السبت، 3 مارس 2012

الشعب الخط الأحمر…..إبراهيم الهضيبى


 ثمة شواهد تقول إن صراع السيادة الذى ظل معركة رئيسة طوال العام الماضى يزداد حدة، وأن أطرافه المختلفة تريد تحقيق أكبر قدر من المكاسب قبل الهدوء النسبى المنتظر بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية وكتابة الدستور.

وجوهر السيادة امتلاك القرار السياسى وبسط النفوذ على كل المؤسسات الدستورية، وهى تكون لمجموع الشعب فى الديمقراطيات، فتنتظم المؤسسات بحيث تعبر عنه، وتخرج قراراتها عاكسة الإرادة السياسية للجماعة الوطنية، التى لا يكون ثمة سلطان إلا لها، وعلى المستوى النظرى فإن الدستور المصرى يجعل السيادة للشعب (مادة 3)، بيد أنه ينظم مؤسسات الدولة وصلاحياتها وإجراءاتها على نحو يحد من هذه السيادة، وينقلها لجهات أخرى.

والأشهر التالية للثورة شهدت صراعا بين أطراف كلها تريد انتزاع السيادة لنفسها، ورغم ادعاء الجميع القبول بسيادة الشعب فإن مواقف هذه الأطراف دالة على عدم إيمانها بذلك، إما لأنها لا تراه أهلا لهذه السيادة، أو لأنها تسعى من خلال تمكنها من السيادة لتحقيق مصالح أفرادها وإن تعارضت مع المصلحة الوطنية العامة. 
  • وأول الرافضين لسيادة الشعب هم بعض أطراف النخبة، الذين أرادوا إبقاء القرارات السياسية أسيرة الحجرات المغلقة بعيدة عن صناديق الاقتراع، وتجاوزوا غير مرة النتائج الديمقراطية لاستفتاء مارس المنصرم، إما بدعوتى الدستور أولا والمبادئ الدستورية وقتئذ، أو بقبولهم تأخير انتخابات الرئاسة لما بعد الانتهاء من صياغة الدستور الآن، أو بهما معا، وهذا المسعى خاطئ غير أنه ليس خطيرا، لأن الساعين لا يستندون لقوة مادية تمكنهم من فرض مرادهم، وهم إن نجحوا فى تجاوز إرادة الشعب مرة فلا شك من فشلهم فى المرات التالية، ولا مناص من خضوعهم لسيادة مجموع المصريين. 
  • وثانيهما مؤسسات الدولة العميقة فى مصر، وهى القلب الصلب للدولة المصرية، والتى استُنِد إليها فى تسيير الأمور مع موات السياسة خلال العقود الماضية، وامتلكت بالتالى مفاتيح القرارات السياسية المهمة، وهذه الدولة العميقة قلبها المؤسسة الأمنية والمعلوماتية (الجيش، والداخلية، والمخابرات)، لها أذرع فى المؤسسات الأخرى للدولة سواء المالية أو القضائية أو الإعلامية، أو الخارجية، وليس خافيا على أحد تبعية الأذرع للقلب (جزئيا على الأقل)، فالقضاة فيهم عدد لا بأس به من الضباط السابقين، ووزارة الخارجية أقرب لجهة تنفيذ سياسات ترسمها أجهزة الأمن القومى منها لجهة صنع السياسات، وثمة كلام يتناقله البعض ــ من غير تأكيد أو نفى من المؤسسات الرسمية ــ مفاده أن ضباط أمن الدولة السابقين المفصولين من الداخلية أعيد توظيفهم فى المخابرات، وعدد لا بأس به من الصحفيين والإعلاميين النافذين كانت لهم علاقات قوية بجهازى أمن الدولة والمخابرات، وإلى هذه العلاقات لإمكانياتهم كان الاستناد فى ترقياتهم، والقرارات الاقتصادية السيادية لا تتم بعيدا عن هذه الجهات، وبعضها كالجيش والمخابرات له مؤسسات مالية مستقلة غير خاضعة للدولة.
 وهذه الدولة العميقة تسعى للحفاظ على السيادة التى امتلكتها عمليا من قبل الثورة لسببين،
  • أولهما اعتقادها بأنها مؤهلة دون المدنيين لإدارة القضايا الاستراتيجية، وإيمانها بدورها الرسالى فى الحفاظ على الأمن القومى وفق تعريفها له، وعدم ثقتها فى المدنيين المنتخبين كفاءة ونزاهة،
  • وثانيهما سعيها للحفاظ على مصالحها، وقد أدت عقود التقارب بين مصر وأعدائها الاستراتيجيين لأن ترتبط بعض هذه الجهات بعلاقات مع هؤلاء الأعداء، وأن ترتبط مصالحها بهم، كما أدى طول الركود وغياب الرقابة لأن تفسد بعض هذه المؤسسات، وتصير توجهاتها تبعا ــ وإن جزئيا ــ لمصالح قاداتها لا المصالح العامة.
 وكان التجلى الأول لسعى هذه الدولة العميقة استبقاء سيادتها هو شعار (الجيش خط أحمر) والذى استخدمته بعد التنحى، قاصدة به منع توجيه النقد للمؤسسة العسكرية، وإسكات المطالبين بوضعها ــ كما هو الحال فى الديمقراطيات، وكما تقتضى سيادة الشعب ــ تحت رقابة أصحاب السيادة الديمقراطية، بطريقة لا تؤدى لإفشاء الأسرار العسكرية ولا تخل بالأمن القومى، وكان الجيش وقتئذ رأس حربة هذه الدولة العميقة، لا بد من إبقائه بعيدا عن سيادة الشعب ليتمكن من الدفاع عنها، وهو ما حصل بأن دافع المجلس العسكرى عن وزارة الداخلية ومنع إعادة هيكلتها، وكذا فعل مع الإعلام وغيره من مؤسسات الدولة العميقة التى أراد الثوار إعادة هيكلتها بما يضمن خضوعها للإرادة الشعبية وتحقيقها للمصالح الوطنية وكفاءتها الفنية.

وقد ظل الصراع بين المطالبين بالديمقراطية والدولة العميقة ممتدا طوال الأشهر الماضية، أعادت خلاله توجيه مطالب الإصلاح إلى ما عداها، واستغلت قلق المدنيين المتبادل من بعضهم لأن تدخلهم فى صراعات استنفدت الوقت والجهد، فيما ظلت هذه الدولة قوية متماسكة، وقد أجلت غير مرة المعارك التى لم تستطع حسمها، كمعركة الدستور التى أرادت حسمها مبكرا بوثيقة السلمى، ثم اضطرت تحت ضغط شعبى لتأجيلها.

ومع دنو أجل الانتخابات الرئاسية ووضع الدستور تسارعت وتيرة المعارك، وبدت إشارات يمكن أن تمر كل منها منفردة بتفسيرات بريئة، غير أن اجتماعها وتلاحقها على النحو الذى شهدته الأيام الماضية يصعب معه هذا التفسير، فقد صدرت قرارات قضائية تفتح الباب أمام الطعن فى شرعية البرلمان، ورغم أن المسألة تتعلق بقضية إجرائية فقد تم تقديمها كتشكيك فى الشرعية الديمقراطية له، بما يفتح بابا لاستمرار تدخل غير المنتخبين فى إدارة السياسة (لأن شرعية المنتخبين محل شك)، ويمكن الدولة العميقة من مقايضة البرلمان على وضعها فى الدستور، ويضع له ضمنا خطوطا حمراء لا يتخطاها فى القضايا التى تناقشها.

وبالتوازى مع ذلك فقد تعرض مرشح رئاسى لحادث سرقة مسلحة أصيب فيه، ثم بعدها بسويعات تعرض وكيل لجنة برلمانية لحادث سير أصيب فيه، وبعدها بأيام تعرض نائب برلمانى آخر لاعتداء، ورغم افتقاد الدليل بأن الحوادث مدبرة فإن القرائن تشير لذلك، والتوقيت والعلاقة بالأحداث الأخرى قرينة على احتمال وجود تواطؤ على الأقل من الدولة العميقة بقلبها الأمنى، وهو فى الحالة الأولى رسالة بأن ثمة ملفات لا ينبغى للرئيس القادم فتحها وفى الحالات كلها رسالة بأن ثمة خطوطا حمراء لابد من التوقف عندها، وهى رسالة ليس المقصود بها المستهدفين فحسب، وإنما من وراءهم من المهتمين بالشأن العام، أملا فى أن يدفعهم القلق من إغضاب الدولة العميقة للتردد والتراجع عن الخوض فى قضايا بعينها.

 لقد كان رد الثوار المطالبين بسيادة الشعب على شعار (الجيش خط أحمر) عبقريا، إذ قالوا فى هتافاتهم (يسقط يسقط حكم العسكر، نحن الشعب الخط الأحمر)، فالشعب ــ لا العسكر ــ هو صاحب السيادة، وهو صاحب الكلمة النهائية التى لا يمكن تخطيها، وهذه السيادة تقتضى إنهاء حكم الدولة العميقة، وإعادة هيكلة مؤسساتها وتطهيرها من الفاسدين، وبنائها على أسس من الالتزام الدستورى والقانونى والاستقلال المهنى والتبعية السياسية، وإعادة تنظيم المؤسسات الدستورية بما يضمن مراقبة المنتخبين على غيرهم، وتمكين الشعب من محاسبة الكافة، وهو ما لا يمكن تحقيقه بغير توحد الإرادة الشعبية، ورأب الصدع بين القلب الصلب للقوى الثورية الفاعلة من جهة والأغلبية البرلمانية المنتخبة ديمقراطيا من جهة أخرى.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق