الأحد، 25 مارس 2012

بين الرشد والتيه في تطبيقات الشورى المعاصرة ! - مقدمة السلسلة (1) - د.يحيى نعيم

تــوطئـــــة

بادئ ذي بدء, أود الاعتراف بأن دوافعي للبحث في مسألة الشورى لم تكن تتجاوز الرغبة في الوقوف على مدى توافق التطبيقات المعاصرة لدى التنظيمات الإسلامية القائمة, مع المفهوم الصحيح للشورى, الذي تضمنته النصوص القرآنية والتوجيهات النبوية, وما جاء في السيرة والخلافة الراشدة من تطبيقات أجمعت الأمة على صوابيتها ورشدهاخاصة مع تزايد الجدل والنزاع حول مواقف جماعة الإخوان الأخيرة, المصاحبة لنشأة الحزب, والمتعلقة بانتخابات الرئاسة. وإلزام الحركة لأعضائها بعدد من القرارات المنسوبة للشورى, ومبادرتها للتضييق على المخالفين بسلسلة من العقوبات, بلغت حد الفصل, الذي طالت مقصلته رموز وقامات دعوية كبيرة في حجم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح, وشباب مشهود لهم بالكفاءة والإخلاص والفضل داخل الصف التنظيمي لسنوات طويلة. ليتحول هؤلاء النفر بين عشية وضحاها إلى فئة منبوذة تنظيمياً, تلاحقها حملات من التشويه والافتراءات والاغتيالات المعنوية داخل الجماعة وخارجها..وتبقى تهمتهم الكبرى التي لا يعوزها الحجية في الإقناع, أنهم قد شقوا عصا الطاعة التي بايعوا عليها في المنشط والمكره, وخالفوا شورى الجماعة الملزمة.

غير أنني كلما تقدمت في بحث المسألة, استبان لي من معانيها ومعالمها ما تضائل معه مستهدف البحث ودوافعه الأولى, حيث وجدتني أمام مبدأ وقيمة عظيمة من مبادئ وقيم الإسلام, الذي غيّبته كما غيّبت غيره سنوات عجاف من الجهل والجمود التي أصابت الأمة, وشوهته كما شوهت غيره عقولٌ ضاقت مذاهبها, وأخرى حملت علمها لاسترضاء السلطان وأصحاب النفوذ, فحرفت وتأولت وألبست على الأمة في دينها ما لم يُنزل به الله سلطاناً, فكان عملها اشد باساً وخطورة من جيوش توالت تتراً على الأمة, لتخرجها من عبادة ربها, وتعطلها عن القيام بقيادة الركب الإنساني وهدايته وإرشاده لسبل النجاة والسلامة في الدنيا والآخرة.

ولا أبالغ حين أقول بأن طمس معالم الشورى و مقاصدها, وتعطيل وظيفتها ودورها في بناء الأمم والنظم السياسية التي تحكمها, على النحو الذي جرى في العصور التي تلت الخلافة الراشدة, وما تقدمه التنظيمات الإسلامية المعاصرة اليوم من تطبيقات قاصرة ومشوهه, قد حرم الإنسانية كلها من فضل الاستفادة من هذه القيمة وتطبيقاتها في كافة ميادين الحياة المختلفةوجعلها ترفل لسنوات طوال -ومازالت- في معاناة التجربة والخطأ والتصحيح, إلى أن توصلت مؤخراً "للديمقراطية الغربية", فتناولتها شعوب الأرض على أنها النموذج المحتذى, ونُظّرَ لها على أنها قمة ما توصل إليه العقل الإنساني, من نضج ورشد في إدارة الحكم وتنظيم العلاقة بين الحاكم والرعية.

الأمر الذي دفع بمفكر مثل فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ", للقول بأن الحضارة الغربية بما توصلت إليه من نظم إدارة وديمقراطية, هي قمة ما أنتجته البشرية لتنظيم شئونها وعلاقاتها, ومن ثم فهذه هي نهاية التاريخ, وهذه هي الحضارة التي ستبقى مهيمنة وسائدة إلى أن تفنى الأرض والحياة.! وما درى فوكوياما وأمثاله, أن منهجاً ربانياً بين يدي المسلمينيفوق تلك الديمقراطية الغربية بمراتب رشداً وإحكاماً اسمه "الشورى". ولولا ما تعانيه الأمة من انحطاط وتيه, لكان من سعد البشرية أن تنعم في كنف هذا المنهج وتطبيقاته وثماره اليانعة, بما يحفظ نوعها ويرتقي بإنسانيتها.

وما كنت أحسبني أفيق من الاستغراق في تأمل المعاني, واستنباط الأحكام بين ثنايا البحث في حديقة الشورى الغناء وارفة الظلال, لولا استعجال أخوة أفاضل لي, لإخراج البحث والتركيز على دوافعه الأولى, وذلك رجاء المساهمة في فض الالتباس الحاصل حول المفهوم وتطبيقاته داخل الجماعة, في مسائل لم ينقطع الجدل حولها في الآونة الأخيرة..

ولهذا الغرض سوف ينتظم البحث بإذن الله في المحاور التالية:
1- مفهوم الشورى وأهميتها ومقاصدها.
2- الضوابط الحاكمة للتطبيق وأنواع الشورى وحكمها ودوائر عملها.
3-  صور من التطبيقات الراشدة والصحيحة للشورى.
4-  مراحل وأسباب الانحراف في الفهم والتطبيق ونتائجه.
5-  مواقف وتطبيقات الجماعة المعاصرة في ميزان ما تقدم.

وإني لأرجو من الله أن يعينني على تحقيق ذلك المستهدف, بقطف زهور الشورى اليانعة, وتضمينها في المقالات القادمة, عسى أن يسري عبيرها في النفوس فتتغير قناعات, وتُكف أياد وإرادات عن تناول هذه القيمة العظيمة في غير مقاصدها وأهدافها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق