوره، فقد يكون الرمز هادم الأوثان أو صانعها، أداة تثوير أو تسكين، يرفع الوعي أو يسحقه. لذلك كان دور الرقابة هو التأكد من الدور الوظيفي الفاعل للرمز. وأعني بالرقابة هنا العمل النقدي العلمي، الذي يشيد بالإيجابيات ويحذر من السلبيات، فهو يهدف إلى تصويب مسار الرموز لا إيقافه، وإعادتهم إلى الجادة لا قتلهم إعلامياً، ليظلوا رموزاً يُعتز بهم. أي أن هذا الجهد النقدي الرقابي يهدف إلى حماية الرمز من طغيان الكاميرات، والحفاظ عليه كمكسب ثمين لمجتمعه، وهذا الأمر ضروري لضمان جودة الرموز، وضمان استمرار الفاعلية، والحفاظ على قوة المجتمع، فالرمز الذي يحرك الجماهير في البداية، هو نفسه الذي قد يقعدهم بعد ذلك!!
إنني أجد في كرة القدم خير منهجية للتعامل مع الرموز، فالرمز يصعب أن يخون فريقه، أو يصوب نحو مرماه، لذلك فأنزه الرموز في رأيي هم رموز كرة القدم، ولجمهور كرة القدم دور كبير في ذلك، إذ الجمهور لا يقدس اللاعب، فإن أخطأ في الملعب انهال عليه بالسب واللعن، وإن بلغ به الحماس مداه؛ مزج السب واللعن بوابل من الحجارة المدببة، فجمهورالكرة يحسن رجم الرموز، أما إن أحسن وأجاد وسدد الهدف؛ شجعه وملأ الكون تصفيراً وتصفيقاً، وحمله فوق الأعناق. هذه القدرة العجيبة على الحمل فوق الأعناق ثم الطرح أرضاً إن لزم الأمر هي التي أثارت اهتمامي، فالجمهور كفيل بإسقاط لاعب وهدم معنوياته، أو دفعه لاستكمال نجاحاته، لأنه يدرك تماماً هدف اللاعب من نزول الملعب، ولذلك يحمل اللاعب ألف حساب للجمهور للذكي، الذي لا تخدعه المهارات في الملعب، أو الحركات الاستعراضية بالكرة، بقدر ما تعنيه الأهداف.

إننا في أمس الحاجة إلى ألا ننبهر بالأشكال الاستعراضية للرموز، بقدر ما نكتسب الجرأة على سؤالهم.. ما هدفكم؟ حتى نستطيع تقويم أدائهم في ضوئه.
على كل رمز يعمل على توجيه العامة أن يدرك أنه اختار الطريق الأصعب، طريق المغارم لا المغانم، وأن المجتمع رقيب عليه، وستقوم مشاريع ومؤسسات خصيصاً لهذا الغرض، دورها ضمان الجودة.. ”جودة الرموز”.
إن مجتمعاً يحاسب رموزه ويسألهم ”إلى أين أنتم متجهون؟” حري به أن ينهض، ولا يوجد رمز فوق المساءلة، مساءلة تتعلق بالأفكار والمواقف، ومساءلة تتعلق بالثروة والمال، سواء كان رمزاً دينياً أو سياسياً أو إعلامياً، أما الرموز الرياضية فالجماهير الذكية كفيلة بهم..

أبو الفتوح يكتب للشروق عن مستقبل السلام والديمقراطيه فى الشرق الاوسط


 خص المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، عبدالمنعم أبوالفتوح، «الشروق» بمقال كان كتبه قبل قرار فصله من جماعة الإخوان المسلمين بساعات، وهو المقال الذى مثل الخطوط العريضة لمحاضرة ألقاها أمام مجموعة تحالف الحضارات الدولية فى لندن، وهذه المحاضرة لقيت صدى كبيرا وتناقلتها وسائل الإعلام الغربية على نطاق واسع وإلى نص المقال:

المجتمع المدنى
من الركائز الأساسية للاستقرار أن يكون المجتمع أقوى من الدولة والشعب أقوى من السلطة، لأن الدولة الحديثة متوحشة كما وصفها المفكر الأوروبى توماس هوبز، لذا لزم الأمر أن يكون المجتمع فى حالة جيدة من التماسك والقوة، وأهم مكونات القوة فى المجتمع هى الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى.
الخبرة التاريخية لدينا فى العالم الإسلامى تقول إن المجتمع كان به قدر كبير من الحيوية والقوة لأنه كان مستقلا ماليا عن السلطة فيما يعرف فى الثقافة الإسلامية باسم «الأوقاف»، وهى عبارة عن تبرعات مالية أو عينية لصالح النشاط الاجتماعى مثل التعليم والعلاج والملاجئ.
ومما نتطلع إليه فى بلداننا أن تعود مؤسسات الأوقاف إلى سابق نشاطها مع توافر الاستقلال عن السلطة، لأن السلطة لدينا استولت على هذه المؤسسات الوقفية بغرض إضعاف المجتمع أمام الدولة. ويضاف إلى ذلك التوسع فى إنشاء الجمعيات البيئية والثقافية والاجتماعية والتربوية، وتوعية الناس بهذه الثقافة: ثقافة تكوين الجمعيات التى ينتظم فيها الناس ويشكلون تجمعا فاعلا فى اتجاه التنمية والبناء.
وجود المواطن فى حالة فردية داخل المجتمع أمر مكروه فى ثقافتنا الإسلامية ومعظم التكاليف الدينية نجدها تتم فى حالة جماعية، وهو ما ندعو إليه ونسعى لإعادة هذا الوعى داخل مجتمعاتنا. الغرب الأوروبى حاليا سبقنا فى هذا المجال ولديه خبرة ممتازة ونحن نتطلع إلى التزود بهذه الخبرات والتجارب من خلال بروتوكولات تعاون وزيارات مشتركة.

المؤسسة العسكرية
الجيش فى المنطقة العربية له مكانة كبيرة، وكان له دور كبير فى القرن الماضى فى مرحلة ما بعد الاستعمار، ودخل فى السياسة والحكم وامتلك زمام الدولة وكان ذلك فى غير صالح الديمقراطية والحريات. والأمر مختلف فى بلد عربى عن بلد آخر، ففى مصر وتونس مثلا يتميز المجتمع بالوحدة العرقية والتماسك وينعكس ذلك على دور الجيش وعلاقته بالدولة والمجتمع وقد رأينا دورا رائعا للجيش أثناء ثورة الشعب فكان ضامنا وحاميا لها، ولم يتدخل لمنعها. فى بلدان عربية أخرى تنعكس الحالة القبلية والطائفية على تكوين الجيش، كما فى ليبيا واليمن وسوريا، وانعكس ذلك أيضا على الموقف من ثورات هذه الشعوب المطالبة بالحرية والديمقراطية.
فى مصر أعلن الجيش بعد إشراف المجلس العسكرى على إدارة البلاد، أنه ليس بديلا للشرعية السياسية التى هى حق أصيل للشعب، ودعا إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، وصاحب ذلك تعديلات دستورية لصالح الشعب. الجيش لا يريد أن يحكم، ولا يريد أن ينغمس فى العملية السياسية، واكتفى بدور الضامن للشرعية الدستورية وسلامة البلاد، وهو موقف تاريخى مجيد أعطى للجيش مزيدا من المهابة والاحترام.
الأحزاب السياسية

تميزت الفترة الماضية بضعف الأحزاب السياسية بل وبضعف الثقافة السياسية بشكل عام، وكتب كثير من المثقفين لدينا عن «موت السياسة»، ومنذ حركة الانقلابات العسكرية فى منتصف القرن الماضى ابتعد الناس عن ممارسة حقوقهم السياسية، وزاد تدخل السلطة فى العلمية الانتخابية مما أفقدها جديتها واحترامها لدى المواطن العادى، وارتبط الانشغال بالعمل العام والعمل السياسى بالملاحقة الأمنية والمطاردة البوليسية، وتكونت أحزاب سياسية ضعيفة تحت إشراف الأجهزة البوليسية.
لكن ثورة الشعب فى يناير حطمت كل ذلك، والآن يبدأ المجتمع فى استعادة قوته السياسية، وبدأت حركة تشكيل الأحزاب، وقد صدر لها قانون محترم ينظمها كان من أهم سماته تكوين الحزب بمجرد الإخطار، بعد أن كان يعرض على لجنة حكومية متسلطة. لدينا أحزاب إسلامية وأحزاب ليبرالية وأحزاب يسارية وقومية، الأمر يحتاج مزيدا من الوقت ليتحقق له النضج المطلوب.
الأحزاب الإسلامية لا تقوم على أساس عقائدى، ولكنها تقوم على الفكرة الإسلامية الحضارية التى ساهم فى صنعها المسلمون والمسيحيون، لذلك فأبوابها مفتوحة لعضوية المسيحيين. والمسيحيون العرب لهم دور كبير فى الحضارة الإسلامية على المستوى العلمى والفكرى والأدبى. ونحن فى الشرق نعتز بهذا التنوع ونرى فيه ثراء إنسانيا جميلا، كما انه يزيد من اعتزازنا بالإسلام الذى يعطى الأقليات الدينية مكانة محترمة فى المجتمع.
وتمثل الديمقراطية والتعددية وتناوب السلطة فكرة محورية لدى الأحزاب الإسلامية، وقد درج المهاجمون للإسلاميين على اتهامهم بأنهم يؤمنون بديمقراطية المرة الواحدة التى تأتى بهم ثم يلغونها ويستمرون فى السلطة، وهو اتهام باطل لا يقوم على دليل ويخالف الأخلاق الإسلامية التى يمثل الصدق والوفاء بالعهود فيها أمرا عظيما.
الأحزاب الإسلامية تهدف من ممارسة نشاطها إلى زيادة الوعى السياسى للجماهير ودفعهم للمشاركة فى الحياة العامة بعد طول إقصائهم عنها، وأيضا تهدف للوصول إلى الحكم لتطبيق برامجها فى التنمية والبناء والنهضة، وذلك وفق مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية وإعلاء كرامة الإنسان.

التوازن الإقليمى الجديد
تتميز المنطقة العربية والإسلامية بالوحدة الحضارية وكانت من قبل تشكل وحدة سياسية جامعة، ثم حدث أمر خطير بطرد أحد أبناء بلدان المنطقة من أرضه (فلسطين) وإحضار قوم آخرين ليحل مكانه (اليهود)، استنادا إلى أفكار تاريخية قديمة أغلبها أسطورى وغير موثق، وتشكلت دولة مختلفة عن التيار الحضارى العام لبلدان المنطقة، وكان من الطبيعى أن تتكون حالة عداء بين الدولة الجديدة ومحيطها العام وفق مفهوم الاعتداء، ونحن نفرق بين اليهود وبين الدولة اليهودية. فاليهود عاشوا فى ظل الحضارة الإسلامية أفضل مراحلهم التاريخية على الإطلاق، كما قال أحد وزرائهم السابقين، وعاشوا كمواطنين لهم كل الحقوق وعليهم مثل الواجبات التى على غيرهم.
وتكوين دولة دينية لأبناء دين محدد أمر غير حضارى وغير إنسانى ويخالف التطور الذى حققته البشرية فى حياتها على الأرض. لا مستقبل لهذه الدولة الاصطناعية لأن نسبة كبيرة من أبناء الدين اليهودى يرفضونها ويفضلون العيش فى ظل المواطنة مثلهم مثل أبناء باقى الديانات. الدولة التى يجب أن تكون (دولة لكل شعبها ووطن لكل أهله) يعيش فيها المسلم والمسيحى واليهودى فى ظل المواطنة.
تتميز المنطقة بوجود ثلاثة بلدان يطلق عليها (البلد المفتاح) لتميز هذه البلدان الثلاثة بالكثافة السكانية وعمق المساهمة الحضارية فى صنع تاريخ المنطقة وهى مصر وتركيا وإيران، ونحن نرى أن استقرار المنطقة يقوم على تفاهمات جيدة بين هذه البلدان، وضرورة التنسيق التام فيما بينها حول مستجدات الأحداث فيها.

فرصة السلام فى المنطقة كبيرة إذا عاد الفلسطينيون إلى وطنهم. فرصة السلام فى المنطقة كبيرة إذا خرج كل محتل أجنبى عنها، فرصة السلام فى المنطقة كبيرة إذا تم إخلاؤها من السلاح النووى.