السبت، 31 مارس 2012

الثورة والتوافق والاصطفاف…… إبراهيم الهضيبى


 ثمة افتراض يقول بأن إنجاح الثورة يحتاج لتوافق قوى المجتمع كافة، وأن العقبة الرئيسة التى تواجهها هى الاستقطاب، وهو قول غير دقيق، فنجاح الثورة يحتاج لا للتوافق وإنما للاصطفاف على أسس ثورية، والعقبة الرئيسية التى تواجه الثورة ليست وجود الاصطفاف وإنما قيامه على أسس خاطئة، ومحاولة الدولة العميقة التفاوض على استبقاء وضعها.

فالثورة بالتعريف عمل جذرى، يختلف فى طبيعته عن التفاوض الذى يحتاجه بناء التوافق، ونجاح الثورات إنما يكون بتمكنها من السلطة لتعيد هيكلة الدولة وتنفذ البرامج السياسية التى تحقق مقاصدها بعدما تكون قد أقصت خصومها بالكامل عن مراكز صنع القرار، سواء كان هذا الإقصاء عن طريق العنف ــ كما هو الحال فى معظم الثورات ــ أو لم يكن، وسواء كانت مراكز القوى وصنع القرار التى تعوق الثورة فى داخل مؤسسات الدولة أو فى خارجها.

والثورة المصرية على وجه الخصوص لم تكن ذات طابع أيديولوجى أو طبقى معين فى بدايتها، وإنما كان المقصد الذى شكل القاسم المشترك الأعظم بين الأطراف المشتركة فيها هو استعادة سيادة الشعب، ليكون ــ بحق ــ مصدر السلطات، وهذا المقصد لم يتحقق إلى اليوم، إذ لا تزال الجهات غير المنتخبة تسيطر على صنع القرار فى الدولة، فالمجلس العسكرى لا يزال متمسكا بالسلطة التنفيذية، مصرا على استبقاء حكومة لفظها الجميع، سواء القوى الشعبية غير المنظمة، أو القوى السياسية البرلمانية، ولا تزال (الدولة العميقة) فى مصر كاملة الأركان لم تصل إليها الثورة، تنظر لنفسها باعتبارها وصية على الشعب، وتساهم بشكل كبير فى صناعة القرار السياسى، وتتحكم بشكل منفرد فى صناعته عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاستراتيجية.

وللدولة العميقة أذرع، أهمها الذراع المعلوماتية المتمثلة فى جهازى الأمن الوطنى والمخابرات (وثمة تسريبات لم يكذبها أحد للآن تقول إن الضباط المفصولين من الأمن الوطنى تم تعيينهم فى المخابرات، ليعملوا على نفس الملفات)، الذراع الأمنية المتمثلة فى الشرطة العسكرية والأمن المركزى، والذراع القضائية والمتمثلة بالأساس فى القضاة من ذوى الخلفيات الشرطية وهم كثر (ما نقله بيان الإخوان الأخير من تهديد البعض بتحريك قضية المحكمة الدستورية لحل البرلمان كاشف لبعض أوجه هذا التمدد للدولة العميقة فى القضاء)، والذراع الإعلامية والمتمثلة فى جل مؤسسات الإعلام القومى، وبعض الإعلاميين المفروضين فرضا على مؤسسات الإعلام الخاص، وهؤلاء تستخدمهم الدولة العميقة فى تبرير بعض المواقف أحيانا، وفى تفكيك الاصطفاف المناوئ لها أحيانا، وفى لفت الأنظار عن جوهر الصراع كثيرا، وهناك أخيرا الذراع المالية، وأهم أركانها المؤسسة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، إضافة لبنك الأراضى، التى يسيطر عليها العسكريون، والتى لا تخضع لرقابة المدنيين، والتى توفر الرعاية المالية المطلوبة للدولة العميقة، كما تساهم فى خلق قاعدة اجتماعية من المستفيدين منها.

وما تحاول هذه الدولة العميقة فعله هو (التوافق) مع الثورة، والوصول لحلول وسط تبقى لها ــ أى الدولة العميقة ــ السيادة على بعض الملفات على أقل تقدير، وما تحتاجه الثورة هو (اصطفاف) كل القوى الراغبة فى انتزاع سيادة الشعب لئلا ينجح مثل هذا التفاوض، الذى هو عين الفشل للثورة، والاصطفاف اللازم غير حاصل لأسباب، منها الانشغال عنه باصطفاف آخر، أقل تأثيرا على مجرى الأمور، وهو ذاك المتعلق بالهوية، إذ يؤدى لنزاع بين طرفين على سياسات حكم فى ظل سيطرة أطراف غيرهما على مقاليد الأمور.

ومما يساهم فى قيام الاصطفاف على أسس غير ثورية كذلك أن الدولة العميقة ــ كما سبق ــ تستخدم ذراعها المالية فى صناعة قاعدة دعم اجتماعى، إذ يؤدى تشابك المصالح الاقتصادية ــ من توظيف لعقود بيع وشراء وحقوق انتفاع وغيرها ــ لأن يحرص البعض ــ مع ظاهر انتمائهم للمعسكر الثورى ــ على بقاء الدولة العميقة أو على الأقل بعضها، كما أن الدولة العميقة تستخدم قوتها الناعمة وسلطتها التنفيذية فى تقديم بعض المعارك وتأخير بعضها، كالتعجيل بكتابة الدستور ــ وهى عملية تستلزم سعيا نحو التوافق بين القوى المجتمعية على اختلاف موقفها من الثورة ــ لتتوازى مع الانتخابات الرئاسية ــ وهى معركة لو انصب الجدل حولها فيمكن أن تساهم فى تراجع معسكر الدولة العميقة وانحساره.

كما أن بعض الساسة ــ رغم اختلافه مع توجهات الدولة العميقة ــ فإنه مثلهم لا يؤمن بسيادة الشعب، ويؤمن بتضييق دوائر صنع القرار وإبقائها فى إطار النخبة لأن الشعب ــ فى تقديرهم ــ لم يبلغ بعد رشده السياسى، ولذلك فإنهم وإن وافقوا الجماهير الغاضبة فى موقفها من الحكام، فإنهم لا يقبلون بمساندة هذه الجماهير، خوفا من أن تنتقل إليها ــ بحق ــ السيادة.

إن معركة استعادة سيادة الشعب ــ التى هى جوهر الثورة، والتى ينبغى أن يقوم الاصطفاف الرئيس على أساسها ــ تتفرع عنها مباشرة معارك أخرى، أولها الموقف من «الخارج» وتأثيره فى صناعة القرار الوطنى، وهو موقف يتجلى فى السياسات والخطابات التى تنتهجها الأطراف المختلفة تجاه الخارج، وثانيها الموقف من العدالة الاجتماعية ــ التى هى عمود فقرى لا يمكن للمجتمع أن يتماسك ويحافظ على سيادته بدونها ــ وهى أيضا شديدة الاتصال بالموقف من الخارج تأثيرا وتأثرا، وحول هذه المعارك ينبغى أن يكون الاصطفاف، وفى داخل المعسكر الواحد ينبغى بناء التوافق، بدلا من السعى لبنائه على حساب اصطفاف المعسكرات.

لا شك أن بقاء الاصطفاف الحالى لا يخدم الثورة، لأنه لا يقوم على أساس الموقف منها، غير أنه يضر الثورة أيضا أن نحاول إنهاء الاصطفاف بالكامل قبل أن تتمكن الثورة من مرادها، وأن يُغَّلَب السعى للتوافق على السعى لإنجاح الثورة، إذ هذا يعنى وأد الثورة وتحويلها لعملية إصلاحية تغير بعض أشكال فساد النظام السياسى من غير أن تمس جوهره، وهو ما يعنى أن الحاجة للتغيير ستبقى قائمة تنتظر لحظتها التأريخية، وأن الاستقرار المنشود إذا لن يتحقق.

جمعية غير جامعة… معتز بالله عبد الفتاح


 كتابة دستور جديد لمصر يقتضى ما هو أكبر من مجرد اجتماع مجموعة من الأفراد لصياغة الدستور. هو يقتضى قبل كل شىء أن تكون الهيئة التى تصوغ الدستور «جامعة» لأهم مقومات المجتمع المصرى. وهو ما يجعلنى مترددا بشدة فى مسألة الاستمرار أو الاعتذار عن عدم المشاركة فى أعمال الجمعية بصيغتها الحالية. هذا قرار صعب فى أمر جلل.

هناك الكثير مما لا أرضى عنه فى طريقة إدارة الاجتماع المشترك للأعضاء غير المعينين من مجلسى الشعب والشورى والذى أفضى إلى أن يكون نسبة أعضاء المجلسين خمسين بالمائة من أعضاء الجمعية التأسيسية. وهذا لا ينفى رغبتى فى أن تستفيد الجمعية التأسيسية بعدد لا يزيد على ثلث أعضائها من الخبرات والكفاءات القانونية والسياسية الموجودة فى البرلمان لأنه سيكون عقابا للمجتمع كله بأن لا يمثل هؤلاء فى الجمعية التأسيسية لمجرد أنهم منتخبون فى البرلمان.

ولكن أن تزيد هذه النسبة لدرجة المناصفة، فقد وجدت فى نفسى حرجا بالغا، وإحساسا بأن السياسة الحزبية طغت على المصلحة الوطنية كما أفهمها على الأقل. ولكن ما زاد الأمر سوءا هو أن المعايير غابت، وكأن احتمال أن يلتحق بالجمعية أى شخص هو مسألة محكومة باعتبارات غير مفهومة عند المواطن غير المتداخل تنظيميا مع القوى المسيطرة على البرلمان مثلى. ونجد أن جهات معينة تبدى انزعاجها من أن الأسماء التى رشحتها لم يتم اختيار أحدها فى حين تم تضمين آخرين محسوبين على نفس الجهة. وهنا يبدو أن تسييس عملية الاختيار جعل ما هو «حزبى» له أولوية على ما هو «وطنى».

وما زاد الغصة فى الحلق هو انسحاب الكثير من الأصدقاء الليبراليين وغياب أغلب الأعضاء المسيحيين عن الاجتماعات وقد كانوا ممثلين بنسبة أقل مما كنت أتمناه أو أتوقعه يقينا، فضلا عن تواضع تمثيل السيدات، لذا أعلنت بوضوح فى أول اجتماع للجمعية أننى مستعد لأن أتنازل عن مقعدى لصالح أى صديق قبطى أو سيدة عسانا بزيادة تمثيلهم قد ننزع فتيل المشكلة، مع ملاحظة أننى لن أبخل بأى مشورة أو جهد فى اللجان الفنية حتى لو تنازلت عن مقعدى.

لا أدرى ما الذى ستحمله الأيام القادمة. لكن ضميرى غير مرتاح لأن أترك المهمة وهى أمر جلل، وكذلك غير مطمئن للاستمرار فى جمعية غير جامعة لمن أعلم يقينا أنهم لو وجدوا فيها فسيثرون النقاش ويساعدوننا على الخروج من هذه المرحلة الانتقالية التى طالت كثيرا.

لم أملك التحكم فى دموعى أثناء مكالمة لى مع الشاعر الكبير فاروق جويدة مساء يوم الأربعاء وهو يصف لى بصدق وبلاغة ما وجده مقارنة بما كان يتوقعه، وكيف اختفت مصر التى كانت فى ذهنه وأمله لصالح مصر التى صارت. لا أعرف هل كانت دموعى تعبر عن حزن، أم خوف، أم إحباط أم إحساس بالعجز أم خليط من كل هذا. لا أعرف. ولكن نحن دخلنا فى مرحلة خطرة من الاستقطاب المتبادل وكأن الجزارين ينتظرون سقوط مصر حتى يقضون عليها بسكين العصبية والإقصاء، والكل يحسب أنه يحسن صنعا، ولا يتوقف كثيرا ليسأل: «هل ما أفعله فى صالح مصر؟ أم هو فقط فى مصلحتى أو حزبى أو فريقى؟»

لا أدعى الوطنية، ولكن أسجل إحساسى بالقلق على مستقبل وطن بإمكاننا أن نحلق به فى سماء التقدم، ولكننا بغفلتنا نهوى به فى أودية التخلف.

يا رب، لا تكلنا لأنفسنا الضعيفة فنهوى وتهوى معنا مصر.

الخميس، 29 مارس 2012

اسمعونا مرَّة……..فهمي هويدي


 حين تبنى مجلس الشعب بالإجماع بيان لجنة الشئون العربية الذى صدر فى أعقاب الغارات الإسرائيلية على غزة، ودعا إلى تبنى موقف مصرى حازم إزاء تلك الجريمة، تباينت ردود الأفعال فى داخل مصر. إذ فى حين جاء البيان معبرا عن مشاعر الشارع المصرى فإن بعض شرائح النخب انتقدت البيان بين من اعتبره «جعجعة» تعيدنا إلى خطاب الستينيات، ومن اعتبره إخلالا باستحقاقات معاهدة السلام مع إسرائيل. والأولون لا كلام لنا معهم. لأن أغلبهم من فريق التطبيع الذين تلوثت مداركهم ولم يعد يجدى معهم أى حوار. أما الآخرون فبينهم أناس محترمون لديهم وجهة نظر تستحق المناقشة.
من هؤلاء السفير المخضرم إيهاب وهبة، الذى نشرت له جريدة «الشروق» مقالة فى 17 مارس الحالى تحت عنوان «حتى لا يحرفنا الحماس بعيدا عن مبتغانا».

كان بيان لجنة الشئون العربية الذى صدر فى 12/3 قد ركز على عدة نقاط هى:
ــ إن مصر الثورة لن تكون أبدا صديقا أو شريكا أو حليفا للكيان الصهيونى الذى نعتبره العدو الأول لمصر ولأمتنا العربية.
ــ إن الحكومة المصرية مطالبة بمراجعة كل علاقاتها واتفاقياتها مع هذا العدو وما تمثله من مصادر تهديد حقيقية للأمن والمصالح الوطنية المصرية.
ــ المطالبة بطرد السفير الإسرائيلى من مصر، وسحب السفير المصرى من تل أبيب، ووقف تصدير الغاز المصرى لهذا الكيان، وتجميد العمل باتفاقية الكويز وشروطها المجحفة بالسيادة والمصالح الوطنية المصرية.
ــ تبنى خيار المقاومة بكل أنواعها وأشكالها، العودة إلى تفعيل سياسة المقاطعة العربية الشاملة للكيان الصهيونى.

فى تعليقه على البيان لم يخف السفير إيهاب وهبة إدانته «للأعمال الإجرامية» التى تقوم بها إسرائيل، لكنه فرق بين مستويين من الإجراءات فى الرد على العدوان الإسرائيلى:
مستوى يتعلق بحق مصر فى ممارسة سيادتها (مثل سحب السفير أو تجميد اتفاقية الكويز أو وقف تصدير الغاز). أما المستوى الآخر فيتعلق بالتزامات مصر الدولية التى سبق تحصينها آنذاك بموافقة مجلس الشعب وبالاستفتاء العام. والتحفظ الذى أبداه السفير وهبة انصب على ذلك المستوى الثانى، حيث اعتبر أن بعض ما دعا إليه بيان لجنة الشئون العربية يتعارض مع نصوص واستحقاقات معاهدة السلام مع إسرائيل التى وقعت فى عام 1979. 

 تعليقى على مقالة السفير إيهاب وهبة يتلخص فيما يلى:
 ــ إن بيان لجنة الشئون العربية تحدث عن «مصر الثورة» التى يفترض أنها مختلفة عن مصر مبارك. ومن حقها أن تتعامل بطريقة مختلفة مع تعهدات العصر الذى انقلبت عليه، علما بأن البيان لم يتحدث عن خرق أو إلغاء معاهدة السلام، وإنما دعا إلى مراجعة علاقاتها واتفاقياتها التى تمثل تهديدا للأمن القومى المصرى.

 ــ إن البيان إذا كان قد اعتبر إسرائيل عدوا، فإنه لم يعبر عن المشاعر الحقيقية للشعب المصرى فحسب ولكنه أيضا بادل الإسرائيليين مشاعرهم، ذلك أن خطابهم الإعلامى كان طيلة السنوات التى مضت يتحدث عن نظام حليف فى مصر وشعب عدو.

 ــ إذا فهمنا وقدرنا منطق الدبلوماسى المخضرم فى حديثه عن الاتفاقات الدولية، فأحسب أنه يتعين أيضا فهم وتقدير موقف لجنة تضم نفرا من ممثلى الشعب. وليس مطلوبا من الأخيرين أن يكونوا بدورهم دبلوماسيين.

 ــ القول بأن مجلس الشعب يجب أن يسير على خطى الحكومة فى معاهدة السلام أو فى غيرها يطالب النواب المنتمين بأن يتحولوا إلى موظفين فى الخارجية. ثم إنه لا غضاضة فى أن يتبنى المجلس موقفا مختلفا عن حكومته، ويدعو مثلا إلى إعادة النظر فى بعض الاتفاقات الدولية، التى زيَّفت إرادة الشعب وأهانت مصر ودورها التاريخى.

 ــ إنه ليست هناك معاهدات أبدية، ومن ثم لا ينبغى أن يغلق باب الاجتهاد أو التفكير فى إعادة النظر فى معاهدة السلام فى الظرف التاريخى المناسب. وفى هذه الحالة لا ينبغى أن تحجم مصر عن الدفاع عن مصالحها العليا وأمنها القومى التى فرط فيها النظام السابق، كما لا ينبغى تخويفها بمذكرة التفاهم التى أشير إليها بين إسرائيل والولايات المتحدة.

 لقد سئمنا الاستماع إلى كلام الحكومة وحدها طوال نصف القرن المنقضى، ومن حقنا أن نطالبها بأن تستمع إلى رأى الشعب بعد الثورة، حتى وإن كان من قبيل التنفيس و«فشَّة الخلق» كما يقول اللبنانيون، وإذا كان استحضار هذه المعانى واجبا فى كل وقت، فإنه يعد أوجب اليوم بوجه أخص، فى ذكرى يوم الأرض التى تحل غدا (٣٠ مارس)، وهو اليوم الذى انفجر فيه غضب فلسطينى 48 عام ١٩٧٦، إثر مصادرة 21 ألف دونم من أراضيهم لتخصيصها للمستوطنات، ضمن مخطط تهديد الجليل. وأسفر الانفجار الشعبى عن قتل ستة فلسطينيين واعتقال 300. الأمر الذى أبقى على ذكرى ذلك اليوم محفورة فى الأذهان، ضمن شواهد الجريمة الكبرى التى حاولت الاتفاقات الدولية دفنها وطمس معالمها.

حكم المرتد.. رؤية في ضوء المقاصد……… د/وصفي عاشور أبو زيد


 من القضايا الشائكة التي تثير جدلا دائمًا، وتتنوع فيها أسباب الخلاف في الرأي والرؤى، ما بين أسباب علمية حقيقية، إلى أسباب يُخوَّن بها من يقول برأي مخالف لما استقر عليه الأمر لدى جمهور الفقهاء، وتوجَّه إليه تهم بالهزيمة النفسية، والعمالة أحيانًا، وغير ذلك، بالإضافة إلى أن قتل المرتد حدًّا أصبح مثار شبهة توجه للإسلام بأنه ضد حرية الاعتقاد رغم أن الإسلام ما جاء إلا ليكفل حرية الاعتقاد للجميع.
وفي ظل الأجواء التي تحياها الأمة العربية والأحدث التي أجراها القدر عليها من ثورات في بلاد شتى برزت قضية الردة مرة أخرى، وهذا يجعلنا نتناول القضية من زاوية مقاصدية لنرى إلى أي جهة ستنتهي بنا المقاصد في هذه القضية المهمة.
نقل الإجماع على قتل المرتد حدا
بداية نقل النووي، وابن قدامة، وابن رشد الإجماع على أن حكم المرتد هو القتل حدًّا، واستدلوا بآيات قرآنية، منها: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 217). وقول النبي صلى الله عليه و سلم: "من بدل دينه فاقتلوه"(1)، ولا خلاف في ذلك بين رجل وامرأة عندهم إلا الحنفية فقالوا لا تقتل المرأة، والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في النصوص الشرعية(2).
نصوص القرآن والسنة في المسألة
وهذا يقتضي منا النظر في نصوص القرآن والسنة ثم نورد الرأي المختار، فالقرآن الكريم لم يورد عقوبة دنيوية على الردة، كل ما هنالك أنها توعدت بالعذاب الأليم في الآخرة، ولا توجد إلا آية واحدة ذكرت العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ولم تحدد ما هو هذا العذاب في قوله تعالى: "يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ" (التوبة: 74). ولهذا فإن الفقهاء الذين يستدلون بالقرآن على حد الردة لا يستدلون به بشكل أساسي، وإنما مستندهم الأكبر في نصوص السنة النبوية.
وكل ما ورد في السنة النبوية للاستدلال على ذلك ثلاثة أحاديث(3) هي:
أ - حديث المحاربين من عكل وعرينة، وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما، روى مسلم بسنده عن أنس أن نفرًا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبايعوه على الإسلام فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم فشكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها فقالوا بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا"(4)
ب - والحديث الذي رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقد سبق تخريجه.
جـ - والحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة"(5)
ففي الحديث الأول لم تكن الردة وحدها هي السبب فيما أوقعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهم، وإنما لأنهم "قتلوا الراعي، وطردوا الإبل"، وهذا يمثل محاربة، أو كما قال ابن تيمية: "وأما ابن سرح وابن خطل ومقيس بن صبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة، وكذلك العرنيون، فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة وأخذوا الأموال فصاروا قطاع الطريق محاربين لله ورسوله، وفيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين"(6)
وقال في موضع آخر: "قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها" فهذا المستثنى هنا هو المذكور في قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" ولهذا وصفه بفراق الجماعة وإنما يكون هذا بالمحاربة"(7). ومن هنا فإن الاستدلال بهذا الحديث على أن القتل هو حد للمرتدين لمجرد الردة غير مسلم.
وأما الحديث الثاني فهو أقوى الأدلة عند من يقول إن قتل المرتد هو حد لمجرد الردة؛ وهذا متعارض مع قوله تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256). وهي آية محكمة؛ لأنها كلية خلافًا لما ذهب إليه بعض المفسرين، فإن السنة لا تنسخ القرآن(8). وقوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف: 29). وقوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ". (يونس: 99). فلم يبق إلا أن نفهم الحديث فهمًا آخر.
وهو ما يرشدنا إليه الحديث الثالث الذي ذكر الأسباب المبيحة لدم المسلم، وذكر منها: "والمارق من الدين التارك للجماعة"، وعند أبي داود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج(9) محاربا لله ورسوله، فإنه يُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يَقتل نفسا فيُقتل بها"(10)
ومن خلال جمع الأحاديث في الموضوع الواحد ـ وهو منهج معتبر ومتبع في فهم نصوص السنة النبوية، بل لا يصح فهم السنة بدونه ـ يتبين لنا أن مجرد الردة ليس موجبًا للقتل، وإنما اقتران الردة بالحرابة والخروج، ومفارقة الجماعة هو الموجب لذلك، ويمكن حمل الإطلاق في  حديث ابن عباس على التقييد المذكور في حديث ابن مسعود وحديث عائشة.
آراء للفقهاء المعاصرين
ولهذا يقول الشيخ محمود شلتوت في حكم المرتد: "وقد يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيرا من العلماء يرى أن الحدود لا تثبُت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحا للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين والعدوان عليهم ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الآيات تأبى الإكراه في الدين"(11)
ويقول د. يوسف القرضاوي: "والذي أراه أن العلماء فرقوا في أمر البدعة بين المغلظة والمخففة، كما فرقوا في المبتدعين بين الداعية وغير الداعية، وكذلك يجب أن نفرق في أمر الردة الغليظة والخفيفة، وفي أمر المرتدين بين الداعية وغير الداعية، فما كان من الردة مغلظًا كردة سلمان رشدي، وكان المرتد داعية إلى بدعته بلسانه أو بقلمه، فالأولى في مثله التغليظ في العقوبة، والأخذ بقول جمهور الأمة وظاهر الأحاديث؛ استئصالا للشر، وسدا لباب الفتنة، وإلا فيمكن الأخذ بقول النخعي والثوري، وهو ما رُوي عن الفاروق عمر، إن المرتد الداعية إلى الردة ليس مجرد كافر بالإسلام، بل هو حرب عليه وعلى أمته، فهو مندرج ضمن الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا"(12).
وفي اتفاق مع هذه الآراء يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن: "وليست هي ـ يعني الردة ـ فيما يبدوا لي ـ مناط العقاب؛ إنما مناطه أقوال وأفعال يظهرها المرتد بقصد مفارقة جماعة المسلمين، والعمل على هدم مقومات حياتهم؛ فهي أشبه ما تكون بجريمة الخيانة العظمى في التشريعات الوضعية، أما مجرد أن يعتقد الإنسان بما يكفره شرعًا دون قول أو فعل منه يهدم مقومات المجتمع المسلم فليس مناط التجريم، فيما يبدو لي؛ لأن الاعتقاد أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو مناط الحساب في الآخرة"(13)
وهو نفس ما أفتى به المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، قال: "ذهب جماعة من السلف والأئمة إلي أنه ليس كل مرتد يقتل، وإنما يقتل من كان مجاهرًا بردته أو داعيًا إلي فتنة أو معلنًا بأذى الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين، وقتله من أجل حماية الدين والمجتمع من فساده، وليس ذلك من مصادرة الحريات لما في فعله من التعدي علي حق غيره، ومصلحةُ الدولة والمجتمع مقدمتان علي المصلحة الفردية الذاتية، وهذه القضية في الحقيقة شبيهة بما يصطلح عليه في القوانين المعاصرة بـ (الخيانة العظمى) بسبب ما يترتب علي ذلك من الضرر العام"(14)
ويقول د. أحمد الريسوني: "فالحديث ـ يعني حديث عبد الله بن مسعود ـ لم يقتصر على المروق من الدين (وهي الردة)، بل أضاف إليه ترك الجماعة، أو مفارقة الجماعة، أو الخروج من الجماعة، كما في روايات أخرى. وهي إضافة لا يمكن أن تكون بدون فائدة إضافية وبدون أثر في موجب الحكم. ومفارقة الجماعة، أو الخروج عن الجماعة، كانت تعني التمرد والعصيان والمحاربة، وربما الانضمام إلى العدو المحارِب. وهذا ما جاء صريحا في روايات أخرى لهذا الحديث… وبهذا يظهر أن موجبات قتل المرتد، هي ما يقترن بالردة من خروج عن الجماعة وحمل للسيف عليها، كما يظهر أن القتل ليس هو العقوبة الوحيدة الممكنة لمثل هذه الحالة(15)
ويخلص الريسوني إلى أن القول بأن القتل يكون للردة وحدها ولا شيء معها أو سواها، يتنافى تنافيًا واضحًا مع قاعدة "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" فتعين رده وعدم التسليم به. بعد ذلك؛ فإن هذه الأخبار والآثار الدالة على قتل المرتد، يمكن أن تفهم على أنها:
ـ إما متعلقة بعقوبة تعزيرية، تراعى في اعتمادها الملابسات والمخاطر التي كانت تشكلها حركة الردة على الكيان الإسلامي الناشئ؛ خاصة ونحن نعرف من خلال القرآن الكريم، ومن سياق الأحداث والوقائع يومئذ، أن كثيرا من حالات الدخول في الإسلام، ثم الخروج منه ، كانت عملا تآمريًّا مبيَّتا ينطوي على الخيانة والغدر.
ـ وإما متعلقة بما يقترن عادة مع الردة، من جرائم، أو التحاق بصف العدو أو نحوها من الأفعال الموجبة للعقوبة"(16).
أما الدكتور محمد سليم العوا فيضيف لنا بعدًا أصوليًّا جديدًا في النظر لحديث ابن عباس، وهو أقوى حديث للاستدلال في قتل المرتد حدًّا؛ حيث رأى أن الأمر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فاقتلوه" ليس للوجوب، وإنما هو للإباحة لوجود قرائن صارفة للأمر من الوجوب إلى الإباحة، ومن ثم تكون العقوبة تعزيرية موكولة إلى الإمام، ومن هذه القرائن:
الأمر الأول: أن الأحاديث التي ورد فيها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل مرتدًّا أو مرتدة أو أمر بأيهما أن يُقتل، كلها لا تصحُّ من حيث السند؛ ومن ثم فإنه لا يثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاقب على الردة بالقتل.
الأمر الثاني: ما رواه البخاري ومسلم من أن "أعرابيًّا بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد أقلني بيعتي. فأبى ثم جاءه قال: يا محمد أقلني بيعتي؛ فأبى؛ فخرج الأعرابي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها"، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلاً عن القاضي عياض أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إقالته من الإسلام، فهي حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل ولا أمر بعقابه، بل تركه يخرج من المدينة دون أن يعرض له أحد.
الأمر الثالث: ما رواه البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: "كان رجل نصرانيًّا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران. فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض…" الحديث، ففي هذا الحديث أن الرجل تنصر بعد أن أسلم وتعلم سورتي البقرة وآل عمران، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ردته.
الأمر الرابع: هو ما وردت حكايته في القرآن الكريم عن اليهود الذين كانوا يترددون بين الإسلام والكفر ليفتنوا المؤمنين عن دينهم ويردوهم عن الإسلام، قال تعالى: "وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72). وقد كانت هذه الردة الجماعية في المدينة والدولة الإسلامية قائمة، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاكمها، ومع ذلك لم يُعاقب هؤلاء المرتدين الذين يرمون ـ بنص القرآن الكريم ـ إلى فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عنه.
وليس من اليسير علينا أن نسلم مع وجود هذه الوقائع المتعددة للردة، ومع عدم عقاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمرتدين في أي منها، بأن عقوبة المرتد هي القتل حدًّا؛ إذ من خصائص الحدود ـ كما قدمنا ـ وجوب تطبيقها كلما ثبت ارتكاب الجريمة الموجبة لها.
وإذ كان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" حديثًا صحيحًا من حيث السند، فإننا نقول: إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما أراد بهذا الحديث ـ والله أعلم ـ أن يبيح لأمته قتل المرتد تعزيرًا"(17). ا.هـ.
الترجيح في ضوء مقصد الحكم وبيان دوره في الاستدلال
ولكي ندرك حقيقة كلام الفقهاء الذين أوردنا آراءهم ـ شلتوت والقرضاوي والبلتاجي والمجلس الأوربي والريسوني والعوا(18) ـ وكذلك حقيقة الرأي الآخر، وهو رأي السواد الغالب من الفقهاء على مر العصور، لابد من البحث عن مقصد الحكم، والوقوف عليه وبيان أثره في الاستدلال على هذا الحكم بشكل يجمع النصوص ولا يجعل بعضها يعارض بعضًا، بل يعمل على انسجام النصوص بعضها مع بعض، بإرجاع متشابهها إلى محكمها، وحمل مطلقها على مقيدها؛ ولكي نقف على المقصد ينبغي أن نبحث عن السياق الحكم صدر فيه، والسياق أحد أهم مسالك الكشف عن المقصد الجزئي للحكم الشرعي الفرعي العملي.
وندع العلامة محمد رشيد رضا يبين لنا هذا السياق في قوله: "كان المرتد من مشركي العرب يعود إلى محاربة المسلمين وإيذائهم، فمشروعية قتله أظهر من مشروعية قتال جميع المشركين المحادين للإسلام، وكان بعض اليهود ينفر الناس من الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليقل قوله بالطعن فيه قال تعالى: "وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72). فإذا هدد أمثال هؤلاء بقتل من يؤمن ثم يرتد، فإنهم يرجعون عن كيدهم هذا؛ فالظاهر أن الأمر بقتل المرتد كان لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود؛ فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر سياسة عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم، ألم تر أن بعض المسلمين أرادوا أن يُكرِهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256) (19).
وهذا كلام كاشف عن المقصد وموضح لطبيعة الحكم من خلال استعراض سياقه الذي شرع فيه ونزل له، وهو "لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود؛ فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر سياسةً عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم".
وهذا الكلام لا يعني أن الحكم سيختلف مع اختلاف سياسة كل عصر، وإنما هو بيان للمقصد من تشريعه لنأخذ إضاءة وكشفًا عن سبب تشريع الحكم؛ ليكون تعاملنا معه تعاملاً صحيحًا؛ مدركًا لحقيقته وطبيعته، ويكون اجتهادنا في تكييفه وتطبيقه في عصور أخرى وظروف أخرى صحيًّا وصحيحًا؛ بحيث يدور مع علته أو مقصده وجودًا وعدمًا، فمتى كانت الردة غير مزعزعة للأمن فلا قتل، ومتى كانت مهددة له جاز.
أما مقصد هذا الحكم، والذي اتضح لنا من خلال سياق تشريعه، فهو: منع الفتنة والهدمِ والتفريقِ والمحاربةِ والخروجِ على جماعة المسلمين وإيقاعِ الضرر بهم، والحيلولةُ دون زعزعة النظام الاجتماعي للدولة؛ فمصلحة الدولة والجماعة والأمة مقدمة على مصلحة الفرد.
وهذه المقاصد مجتمعة تصب في مقصد واحد هو تحقيق الأمن الاجتماعي لجماعة المسلمين، وهذا المقصد لم يختلف فيه أحد سواء من ذهب للقول بأن قتل المرتد حدٌّ، أو من قال بأنه سياسة تعزيرية مرتبطة بالخروج على المسلمين ومناصبتهم العداء، واتضح هذا جدًّا في النصوص التي سبق ذكرها(20)
وهذا المقصد يكشف لنا تكييف الحكم، ويجعل لنا فرقانًا في إدراك مناطه، ومعرفة تحقيق ذلك المناط، ويُعلِّمنا متى يُقتل المرتد، ومتى لا يقتل، ويحمل بكل اطمئنان على القول بأن عقوبة المرتد بالقتل تكون على المُجاهر، الذي يدعو الآخرين للردة ـ سياسة وتعزيرًا نوطًا بالحاكم أو من يقوم مقامه في مؤسسات الدولة ـ لأن المرتد في هذه الحالة يشكل خطرًا على المجتمع وأمنه واستقراره، وليس لمجرد تغيير دينه؛ لأن الإسلام كفل الحرية في هذا، ومنَع الإكراه؛ إذ الإكراه على الدين لا يجدي نفعًا، ولا ينتج إلا ضررًا.
أما الذي لا يجاهر بردته فيكفيه عقوبة الآخرة، والتي قال الله فيها: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُو كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: 217)؛ فيتحقق فيه الوعيد بالعذاب الشديد وإحباط العمل يوم الحساب.
وبهذا لا تتعارض النصوص والروايات والوقائع، ويتناغم بعضها مع بعض، دون الحاجة للقول بالنسخ، وبخاصة في آية كلية هي من قواعد ومقررات الإسلام: "لا إكراه في الدين"، ويظهر وجه الإسلام المشرق بتعاليمه الإنسانية، ومقاصد تشريعه، ومعقولية أحكامه.
إحالات مرجعية
(1) صحيح البخاري: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم. باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.
(2) المجموع: 19/228، والمغني: 10/72، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/459، وانظر: المبسوط: 10/184، والبحر الرائق: 5/139.
(3) انظر: في أصول النظام الجنائي الإسلامي: 179-210. نهضة مصر. القاهرة. الطبعة الأولى. 2006م
(4) صحيح البخاري: كتاب الطب. باب الدواء بأبوال الإبل، وصحيح مسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات. باب حكم المحاربين والمرتدين، واللفظ لمسلم.
(5) صحيح البخاري: كتاب الديات. باب قول الله تعالى أن النفس بالنفس والعين بالعين، وصحيح مسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات. باب ما يباح به دم المسلم، واللفظ للبخاري.
(6) الصارم المسلول على شاتم الرسول: 333. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس. تحقيق: محمد عبد الله عمر الحلواني. محمد كبير أحمد شودري. دار ابن حزم. بيروت. الطبعة الأولى. 1417هـ.
(7) الصارم المسلول على شاتم الرسول: 320.
(8) وهذا ما قاله الإمام الشافعي، انظر: الرسالة: 106-107. تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار الكتب العلمية. بيروت. وقد جمع السيوطي الآيات المنسوخة فبلغت إحدى وعشرين آية، وقال "لا يصح دعوى النسخ في غيرها"، ولم يذكر من بينها هذه الآية. راجع الإتقان في علوم القرآن: 4/1443-1447. أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.تحقيق: مركز الدراسات القرآنية. مجمع الملك فهد. السعودية. الطبعة الأولى. بدون تاريخ.
(9) عند النسائي رواية تبين معنى خرج: عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم أو رجل قتل رجلا متعمدا فيقتل أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض". سنن النسائي: كتاب تحريم الدم. باب الصلب.
(10) سنن أبي داود: كتاب الحدود. باب الحكم فيمن ارتد.
(11) الإسلام عقيدة وشريعة: 281. محمود شلتوت. دار الشروق. القاهرة. الطبعة الثامنة عشرة. 1421هـ/2001م.
(12) جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة: 52-53. دار الفرقان. الأردن. الطبعة الأولى. 1417هأ/1996م، وقد نقل ابن حجر عن علي يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا. فتح الباري: 12/270. دار المعرفة.
(13) الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان: 19-20، و21-26. د. محمد بلتاجي. دار السلام. القاهرة. الطبعة الأولى. 1423هـ/2003م.
(14) قرارات وفتاوى المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: 35-36.
(15) الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية: 115-116. طبعة خاصة بحركة التوحيد والإصلاح. الرباط. المغرب. 2007م.
(16) الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية: 115.
(17) في أصول النظام الجنائي الإسلامي: 191-193. ثم أورد عددًا من الآثار جاءت فيها عقوبات أخرى غير القتل للمرتدين، مما يؤيد به قوله بأن القتل للمرتد تعزيرا وليس حدًّا.
(18)  وراجع تفصيل آراء المذاهب الفقهية الثمانية في هذه القضية في كتاب: لا إكراه في الدين، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم للأستاذ الدكتور طه جابر العلواني: 147-161. مكتبة الشروق الدولية. والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. ط ثانية. 1427هـ/2006م، كما أنه أورد أن القرآن ذكر حرية الاعتقاد وأحاطها بسائر الضمانات بما يقرب من مائتي آية. انظر: 99، وممن ذهب من المعاصرين إلى أن قتل المرتد حرابة أو سياسة وتعزيرا الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه: الحرية الدينية في الإسلام، والدكتور طه جابر العلواني في كتابه المشار إليه قبل قليل، وهو أول من أفرد لهذه القضية كتابا بهذا التفصيل حسب علمي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: حرية الإنسان في ظل عبودية الله.
(19) مجلة المنار: 10/285.
(20) راجع أيضًا: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: المجموعة الأولى: 22/ 232-233. جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، والتشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي: 1/661-662. عبد القادر عودة. دار الكتاب العربي. بيروت، و المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام: 300. د. راوية أحمد عبد الكريم الظهار. جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية. الطبعة الأولى. 1426هـ/2005م، والفقه الإسلامي في طريق التجديد: 251-255. محمد سليم العوا. سفير الدولية للنشر. القاهرة. الطبعة الثالثة. 1427هـ/2006م، وفي أصول النظام الجنائي الإسلامي: 179-210.
هذه الدراسة جزء تطبيقي من أطروحة الدكتوراه للكاتب أ. وصفي عاشور أبو زيد.

الأربعاء، 28 مارس 2012

الإخوان و(مأزق الرئاسة) .. تخبـط وتـردد —–كمال الهلباوي


 لا يستطيع أحد ــ إلا من كان جاحدا أو جاهلا أو حاقدا ــ أن ينكر إسهامات دعوة الإخوان المسلمين فى المجتمع، وفى مقدمتها الوقوف ضد الظلم والفساد المجتمعى والديكتاتوريات. وقد كلفهم ذلك ثمنا باهظا منذ بداية الأربعينيات بعدما ذاع صيت الإخوان بقيادة الامام البنا رحمه الله، كما لا ينكر عاقل إسهامات الآخرين من غير الإخوان فى مختلف نواحى الحياة، وأحيانا تكون تلك الإسهامات أوضح وأكثر فاعلية فى بعض القضايا. أما الإخوان وقد أصابهم ما أصابهم فقد صبروا ابتغاء وجه الله تعالى وتحملوا فى سبيل الله الكثير. كما لا يستطيع أحد أن ينكر قيمة المنهج التربوى والتنظيم الذى بدت نتائجه العظيمة فى الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب الحالى، والتعبئة التى استجاب لها الشعب استجابة جميلة، وإن لم تظهر قدرة الإخوان على تعبئة المجتمع وراء انتخابات مجلس الشورى، حيث بلغت نسبة التصويت فى المتوسط 10% مقارنة بنسبة المشاركة فى الانتخابات البرلمانية بنسبة أكثر من 60 %.

دخل الإخوان البرلمان لأول مرة فى شكل حزب سياسى لهم هو الحرية والعدالة، بعد أن كانوا يخوضون الانتخابات إما بالتحالف مع الأحزاب الأخرى أو كمستقلين، وشكلوا مع السلفيين «حزب النور» وبقية المستقلين أغلبية واضحة فى المجلس وهذا بفضل الله تعالى ثم الثورة التى أهملوها، ولكن أداء البرلمان كان ضعيفا فى الفترة الماضية رغم قصرها، وكان رئيس المجلس يبدو أحيانا كناظر مدرسة، رغم فرح الناس واستبشارهم بالبرلمان، وعقدهم الآمال العريضة عليه فى التغيير المنشود ضمن إطار المهام التى يكلف بها أى برلمان مع تفاوت الاختصاصات وهى أساسا مهمة المراقبة والتشريع، كما كانت تصريحات الكتاتنى فى الخليج فجة وتفتقر إلى الحكمة وظهر فى ثوب المداحين.

الإخوان يصيبون ويخطئون ككل البشر، فهم ليسوا ملائكة، ولا هم ظل الله فى الأرض، وصوابهم فى ظنى أكثر من خطئهم، ولكن الأخطاء التى وقع فيها قادة الإخوان المسلمون منذ الثورة الشعبية العظيمة فى مصر حتى اليوم أخطاء استراتيجية وتناقضات قاتلة. ولقد كان من الممكن أن تكون النصيحة فى السر كما طلب منى بعض الإخوان، لو أن هذه الأخطاء والتناقضات لم تخرج إلى العلن. أما وأن تلك الأخطاء والتناقضات صارت على كل لسان وعلى شاشات التلفاز وملأت الصحف فلابد من مناقشاتها عبر المقالات لمن يقرأ، وعبر الإعلام المسموع لمن يسمع، والإعلام المرئى لمن يبصر.

أما وصف تلك الأخطاء بالأخطاء الاستراتيجية، فلأنها تؤثر بل أثرت بالفعل فى مستقبل مصر، ووضعت المسار الثورى فى الانعاش انتظارا لمعجزة جديدة أو علاج ناجع آخر، يخرجها من حالة الانعاش إلى حالة الانتعاش. ومن أهم تلك الأخطاء التأخر باللحاق بالثورة والانفضاض عنها بأسرع ما يكون، فكانوا رسميا آخر الملتحقين بالثورة وأول التاركين للميدان، وللأسف تركوا الميدان قبل تحقيق كل أو معظم الأهداف والمطالب الثورية. ومن تلك الأخطاء الاستراتيجية القاتلة الاكتفاء بالمسار الديموقراطى وحده وإطلاق شعارات كلامية فى الوقت الضائع من قبيل، لن نفرط فى دماء الشهداء. 

وأما التناقضات فكانت أبرز ما تكون فى مأزق منصب الرئاسة رغم حساسيته. ومرت المسألة بعدة مراحل نلخصها فيما يلى:
قرارات واضحة اتخذها الإخوان قبل تنحى مبارك بيوم واحد ولا ندرى السر وراء ذلك حتى اليوم، أعلن الإخوان على أثرها أن الإخوان لن يرشحوا أحدا لمنصب الرئاسة معللين ذلك بخشية وهمية فى ظنى لم تقم على تحليل منطقى ولا قياس صحيح، مثل الخوف من الحصار على مصر مثلما حدث على قطاع غزة بعد تشكيل حكومة فلسطين، برئاسة إسماعيل هنية وبعد النجاح الهائل لحماس فى المجلس التشريعى. وطبعا لم يرفع الحصار عن غزة حتى اليوم ولم يتغير موقف أمريكا بشأن فلسطين، ولكن موقف الإخوان تغير وتعدل وتبدل حتى إن قيادة الإخوان التنفيذية ممثلة فى مكتب الارشاد أوضحت فى أكثر من مناسبة ومنها ما كتبه الدكتور محمود غزلان يوم 21 /5 /2011 مؤكدا أن الإخوان قرروا بالإجماع يوم 10 فبراير 2011 فى اجتماع مجلس الشورى الأول بكامل هيئته عدم ترشيح أحد لمنصب الرئاسة. وأكد أن الإخوان إنما فعلوا ذلك وحافظوا عليه احتراما لقرارات الجماعة، وحفاظا على المصداقية، ولأن الإخوان أصحاب مبادئ لا يمكن أن يخدعوا الناس أو أن يتكلموا بلسانين أو أن يظهروا بوجهين. واستشهد د. غزلان فى مقاله الشهير بكلام جميل للإمام البنا نصه: «ومع هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وقال د. غزلان بالنص: «فنحن لا ننظر تحت أقدامنا فحسب، ولكن ننظر إلى بعيد ولا نحسب حسابات بسيطة ولكن نحسب حسابات كثيرة معقدة، ولا ننظر إلى الظروف الداخلية فقط، وإنما ننظر إلى الظروف الإقليمية والدولية أيضا ونعتبر أيضا بالتجارب من حولنا».

ولعلنا تكملة للموضوع أن نذكر فى هذا الصدد قول الإمام البنا:
"وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامى قرآنى فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدى كل حكومة لا تنفذ أوامر الله."
وطبعا الحكم وأوامر الله تعالى كما نفهم من الإمام البنا، تتمثل قبل قضية الحدود فى الحريات وإطعام الناس وتحقيق الأمن وإشاعة العدل وتحقيق الكرامة الانسانية. أما أستاذية العالم التى أشاد بها الإمام البنا تقتضى الاسهام الفاعل فى الحضارة الإنسانية علما وتقنية وثقافة وفنا… إلخ، حتى يحب الناس الإسلام دون أدنى ضغط. وهذا ما يجب أن نفهمه من كلام الإمام البنا عندما يقول: «فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدى الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف. والحمد لله تعالى لا يوجد فى مصر من يعارض ذلك حتى المسيحيون مادامت الأولويات واضحة وشفافة وتصب فى الاتجاه الاسلامى الوسطى بعيدا عن التسلف الشكلى أو الطلبانى أو القاعدى.

وهنا يحق لنا أن نذكر بعض النقاط المهمة، وأن نسأل الدكتور غزلان والقيادة الرشيدة التنفيذية المتمثلة فى مكتب الإرشاد ومجلس شورى الإخوان بل وقيادة حزب الحرية والعدالة مجموعة من الأسئلة:
  • لماذا تسعون اليوم إلى تقديم مرشح جديد للرئاسة وتراجعتم عن القرارات السابقة ولماذا طرحتم اسم المهندس خيرت الشاطر بالذات؟
  • لماذا وقفتم ضد ترشيح ودعم د. عبدالمنعم أبو الفتوح المرشح للرئاسة، وهو من هو سواء أكان فى جماعة الإخوان المسلمين أم خارجها؟
  • لماذا أعلنتم موقفا مبكرا وشاذا من انتخاب د.عبدالمنعم أبو الفتوح ولم تعتبروه مثل بقية المرشحين المحتملين للرئاسة، حتى يكون الموقف الإخوانى، واحدا أم أنكم اعتبرتموه من الفلول أو من كبار العهد البائد الذين يجب مقاطعتهم؟
  • أين احترام قرارات الجماعة والحفاظ على المصداقية وأين الحسابات الكثيرة المعقدة فى ضوء المحاولة الجديدة لترشيح أحد قيادات الإخوان للرئاسة؟
  • هل فقد الإخوان العقل والحزم الذى أشار إليه د. غزلان من كلام الامام البنا السابق ذكره، أم أن فترة السنة الماضية كانت كافية لانتشار مبادئ الاخوان وسيادتها؟
  • هل تغيرت الظروف الداخلية والإقليمية والدولية والتجارب من حولنا حتى نتخذ قرارا مناقضا للقرارات السابقة؟
  • لماذا الحديث أو محاولة الحديث اليوم بلسانين والظهور بوجهين؟ ألا يؤثر هذا على الدعوة وهى أثمن وأغلى من الحكم والرئاسة؟
  • لماذا يتم تأجيل اجتماعات الهيئة العليا للحزب والشورى للإخوان بعد الفشل فى الأسبوع الماضى للحصول على موافقة بترشيح المهندس خيرت الشاطر للرئاسة وبعد التصويت النزيه الحر، ولماذا تسعون إلى اجتماع آخر وتصويت آخر بعد محاولات إقناع الأعضاء للتصويت من جديد فى صالح ترشيح الشاطر بعدما فشل التصويت عليه فى نهاية الأسبوع الماضى؟
ومن العجب العجاب أن نقرأ للمرشد السابق محمد مهدى عاكف، الذى أحبه وأقدره ولا زلت أرى أنه آخر المرشدين الكبار فى الجماعة، وهو يقول حسب المصرى اليوم بتاريخ الأحد 25 /3 /2012 أن الإخوان لن يقدموا مرشحا فى انتخابات الرئاسة المقبلة وأن الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح المرشح المحتمل هو الأفضل ولكن الإخوان لن تدعمه تطبيقا لقرارها بعدم ترشيح أحد.

وكلام الأستاذ عاكف يثير عدة قضايا مهمة أولها، أن الإخوان لن تدعم د. أبوالفتوح رغم أنه المرشح الأفضل، وهى مشكلة تربوية عند الإخوان قبل أن تكون سياسية، حيث يقبلون بتقديم ودعم من كان دون الأولى ودون الأفضل للرئاسة رغم أهمية المنصب والمرحلة التاريخية الحساسة ومصلحة الوطن فى الاستفادة من الأفضل دائما، ورغم أن القرآن الذى درسناه وندرسه لشباب الإخوان يرشدنا إلى الصواب ويعاتب من يفعل ذلك «أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير» والباء هنا تدخل على المتروك كما يقول فقهاء اللغة العربية وأخشى أن يكون المنهج ذاته وراء تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور.

كان من الممكن للإخوان أن يخرجوا من المطب الذى وضعوا أنفسهم فيه بلا مبرر واضح للناس فحجروا به واسعا كمن يضع القيد فى يده. كان الخروج السليم هو دعم الأفضل للرئاسة مهما كان أو بالوقوف على نفس المساحة من جميع المرشحين رغم أن تقديم مصلحة الوطن يتمثل باختيار الأنسب، وأن يمارس كل عضو صفة الانتخاب فى ضوء مسئوليته فى الدنيا والآخرة دون تكتلات ودون ضغط، وخصوصا ضد مرشح له تاريخ مشرف فى الدعوة. وكان من الممكن أن يقارن الإخوان موضوعيا بين جميع المرشحين المحتملين للرئاسة وتشجيع الأعضاء على تحمل مسئولية الاختيار الحر دون فصل أو تجميد الأعضاء بسبب دعمهم لأحد المرشحين ومشاركتهم فى الحملات الانتخابية. كل ذلك كان ممكنا بما يحافظ على وحدة الجماعة وتماسكها وتمسكها بالخيار الديموقراطى على جميع المستويات بدءا بانتخابات حرة نزيهة داخل الإخوان، كما طالبنا بها وكما دارت على مستوى الوطن.

ولكن الأخطاء القاتلة فى ظنى تمثلت كذلك فى مأزق اختيار اللجنة التأسيسية للدستور الذى أحدث فتنة وخللا واضحا مع أن دعوة الإخوان تدعو إلى جمع الأمة وتقديم الأصلح. ولكن قرار تشكيل اللجنة التنفيذية سيؤدى إلى مزيد من الفتنة وربما التشرذم، كما أنه خالف الأعراف المستقرة فى صناعة الدساتير، وأهمل معايير الكفاءة والخبرة والتنوع الواسع فى أهم مسألة تحتاج إلى هذه العناصر التى لا يمكن حصر 50% منها فى أعضاء من مجلس الشعب والشورى، ونسبة أخرى كبيرة فى دائرة الأصدقاء والمعارف وأهل الثقة فحسب. عندما يقول الأستاذ الجليل عاكف «إن ميزة المجلس العسكرى أنه إذا أخطأ وأصلحت له خطأه يستجيب» ولم يعطنا مثالا واحدا على خطأ تم الرجوع عنه أو حساب أى من المسئولين عن جرائم قتل عديدة فى ماسبيرو ومحمد محمود والقصر العينى وليست أخطاء فحسب بل جرائم، ومنها تهريب الأمريكان، ولا يمكن أن يتم ذلك دون علم صانع القرار.

لقد أخطأ الإخوان فى موضوع الرئاسة كما أخطأوا فى هدم الثورة مبكرا قبل استكمال أهدافها ومطالبها، وكان من الممكن أن يجرى المساران معا المسار الديموقراطى إلى جانب المسار الثورى، وأخطأ الإخوان عندما قصروا واسعا على أنفسهم، ويحاولون اليوم الخروج من المأزق بشكل أسوأ فى ظروف أصعب رغم أن الرجوع إلى الحق فضيلة. والماوردى يقول: فضل الله على الناس واسع فمن زعم أنه مقصور فى أضيق العصور فقد حجر واسعا ورمى بالتكذيب والليالى حبالى يلدن كل عجيب»،

ونصيحتى للإخوان المسلمين، وهم والوطن العزيز بل والمنطقة بأسرها، بصدد مرحلة جديدة تحتاج إلى شفافية ووضوح وحريات داخل صفوف الإخوان مثل التى كنا نحلم بها ونحن فى صفوف المعارضة، كما تحتاج هذه المرحلة إلى سمع وطاعة مبصرة، وأن تنتقل دعوة الإخوان إلى مرحلة الروح الذى يسرى فى الأمة فيحييها وتحيا بها، وتجمعها ولا تفرقها، وأن تتسع الصدور إلى الرأى الآخر، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

وعلى الإخوان المسلمين أن يسهموا فى إعادة المسار الثورى إلى طريقه الصحيح حيث إن المسار الديموقراطى وحده لا يكفى فى هذه المرحلة الانتقالية الخطيرة، وليعلموا أن الميدان الذى بارك تقديم عصام شرف إلى رئاسة الحكومة هو الذى تسبب فى سقوطه الشنيع، وليس البرلمان الذى لن ينجح وحده فى إسقاط حكومة الجنزورى رغم ضعفها وهشاشتها، ولن ينجح وحده فى محاسبة من تسببوا فى الخروج الآمن للأمريكان المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى ولا فى غيرها من القضايا الحاكمة. واليوم تأتى مشكلة تبادل الرسائل والتهديدات بين الإخوان والمجلس العسكرى، فهل ستؤدى إلى الصدام أم يمكن حلها مع فنجان القهوة فى الصباح ضمن الصفقات التى قد تكون قائمة.

دستور .. يا أسيادنا! ——– وائل غنيم


دستور مصر ما بعد الثورة هو من أهم المراحل التي سينبني عليها التحول الديموقراطي للوطن، فالدستور هو الأساس الذي تُبنى به القوانين وينظم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويحدد صلاحيات واختصاصات السلطات. وكأحد أعضاء مجلس أمناء حركة مصرنا كنت أحد المشاركين والموافقين على بيانها والذي يدعو مجلسي الشعب والشورى إلى إعادة النظر في التشكيل المعلن للجمعية، خاصة وأننا الآن في مرحلة حرجة أحوج فيها إلى التوافق لمصلحة وطننا الغالي. 


وبشكل موضوعي، بعيدا عن الاستقطاب الأيدولوجي السائد الآن بين كثير من السياسيين، فمن وجهة نظري الشخصية هذه أهم الملاحظات على آلية ونتيجة تشكيل الجمعية التأسيسية:  


١- الإجراءات تمت في استعجال غير مبرر لانتخاب الأعضاء برغم وجود فرصة ستة أشهر لاختيار الشخصيات المشاركة. وبعيدا عن إساءة الفهم من بعض القوى السياسية لمبررات ذلك، وحتى لو أحسنا الظن، فما هو الداعي لهذه العجلة؟ 


٢- قام العديد من الخبراء والمستشارين بتقديم تصورات لأسس يتم بناء عليها اختيار الأعضاء المائة، ومنها الاقتراح الذي قدمه الدكتور معتز عبدالفتاح ممثلا عن بيت الحكمة، ولكن الأمر انتهى بنا إلى عدم وجود أي معايير (على الأقل مُعلنة) يتم بناء عليها الاختيار.  


٣- ظهر جليا يوم الانتخاب آثار الاستعجال ومنها وجود الكثير من المرشحين التي لم يعرف النواب عنهم سوى اسم الشخص الثلاثي، وكذلك ظهر جليا الاتفاق المسبق بين نواب حزبي الأغلبية على اختيار شخصيات بعينها دون أخرى بمعايير غامضة ولكن الكفاءة في اعتقادي لم تكن أهمها. 


٤- بالرغم من علمي المسبق بقرار المجلسين بأن يكون 50% من اللجنة من النواب، ففي رأيي المتواضع هذا نوع من تضارب المصالح، لأن النواب طرف في المصلحة الوقتية بصفتهم، ونحن بشر وقراراتنا في كثير من الأحيان تتأثر بمصالحنا الشخصية وبعض دول العالم تضع شروطا من نوعية أن يُحرم المشارك في صياغة الدستور من العمل العام لمدة خمسة سنوات لضمان عدم تضارب المصالح. فمصلحة أعضاء مجلسي الشعب والشورى ستقتضي زيادة صلاحيات المجلسين مقابل السلطات الأخرى وعدم اتخاذ أي قرارات من قبيل إعادة الانتخابات إذا حدث تعديل جذري في شروط وآليات الترشح لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، أو حتى قرار إلغاء مجلس الشورى (وهو محل نقاش مصري وطني من فترة طويلة). ولذا كان من الأولى أن تكون نسبة النواب أقل المستطاع لتلافي هذا التضارب المحتمل في المصالح.  


٥- إضافة على ذلك هذه الجمعية من المناط بها أن تنعقد بشكل مستمر لعدة شهور لتخرج لنا بدستور يحدد لنا مسار حياتنا، والكثير من النواب المشاركين في الجمعية هم من أصحاب المهام الإدارية الحيوية في مجلسي الشعب والشورى (رئيس المجلس - وكلاؤه - وكلاء بعض اللجان ورؤسائها ….) فكيف سيستطيع النواب التوفيق بين كل هذه المهام شديدة الأهمية؟ 


٦- بدا واضحا في الجمعية ظهور الكثير من المواءمات والموازانات والتي تم على أساسها اختيار بعض الشخصيات البرلمانية والعامة التي لا تُمثل أفضل ما في مصر في مجالاتهم. 


٧- غابت المرأة المصرية بشكل واضح عن الجمعية، فتمثيل السيدات يمثل 6% في مجتمع نصفه من النساء، وكان هذا الغياب غير مفهوم خاصة ومصر بها الكثير من القيادات النسائية.  


٨- مُثل الشباب في الجمعية تمثيلا ضعيفا، وبدا واضحا أن الشباب الممثل (في ما عدا أحمد حرارة) هم ممثلين لتيارات سياسية أو فكرية. ونظرة إحصائية بسيطة على الشباب تحت سن الثلاثين في مصر، تجعل من المهم أن نوليهم دورا يستحقونه في صياغة مستقبلهم الذي بدأوه هم بالمخاطرة بحياتهم والوقوف في الصفوف الأمامية للثورة على مدار الـ 18 يوما. 


٩- الجمعية خلت من أسماء أي من العلماء المصريين المرموقين في الخارج (والمصريون في الخارج يمثلون 10% من الشعب المصري)، واقتصر اختيار الجمعية على أحد الكوادر الممثلة لتيار الأغلبية في الخارج. 



في النهاية، كل ما ذكرت لا يعبر سوى عن رأيي (ورأي القارئ إن اقتنع)، ودورنا ألا نقف موقف المتفرج في مرحلة هي من أصعب المراحل في تحولنا الديموقراطي، بل دورنا هو المشاركة والمساعدة والنقد البناء.


وأتمنى أن يراجع مجلسي الشعب والشورى موقفهما من الجمعية وآليات تشكيلها، وأن تحوي القائمة النهائية على من تعتقد اللجنة أنهم أفضل من في مصر تمثيلا لمجالاتهم العلمية وتياراتهم السياسية و الدينية وخبراتهم القانونية والميدانية بعيدا عن الاستقطاب والمواءمات والتكتلات الحزبية الضيقة، فهذا الدستور هو دستور كل المصريين.

متحمسون للثورة متعثرون في الديمقراطية……فهمي هويدي


 إحدى خلاصات تجربة السنة الأولى من عمر الثورة المصرية أن المجتمع كان شديد الحماس للثورة، فى حين أن نخبته ليست جاهزة للديمقراطية. 
(1)
من يتابع بث الإعلام المصرى المقروء منه والمرئى يخيل إليه أن ثمة سرادقا كبيرا نصبه البعض للعزاء فى «وفاة» الثورة، فى حين اصطف فى جانب منه نفر من المنشدين يرثون «الفقيد» ويتحسرون على اختطافه وهو فى مهده. وفى جانب آخر  وقف آخرون يصرخون ويولولون معبرين عن الحسرة إزاء الحدث الجلل. وتنافس فريق ثالث فى هجاء من كان السبب فيما حدث وفى حث «الثوار» على القصاص للثورة التى اجهضت والحلم الذى ضاع. ووسط أجواء لطم الخدود وشق الجيوب تتردد فى الفضاء صيحات القائلين بأن الثورة سرقت من أصحابها، وأن الشعب المصرى صار ضحية للخديعة والاستغفال، وقائلين بأنه لم تكن هناك ثورة من الأساس، وأن ما رأيناه كان فجرا كاذبا تبين أنه استنساخ للذى فات. لا جديد فيه سوى أن «الحزب الوطنى» غير هيأته فارتدى عمامة وأطلق لحيته وصار يتمتم بالبسملة طوال الوقت.
صحيح أن السرادق ليس جديدا. لكن الحشد فيه تضاعف هذه الأيام والاستنفار والتحريض بلغ الذروة، حتى تعالت بعض الأصوات محذرة من مؤامرة دبرت بليل وكارثة حلت بالبلد وداعية إلى الطعن فى كل ما بنى فيه حتى الآن، والتأهب لاطلاق ثورة جديدة وتشكيل مؤسسات ثورية بديلة.

لدى ملف متخم بالقصاصات والأقاويل يؤيد كل سطر مما ذكرت. وأزعم أن القارئ العادى ليس بحاجة إلى الرجوع إلى أرشيف الصحف وتسجيلات اليوتيوب، وإنما يكفيه فى ذلك أن يطالع صحف الصباح لكى يجد فيها كل مقومات الشحن والتعبئة والتحريض والتبكيت.

اسوأ ما فى هذه الحملة متعددة الأبعاد أربعة أمور هى:

● أنها تحاكم الثورة على أهدافها النهائية التى لم تتحقق بعد، وليس أهدافها المرحلية التى تسعى لإنجازها على الأرض.

● إنها فى أساسها تعبر عن صراعات وحسابات شريحة من المثقفين والسياسيين. الذين يحاولون جاهدين تنزيلها إلى الشارع وإشغال الرأى العام بها، فى حين أن المواطن العادى مهجوس بأمور أخرى ولا علاقة له بتلك المعارك.

● إنها تحدث إرباكا فى أولويات العمل الوطنى، من حيث إنها تصرف الانتباه عن التحديات الكلية. المتعلقة بالنهوض الاقتصادى والعدل الاجتماعى والحريات العامة والاستقلال الوطنى، وتفرض على الناس معارك أخرى هامشية وفرعية.

● إنها تروع المصريين المقيمين فى الخارج وتعطى انطباعا مشوَّها ومغلوطا لغيرهم من المتابعين والمراقبين وهو ما يلمسه كل من يحتك بهذه الدوائر، وما كان لى منه نصيب فى الآونة الأخيرة. إذ وجدت درجة عالية من الإحباط والتشاؤم لدى البعض ومن الشماتة وسوء الظن لدى آخرين. 
(2)
خذ مثلا المعركة التى احتدمت فى مصر حول وضع الدستور الجديد، وهى التى اشتدت أوارها بعدما تم الاتفاق فى اجتماع مجلسى الشعب والشورى على انتخاب نصف أعضاء اللجنة التأسيسية من المجلسين والنصف الآخر من خارجهما. ذلك أنك لا تكاد تفتح جريدة أو تتابع حوارا تليفزيونيا إلا وتجد نفسك فى قلب الجدل حول الموضوع. وستلاحظ على الفور أن محور المناقشة هو عدم الثقة فى ممثلى التيار الإسلامى، والخوف من أن يفرضوا على الدستور آراءهم وبصماتهم. إليك نماذج من تلك الآراء، سأحتفظ بأسماء كاتبيها منعا للإحراج.

● يريدون أن يفصلوه على مقاسهم (الدستور)، ويقيموا إمارة دينية تعود بنا إلى العصور التى كنا فيها طوائف متفرقة مسلمين وذميين. ولم نكن مواطنين ولم نكن مصريين. وكنا رقيق أرض نسمع ونطيع. ولم نكن أمة حرة تصدر عنها وحدها كل السلطات… إن إقحام الدين فى الدستور على أى نحو وبأية صيغة إفساد للدستور وتزييف له فاستيقظوا أيها المصريون (الأهرام 24/3/2012).

● انسحبوا من لجنة صياغة دستور لن يمثل فيه كل المصريين بالتساوى، وبقدر وجودهم الحقيقى فى المجتمع. انسحبوا (الكلام موجه إلى الأقلية البرلمانية) قبل أن يشعر المصريون بأن هذا الدستور لا يعبر عنهم جميعا وانكم شاركتم فى خداعهم.. انسحبوا قبل فوات الأوان، وليكن فعلكم إيجابيا بتشكيل هيئة تأسيسية أخرى يمثل فيها كل المصريين، لتكتبوا معا دستور الثورة. (المصرى اليوم 22/3).

● ما يحدث الآن فى لجنة تأسيسية الدستور المصرى فى البرلمان، هو مهزلة بكل المقاييس والسكوت عنه جريمة، والمشاركة فيه عار على الديمقراطية.. (ذلك أن) كل الفقهاء الدستوريين فى مصر يتفقون على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة بنود الدستور.. إن الضغوط الهائلة التى قامت بها جماعة الإخوان ممثلة فى حزب الحرية والعدالة داخل البرلمان للوصول إلى صيغة الهيئة التأسيسية هى «اختراع» غير مسبوق. وهى نموذج لسياسة غطرسة القوة التى تمارسها الأغلبية بحق الأقلية (الشرق الأوسط 22/3). 
(3)

هذه ليست أكثر من ثلاث قطرات فى بحر الهجاء والتنديد. وإلى جانب التعليقات التى عبرت عن تلك المعانى، فثمة سيل آخر من الأخبار الموازية التى تحدثنا عن مقاطعة بعض أحزاب الأقلية للجنة، وعن التحضير لمسيرات مناهضة لتشكيلها وداعية إلى «إنقاذ مصر» من براثنها، وعن اعتزام القانونيين تقديم طعن يطالب بإبطال قرار تشكيل اللجنة مناصفة بين البرلمان والشخصيات العامة.

المفاجأة فى هذه الحملة أن الفرضيات الأساسية التى اعتمدت عليها غير صحيحة. ذلك ان الادعاء بأن الدول «المحترمة» متفقة على أن البرلمان ليس جهة وضع أو صياغة الدستور كلام غير دقيق. إذ تكذبه الخبرة السياسية والتاريخية. علما بأن البرلمان فى الحالة المصرية لن يضع الدستور ولكنه سينتخب اللجنة المكلفة بذلك من بين أعضائه ومن خارجه. آية ذلك أن جامعة «برينستون» الأمريكية أعدت دراسة شملت 200 دستور ظهر فى العالم خلال ثلاثين سنة (بين سنتى 1975، 2005) بينت أن هناك 9 طرق لكتابة الدساتير. وكانت الوسيلة الأكثر استخداما هى أن تعهد الدول إلى البرلمان المنتخب لكى يقوم بهذه المهمة. وهو ما حدث فى 42٪ من الحالات التى تمت دراستها، فى حين أن نسبة الحالات التى تم فيها وضع الدستور بواسطة لجنة تأسيسية معينة أو منتخبة من البرلمان كانت فى حدود 9٪. أما وضع الدستور من خارج البرلمان فلم يتم إلا فى 17٪ من الحالات.

الخلاصة أنه خلال الثلاثين سنة التى شملتها الدراسة فإنه فى 51٪ من الحالات كان البرلمان إما واضع الدستور أو صاحب القرار فى اللجنة أو الجمعية التى تولت إعداده وصياغته. الأمر الذى ينفى ذلك التعميم والإطلاق الذى ساقه الرافضون لتشكيل اللجنة فى الحالة المصرية، ويبطل حجة الاستناد إلى الخبرة التاريخية فيما دعوا إليه. ناهيك عن أنه ليس من المنطق أن ينتخب الشعب ممثليه فى البرلمان، ثم يتم إقصاء هؤلاء الممثلين عن وضع الدستور بحجة أنهم لا يمثلون الشعب بصورة كافية. علما بأن انتخاب نسبة من خارج البرلمان يمكن أن يسد هذه الثغرة.

إنك إذا دققت النظر فى المشهد، ستلاحظ أن أحزاب الأقلية هى التى ما برحت تثير الضجيج وتؤلب الرأى العام طول الوقت. منذ طرحت التعديلات الدستورية للاستفتاء وحتى اللحظة الراهنة. حيث لم تكن مستعدة للقبول بنتائج الممارسة الديمقراطية فى أى مرحلة. 
(4)
ليست المشكلة مقصورة على أحزاب الأقلية، لأن الأغلبية كان لها نصيبها منها، من حيث إنها لم تستوعب جيدا أساليب الممارسة الديمقراطية، على الأقل فيما خص طبيعة علاقتها مع الأقلية. إن شئت فقل إن الجميع دخلوا فى تجربة ديمقراطية لم يألفوها منذ نصف قرن على الأقل. الأمر الذى لم يسمح باستقرار التقاليد الحاكمة لعلاقات القوى السياسية. وإذا أضفت إلى ذلك أن نحو 80٪ من أعضاء البرلمان حديثو عهد بالتجربة، ومنهم من هو حديث العهد بالسياسة برمتها. فلك أن تتصور حالة الارتباك والاضطراب التى تسود العلاقة فى هذه الحالة. وهو ما اعترف به البعض ممن نظمت لهم محاضرات ودروس خصوصية لاستيعاب الموقف الذى وضعوا فيه.

لا أتحدث عن الإخلاص والغيرة وغير ذلك من القيم التى لا أشك فى توافرها لدى الجميع، لكنى أتحدث عن تواضع الخبرة السياسية وارتباك الرؤية الاستراتيجية. وفى مقام آخر حذرت من ثلاث فتن تتعرض لها الأغلبية فى البرلمان، فتنة الأضواء وفتنة الأغلبية وفتنة السلطة. ولا أريد أن أتسرع فى الحكم، لكننى أزعم أن أداء الأغلبية حتى الآن لم يقنعنى بأن رموزها محصنة ضد الافتتان بما ذكرت. إذ فى ممارسات عدة تمنيت على الأغلبية أن يكون انحيازها إلى الجماعة الوطنية أقوى من انحيازها إلى «جماعتها».. بالتالى فإننى لم أفهم ذلك الحرص على إثبات الحضور فى مختلف المواقع. ولا أخفى دهشة ــ مثلا ــ من التلويح المتكرر بسحب الثقة من الحكومة والمطالبة بتشكيل حكومة ائتلافية يقودها الإخوان. الأمر الذى من شأنه أن يُحدث احتقانا فى الأجواء السياسية وتراجعا فى البورصة وإقلاقا للداخل والخارج ــ يضاعف من الدهشة أن تغيب عن الأذهان تلك الأصداء ويشهد الاستعداد لخوض المغامرة فى حين أن الحديث ينصب على حكومة عمرها ثلاثة أشهر فقط، تنتهى بعدها الفترة الانتقالية وينتخب خلالها رئيس جديد فى ظل دستور جديد.

أدرى أن الأغلبية لم ترتكب خطأ قانونيا أو دستوريا، وأنها فى ممارساتها تصرفت فى حدود صلاحياتها. لكننى أتحدث عن الملاءمات السياسية ومناخ التشاور والتوافق الذى نريد له أن يسود. من هذه الزاوية فإننى استغرب ذلك التكالب من جانب الجميع على توزيع الحظوظ والحصص فى لجنة الدستور، حتى قلت إنه كان يكفى الأغلبية أن تتمسك بأمرين فى الدستور، هما هوية البلد الإسلامية وضمانات الحريات العامة، ثم تترك الأمر بعد ذلك للآخرين يجتهدون فيه ما وسعهم الجهد.

إن التحديات التى تواجه مصر أكبر بكثير من تلك المعارك الجانبية التى تثار بين الحين والآخر، فتفرق الصف وتستهلك الجهد. لذلك تمنيت أن ينشغل الجميع برؤية تحقق للوطن الفوز وعبور الفترة الانتقالية بنجاح. وذلك أهم بكثير من فوز هذا الحزب أو ذاك بأى مغنم مهما بلغ شأنه.

اللجنة التأسيسية نموذجاً لأخطاء التيار الإسلامي….. محمد المهندس


 إلى من سألني بصدق عن أزمة اللجنة التأسيسية، وإلى من يريد أن يشاركني الفهم في أسباب المشكلة، وكيفية علاجها من خلال وجهة نظر بسيطة أقول:

تنص المادة 60 من الإعلان الدستوري والتي كانت من المواد المستفتى عليها مباشرة من الشعب على أن:"يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشورى في اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال ستة أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها ويُعرض المشروع ، خلال خمسة عشر يوماً من إعداده على الشعب لاستفتائه في شأنه ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء ."

هذه المادة أعطت المجتمع كله بقيادة الأعضاء المنتتخبين مهلة سنة كاملة لإقرار دستور جديد للبلاد، وقسمت هذه السنة إلى ستة أشهر لتشكيل لجنة الدستور نفسها، وستة أشهر أخرى لصياغة الدستور المقترح للاستفتاء.

كان الهدف من هاتين المدتين هو عمل حوار مجتمعي حقيقي، والتوصل لتوافق طبيعي يرتضيه الجميع حول أسماء المرشحين لهذه المهمة الجليلة أولاً، ثم ليمتد هذا الحوار مع اللجنة المشكلة للوصول إلى دستور معبر عن الأمة المصرية بكافة أطيافها، ومحافظ على هويتها، ومقر للعدالة الاجتماعية بين كافة أبنائها، ومدافع عن الحريات العامة لمواطنيها، ومقيم لتوازن بين سلطات دولتها تامة الاستقلال في إرادتها الوطنية.

كان من المنتظر من الأعضاء المنتخبين في مجلسي الشعب والشورى أن يقدموا للأمة حالة مثالية - هم الأحق بتقديمها - لتكون نموذجا مغايرا لنماذج اللجان المعينة من الأسرة الحاكمة قبل الخمسينات، ومن العسكريين قبل ثورة يناير.

كما أن فلسفة هذه التعديلات كانت قائمة في الأساس - كما أكد على ذلك المستشار البشري أكثر من مرة - على صياغة الدستور في ظل سلطة تشريعية (برلمان) وتنفيذية (رئيس وحكومة) منتخبين حتى يبتعد العسكر بقوتهم ونفوذهم عن التأثير في هذه اللجنة، وفي الحوار المجتمعي الدائر حول عملها.

ثم جرت أمور مجهلة بين قوى متداخلة، وصدرت تصريحات متضاربة تسحب أولاً فكرة الرئيس قبل الدستور، بل وتلح على عدم قانونيتها، أو وجاهتها، ثم تحررت هذه النقطة قليلاً تحت الضغط الثوري المطالب بسرعة إجراء انتخابات الرئاسة.

عند ذلك جرت أمور أخرى أكثر تجهيلاً بين تلك القوى، بحتمية انتهاء صياغة الدستور قبل، أو مع انتهاء انتخابات الرئاسة، وهو ما يعني عملياً أن يتم سلق الدستور في مدة تزيد قليلاً عن الشهرين بما يشمله ذلك من تشكيل للجنة التأسيسية، ثم صياغة الدستور، ثم الاستفتاء عليه.

