الأحد، 25 مارس 2012

بين الرشد والتيه في تطبيقات الشورى المعاصرة ! - مفهوم الشورى وأهميتها ومقاصدها (2) - د.يحيى نعيم

مفهــوم الشــورى وأهميتها ومقاصدها

المعنى اللغوي: جاء في المعجم الوسيط "شار" الرجل شورا أي: حسن منظره, وَالشَّيْء: عرضه ليبدي مَا فِيهِ من محَاسِن, وَيُقَال شار الدَّابَّة أي أجراها عِنْد البيع ليظْهر قوتها وَفِي حَدِيث طَلْحَة (كَانَ يشور نَفسه أَمَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي يسْعَى ويخف ليظْهر بذلك قوته
وشار َالْعَسَل أي: استخرجه واجتناه من خلاياه ومواضعه.
(أَشَارَ) إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَو نَحْوهَا: أَوْمَأ إِلَيْهِ معبرا عَن معنى من الْمعَانِي كالدعوة إِلَى الدُّخُول أَو الْخُرُوج, وَعَلِيهِ بِكَذَا: نصحه أَن يَفْعَله مُبينًا مَا فِيهِ من صَوَاب
(شاوره) فِي الْأَمر مُشَاورَة وشواراً: طلب رَأْيه فِيهِ وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وشاورهم فِي الْأَمر}
(اشتور) الْقَوْم: شاور بَعضهم بَعْضًا و(تشاوروا): اشتوروا
كما جاء في تهذيب اللغة شار الرجل أي حسن وجهه وراش واستغنى ويقال جاءت الإبل شياراً أي: جاءت سماناً حساناً

المعنى الاصطلاحي: هناك العديد من التعريفات, والتي تدور كلها حول اجتماع الناس على أمر ما لتداول الآراء, واستخلاص أصوبها للبت في شأن هذا الأمر بقرار..وابسطها وأوضحها ما ذكره الشيخ أحمد محي الدين العجوز في "مناهج الشريعة الإسلامية" من أن الشورى هي:
 "تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها لأجل اعتماده والعمل به".
وأحكمها و أوعاها بتصوري هو تعريف الدكتور توفيق الشاوي, في كتابه الجامع (فقه الشورىوالاستشارة) بأنها:
"منهج شرعي لتبادل الرأي والفكر الحر, قبل إصدار القرار من الجماعة أو أهل الحل والعقد الممثلين لها أو المختص, وفقاً لأحكام الشريعة, في جميع الشئون الاجتماعية والفردية".

وفيه جمع الدكتور توفيق -رحمه الله- بين طبيعة المبدأ (منهج شرعي), وجوهر الممارسة (تبادل الرأي والفكر الحر), ودوائرها (الجماعة ككل – أهل الحل والعقد – أهل الاختصاص), وإطارها الحاكم (الالتزام بأحكام وتوجيهات الشريعة), وميادين تنزيلها (جميع الشئون الاجتماعية والفردية).
ولعلنا نلمس دقة وجمال التوافق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي, عندما يترادف المعني اللغوي مع استخلاص العسل وجمعه من خلاياه ومواضعه, والمعنى الاصطلاحي مع استخلاص الرأي الصواب وجمعه من أهله وثقاته, فإذا ما كنا نعرف في العسل أنه شفاء للناس, مصداقاً لقوله تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس), فإن ممارسة الشورى على النحو الرشيد, يعتبر من مقومات الصحة والعافية في الجماعة المسلمة, والرأي الناشئ عنها هو لاشك علاجٌ وشفاء لما تتناوله من مسألة, وما ينزل بساحتها من خطب و مُلمات.

ومثله أيضاً, مرادفه المعنى اللغوي لعرض الشيء وإبداء محاسنه وقوته, مع ما تعنيه الشورى من عرض الرأي مشفوعاً بمقومات صلاحه ورجاحته, إذ لا يُعتد حال تداول الآراء بالطرح الخالي من الحجية ومقومات الإقناع.
وقولهم في المعنى اللغوي, جاءت الإبل شياراً أي: غدت سماناً حساناً, يترادف مع مستهدف الشورى في جمع الخواطر والأفهام, لتغذية الرأي الواحد الهزيل بذاته, ليغدو سميناً حسناً محيطاً وراسخاً بأبعاد المسألة التي يتناولها, فلا يتجاوزه حينها الهداية والتوفيق والصواب.

أهميـة الشـورى ومقـاصدهـا
يقول الأستاذ الشهيد عبد القادر عوده –رحمه الله-, في كتاب (الإسلام وأوضاعنا السياسية) بأن "الشورى دعامة من دعائم الإيمان, وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سوَّى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله:
 {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38]
فجعل للاستجابة لله نتائج وأمارات بين لنا أبرزها وأظهرها، وهي إقامة الصلاة والشورى والإنفاق، وإذا كانت الشورى من الإيمان فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى، ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيمواالشورى إقامة صحيحة، ومادامت الشورى صفة لازمة للمسلم لا يكمل إيمانه إلا بتوفرها، فهي إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة، والسياسة، والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها، سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم"

