الاثنين، 29 أكتوبر 2012

الدستور والشريعة الإسلامية — وائل غنيم

 جدل كبير يحدث الآن في المجتمع حول مواد الدستور، ولقد شاءت الأقدار أن أكون مطلعا وحاضرا وشاهدا على الكثير مما يدور من نقاشات داخل وخارج الجمعية التأسيسية وكذلك الأفكار التي تطرحها الرموز الوطنية من الأزهر وقيادات التيار السلفي والإخوان المسلمون والتيارات الليبرالية والقومية واليسارية والمستقلون غير المحسوبين على هؤلاء أو هؤلاء. وقد وجدت بعد هذه الرحلة أن هناك الكثير من المعاني يجب أن تصل للشارع المصرية لأنها قد تغير من مسارات النقاش. ولعلمي مسبقا أن هذه القضية هي شديدة الحساسية عند الكثيرين، فأرجو أن يكون النقاش هادئا وعاقلا نستفيد منه جميعا. 

(-) نصت المادة الثانية في دستور مصر ما قبل الثورة على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وبالرغم من الخلاف الذي يدور في الشارع بين التيار الإسلامي (الذي يرى أن هذه المادة شكلية وتفريغ للشريعة من مضمونها) والتيار المدني (الذي يرى أن هذه المادة كافية وتؤدي المطلوب منها من تحقيق مقاصد ومبادئ الشريعة الإسلامية) إلا أن هذا الخلاف ينقصه الكثير من التفاصيل التي من حقنا جميعا أن نطلع عليها. وسأحاول في هذه المقالة توضيح بعض من هذه التفاصيل.

(-) تُعرّف المحكمة الدستورية العليا "مبادئ الشريعة الإسلامية": بأنها الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالاتها والتي لا يجوز معها أي اجتهاد. وقد أوضحت المحكمة الدستورية في حكمها في إحدى القضايا المحالة لديها ما يلي: "لا يجوز لنص تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالاتها، باعتبار أن هذه الأحكام هي التي يكون فيها الاجتهاد ممتنعا، ولا يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان". [مقتبس من أوراق القضية رقم 29 لسنة 1994]

(-) تُحدد المحكمة الدستورية العليا ضوابط "الاجتهاد": بأنه ينحصر في الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو دلالتها أو بهما معا. وأنه يجب أن يكون واقعا في إطار الأصول الكلية للشريعة، متحرّيا لمناهج الاستدلال على الأحكام العملية، وكافلا صوت المقاصد العامة للشريعة الإسلامية". [مقتبس من أوراق القضية رقم 5 لسنة 1996]

(-) هذه التعريفات وللأسف لا يعرفها الكثيرون من أبناء التيار الإسلامي، وبل ويعتقد بعضهم ويردد أن المحكمة الدستورية هي رأس حربة "محاربة الدين" كما سمعت من بعضهم، وهذا وللأسف نتيجة أن أغلبنا كمشاهدين لهذه المعارك النخبوية (لنخبة لا تقرأ إن قررنا إحسان الظن بهم أو تخدع جماهيرها إن قررنا إساءة الظن بهم), لم يطلع على الكثير من أحكام المحكمة الدستورية السابقة، والتي يظهر فيها جليا كيف أن المحكمة تدرس مختلف القوانين دراسة فقهية مستفيضة وتحكم بالفعل بعدم دستورية القوانين إذا وجدت المشرع قد خالف قطعي الدلالة وقطعي الثبوت في الشريعة الإسلامية أو أن اجتهاداته لا تقوم على المناهج العلمية الفقهية المعتبرة.

(-) الدساتير تحدد المبادئ العامة التي يقوم على أساسها المشرع بصياغة القوانين (والمشرع في الدولة الحديثة هو مجلس الشعب المنتخب من الشعب). ولا تتناول الدساتير الأحكام التفصيلية التي قد تتغير بتغير الزمان والمكان أو تفاصيل مكانها القوانين، لأنها تترك هذا الأمر للمشرع واجتهاده. وإلزام المشرع (مجلس الشعب) بأحكام تعتمد على مذهب معين أو رأي فقهي معين هو أمر لا يستقيم ديمقراطيا وكذلك لا يستقيم شرعا وإلا لما كنا نرى في الإسلام مذاهب الأئمة الأربعة أحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرها من المذاهب الفقهية. 

(-) الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع هي أن تطبيق الشريعة يكون عبر عدم مخالفة قوانين الدولة للشريعة خاصة وأن في عصرنا الحديث الكثير من الأمور المستحدثة التي لم تكن موجودة في تراثنا الفقهي الإسلامي، وبالتالي يكون ذلك بالأصل مسؤولية المشرع وليست مسؤولية من يكتب الدستور. فالمشرع هو الذي يصدر القوانين، والمادة الثانية الموجودة في الدستور بشكلها الحالي لا تقتصر على الحث على الاسترشاد بمبادئ الشريعة الإسلامية فقط بل إنها تمنع مخالفة المشرع لكل ما هو قطعي الدلالة والثبوت في الشريعة الإسلامية، وتفتح له الباب لتطبيق ما يراه هو مناسبا.
فعلى سبيل المثال: قد تقرر الأغلبية البرلمانية في مصر تمرير قانون ما يقوم على المذهب الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في قضية متعلقة بالزواج أو الطلاق أو نفقة الطفل أو تطبيق الحدود، وقد يعارضهم البعض في قرارهم ولكن يبقى أن هذا القانون سيتم تمريره إذا وافقت أغلبية مجلس الشعب عليه، وستحكم المحكمة الدستورية العليا بدستوريته إذا طعن أحدهم عليه، وذلك لأنه يقوم على اجتهاد علمي وشرعي ولا يخالف مواد الدستور. وهنا (كأي مجتمع ديمقراطي يكون للناخبين الحق في تقييم ما يقوم به المشرع وإبداء الاعتراض عليه بطرق سلمية). وإذا أدى تمرير هذا القانون لإلحاق ضرر بالمجتمع وتم بالفعل تمريره، فالمتوقع أن المجتمع سيعاقب الأغلبية البرلمانية بعدم انتخابها مرة أخرى وانتخاب غيرهم لتصحيح الأوضاع.

(-) تعرض الكثير من أبناء التيار الإسلامي قبل الثورة لعزل قهري (عبر الاعتقال والمطاردة والمنع من التعيين) وانعزال اختياري (عبر فقدان الثقة في المجتمع وتفضيل الانعزال عنه) مما أدى لعدم انخراطهم في المناصب العليا لإدارة الدولة وغياب التجربة العملية لديهم في علاج مشاكل المجتمع من على قمة الهرم (عبر القوانين والتشريعات) بالرغم من محاولاتهم الدائمة لعمل ذلك عبر قاعدة الهرم (عبر التبرعات والمساعدات).
أدى هذا إلى انحصار أفكارهم في دائرة "النظريات" التي تُنَاقش على منابر المساجد، مما فتح بابا كبيرا لعدم تقدير الأمور بقدرها وغياب الوعي والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد وأولويات المجتمع المترتبة على أي قرارات، كما جعل بعض تلك النظريات تمثل حاجزا كبيرا عند أبناء التيارات المصرية الأخرى وأدت أيضا لرفع درجة العداء بين هذه التيارات في معركة الدستور، فرأينا التيار الإسلامي يراها "حربا ضد الإسلام ممن يكرهون شرع الله" من ناحية، والتيارات الأخرى تراها "حربا لفرض الاستبداد والسيطرة من تجار الدين" من ناحية أخرى. 

(-) كتبت بعد انتخابات الرئاسة مباشرة نصيحة لأبناء التيار الإسلامي، أن يعرفوا أن مصر دولة واحدة من مصادر قوتها هو التنوع الثقافي والفكري بها، والدول المتقدمة في العالم اليوم تشترك أغلبها في اختلاف ثقافات وأفكار أبناء شعوبها. وقد رأينا هذا التنوع جليا هذا في الجولة الأولى للانتخابات، حيث حصل المرشحين من خارج التيار الإسلامي على ما يزيد على 65% من أصوات الناخبين بل وحتى الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح انتخبه الكثيرون ممن هم مثلي ولا يحسبون على تيار الإسلام السياسي. وبالتالي فهل يمكن اعتبار ذلك مؤشرا على أن الشعب لا يريد الإسلام ولا يريد الشريعة، بنفس المنطق الذي يتحدث به بعض أبناء التيار الإسلامي على أن فوزهم بنسبة تتجاوز 67% في انتخابات مجلس الشعب هو الدليل الأكبر على أن الشعب يريد الإسلاميون في الحكم ولا يريد غيرهم؟ 

(-) الحقيقة في أن فوز التيار الإسلامي في الانتخابات التشريعية الأولى ليس دليلا على أنهم يمثلون 67% من الشعب، بل له الكثير من الأسباب منها: أن الشعب لا زال في بداية تجربة الديمقراطية، والتيارات الإسلامية هي الأكثر تنظيما وتواجدا على الأرض منذ سنوات طويلة، والأحزاب الناشئة أضعف تنظيما وحشدا وتمويلا منها ولم يكن باستطاعتها تقديم بديل مُقنع للشارع، وأخيرا وهذا هو الأهم: لم يجرب الشعب سوى الحزب الوطني على مدار عقود طويلة، وبالتالي فهو الآن في مرحلة التجربة للتعرف على قدرة كل فصيل في تحقيق ما يعد به الناخبين. وقد لحظنا تغيرا كبيرا في انتخابات الرئاسة مقارنة بانتخابات مجلس الشعب، حيث أن قائمة الحرية والعدالة في الانتخابات التشريعية حصلت على 10 ملايين صوت انتخابي، بينما حصل الدكتور محمد مرسي في الجولة الانتخابية الأولى على خمسة ملايين صوت فقط، فهل نفسر ذلك بأن شعبية الاخوان انخفضت إلى النصف؟ أو أن الشعب لا يريد انتخاب المرشح "الوحيد" الذي سيطبق الشريعة على حد تعبير أحد الدعاة المشهورين والذين رافقوا د. مرسي في كل جولاته الانتخابية في المرحلة الأولى؟ 

(-) إن استئثار التيار الإسلامي برؤية أحادية لمستقبل الوطن وتصوير هذا الأمر على أنه "هو دين الله"، واتهام غيرهم والمختلفين معهم بتهم مثل "كراهية شرع الله"، و"مخالفة الدين"، والرغبة في "نشر الانحلال والانفلات الأخلاقي في المجتمع"، بل والكفر في بعض الأحيان (راجعوا فتوى الشيخ مازن السرساوي بأن من يوافق على مادة المبادئ في الدستور بشكلها الحالي فهو آثم آثم آثم ويصل لدرجة الكفر)، سيؤدي في النهاية للإضرار بمصلحة هذا الوطن الذي عانى عبر عقود طويلة من الاستبداد والقهر، ويعاني اليوم من أزمات اقتصادية تتطلب وعيا حقيقيا ورغبة في الوصول إلى حلول تعالج من أزمة الثقة ولا تجعل رؤية مستقبل الوطن هو حكر على تيار بعينه. فنحن جميعا شركاء في هذا الوطن، وعلى الدستور أن يحقق الحد الأدنى من التوافق بيننا، ونترك الخلافات للقوانين فمن يحصل على الأغلبية يشرع القوانين التي يراها مناسبة، ومن يعارضهم عليهم السعي للفوز بثقة الأغلبية وتغيير هذه القوانين.

(-) ليتذكر الإخوان المسلمون أن د. مرسي رئيس الجمهورية لم ينجح إلا بأصوات هؤلاء المصريون الذين لم يعطوه أصواتهم في الجولة الأولى لعدم اقتناعهم بما قدمه الحزب أو الجماعة أو الرئيس، ولكنهم قرروا اختياره في الجولة الثانية بعد أن سمعوا وعوده بتحقيق التوازن في الجمعية التأسيسية وبدفع حزب الأغلبية للدفع لدستور يعبر عن مختلف التيارات المصرية ولا يحتكر رؤية مستقبل الوطن، وبمشروع وطني جامع لكل المصريون. وأن عدم الوفاء بتلك الوعود في هذه اللحظة التاريخية سيعمق من الشرخ ويزيد من أزمة الثقة ويهدد مستقبل سفينة الوطن.

(-) أخيرا: يحتاج أبناء التيار الإسلامي والتيارات المدنية كل بنفس القدر أن يتذكروا أن هذه الثورة ما قامت إلا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه هي في حقيقة الأمر الأولويات الحقيقة للمجتمع في هذه اللحظة التاريخية، وهي بالضرورة أيضا من مقاصد الشريعة الإسلامية. فنحن نعيش في مجتمع يعيش 40% تحت خط الفقر، مجتمع أكثر من 35% لا يعرف القراءة والكتابة، ويعاني أكثر من 50% من أبنائه من أمراض مزمنة في ظل خدمات صحية متردية، ويعاني أكثر من 30% من شبابه من البطالة. مجتمع مقدم على أزمة اقتصادية حقيقية في ظل ديون سابقة تجاوزت التريليون (ألف مليار جنيه!) جنيه مصري تدفع عليها مئات المليارات من الفوائد سنويا تستهلك 25% من الموازنة العامة للدولة، وفي ظل العجز الشديد في موارد الدولة، والذي لا سبيل لإصلاحه سوى بتحقيق استقرار سياسي يشجع مناخ الاستثمار ويفتح الآفاق لنهضة حقيقية تقود الأمة لتحقيق أحلام وطموحات أبنائها. 

عيش - حرية - كرامة إنسانية - عدالة إجتماعية
وائل غنيم

طارق البشرى يگتب عن: الدولة والدين فى الوطن العربى

 موضوع هذه الورقة هو النظر فى مسألة الدين والدولة فى الوطن العربى، عن حالة مصر بعد ثورة 25 يناير سنة 2011، من حيث مكانة الدين وأثره فى النظام المصرى، وفى إطار ما هو مدرك من صعود التيار السياسى الإسلامى إلى السلطة.

والسؤال الذى ينبغى أن يطرح فى البداية هو: التفكر فيما إذا كانت الأوضاع السياسية قد أنتجت بعد الثورة نظامها السياسى، أم أنه نظام لا يزال فى طور التخليق والإيجاد؟

والحاصل أن هذا السؤال المبدئى لم تتحدد إيجابته بعد أو بعبارة أدق لم تكتمل إجابته بعد، لأن النظام المصرى بعد الثورة لم تكتمل ملامحه وتوازناته بعد، وإن كان يسير فى هذا الطريق، وهو يتحدد عبر عملية الصراع السياسى الذى يجرى الآن بين تيارات مختلفة وقوى سياسية متباينة، ونحن فى مجرى الثورة، وحلقات أحداثها لا تزال موصولة، وأقصى ما نستطيع استخلاصه الآن هو أن نتبين حقيقة الأوضاع الجارية والقوى السياسية التى تتعامل مع بعضها البعض بالصراع أحيانا وبالجدال والمحاورة أحيانا أخرى، وهى القوى التى نتجت عن الوضع الثورى خلال العام ونصف العام المنصرمين منذ 25 يناير 2011.

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

عن السُّم الذي تجرعناه مضطرين…….. فهمي هويدي


 لا جدال في أن خطاب اعتماد السفير المصري لدى إسرائيل يعد فضيحة للبيروقراطية المصرية، سببت إحراجا شديدا للرئيس محمد مرسي. مع ذلك فربما كان للحدث فضيلة وحيدة هي أنه يستدعي إلى الواجهة ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد ثورة 25 يناير.
(1)
إذ لم يخطر على بال أحد أن يخاطب أول رئيس منتخب لمصر بعد الثورة رئيس إسرائيل بعبارة: عزيزي وصديقي العظيم. وما تصور أحد أن يعبر الرئيس المصري عن مشاعره بقوله إنه: شديد الرغبة في اطراد علاقات المحبة التي تربط لحسن الحظ بلدينا..، إلى غير ذلك من مفردات وعبارات قاموس المرحلة التي كان فيها الرئيس المصري كنزا إستراتيجياً لإسرائيل. وهي المرحلة التي أسقطتها ثورة الشعب المصري، أملا منه في أن يقيم نظاما جديدا يرد للمصريين كرامتهم ويعيد لبلدهم كبرياءه الجريح.

يقول خبراء الدبلوماسية المصرية إن لغة الخطاب الذي أرسل مع السفير الجديد ليس فيها جديد، لأنها الصيغة التقليدية المتعارف عليها دوليا، والتي يخاطب بها كل رؤساء الجمهوريات في أنحاء العالم، من الولايات المتحدة إلى بوركينا فاسو. فالنص مكتوب منذ عدة عقود، والذي يتغير فيه فقط بين الحين والآخر هو اسم رئيس الدولة الموجه إليه الخطاب، واسم السفير الذي يحمله. ذلك يعني أن الخطاب المرسل ليس فيه أية مشاعر خاصة بإسرائيل. وبالتالي فإنه من التعسف والظلم أن يعد الخطاب دليلا على استمرار الرئيس مرسي في السير على ذات النهج الذي خطَّه وسار عليه الرئيس السابق.

رغم أني ممن يرون أنه ما كان لمصر أن تمثل بسفير في تل أبيب طالما استمرت الدولة العبرية في سياساتها التوسعية وفي احتلالها للأراضي العربية ورفضها لحقوق الشعب الفلسطيني، فإنني لم أتوقع أن تقطع مصر العلاقات مع إسرائيل وتلغي كامب ديفد، وتدخل بسببها حربا ضدها. مع ذلك فقد تصورت أنه من الطبيعي أن تتحدث مصر بعد الثورة بلغة تتسم بقدر من الاحتشام والحذر، تختلف في حدها الأدنى عن لغة النظام السابق. لغة ترى أن إسرائيل ليست صديقا ولا حليفا، ولكنها بلد غاصب ومعتدٍ، ورث النظام الجديد علاقة معه، فتورط فيها واضطر لأن يتعامل معها حتى إشعار آخر، باعتبار ذلك من قبيل السُّم الذي يضطر المرء إلى تجرعه في بعض الظروف الاستثنائية. ولذلك فإن موقف مصر الحقيقي بعد الثورة هو الصبر عليها وليس الموافقة عليها.
هذا الكلام أفهمه ومستعد للقبول به، لكنه يعني في الوقت ذاته أن البيروقراطية المصرية في غيبوبة، ولم تدرك بعد أن في مصر ثورة أقامت نظاما جديدا، وبالتالي فإن لغة مخاطبة رئيس إسرائيل من جانب أول رئيس منتخب بعد الثورة المصرية لابد من أن تختلف في مفرداتها ومعانيها.
(2)
أستطيع أن أفهم أيضا أن العلاقات المصرية الإسرائيلية لها وضع شديد الحساسة والخصوصية، لسبب جوهري هو أنها ليست علاقة ثنائية بين دولتين، ولكنها علاقة ثلاثية بل ورباعية أيضا. أعني أن تعامل المسؤول المصري مع إسرائيل يضع في الاعتبار أنه يتعامل أيضا مع طرف ثالث هو الولايات المتحدة، بل وطرف رابع يتمثل في الاتحاد الأوروبي. وبالتالي فعليه أن يدرك أن مسار علاقات مصر مع إسرائيل يمكن أن يؤثر سلبا أو إيجابا مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وذلك أمر لا ينبغي أن يصادر حركة الدبلوماسية المصرية، لكنه يدعوها إلى توخي الحذر فيما تقدم عليه من خطوات. والحذر لا يكون بالاستسلام والانبطاح بطبيعة الحال، وإنما يكون بدوام التمسك بالحق مع الحرص على الحفاظ على الجسور الممتدة مع الولايات ودول الاتحاد الأوروبي.
ولست أشك في أن استقرار الوضع الداخلي وتماسكه يمثل عنصرا مهما في نجاح المسعى المصري المنشود. ولا أقول إن وراءه شعوب الأمة العربية، لكن يكفي أن تتوافر له قيادة منتخبة ديمقراطيا ومعبرة عن ضمير المجتمع، الذي لديه ألف تحفظ على الممارسات الإسرائيلية. علما بأن الذي تصالح مع إسرائيل هو حكومة مصرية ليست منتخبة، في حين أن الشعب لم يتصالح معها منذ وقعت الاتفاقية في عام 1979.

يحضرني هنا موقف الحكومة التركية التي اجتازت ذلك الاختبار بنجاح مشهود. إذ هي محتفظة بعلاقاتها التي ورثتها مع إسرائيل، وعلاقتها وثيقة مع الولايات المتحدة بحكم عضويتها في ملف الناتو. لكن ذلك لم يمنعها من الاشتباك مع الاثنين والدخول في مواجهات سياسية ساخنة، حين يتعلق الأمر باستقلال السياسة التركية، خصوصا في موقفها من الوضع الفلسطيني.
وما كان لحكومة أنقرة أن تخوض غمار تلك المواجهات إلا لأن قيادتها توافرت لديها الإرادة المستقلة، كما توافر لها السند الشعبي القوي بعد النجاحات والإنجازات التي حققتها في الداخل. والاستقبال الشعبي الكبير الذي حظي به رئيس الوزراء الطيب أردوغان بعد اشتباكه العلني مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر دافوس، يشهد بأن موقف الرجل كان تعبيرا صادقا عن ضمير الشعب التركي الذي انتخبه.
ليس لدي اعتراض على من يقول إن مصر في وضعها الراهن تصعب مقارنتها بتركيا، وهو ما أوافق عليه، لكن أقول فقط إننا إذا لم نفعلها فلا أقل من أن نفهمها.
(3)
منذ بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979 أرسلت مصر ستة سفراء إلى تل أبيب، لكن هذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها الصحف الإسرائيلية خطاب اعتماد السفير المصري لدى الدولة العبرية.
من العبط أن نعتبرها مجرد مصادفة. ومن السذاجة أن نتصور أن الرسالة لم تسرب عمدا لإحراج الرئيس محمد مرسي وتشويه صورته أمام الرأي العام العربي والإسلامي، فضلا عن محاولة طمأنة الرأي العام الداخلي إلى أن رئيس مصر بعد الثورة ليس سوى نسخة من رئيسها قبل الثورة، لم يختلف عنه إلا في لحيته البيضاء.
ولست أشك في أن من سرب الرسالة أراد أن يقول للعرب والمسلمين جميعا ها هو الرئيس القادم من جماعة الإخوان المسلمين التي حاربت إسرائيل في عام 48 ولا تزال أجنحتها في غزة وفي غيرها من البلدان، ها هو يبعث برسالة صداقة دافئة وحميمة إلى "صديقه العظيم" رئيس إسرائيل. كأنه يعتذر عن ماضيه وماضي جماعته، ويطلب منهم الصفح والغفران، ملتمسا إقامة علاقات المحبة وطالبا الرضا والقرب.

قارئ الصحف المصرية على الأقل يدرك أن أغلب المنابر الإعلامية ابتلعت الطعم، وتصرفت كأن خطاب الاعتماد كتبه الرئيس محمد مرسي بخط يده، وأن العبارات التي وردت فيه تعبير عن مشاعره الحقيقية، التي كان قد أخفاها قبل الانتخابات الرئاسية حيث دعا إلى وقف التطبيع مع إسرائيل. بل قرأت أن الإخوان سوف ينخرطون في عملية التطبيع قريبا، وأن لقاء الدكتور مرسي مع شمعون بيريز لن يكون بعيدا.
الخلاصة أن عددا كبيرا من المعلقين في وسائل الإعلام المصري شغلوا بمحاكمة الرئيس مرسي واحتساب هدف ضد الإخوان، بأكثر مما شغلوا بتحري الحقيقة في شأن الخطاب، أو بالتفكير في كيفية التعاطي بمسؤولية وكرامة مع ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية في ظل موازين القوة الحالية.
(4)
لا أخفي شعورا بالاستياء والحنق إزاء اللغة التي يتحدث بها الرئيس والحكومة في مصر بعد الثورة عن معاهدة السلام والعلاقات مع إسرائيل. وقد حزنت كثيرا عندما سمعت الرئيس محمد مرسي يقول في نيويورك إنه ليست لديه مشكلة مع اتفاقية كامب ديفد، لثقتي في أنه لابد من أن تكون له مشكلة مع المعاهدة، شأنه في ذلك شأن أي وطني مصري، كما أن لدي تحفظا على قول المتحدث باسم الرئاسة وكذلك السفير الجديد لدى إسرائيل إن مصر ملتزمة بالكامل ببنود المعاهدة.
وقبل أن يصيح المرتعشون والمطبعيون قائلين إنني أدعو إلى إلغاء المعاهدة والدخول في حرب ضد إسرائيل، فإنني أكرر أن ما أدعو إليه في الوقت الراهن ليس إلغاء المعاهدة، وإنما الحذر في الحديث عنها والاستسلام لها بغير تحفظ.
لقد قال لي بعض الدبلوماسيين المخضرمين إن ذلك الحديث الذي أثار استيائي ليس موجها إلى إسرائيل، ولكنه موجه لطمأنة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وحتى إذا كان ذلك صحيحا، فإنه يبعث أيضا برسالة طمأنة مفرطة لإسرائيل، كما أنه يشيع حالة من الإحباط في أوساط الوطنيين المصريين والعرب، ناهيك عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة.
إن ما بيننا وبين إسرائيل ليس علاقات عادية، وبالتالي فإن مخاطبة رئيسها ينبغي أن تضع في الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تحيط بتلك العلاقات، فإسرائيل مستمرة كل يوم في محو خريطة فلسطين حتى أعلنت مؤخرا أن الضفة الغربية ليست أرضا محتلة، وذلك لا يمثل فقط إهدارا لحقوق الفلسطينيين الذين تحتفظ في سجونها بنحو عشرة آلاف منهم، ولكنه يمثل أيضا تهديدا للأمن المصري والقومي العربي -ولا تزال إسرائيل تحاصر قطاع غزة بعدما دمرت بنيته التحتية- ثم إن شبه جزيرة سيناء لا تزال مرتهنة لحساب إسرائيل، ولم تستطع مصر أن تستعيد سيادتها عليها منذ توقيع اتفاقية السلام، رغم أن الأحداث التي وقعت أخيرا بينت خطورة استمرار ذلك الوضع على الأمن المصري، ولا يقل عن ذلك أهمية أن إسرائيل صارت طرفا في نهب حقوق الغاز التي تم اكتشافها داخل نطاق المياه الاقتصادية المصرية بالتواطؤ مع قبرص. وهي جريمة كبرى ضيعت على مصر دخلا يقدر بعشرات المليارات من الدولارات، في حين أنها تقف على باب صندوق النقد الدولي متمنية الحصول على أقل من خمسة مليارات دولار للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها (للعلم لم تنزعج إسرائيل من قرار الحكومة المصرية وقف تصدير الغاز إليها، لأنها استعاضت عنه بالغاز المنهوب وبدأت تصدر منه!).

هذه الخلفية لا ترشح العلاقات المصرية الإسرائيلية لأي تقدم، بل لا تسوغ التعجل في إرسال سفير إلى تل أبيب اكتفاءً بوجود قائم بالأعمال هناك، كما أنها لا تبرر بأي حال إرسال خطاب اعتماد مع السفير الجديد يصف الرئيس الإسرائيلي بأنه صديق عزيز أو وفي. وإنما تفرض على المسؤول المصري أيا كان أن يحذف من خطابه مثل تلك الصفات غير المبررة. والمجال واسع في التحفظ المطلوب في حديث المسؤول المصري عن معاهدة السلام. فله أن يقرن كلامه عن الالتزام بها بالدعوة إلى ضرورة وفاء الطرف الآخر بالتزاماته، مع التأكيد على ضرورة احترام حقوق الفلسطينيين، وبالتساؤل عن طبيعة "السلام" الذي جلبته.
في هذا الصدد، يجدر الانتباه إلى أنه لا توجد معاهدات أبدية، ولكن المعاهدات تخضع للتعديل بما يلبي مصالح أطرافها لكي يعيشوا في أمان وسلام. وقد كان ذلك أوضح ما يكون في حالة سيناء التي أثبتت الظروف أن ثمة حاجة ملحة لإعادة النظر في الملحق الأمني للاتفاقية ليحقق مزيدا من الوجود والسيطرة الأمنية المصرية فيها.
لا تثريب على مصر إن تحدثت بهذه اللغة حتى تتعافي وتنهض على قدميها، وحينذاك ربما أصبح بمقدورها أن تفعل ما فعلته تركيا مع أصدقائها و"أعدقائها".

الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

شهادتى عن احداث الجمعة 12 اكتوبر.... محمد القصاص

كانت القوى المدنية قد دعت إلى جمعة كشف الحساب يوم 12-10 وبعد أحكام قضية موقعة الجمل قامت جماعة الاخوان المسلمين بالدعوة إلى مليونية لعزل النائب العام فى نفس اليوم الجمعة 12-10 وفى نفس المكان (ميدان التحرير), و قد كان موقفى (وهو الموقف الرسمى لحزب التيار المصرى) هو عدم المشاركة فى هذا اليوم فقد كان متوقعا ان اليوم ربما يشهد مناوشات بين الطرفين و لكن ما حدث كان أسوأ كثيرا من المتوقع.

فبعد صلاة الجمعة شاهدت البث المباشر من ميدان التحرير المنقول تليفزيونيا على اكثر من قناة وقد بدأ التوتر سريعا باطلاق هتاف من على المنصة الوحيدة الموجودة فى الميدان والتى كانت محسوبة على التيار الشعبى وكان هتافا ضد المرشد العام للاخوان, فاندفع بعض الموجودون بالميدان لاسكات المنصة ومن عليها وحدثت مناوشات بسيطة واستقر الامر بعض الشئ ولكن فى حدود الساعة الثانية حدثت هجمة منظمة على المنصة ومن خلال مارأيته وبعدما سمعته وعرفته من الميدان ان الهجمة كانت من الاخوان ضد منصة اليتار الشعبى وقاموا بتكسير المنصة بالكامل وهذه حقيقة لا جدال فيها وإن اعلن بعض قيادات الاخوان غير ذلك.

هنا بدأ انصار القوى المدنية فى التجمع فى شارع محمد محمود وبدأوا بقذف الاخوان بالطوب وبدأ الاخوان هم ايضا يردون على الطوب بطوب مثله, وهنا اتصل بى احد شباب الحزب مذهولا مما يحدث وطلبت منه محاولة التدخل فذكر ان هناك بعض الشباب يحاول الفصل بين الفريقين وانه سينضم اليهم, وهنا قامت اللجنة الاعلامية لحزب التيار المصرى بعمل مناشدة للجميع بوقف ما يحدث وجائت فكرة اطلاق مبادرة لوقف التراشق المتصاعد بين المتظاهرين والذى وصل الى ما يشبه الاقتتال خاصة واننا علمنا ان هناك مظاهرات متوجهة للميدان من بعض القوى المدنية بينما كانت التكليفات لقطاع القاهرة الكبرى فى الاخوان بالتوجه لنصرة اخوانهم فى الميدان.

ايقنت وقتها اننا مقبلون على كارثة, هنا فكرت و معى بعض الزملاء والشخصيات العامة فى التدخل الفعلى, بدأنا فى التوجه للميدان وفى الطريق جاءت الانباء ان الشباب الذى حاول الفصل بين الطرفين قد فشل فى ذلك وان الامور ازدادت سوء بعد وصول المسيرات الى الميدان فكان لابد من التواصل مع القيادات من الجانبين وكان الاتصال بالقيادات الميدانية للاخوان وكانت المفاجأة انهم يستشعرون ماوقعوا فيه من حرج وبدا لديهم استعداد واضح لحل الازمة فكان اقتراحنا هو انسحاب الاخوان من الميدان.

وبعد مشاورات سريعة بين شباب الاخوان والقيادات الاعلى للجماعة كان قرار الاخوان هو الانسحاب السريع من الميدان والتجمع الساعة الرابعة امام المتحف المصرى ووقف التدفق الاخوانى على الميدان وتوجيهه ناحية دار القضاء العالى, وهنا بدأنا فى التواصل مع القيادات الشبابية للتيار الشعبى واخبارهم بالمبادرة وما تم التوصل اليه مع الاخوان, فكانت الاستجابة السريعة منهم ووعدوا بمحاولة وقف التراشق بالحجارة وبالفعل تم وقف التراشق فى شارع محمد محمود, ولكنه انتقل الى شارع التحرير (باب اللوق) ومن بعدها إلى شارع طلعت حرب, وفى حدود الساعة الرابعة والنصف كان بالفعل قد تجمع عدد كبير من الاخوان امام المتحف المصرى.

وهدأت جبهة باب اللوق وبدأنا عدد من الاتصالات مع حركات 6 ابريل (الجبهة الديموقراطية) وشباب من اجل العدالة والحرية واستطعنا عمل اجتماع بينهم وبين قيادات الاخوان اللذين اكدوا على الانسحاب ولكنهم يعانون من تباطؤ تنفيذ الاوامر وخاصة من اخوان المحافظات وايضا لوحظ غياب الرموز الاخوانية المعروفة عن الميدان والتى يستجيب لها كوادر الاخوان فى الميدان ولذلك طلبنا من قيادات الاخوان المزيد من العمل على سحب الاخوان, كما قام شباب الحركات والتيار الشعبى والدستور بسحب كوادرهم إلى ميدان طلعت حرب.

فى غضون الساعة الخامسة والنصف تقلصت المواجهات ولم يتبقى سوى عدد قليل غير منظم من القوى المدنية يواجهه بعض المتحمسين من الاخوان امام شارع طلعت حرب وهنا بدأ تدخل بعض اهالى الشهداء فى محاولة لوقف الاقتتال واخيرا فى الساعة السادسة استطاع الاخوان اقناع كل كوادرهم وانسحبوا تماما من الميدان ولكن الانسحاب شهد بعض التصرفات العنيفة من شباب القوى المدنية ضد من ساقه قدره من الاخوان وتأخر فى الخروج من الميدان واثناء هذا الانسحاب اصيب صديقى الصحفى عبد المنعم محمود من بقايا شباب القوى المدنية الذين كانوا مستمرين فى القاء الطوب ظنا منهم ان الاخوان لم ينصرفوا بشكل نهائى, و هنا تذكرت سيارتى و انها مركونة فى ميدان عبد المنعم رياض ووجدتها وحيدة بعد ان كانت محاطة باتوبيسات كثيرة كانت كلها تابعة للاخوان ووجد ميكروباص بجوارها وقد تم تحطيم زجاجه فاخذتها سريعا ولم اشاهد حرق الاتوبيسات ولكنى سمعت عنه فيما بعد.

توجهت بعدها الى مقر حزب التيار المصرى و فى الطريق رأيت المئات من الاخوان يتوجهون صوب دار القضاء العالى وعلمت منهم انهم لا ينوون الاعتصام (عكس ما ذكر فى الاعلام) و انهم سينهون وقفتهم فى الثامنة مساء وهو ما حدث بالفعل, عدت بعدها الى الميدان ووجدت القوى المدنية تستعد لمغادرة الميدان و لديهم احساس بالانتصار المعنوى لصمودهم امام الاخوان, ولكنى لم استطع ان اخفى حسرتى على هذا اليوم الذى اعتبره الأسوأ من بعد احداث مجلس الوزراء, وانا ارى ان الكل خسر فى هذا اليوم كما ارى ان الخسارة الاكبر كانت من نصيب الثورة وشهدائها, وان الوطن سيخسر المزيد بهذا الصراع الاستقطابى العنيف الذى وصل إلى حد الاقتتال بالطوب والايدى ولا نعرف بماذا ايضا سيكون فى المرات القادمة.

ملاحظات عاجلة حول مسودة الدستور….. محمد بريك


 من الصعب الحكم على نص دستوري بمعزل عن التحليل السياسي الذي يتناول الأطراف الفاعلة سياسيا ومحركاتها وموازين القوى بينها وطبيعة المرحلة السياسية التي تخوضها الدولة وخبرتها القريبة والبعيدة – الدستورية والسياسية، وتصور مآلات كل ذلك.. وهذا لأن الرؤية السياسية تلك تجعلنا أكثر قدرة على تحديدأولويات المرحلة وطبيعة المخاوف التي تهدد بناء الدولة وتعوّق الوصول لعقد اجتماعي متوازن، وكل هذا لابد أن يُراعي في الدستور من حيث التناول والصياغة معا، كذلك فإن حصول التقييم السياسي يجعلنا نفهم لماذا يصاغ دستور ما (أو أحد مسوداته) على نحو ما؛ لأن الدستور – كأرفع وثيقة قانونية لدولة – ليس منشئا لواقع سياسي بقدر ماهو عاكس لواقع سياسي وموازين قواه. إذن فالتحليل السياسي له فائدة تفسيرية، وله فائدة إرشادية كذلك.
ولكن برغم هذا التحفظ المبدئي سأحاول أن أقدم إشارات سريعة على ماأراها نصوصا كارثية في مسودة الدستور التي أصدرتها الجمعية التأسيسية في شقين أساسيين: صلاحيات الرئيس وطبيعة النظام السياسي - الوضع الوصائي والمميّز للقوات المسلحة بالدستور.
وسأحاول أن أجعل جرعة التحليل والتعريف السياسي في حدها الأدنى، خصوصا وأن أهم الملفات بمسودة الدستور التي سأتناولها(شبعنا) فيها حديثا وبحثا منذ تنحي مبارك، وحتى قبله! سواء في: (ضرورات الإنجاز الثوري (الهيمنة الديمقراطية والمدنية على المؤسسة العسكرية، وإعادة هيكلة منظومة الأمن ، وبناء عقد اجتماعي وسياسي جديد، العدل الاجتماعيوشروطه (الزخم الثوري في المرحلة الثورية، والتوافق الوطني بين القوى، وصيغة حد أدنى من الإنجاز وتدرج في بقية الملفات حين نتعامل مع المؤسسة العسكرية )وطبيعة مرحلة التحول الديمقراطي وأولوياتها، وطبيعة الوصاية العسكرية ودرجاتها بدءا من التدخل المباشر في توزيع مصادر السلطة أو الوصاية على أحد المساحات الوظيفية للدولة بمعزل عن السلطة المنتخبة (تنفيذية وتشريعية) والقضائية.
 وأقول أني أحكي في هذين الشقين (صلاحيات الرئيس وشكل النظام السياسي - وضعية المؤسسة العسكرية)  تحديدا دون غيرها من ملفات الدستور لقناعتي بأهميتهما المفصلية من ناحية وأن موقفي تجاههما كاف جدا لتصويتي ب (لا) كبيرة إذا تم إقرار هذه المسودة وإذا أقرت محكمة القضاء الإداري شرعية الجمعية التأسيسي في القريب العاجل، وكذلك بسبب الاختصاص ورغبتي في الحديث عن الدائرة التي أهتم بها وأحسب أني أمتلك مقدماتها المعرفية ، وإلا فإن النقاش الدستوري يتطلب درجة من الشمول والاختصاص والتمكن لاأحسبني أحوزها.

 وسأعتمد في تناولي على آخر مسودة ظهرت بموقع الجمعية التأسيسية (يوم 14 أكتوبر) - وتجدونها على هذا الرابط، وسيتم عزو المواد المناقشة لهذه المسودة برقم المادة
أولا – صلاحيات الرئيس وخداع المصطلحات (هل نحن مقبلون على نظام رئاسي أم برلماسي أم برلماني)؟!
الفكرة الأساسية لمسودة هذا الدستور تعتمد على النظام البرلماسي وهو الذي يوزع الاختصاصات التنفيذية بين رئيس الدولة وبين الحكومة (البرلمانية). وصحيح أننا حين نقسم النظم السياسي لثلاثة أنظمة رئيسية (رئاسي وبرلماني وبرلماسي) فنحن لانحكي عن جزر منعزلة ولكننا نحكي عما هو أشبه بمخروط قوس قزح.. أي أنه في داخل النظام الرئاسي هناك ألوان قد تقترب من البرلماسي وأخرى يتوسع فيها دور الرئيس كرأس السلطة التنفيذية، وفي البرلماسي هناك ألوان تقترب من الرئاسي وأخرى تقترب من البرلماني.. صحيح كل هذا – ولكن هناك خصائص واضحة في كل نظام لابد أن تنضبط بها المصطلحات.
مثلا – النظام البرلماسي يعتمد على ركيزتينتوزيع دوائر الاختصاص بين الرئيس والحكومة، ودور البرلمان في تشكيل الحكومة.. وهذا مالم أستطع اكتشافه في مسودة الدستور.
1-       لايوجد بالدستور توزيع واضح للاختصاصات ولكن يظهر فيه أن الرئيس هو المسئول التنفيذي الأول بالدولة، مع وجود تفويضات لمن تحته كعادة النظام الرئاسي مثلا. في النظام الفرنسي أو الفنلندي على سبيل المثال يكون اختصاص الرئيس في دائرة الأمن القومي والسياسة الخارجية والدفاعية، ويكن اختصاص الحكومة دائرة التنمية والسياسة الداخلية. ولقد حاولت المسودة التي قدمها بيت الحكمة محاكاة ذلك، وكذلك كان حديث بعض قيادات حزب الإخوان عن محاكاة النموذج الفرنسي قبل أن يكون لهم مرشح. طبعا هذه القضية لابد أن (ينص عليها) وتظهر في دور الرئيس في تعيين بعض الوزراء في مقابل الآخرين. والمادة 156 تزيد الأمر غموضا ولايتضح فيها توزيع الاختصاص ولكن تجعل الرئيس المسئول التنفيذي الأول وتشاركه الحكومة .. تنص على (أن يضع الرئيس السياسات العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها، بالاشتراك مع الحكومة).
2-      نحن أمام صلاحيات رئاسية قريبة جدا للنظام الرئاسي ..
أ‌-        أخطر شيء هو في تشكيل الحكومة  مادة 145  تنص على أن يكلف الرئيس رئيسا للوزراء بتشكيل الحكومة – دون أن تشير أن المكلَّف لابد أن يكون من حزب الأغلبية –في خلال ثلاثين يوما ثم التقدم للبرلمان لأخذ موافقة الأغلبية، فإن رفض البرلمان (البرنامج) – مع أن الرفض قد يكون للبرنامج أو الأشخاص المكلفين بالوزارة – تتم إعادة الكرّة مرة أخرى، ثم يكون امام الرئيس خيارات أ يشكل الحكومة بناء على (اقتراح) مجلس النواب، أو يقوم بحل البرلمان!!
بصراحة موجعة – أني أعتبر أنه من التدليس أن نسمي هذه المادة المركزية تعبيرا عن النظام البرلماسي؛ بل هي نظام أقرب للرئاسي.
وقد يتساءل أحدنا: إذا كان البرلمان هو من سيقر أو يرفض الحكومة أليس من الممكن أن نعتبرها (حكومة يشكلها البرلمان بأغليته)؟ قطعا لا.. وللتبسيط – فهذا لأمرين:
 الأول – جعل حل البرلمان في نهاية المحاولة الثالثة يمثل رادعا سياسيا قويا للبرلمان لإجباره على الموافقة.
الثاني – ان القدرة التفاوضية لرئيس الحكومة وحزبه –حتى لو لم يكن اغلبية  – في ظل هذه المادة لتشكيل حكومة أعلى كثيرا من قدرة حزب الأغلبية إذا أحب ان يرفض رئيس حكومة ليس منه في تشكيل ائتلاف رافض!وهذا بالطبع يجعل لرئيس الجمهورية الحق في تشكيل الحكومة من حزبه حتى لو يحز حزبه على الأغلبية البرلمانية.. هكذا بوضوح
ب‌-     مادة 149 تنص على أن للرئيس حق تعيين الموظفين العسكريين بالدولة وحق عزلها. وهذه مشكلة حقيقية وتخالف العرف الديمقراطي وليس فقط العرف البرلماسي. وظائف القيادة العسكرية في الدولة بالأخص – دونا عن بقية الوظائف المهنية - يمُنع على الرئيس الاستفراد بتعيينها خشية تسييسها (إذا كانت المؤسسة العسكرية ضعيفة في موازين القوى أمام الرئيس امتلكها وسيسها لحسابه كما عشناه عقودا، وإذا كانت قوية فرضت عليه صيغتها الذاتية للتعيينات والترقيات كما في باكستان..). ولهذا نرى النموذج الأمريكي – وهو نظام رئاسي يقترب من البرلماسي – لابد فيه من تصديق البرلمان على  اختيار القيادات العسكرية، بل لابد من تصديق مجلس الشيوخ على كشوف الترقيات العسكرية دون القيادية، وهذا لخصوصية المؤسسة العسكرية (احتكار العنف المسلح) وإمكانية تهديدها للنسق الديمقراطي ( في حال امتلاك الرئيس أو حزب ما لها، أو في حال فرضها لرؤيتها الذاتية على السلطة التنفيذية).
ج- مادة 183 .. هي تحاكي صلاحيات نظام مبارك في تعيين أعضاء ورئيس المحكمة الدستورية ولاتشترط تصديق البرلمان! (النموذج الأمريكي المفروض أنه رئاسي ولكنه يشترط موافقة البرلمان على اختيار أعضاء المحكمة العليا).
د - هي مادة خطيرة نقلها رئيس لجنة الأمن القومي بالجمعية الدستورية في برنامج يسري فودة (حلقتان متتاليتان) عن أحقية الرئيس في استدعاء القوات المسلحة لحفظ الأمن الداخلي بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني، وهي أكثر مافي حديثي اليوم خطرا. ولقد فشلت في أن أجد هذه المادة أو مافي موضوعها في مسودة الدستور المنشورة 14 أكتوبر.. وهناك ثلاثة احتمالات:
·         الأول - أنها موجودة (مزنوقة في حتة) وغابت عن نظري، وأتمنى من كل حاد بصر أن يشير إليها.
·         الثاني - أنها من ضمن المواد التي لازالت تحت النظر وسيتم إخراجها بعد حين (يامسهّل).
·         الثالث - أنه تم إلغاؤها.. وهذا خطير - لأن ترتيب هذه المسألة هي أهم مايجب النص على طريقته بالدستور. ولايترك للقانون أو التشهي. لماذا المادة بالنص السابق الإشارة إليه - أو إلغاء الحديث عن الموضع دستوريا - خطير.. لأن هذه أهم أدوات الاستبداد والاستخدام المسيّس من قبل الرئيس للجيش في ضبط الوضع الداخلي لصالحه. ولأنه لامناص أن يكون القرار مناصفة بين الرئيس وبين أغلبية برلمانية مريحة (قد تصل لحد الثلثين)، وليس توافقا بينه وبين الجيش كما تقول المادة، بل أنه أحيانا يتم اشتراط موافقة رأس السلطة القضائية على هذا الاستدعاء في حال غياب البرلمان أو حتى في وجوده كحيطة دستورية أكبر حين يكون أمامنا واقع سياسي شديد السيولة وقريب عهد بالاستبداد ولم تعتد مؤسساته السياسية على التمييز والفصل بين ماهو مهني وماهو سيادي.
ماأختم به هذا الجزء شيء في غاية الطرافة – والإيلام – في ذات الوقت!
 من الواضح الآن أننا نحكي عن نظام رئاسي (أو شديد القرب من الرئاسي) وإن أطلق بعضنا عليه (برلماسي) تجوّزا أو تحريفا - لتخفيف وقعه على أسماع الأتباع والخصوم السياسيين والحالة الشعبية، مع أن قوانا السياسية لو اتفقت على شيء فيما يتعلق بالدستور طيلة عام ونصف بعد الثورة فهو على جعل النظام ليس رئاسيا.

 وأنا ليس عندي مشكلة شخصية أن يرى من يتحكم بأغلبية الجمعية التأسيسية أن هذا النظام أو ذاك هو الأصلح بشرطين: أن يدلل لنا على المنطق خلف اختياره ثم لنا الخيار بعد ذلك أفرادا وشعبا، وأن يكون واضحا ومستقيما معنا في توصيفه.
 كذلك - ربما ظهرت لحزب الإخوان مسودة أو اكثر للدستور حين لم يكن لهم مرشح وكانت لهم الأغلبية البرلمانية (يناير - فبراير …) ، وكذلك تحدث بعض قياداتهم عما يرونه في الدستور المقبل، وأشاروا أنهم يريدون تبني النظام البرلماسي ومتابعة النموذج الفرنسي، ولكن حين قرأنا هذه المسودة وتابعنا كلام هؤلاء القيادات للإعلام وجدنا أنهم يختارون نظاما أقرب للبرلماني وإن سموه برلماسيا.. في هذا النظام ماعلى الرئيس إلا أن يختار من تقدمه له الأغلبية البرلمانية ولكنه لايتدخل في تعيين وعزل الوزراء (على خلاف النموذج الفرنسي الذي يحق للرئيس فيه تعيين رئيس الحكومة ولكن لايمكن عزله إلا بإسقاط الحكومة والبرلمان معا، أما الوزراء فيحق له التدخل في تعيينهم وعزلهم).
 والتباين الشديد بين خيارات الإخوان حين كان لهم أغلبية برلمان وحين أضحى لهم رئيس وسقط البرلمان بخصوص النظام الأمثل لمصر.. هو مثال عملي لما يسميه متخصصوا السياسة بتضارب المصالح  Conflict of interests ، وأن منهج إنشاء الدستور المصري كان لابد أن يبطل هذا التضارب قدر الإمكان.

 وليس في حديثي هذا نعاية على خيار الشعب أو رفضه بخصوص جعل انتخابات البرلمان والرئاسة قبل صنع الدستور، ولكنه توضيح حقيقة في الوعي السياسي والدستوري من واجبي إبانتها، وأن النظام السياسي لدولة وإنشاؤه أخطر كثيرا ويتطلب درجة من التوازن والاستقامة أعلى من أن ترتهن لمصالح حزب أو مجموعة أحزاب وتتأرجح مع تأرجح حظوظها السياسية بين فترة وأخرى.
ومن المهم أن نشير إلى بديهية ديمقراطية: أن ماأطرحه هنا هو وجهة نظري  – كمواطن وله بعض التخصص في دائرة السياسة والاستراتيجية – فيما أراه موادا كارثية في هذه المسودة –لدستور مصر بعد الثورة - التي يتم طرحها الآن للنقاش المجتمعي والسياسي، وأنه لو أقرّ القضاء الإداري شرعية الجمعية التأسيسية، ثم تحولت هذه المسودة الأولية لمسودة نهائية وتم عرضها للاستفتاء دون تغيير بنيوي في مواد صلاحيات الرئيس ووضعية المؤسسة العسكرية، فإني سأقول (لا) كبيرة ، وهذا حقي السياسي والدستوري، ولكن ما إن يوافق عليها الشعب تصبح (دستور جمهورية مصر العربية).
 وهذه الحلقة نخصصها لمناقشة وضعية المؤسسة العسكرية بمسودة الدستور ،وأود أن أطرح أربع ملاحظات هامة قبل تناول هذا الموضوع الشائك وموادة المفصلة.

    أولا - العلاقات المدنية العسكرية وغياب التأسيس المعرفي:
 من أهم وظائف الدستور أنه يضبط العلاقات بين مكونات الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، وكما ذكرنا سابقا أن الخيارات الدستورية تنتج من تلاقح تصورنا (المثالي) لما ينبغي تكون عليه هذه العلاقات أولا مع تصوراتنا حول المرحلة السياسية والخبرة التاريخية القريبة والبعيدة السياسية والدستورية وحول الهواجس والمآلات وحول التسويات الناشئة بين جماعات الضغط والمصالح داخل المجتمع.
 المشكلة في باب العلاقات المدنية العسكرية – وهو باب معرفي ضخم له مقاربات سياسية واستراتيجية واجتماعية – أنه لاتوجد في بلدنا قاعدة معرفية وأكاديمية تتيح للنقاش السياسي والمجتمعي في مسائل الدستور وأي مسائل أخرى أن ينطلق من تصورات معيارية واضحة (أي ماهو الوضع المثالي).
في هذا الوضع تسود أحيانا بعض الأغلوطات والخرافات عن وضعية القوات المسلحة داخل الدولة..
البعض قد يقول أن المؤسسة العسكرية قد تحمي النظام الدستوري، أو أنها مسئولة عن الأمن القومي (الأمن القومي ده بتاع العسكر)، أو أن لها استقلالية وحكم ذاتي خاص بها، أو أن ميزانيتها لايمكن الرقابة عليها لأنها سرية وهذا هو الأصل في كل دول العالم حتى أمريكا وإسرائيل، أو أن السلطة التنفيذية لها الحق في تعيين القيادات العسكرية، أو أن مجلس الأمن القومي – حتى لو بتواجد عسكري كثيف وخصائص تنفيذية ووصائية – موجود في دول العالم الديمقراطي وغيرها..
وللأسف – كان النظام السابق مُصرا لعقود على منع بناء وتوفر هذه البنى الأكاديمية والمعرفية،  بل حرم المدنيين من الاقتراب من الشئون الاستراتيجية (والاستراتيجية تختلف عن المستوى العملياتي والتكتيكي العسكري أو حتى استراتيجية العمليات، ولكنها تختص بكيفية الاستخدام السياسي للقوات المسلحة وسائر مصادر القوة). ومعروف دوافع النظام السابق، ولكن وجود وفرة مدنية تتخصص في هذه المساحات هو ضرورة أكدتها التجربة الأوروبية مابعد الحرب العالمية الثانية – وحتى التجربة التركية الحديثة – لتأكيد الهمينة المدنية على القوات المسلحة.

 ثانيا - النموذج الديمقراطي والخصوصية في مرحلة التحول  الديمقراطي 
 في التوصيف الديمقراطي للعلاقات المدنية العسكرية فإن هذه العلاقات يمكن فهمها بالنظر إلى أربع دوائر وظيفية بالدولة:
1.       مساحة التنافس السياسي على توزيع مصادر السلطة.. وهذه دائرة يحرم على القوات المسلحة التدخل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، ومنطق النظام الديمقراطي هو الفصل بين من يحمل السلاح وبين مستوى السلطة.
2.       والدائرة الثانية هي دائرة الحالة المدنية عموما ودولاب الدولة غير السياسي، وهذه الدائرة الأصل فيها عدم تدخل القوات المسلحة بها لعدم إفساد مهنية الجيش وعدم تسييسه .. إلا في حالة طارئة ومؤقتة (ليست كوتة ثابتة مثلا في التعيينات المدنية، أو وضع اقتصادي مستقل ودائم) وتحت إشراف مدني كامل وبشكل متوازن بين (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية) حتى لاتستخدم الجيش إحدى السلطات أو الفصائل لتحقيق أهداف سياسية بحجة اضطراب الأوضاع.
3.       وتأتي ثالثا دائرة الأمن القومي.. وهي دائرة تتناول التهديدات الوجودية لوظائف الدولة ووسائل التصدي لها، ولأن هذه التهديدات وكذا الوسائل أوسع كثيرا من الشأن العسكري فإن المؤسسة العسكرية تشترك مع بقية مؤسسات الدولة في تعريف التهديدات ووضع الاستراتيجيات تحت سيطرة كاملة للمدنيين (السلطات الثلاث كل باختصاصه).
4.       وأخيرا تأتي الدائرة الرابعة المعنيّة بالشئون العسكرية وإدارة الدفاع وتشمل ملفات تعيين أدوار القوات المسلحة والسياسة والاستراتيجية العسكرية ومنظومات التسليح والمواد وشئون الأفراد.. وهذه الدائرة هي موطن الاختصاص للقوات المسلحة كمؤسسة مهنية وليست سلطة، ولذلك فهي تابعة للمستوى السياسي بأنواعه الثلاث (تنفيذي وتشريعي وقضائي) ومهم أن ينشأ التمايز بين ماهو مهني وماهو سياسي في هذه المساحة وألا يتوغل طرف على طرف منعا لتسييس المؤسسة العسكرية أو تغولها السياسي.
 وفي مرحلة التحول الديمقراطي تنشأ مشكلة مزدوجة – أولها في خطر المؤسسة العسكرية وممانعتها للتحول الديمقراطي (لأنها في الأغلب تتورط في ملفات فساد وانتهاكات في ظل النظام السابق وتخشى من المحاسبة، كما أنه قد تنشأ لها مصالح مؤسسية واقتصادية مستقرة خارج إطار السلطة المدنية المنتخبة، وكذلك يكون عندها تصور أبوي للدولة وأمنها القومي وترى القوى السياسية الجديدة مهددة لهذا التصور)،
وثانيها في إمكانية تسييس المؤسسة العسكرية بذاتها والإضرار بها مهنيا لأن مرحلة التحول الديمقراطي تقضي بإعادة هيكلة المؤسسة وبناء أعراف جديدة ولو تم هذا في ظل سيطرة فصيل فإعادة الهيكلة والتأسيس قد تتم بشكل غير متوازن – فضلا أن الإسراع في جعل الهيمنة المدنية فاعلة على مساحات الشئون الاستراتيجية والعسكرية قد يضر بها لنقص الخبرة والبنى المعرفية والفنية.
 ولهذا يقسم مختصوا العلاقات المدنية العسكرية وضعية العلاقات المدنية العسكرية في التحول الديمقراطي لمرحلتين:
·         الأولى هي الانتقال – وفيه يكون منع المؤسسة العسكرية من التدخل في الدائرة السياسية الأولى ويكون تقرير الهيمنة دون غبش بالدستور لأنه وثيقة حاكمة وممتدة،
·         والثانية مرحلة تثبيت الديمقراطية وفيها تتم إعادة تعريف الأدوار والاستراتيجيات وتطوير العقيدة القتالية والبنى التنظيمية وضبط معايير الترقي وتغيير المناخ الداخلي.. وهكذا.
على أنه ينبغي علينا الإشارة أن هناك فارقا نوعيا بين التحول الديمقراطي كما حدث في أسبانيا وأمريكا اللاتينية ودول شرق أوروبا وبين حال الثورة (التي يحدث فيها خلخلة سريعة لبنى النظام)  يلزمنا بالإسراع في تركيب الهيمنة المدنية في الثانية.. لأن حال الثورة تمثل زخما شعبيا وسياسيا دافعا يمكن الاستفادة به، ولأن مراكز النظام الساقط يكون قد استفزازها وتخوض معركة وجود ولابد من تصفيتها والإسراع في إعادة ضبط العلاقة مع مالايمكن تفكيكه (كالمؤسسة العسكرية).

  ثالثا - مسار احتواء الثورة،و إعادة تدوير العلاقات المدنية العسكرية
المميّز لثورة 25 يناير أنها جمعت بين نموذجي الثورة والتحول الديمقراطي، وخيّمت عليها ظلال الانقلاب العسكري.
الجيش حين أخذ قراره بعدم الاستجابة لأوامر النظام بالتدخل لفض التظاهرات الشعبية كان مدفوعا بعدة عواملالأول عامل المصلحة المؤسسية المباشرة حين أدرك أنه أمام حالة ثورية متفاقمة وليس مجرد تظاهرات عفوية،
وكذلك بنيته الوطنية كان من شبه المستحيل دفعها للاصطدام المباشر مع الحالة الشعبية (مالم تكن هذه الحالة تبدو فئوية ومشيطنة) وإلا تفككت..فالجيش المصري ليس جيش مرتزق كالليبي أو طائفي كالسوري وأهو أكثر تعبيرا عن البناء المجتمعي من الجيش اليمني الذي حدثت به انشقاقات بالفعل،
كذلك فالجيش ليس مؤهلا بحكم عقيدته القتالية ومنظومات تسليحه وقواعد اشتباكه وتدريبه على الفض غير المميت للتظاهرات الشعبية (فقط سلاح الشرطة العسكرية قد يكون مناسبا) وعلى هذا فتدخله (كأن يضرب دانة مدفع في ميدان التحرير كما قال أحد الجنرالات من قبل) يدفع الحالة الشعبية لمزيد استفزاز واحتقان،
وهناك عامل المصلحة الوطنية – كما يراها الجيش – سواء في رفضه لمشروع التوريث أو في عدم ثقته في القوى السياسية المعارضة
وأخيرا لاننسى العنصر الخارجي (الأمريكي) وله تأثير ناتج من معونة عسكرية تقدر ب 1.3 مليار دولار سنويا وتشابك مع مستويات القيادة والتدريب، والأمريكي قد حسم خياره منذ 29 يناير 2011.
كل هذه العوامل دفعت الجيش للتدخل الإيجابي بعدم الاستجابة لمبارك والضغط عليه، وكذلك – الرغبة في إدارة المرحلة الانتقالية بشكل يمكن به احتواء الثورة أن تحدث تغييرات فيما يراه الجيش يضر بمصالحه المؤسسية أو المصلحة الوطنية بما فيها العلاقة مع الأمريكي والتوجه الاستراتيجي لمصر في حركتها بالإقليم – وخصوصا العلاقة مع إسرائيل. وهذا كان منطق الأمريكي كذلك – في مساعدة حالة الثورة المصرية للتطور لشكل (ديمقراطي) وفي نفس الوقت الإبقاء على المحددات الاستراتيجية لنظام مبارك في العلاقة مع الأمريكي، والموقف من إسرائيل، والسياسات الاقتصادية العليا.
وهذه المعادلة لاتتم إلا بالتفاهم مع أبرز القوى السياسية التي لها قواعد شعبية، وفي نفس الوقت دفع المؤسسة العسكرية لتكون (وصية) على الخيارات الاستراتيجية العليا تلك عبر شكل دستوري مناسب (نموذج مجلس الأمن القومي التركي) – غير أن المجلس التركي كان وصيا على العقيدة الكمالية، أم المصري فيكون وصيا على الخيارات الاستراتيجية الأساسية.
لم يكن مطروحا عند المؤسسة العسكرية – ولاحتى الأمريكي – أن ينشأ حكم عسكري صريح – هذا وضع لايقره العالم الآن ولايقبل به الإقليم ولايمكن احتواء حالة ثورية قامت لأجل الديمقراطية بهذا النموذج، ولهذا فكان لابد للمجلس العسكري أن يسلم السلطة (رسميا).. أما نموذج الديمقراطية المنقوصة (المنتوج الشعبي يحكم فقط بعض مساحات الدولة وليس كلها) فهو نموذج لطيف وتكرر في اكثر من 30% من حالات التحول الديمقراطي من 74 حتى 99 كما أشارت باربرا جديس في دراسة لها.
 لاداعي لتناول تفصيليا ماحدث في عام ونصف سابق ومامر من فورات ثورية وانتهاكات،في ظل تفاهمات وصيغ تسوية بين العسكر والقوى السياسية وأبرزها الإخوان وغيرهم (التعديلات الدستورية، الفترة ماقبل وثيقة السلمي، وثيقة السلمي المعدلة، وثيقة عنان، البحث عن مرشح توافقي، قبول مجلس أمن قومي وصائي به كثافة عسكرية)، ثم تصاعد الصراع بين العسكر والإخوان (الخلاف حول حكومة الجنزوري، ورغبة المؤسسة العسكرية في توسيع صلاحيات الرئيس بالدستور الناشيء)، ثم الإعلان الدستوري المكمل وقانون مجلس الدفاع الوطني قبل إعلان فوز د مرسي المرشح الإخواني.
 العلاقة بين العسكر والإخوان وصلت لمرحلة أن القيادة العسكرية كانت عازمة على إقصاء الرئيس الإخواني عبر طرق أهمها سيطرتها على الدستور  وإضافة نص إعادة الانتخاب به. صحيح أن مايريده العسكر من الدستور من وضع وصائي على المستوى الاستراتيجية وعدم خضوع للرقابة كان ممكن أن يقبله الإخوان، ولكن الإقصاء هذا خارج السياق.
 ولهذا – رأى الصف الثاني بالقيادة العسكرية أن مصالح الجيش الأساسية لاتقتضي الدخول مع الإخوان والرئيس في معركة تخسر فيها المؤسسة كثيرا من هيبتها وشرعيتها الشعبية، وأنه بالإمكان خروج دستور يحفظ للمؤسسة العسكرية ماكانت تأمله من وضع – على الأقل ماتوصلت إليه وثيقة السلمي المعدّلة، بالإضافة لخروج آمن؛ بل مشرف. وعلى هذا فتنحية طنطاوي وعنان كانت خطوة إيجابية بالطبع، ولكنها لم تكن كما حاول الإخوان تصويرها تنحية للعسكر وإخضاعهم للدولة المدنية.. بل هناك ملفات عديدة شائكة أهمها وأكثرها إلحاحا وحسما - للمفارقة وللأسف – الدستور.

 رابعا - التناول الدستوري للعلاقات المدنية العسكرية
 -       تحليل العلاقات المدنية العسكرية أوسع كما ذكرنا من المساحة الدستورية، لأن الدستور هو شق واحد في شبكة ترتيب وهو في الأغلب انعكاس لموازين القوى ومهيّء لتطور أوضاعها على أعلى تقدير، ولكن هناك عوامل أخرى كبنية المؤسسة العسكرية وتماسكها وشبكاتها المجتمعية والاقتصادية والسياسية ومدى ارتباطها بالأجهزة الأمنية والمخابراتية وبيروقراطية الدولة، وحالة القوى السياسية ومدى توافقها على مسائل إخضاع القوات المسلحة للهيمنة ودورها الإيجابي أو السلبي في الوصول لعقد اجتماعي ونظام سياسي له شرعية، والدور الخارجي بالطبع، وحالة الاستقرار الأمني الداخلي والإقليمي.. وهكذا.. ولهذا فنجد دولة كباكستان تمارس المؤسسة العسكرية دورا وصائيا على المحددات الاستراتيجية ومستوى الأمن القومي وعلى تعيين قيادتها ووزير الدفاع المدني (عسكري سابق) دون أن ينص على ذلك الدستور، ودون مجلس أمن قومي به كثافة عسكرية وله دور وصائي.. والنموذج الباكستاني مٌلهم للسياسة الخارجية الأمريكية - حيث كانت السفيرة الحالية المصون.لكننا بسبب ضغط اللحظة سنركّز على الشق الدستوري ماأمكن،
ومعاييز الإنجاز في الشق الدستوري ثلاثة أمور:
  1.     تقرير تبعية القوات المسلحة للمستوى التنفيذي السياسي (كقيادة سياسية)، والتشريعي (سياسات ورقابة وموازنة ودور في تعيين القيادات)، والقضائي (وحدة النظام القضائي بالدولة ووجود محكمة عليا مدنية فوق كل المستويات).. وأن تكون هذه التبعية بشكل يوازن بين السلطات الثلاثبحيث لاتستفرد السلطة التنفيذية بالجيش فيمكنها تسييسه.
  2.  تحريم وجود أي دور وصائي للمؤسسة العسكرية سواء عبر تقرير وصاية مباشرة، او عبر مجلس أمن قومي به كثافة أو أغلبية عسكرية وله أدوار تنفيذية ووصائية على أخذ القرار السياسي والتشريعي.
  3. لو هناك ملفات مرتبطة  بتغيير النظام العسكري مثلا فإما أن يتم تقريرها بشكل ديمقراطي أو ترحيلها للقانون، ولكن يحرم (تحصين) الشكل غير الديمقراطي لها دستوريا.
تجربة عملية في مختبر الدساتير
ندخل في الجد :) إني أدعو الجميع أن يقوموا معي بهاتين التجربتين:
الأولى مقارنة وضعية المؤسسة العسكرية في دساتير 54 و71 و(المسودة الحالية) ويقيسوا (حجم) تناول المؤسسة العسكرية و(طبيعته)..
ونقارن مثلا بين تطور مادة مجلس الدفاع الوطني.
 دستور 54، مادة 185
"ينشأ مجلس للدفاع الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويبين القانون نظامه واختصاصه،ويستشار هذا المجلس في اتخاذ التدابير الدفاعية وفي إعلان الحرب وعقد الصلح"
دستور 71، مادة 182
" ينشأ مجلس يسمى "مجلس الدفاع الوطني" ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظرفي الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويبين القانون اختصاصاته الأخرى."
طبعا اللمّاح سيكتشف أن وظيفة مجلس الدفاع تم تضخيمها من وظيفة استشارية إلى وظيفة اختصاص بالنظر وهي توصيف يشي بقصر النظر في مسائل الأمن القومي على المجلس وإلزامية هذا النظر. أي أن المجلس تحول لأعلى جهة سلطوية تنظر في هذا الشأن.
 الآن - نرى مسودة دستور مصر بعد الثورة التي قامت على النظام شبه العسكري ونادت بالحرية والديمقراطية، والتي يُشاع أنها تخلصت من حكم العسكر للمرحلة الانتقالية.




مسودة دستور 14 أكتوبر 2012، مادة 196
 "ينشأ مجلس للدفاع الوطنى ، يتولى رئيس الجمهورية رئاسته ، ويضم فى عضويته رئيسى مجلسى البرلمان ورئيس الوزراء ، ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان القوات المسلحة وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوى ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات العسكرية والاستطلاع.
و(يختص بالنظر) فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ، ومناقشة موازنة القوات المسلحة على أن تدرج رقما واحداً فى ميزانية الدولة ، ويجب أخذ رأيه فى مشروعات القوانين المتعلقة بالقوات المسلحة ."
الأقل لماحة سيكتشف بسهولة حجم التحول الحادث! تحدثت المادة عن التشكيل (لتحصنها دستوريا فلايمكن تغييرها إلا بعد 10 سنوات)، وجعلت التواجد العسكري كثيف (نتناول هذا بالسف)، وحافظت على الوظيفة المتضخمة والملتبسة، وأضافت لها وظائف أخرى (نناقشها) بالأسفل.
 التجربة الثانية:
 نقارن بين وضعية مجلس المؤسسة العسكرية بوثيقة السلمي (المُعدّلة) وقانون مجلس الدفاع الوطني (الذي أصدره طنطاوي في نفس يوم الإعلان الدستوري المكمّل ولم يلغه د مرسي حين ألغى الإعلان!) ويقارن بينهما وبين المسودة –
 مسودة السلمي المعدّلة
"وأن ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع والأمن القومي الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، كما يختص بنظر ميزانية القوات المسلحة، على أن يتم إدراجها رقما واحدا في موازنة الدولة، ويحدد القانون تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي واختصاصاته الأخرى، ويعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد أخذ رأي مجلس الدفاع والأمن القومي وموافقة مجلس الشعب"

 قانون مجلس الدفاع الوطني الصادر بتاريخ 18 يونيو 2012






 سنجد تقاربا يصل لدرجة المطابقة في بعض التعبيرات. وتقارب من تشكيل مجلس الدفاع الوطني لطنطاوي مع تخفيض العسكريين قليلا
 وهنا تسائل نفسك سؤالا هاما:
إذا كان مايريده العسكر لوضعية المؤسسة العسكرية بالدستور قد تم إقراره (بل تم رفع قانون مجلس الدفاع الوطني إلى مستوى الدستور ليتم تحصينه لعشر سنوات!)  فلم كان النزاع إذن؟ ومامنطق الإعلان الدستوري المكمل؟ أليس لكي يضمن العسكر وضعيته بالدستور كما هو حاضر الآن؟ نعم – ولكن لشيء آخر كذلك وهو تضمين الدستور إعادة انتخابات الرئاسة، وهذا مانجح تغيير القيادة العسكرية بتجاوزه وبتوافق مع المؤسسة العسكرية ذاتها.

 ملاحظات على المواد التفصيلية
 مادة 198 بالمسودة - الجمع بين القيادتين العسكرية والسياسية
وظيفة وزير الدفاع وهي بالأصل وظيفة سياسية والقائد العام للقوات المسلحة وهي المنصب العسكري الأرفع وهذا يقود لخلل كبير سياسيا واستراتيجيا.
سياسيا – فإن هناك فرصة عالية إما لتسييس الجيش إذا ضعف الوزن السياسي للمؤسسة العسكرية في مقابل الفريق المتغلب على السلطة التنفيذية، أو لتدخله في ملفات السياسة التفصيلية إن حدث العكس، كما أنه يسبب عدم استقرار الوضع القيادي العسكري للجيش؛ إذ يتغير مع كل حكومة.
واستراتيجيا ففضلا أنه يشغل وقت واهتمام القيادة العسكرية بدولاب العمل التنفيذي اليومي للدولة ومجلس الوزراء،فإنه يقود: إما أن تتغلب الرغبة السياسية على التقدير العسكري في حال سيطر الرئيس على وزير الدفاع (كما حدث في 73 وقاد للثغرة)، أو العكس إن استقوى وزير الدفاع على الرئيس ويسمي مايصفه الاستراتيجيون بعسكرة الاستراتيجية (أي تغليب الخيارات العسكرية في مساحة استراتيجية الأمن القومي) أو تكتكة الاستراتيجية (أي تغليب النفَس التكتيكي والعملياتي على الاستراتيجي ويضعف من قدرة الدولة على استخدام الأداة العسكرية بشكل سياسي).

بالطبع الجمع بين القيادتين لم يكن موجودا قبل ثورة يوليو، وكان أول من قام به عبدالناصر لضمان السيطرة على الجيش بأن جمع المنصبين لعامر وسط اعتراض من آخرين، ثم في 1962 - رفع عامر لمستوى القائد العام ونائب القائد الأعلى، وتحته يأتي وزير الدفاع (!) وهذا التشوّه في منظومة القيادة السياسية والعسكرية متسبب بشكل أساس في نكسة 67 كما أشار الجمسي وأمين هويدي، ثم عاد الوضع ثانية للجمع بعد النكسة حتى يومنا هذا.أنا أقدّر أننا نحتاج المؤسسة العسكرية بذاتها أن تدرك أهمية الفصل، وأنه قد تمر فترة يكون الحل العملي أن ينشأ وزير دفاع مدني (عسكري سابق) حتى تتوافر القدرات الفنية عند المدنيين، وستبقى وزارة الدفاع ذات العنصر المدني فترة من الزمن تحاول أن تطوّر نفسها وهيمنتها على القوات المسلحة وقد تصل الفترة لعقد كامل (كما في تجارب أسبانيا وأمريكا اللاتينية) .. ولكن - إن لم تقبل المؤسسة العسكرية الآن فقد تقبل غدا أو بعد عام حين تدرك أهمية الفصل في ظل نظام سياسي ديمقراطي متقلب. مانُحرّمه - أن نقرّ هذا الوضع البائس ونحصّنه دستوريا! 

 مجلس الدفاع الوطني - مادة 196 ، ومادة 152
 فكرة أن ينشأ مجلس أمن قومي، أو مجلس دفاع وطني، ظهرت في أمريكا بمرسوم 1947 للأمن القومي حين ظهرت الحاجة لمجلس أشب ببيت خبرة للحكومة ليناقش أنواع ودرجات التهديدات للأمن القومي والاستراتيجيات المقترحة ويقدم كل هذه الخيارات لصانع القرار ليتخذ قراره من بينها، وأحيانا تأتي له استشارات من الكونجرس كذلك. وأغلب الدول بدأت تتبنى هذا النمط ولكن هناك ثلاثة شروط أساسية تتفق مع النموذج الديمقراطي لهذا المجلس: أن يكون استشاريا ولالبس في هذا، وأن يكون من المدنيين بالإضافة لمستشار عسكري وآخر مخابراتي، وألا يرتبط بسلسلة القيادة العسكرية أو السياسية (أي لاتتنزل منه المهام العسكرية أو السياسية). وهذه دراسة تتناول الموضوع بتفصيل مع عرض لنماذج متعددة






 وتبعا لهذا - كان مجلس الدفاع الوطني المصري - بغض النظر على مدى جديته (أصبح شيئا صوريا منذ السادات).. وصدر قانون مجلس الدفاع الوطني لعام 68، واستمر حتى تنحي مبارك، وتشكيله كان الرئيس ووزراء الوزارات السيادية والخدمية الهامة (ليس فيه محل لرئيس البرلمان لأنه معين للسلطة التنفيذية) ووزير الدفاع ومدير المخابرات، ويمكن للرئيس توسيع قاعدة حضوره.
 وحين نقارن تشكيل مجلس الدفاع الوطني المرفق بالمسودة، نجد أن التشكيل بالمسودة عبارة عن:سبعة عسكريين، ستة مدنيين منهم الرئيس، مدير المخابرات (عسكري في الحالة المصرية)، وزير الداخلية (مسئول أمني)
 طبعا ممكن أن نختلف هل هذا المجلس عبارة عن أغلبية مدنية أو عسكرية طفيفة، أم تعادل. لكن هناك قاعدة هامة في تفسير سلوك هذه المجالس وهل تميل منتوجاتها ناحية العسكر أو المدنيين: التواجد الكثيف للعسكر مع المدنيين - ليس بشرط أن يكونوا أغلبية مريحة أو طفيفة - على نفس المستوى السلطوي عند اتخاذ القرار يقهرهم. ولهذا فتركيب مجلس الأمن القومي التركي قبل أردوغان (حين كان وصيا على تركيا) كان: خمسة عسكريين، وخمسة مدنيين منهم الرئيس، ووزير دفاع مدني.

 أما الصلاحيات فهي أسوأ من الصلاحيات التي نصت عليها وثيقة السلمي المعدّلة لزيادة أخذ الرأي في بعث القوات للخارج وتحصين التشكيل:
 - يبقى المجلس (مختصا بالنظر)  في شئون تأمين البلاد وسلامتها
  1.  لايوجد نص الآن على رقابة برلمانية سواء على الموازنة أو الميزانية، ولكن (مناقشة) (للموازنة) في مجلس أغلبيته تنفيذيون وعسكريون على نفس المستوى. والفرق دقيق بين الموازنة والميزانية.. الموازنة هي تصور إحدى الوزارات لحجم الإنفاق المستقبلي ولابد للبرلمان أن يقرها، أما الميزانية فهي المراقبة على الإنفاق ولاحديث عنها هنا. وحين تذهب الموازنة رقما واحدا للبرلمان فهو لايستطيع أن يعدّل بها أو يحدد مدى موضوعيتها لأن التعديل يرتبط بمناقشة البنود التفصيلية.
  2. تبقى مادة أن المجلس يجب أن يؤخذ رأيه في التشريعات، ويزيد عليها أن يؤخذ رأيه في الحرب وإرسال القوات المسلحة للخارج.
والنص على (أخذ الرأي) هو عتبة سياسية لابد لمتخذ القرار أن يمر بها، ومع مجلس غالبيته عسكرية فهي تؤول إلى قهر متخذ القرار ذاته. الدستور التركي قبل أردوغان كان فقط يشير أن يبعث مجلس الأمن القومي وجهات نظره للحكومة، ولكن مآل ذلك كان الوصاية بوضوح.. ولهذا حين أتى اردوغان استغل ضغط الاتحاد الأوروبي لينص على الرأي الاستشاري وأن الحكومة هي صاحبة الحق في الأخذ بآراء المجلس من عدمه.
 في هذا الرابط النصوص الدستورية التركية عن مجلس الأمن القومي قبل وبعد أردوغان.




 ماأود أن أختم به الحديث عن وضعية المؤسسة العسكرية بالدستور أمران ذكرتهما في الحلقة الأولى - يمكنكم مراجعتها - عن احتكار الرئيس لتعيين الموظفين العسكريين (القيادات) في معزل عن البرلمان وهذا يقود إما للوصاية العسكرية عليه واستدامتها أو للتسييس، والثانية - هي المادة الكارثة في حضورها وغيابها معا بخصوص حق استدعاء الجيش لحفظ الأمن الداخلي.
 هناك مادة كذلك لم أعلق عليها لأنها مبهمة ونحتاج لنرى المذكرة التفسيرية لها.. مادة أن هناك مجلس أعلى للقوات المسلحة. النقطة المبهة هي من يكون (رئيس) هذا المجلس، لأنه لو كان القائد العام ووزير الدفاع فهذا كابوس.
ولاأعرف كذلك مافائدة النص على هذا دستوريا إن كان رئيس الجمهورية هو رئيس هذا المجلس، لأن القيادة العامة للقوات المسلحة تتسمى تلقائيا باسم (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) حين يحضرها الرئيس!

  الخلاصة
وضعية المؤسسة العسكرية بالدستور هي عثرة ديمقراطية ضخمة في سبيل تحول ديمقراطي، ومسودة الدستور للأسف هي نتاج تفاهمات بائسة واعتبارات فئوية سقيمة.
ربما يكون موقف الإخوان مفهوما من هذه الوضعية منذ عام كامل، ولكن لماذا تقبل بعض القوى والرموز المدنية بهذه الوضعية؟! أقول لكم - خوفا من سيطرة الإخوان على الجيش. ولكن الفقر المعرفي في هذه المساحة حرم هذه القوى من إدراك وسائل أكثر ديمقراطية لمنع تسييس الجيش واختراقه، كجعل المسائل الهامة (سواء قرارات أو سياسات أو تعيينات) يشترط لها أغلبية ثلثي البرلمان، وإشراك السلطة القضائية في مسألة استدعاء الجيش للوضع الداخلي، أو في فترة غياب البرلمان.
 وهذه لينكان لتصورات قدمتها من قبل -وهي منشورة- حول صياغات أمثل لوضعية القوات المسلحة بالدستور.
 أفكار أولية حول وضعية العسكر بالدستور






 صيغة لي نشرها د معتز عبدالفتاح في مقال له






صيغة مقترحة لوضعية المؤسسة العسكرية بالدستور






 تدوير العلاقات المدنية العسكرية وإرهاصات النموذج المصري






 شكرا على صبركم على هذه التطوافة الشاقة، وأحسب أني حاولت الاجتهاد فيها ماوسعني - سواء أصبت أم أخطأت.
————————–
د محمد بريك
باحث دكتوراة في الاستراتيجية العسكرية - جامعة ريدينج - بريطانيا
ماجستير الاستراتيجية العسكرية - جامعة ريدينج
استشاري عيون وزميل كلية الجراحين الملكية لطب العيون