وعند ذلك مربط الفرس، ولب المشكلة التي أدت إلى هذه اللجنة المختلف عليها القابلة للانفجار، والتي قد تؤدي إلى دستور أكثر عجباً وقابل للانهيار.

لقد ألزمت هذه القوى نفسها بالانتهاء من تشكيل اللجنة التأسيسية لسبب مجهول (أو هكذا يبدو) خلال أسبوعين اثنين، فحدث ارتباك، أدى إلى الأخطاء التالية:

1- لم يتم فتح أي حوار مجتمعي أو سياسي حول طريقة تشكيل اللجنة لتكون معبرة بحق عن كافة أطياف الأمة.

2- لم توضع أي معايير لاختيار أعضاء اللجنة، سواء تلك المتعلقة بالكفاءة، أو تلك المتعلقة بنسب التمثيل للنقابات، والهيئات، والمؤسسات، والفئات، والأطياف المشكلة للتنوع المصري الطبيعي، والمهني، والعرقي، والجغرافي، والديني.

3- لم تقم القوى المجتمعية بعرض مقترحاتها لتشكيل اللجنة على الرأي العام، وعلى البرلمان، مصحوبة بأسماء مقترحة بسير ذاتية وطنية ومهنية تشفع بانضمامها لتلك الكوكبة التي تعد لدستور مصر الحديثة.

4- تعاملت القوى السياسية بمنطق النسب الوزنية للقوى السياسية متناسين أن أطياف المجتمع ليست سياسية بالضرورة، وأن ممثلي العمال، والنقابات، والجامعات، والطوائف ليسوا سياسيين بالأساس؛ لذا فإننا صرنا نسمع نكتة أن الإسلاميين لا يمثلون إلا 48 % من أعضاء اللجنة المشكلة، وكأن القضاة، والعمال، والجامعيين الآخرين على طرف نقيض من مشروع القوى الإسلامية!

5- تعامل مجلس الشعب مع هذا الأمر الجلل كأنه "مأمورية" محددة الزمن؛ فرفض رئيسه كل محاولات النقاش حول الأسماء المقترحة من الأحزاب، والنقابات، والجامعات، والاتحادات، والهيئات، وغيرها والتي فاقت الألف وخمسمائة اسم؛ فصار لزاماً على النواب اختيار 100 اسم هكذا دفعة واحدة، دون معايير كفاءة، أو تمثيل نسبي، وصار الحل في الورقة المجهزة مسبقاً والتي ينقل منها العضو الأسماء التي اتفق عليها حزبه مع بعض الأحزاب الأخرى!

6- ثم خرجت نتيجة التصويت الموَجّه بهذه الصورة المرقعة التي أتت ببعض الشخصيات التي لا حضور لها في الواقع المجتمعي المصري، وأغفلت آخرين لهم حضور طاغ منذ الثورة، وحتى الآن.

7- بسبب غياب المعايير نسيت اللجنة، أو تناست وضع ممثلين رسميين مرشحين من الكنيسة والأزهر، وكذلك نقيب الأطباء.

8- تم اختيار أفراد ممثلين لقطاعات معينة بناء على معايير سياسية انتمائية، مثل طالب المنصورة الإخواني، ومثل رئيسي جامعة الإسكندرية والمنيا الإخوانيين، ومثل المدرسة المساعدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بنت عضو مكتب إرشاد الإخوان التي قدمت على أساتذتها في ذات الكلية ذوي الباع الطويل في الدراسات السياسية والعلمية، وكذلك الحركية الثورية، ومثل اختيار أستاذ حركي للاقتصاد الإسلامي، وأيضا مصرفي إسلامي ثان، والأمثلة تطول.

9- هناك إغفال متعمد للقوى الثورية الشبابية سواء الممثلة في البرلمان، أو خارج البرلمان، بحيث لم يتم اختيار إلا الشاب البطل أحمد حرارة، ورغم رمزيته بالغة الدلالة والضرورة، إلا أنه لم يكن من القيادات الشبابية المعروفة قبل إصابته في عينيه!

الغريب أن كل هذه الأخطاء لا يراها الإسلاميون، ويرون أن الاعتراض على تشكيل اللجنة ما هو إلا مناكفات علمانية صبيانية من قوى كارهة للإسلاميين، ومتواطئة مع العسكر ضد مصلحة الأمة!

أما الأكثر غرابة فإن هذه الأخطاء جاءت في ذات الوقت التي تحتاج فيه القوى الإسلامية لتكاتف كافة القوى الوطنية معها في مواجهة مباشرة مع العسكر قد (!) تنتقل من مرحلة البيانات إلى مرحلة الفعل الإقصائي الحقيقي من خلال أحكام قانونية جاهزة!

الحل في رأيي يكمن في تطبيق خريطة الطريق الشعبية التي طالما تغنى الإسلاميون بإلزاميتها، وهي أن يصاغ الدستور تحت مظلة منتخبة، وأن يجرى حوار مجتمعي كامل حول الدستور من خلال تشكيل لجنة المائة، ثم من خلال صياغة الدستور ذاته، وليأخذ دستور البلاد حقه الكامل في النقاش والحوار دون ضغط من بيادة، أو زناد!!، ودون حوارات مجهلة من أطراف تريدها أن تبقى مجهلة!

أظن أن هذه هي آخر فرص الإسلاميين في قلب الطاولة على العسكر، وإخضاعهم التام للسلطات المنتخبة، وليعيدوا النظر في الأمور المجهلة التي يريدوننا أن نسير في ركابها صامتين مدافعين مبررين.

والله المستعان على ما تصفون.

الثلاثاء، 27 مارس 2012

رسالة مفتوحة إلى الإخوان المسلمين……….من الدكتور يوسف القرضاوي

 بسم الله الرحمن الرحيم

أخي فضيلة المرشد العام، إخواني أعضاء مكتب الإرشاد ومكتب شورى الإخوان، إخواني وأبنائي وأخواتي وبناتي من الإخوان المسلمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأكتب إليكم رسالتي وأنا أتابع بترقب وقلق ما يدور في مصرنا الحبيبة، أترقب حاضرا ملؤه العدل والحرية للوطن وأبنائه، ومستقبلا مشرقا يرد مصرنا العزيزة إلى مكانتها التي هي في القلوب دائما عالية، وقلق كذلك على الحركة الإسلامية التي أفنيت فيها شبابي، وكذلك إخواني من العلماء والدعاة.
لا أخفي عليكم ما يقلقني كذلك على الداخل ـ داخل الجماعة ـ فكم من الرسائل والاتصالات من الشباب في جماعة الإخوان، تسألني وتلح في السؤال عن موقفي من مرشحي الرئاسة، وهل يساندون من تطمئن ضمائرهم إليه، وإن خالف رأي الجماعة أم لا؟ ورغم أني أجبت بعضهم شفهيا، وألح البعض أن أكتب رأيي، ولكني خشيت أن يحدث رأيي فتنة بين صفوف أبناء الإخوان، وهو ما لا أرتضيه ولا أحبه، فأردت أن أنصح وأشير على إخواني بهذه النصائح، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وعملا بميثاق الإخوة التي بيننا، والتي جعل أهم أركانها إمامنا الشهيد: التعارف، والتفاهم، والتناصح.
  • أولا: الإدلاء بالصوت في الانتخابات أمانة وشهادة، يقوم بها الإنسان لله سبحانه وتعالى، ابتغاء مرضاته، يقول تعالى: (وأقيموا الشهادة لله)، ويقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)، يجتهد فيها الإنسان أن يراعي ضميره، وأن يراقب ربه، حتى لا يسأله الله عز وجل عن صوته: لماذا لم يعطه لمن يستحق، ولماذا أعطاه لفلان خاصة، فهو أمر ومسؤولية فردية بين العبد وربه.
وهنا أنصح إخواني بألا يتبنوا موقفا معينا، ويتركوا للشباب والأفراد التوجه حسب ضمائرهم، وألا يتعجلوا فتنة بعض أفراد الصف، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جهد كل أخ منهم، فإذا كنا نمدد أيدينا للقريبين معنا فكريا، فأولى بنا أن نحافظ على كوادرنا وأفرادنا، ولعل في هذا التوجه ما يفيد ويكون فيه الخير إن شاء الله، وهو رأي استشرت فيه عددا لا بأس به من أهل العلم والخبرة السياسية فنصحوا به، وألا يشهر في وجه من يجتهد في التصويت إرضاء لضميره سلاح الضغط، أو التهديد بالفصل.
  • ثانيا: لقد بنى الإخوان موقفهم من الترشح للرئاسة وهو (عدم الترشح) تأسيسا على رؤية معينة، وهي الخوف من توابع تولي إسلامي رئاسة الدولة، والخوف على مصر من التضييق والحصار مثلما حدث مع غزة، وقد بدأت بعض الأخبار تتوارد بتفكير الإخوان في الترشح والدفع بمرشح من الجماعة، وأود أن أنصح هنا بأمرين:
1ـ أن هذا التوجه سيفتت أصوات الإسلاميين المرشحين، فلو غيرت الجماعة رأيها، فالأولى لها أن تتبنى مرشحا تراه أقرب لفكرها، وأهدافها من المرشحين الإسلاميين، ما دامت قد غيرت رؤيتها وتوجهها.

2ـ لقد بني على القرار الأول بعدم الترشح، قرارات انتهت بفصل بعض أفراد الجماعة كبارا وصغارا الذين خالفوا القرار بناء على اجتهاد منهم، فإذا تغير توجه الإخوان بالدفع بمرشح، فأرى أن هذا التوجه يجب ما مضى من مواقف مع هؤلاء الإخوة، ويفتح لهم باب العودة للجماعة، وذلك بأن تسقط كل الإجراءات التي اتخذت معهم عند تغير التوجه، فالعودة في القرار تجب ما بني عليه.
  • ثالثا: أدعوكم بحكم أنكم الفصيل الكبير في الحركة الإسلامية، إلى تبني رؤية تجمع بين المرشحين الإسلاميين، والالتفاف حول مرشح واحد، أو أن يحل الأمر بأن يكون الترشح بين المختلفين على الرئاسة ونيابة الرئيس، ولو اقتضى الأمر أكثر من نائب، كما في منصب المرشد فله أكثر من نائب، فقد رأينا فلول النظام تطل برأسها للترشح، وانسحاب البعض للإفساح لغيره، وكأنه أمر معد مسبقا، مما يدعونا كإسلاميين إلى أن نكون على قدر المسؤولية في هذه اللحظة الحاسمة من مصير أمتنا.
أخي الأستاذ المرشد، وإخواني الفضلاء، يعلم الله كم يؤرقني وضع بلدي الكبير أم الدنيا مصر، وما يجري فيها، ويؤرقني كذلك خوفي على الحركة التي أؤمل فيها كل خير، وفقكم الله لخير البلاد والعباد، وأسأله تعالى أن يجعل يومنا خيرا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا.

أخوكم
يوسف القرضاوي

——————————————