وقد ساق المفكرون والكُتاب ممن تناولوا الشورى بالبحث والدراسة, الكثير من الآيات والأحاديث والحكم والأمثال والأقوال المشهورة للترغيب فيها, ومن ذلك قوله تعالى :
(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله), 
وقول رسولنا الكريم: 
"ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا افتقر من اقتصد". 
وقوله أيضاً صلى الله عليه وسلم:
 "المستشير مُعان". 
وما جاء في (العقد الفريد) على لسان الإمام علي رضي الله عنه, بان في الشورى سبع خصال وأفضال, وهي :
"استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وألفة القلوب، وإتباع الأثر" 
وقوله رضي الله عنه :
" نعم المؤازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد". 
وقول عمر بن عبد العزيز: 
"إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي ولا يُفقد معهما حزم". 
وقول الجاحظ: 
"المشورة لقاح العقول، ورائد الصواب، والمستشير على طرف النجاح، واستنارة المرء برأي أخيه، من عزم الأمور وحزم التدبير، وقد أمر الله تعالى أكمل الخلق لبا، وأولاهم بالإصابة عزما، فقال لرسوله الكريم عليه السلام في كتابه الكريم: "وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"

وقولهم في منثور الحكم: 
"الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه" و "ما استنبط الصواب بمثل المشورة، ولا خصبت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضة بمثل الكبر" و "لا يستقيم الملك بالشركاء، كما ولا يستقيم الرأي بالتفرد به"
وفي الشعر:
الرأي كالليل مسوداً جوانبه … والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح أراء الرجال إلى … مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
و قولهم:
والحكم إن وزن الشعوب بواحد … غبن الشعوب وخانه الميزان
في عصمة الشورى وتحت ظلالها … تحمي الممالك كلها وتصان

غير أن جُلّ إسهابهم كان في تناول الشورى وفوائدها في ميدان السياسة وتأليف الرعية وإدارة شئون الحكم, وقليلٌ ما صادفني أن تجاوز الكاتب المدح والتركيز على فوائد الشورى في الجانب السياسي, إلى الاهتمام باستنباط وتفصيل مقاصد الشورى الكلية, وحكمتها الواسعة في بناء الأمة وتمتين عقدها الاجتماعي وتأمين صفوفها من عوامل الهدم والتناحر, ومن هؤلاء النفر القليل الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي الذي عدد فوائد الشورى العامة, في أنها إتباع لسنة الرسول الكريم ولزوماً لهدية ومنهجه, وأنها مدعاة للتوصل إلى الصواب, ومدعاة لإزالة الضغائن والأحقاد فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر, وأن فيها إشراكاً في الأجر, وتسلية عند إخفاق الرأي, وأنها مدعاة للطاعة والتزام الأمر, وهي تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة, وفيها استغلال لكل الجهود والطاقات المتاحة في الأمة, كما أنها تغلُّب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لإتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة, وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها وتحريز لها من السقوط في وحل الكبر ومستنقع الاستبداد".

..ويبقى أفضل ما قرأت في هذا الشأن أيضاً, مقالة للدكتور الريسوني, تحت عنوان (مقاصد الشورى وفوائدها)¹, وما ساقه الدكتور توفيق الشاوي بهذا الصدد في كتابيه (الشورى أعلى مراتب الديمقراطية) و (موسوعة فقه الشورى والاستشارة), وأهم ما يتعلق فيهما بموضوع البحث, هو تأكيدهما المشترك على أن جوهر الشورى هو تبادل الرأي والحوار الحر بين جميع الأفراد قبل صدور الحكم والقرار, في أجواء من الألفة وسلامة الصدر والحرص على طلب الحق والصواب, ولهذا يصف الدكتور توفيق الشاوي بأنها منهج اجتماعي وليست نظرية سياسية وحسب, ويقول في ذلك: 
(إن قرار الشورى هو القرار الصادر من جماعة تمتعت بحرية الاختيار, وحرية اختيار الجماعة تعني حرية أفرادها جميعاً في المشاركة في الرأي ومناقشته, والوصول إلى الرأي الناتج عن المشاورة والالتزام به سواء أتقرر بالإجماع أم بالأغلبية) .

ويقول في موضع آخر :
(لا يعتبر القرار صادراً من الجماعة بصورة صحيحة, إذا حُرم بعض أفرادها أو طائفة من المكلفين الراشدين منهم من الحق في الشورى, ومن باب أولى إذا حُرمت الأغلبية نفسها أو الجمهور من هذا الحق).

ويؤكد على هذا المعنى الدكتور الريسوني في ذكر المقاصد, ومنها: إشاعة جو من المبادرة والحرية, وفيها يقول: 
(الشورى هي أولا وقبل كل شيء حرية في التفكير وحرية في التعبير الصادق الأمين. والشورى إذا أفرغت من حرية التفكير والتعبير أصبحت مجرد ملهاة، أو مجرد مناورة على وزن مشاورة .. أي أنها تتخذ شكل المشاورة واسم المشاورة، ولكنها في النهاية مجرد تضليل ومناورة … ولذلك فحرية التفكير وحرية التعبير، هي شرط من شروط الصحة في الشورى، شرط سابق وشرط مرافق. فإذا أردنا الشورىالحقيقية، فلنقل: هي التي تكون الحرية قبلها، والحرية معها. وعلى هذا الأساس فإن الشورى تصبح ترجمة عملية لحرية التفكير والتعبير، وتصبح خادمة لها، ومعززة لممارستها، وضامنة لاستمرارها واشتداد عودها)!


ولعل هذه المعاني الأخيرة تُلقي بظلال كثيفة على ما يجري في التطبيقات المعاصرة للشورى, حيث تُكبت العقول وتُصادر الآراء وتُقيد الحريات باسم الشورى الملزمة, فيُنتهك الجوهر وتنحرف الممارسة فتُهدر واحدة من أهم مستهدفاتها وهي حفظ أواصر الأخوة وتمتين علاقات المودة بين أبناء الجماعة المسلمة وتوحيد صفها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق