الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

ملاحظات عاجلة حول مسودة الدستور….. محمد بريك


 من الصعب الحكم على نص دستوري بمعزل عن التحليل السياسي الذي يتناول الأطراف الفاعلة سياسيا ومحركاتها وموازين القوى بينها وطبيعة المرحلة السياسية التي تخوضها الدولة وخبرتها القريبة والبعيدة – الدستورية والسياسية، وتصور مآلات كل ذلك.. وهذا لأن الرؤية السياسية تلك تجعلنا أكثر قدرة على تحديدأولويات المرحلة وطبيعة المخاوف التي تهدد بناء الدولة وتعوّق الوصول لعقد اجتماعي متوازن، وكل هذا لابد أن يُراعي في الدستور من حيث التناول والصياغة معا، كذلك فإن حصول التقييم السياسي يجعلنا نفهم لماذا يصاغ دستور ما (أو أحد مسوداته) على نحو ما؛ لأن الدستور – كأرفع وثيقة قانونية لدولة – ليس منشئا لواقع سياسي بقدر ماهو عاكس لواقع سياسي وموازين قواه. إذن فالتحليل السياسي له فائدة تفسيرية، وله فائدة إرشادية كذلك.
ولكن برغم هذا التحفظ المبدئي سأحاول أن أقدم إشارات سريعة على ماأراها نصوصا كارثية في مسودة الدستور التي أصدرتها الجمعية التأسيسية في شقين أساسيين: صلاحيات الرئيس وطبيعة النظام السياسي - الوضع الوصائي والمميّز للقوات المسلحة بالدستور.
وسأحاول أن أجعل جرعة التحليل والتعريف السياسي في حدها الأدنى، خصوصا وأن أهم الملفات بمسودة الدستور التي سأتناولها(شبعنا) فيها حديثا وبحثا منذ تنحي مبارك، وحتى قبله! سواء في: (ضرورات الإنجاز الثوري (الهيمنة الديمقراطية والمدنية على المؤسسة العسكرية، وإعادة هيكلة منظومة الأمن ، وبناء عقد اجتماعي وسياسي جديد، العدل الاجتماعيوشروطه (الزخم الثوري في المرحلة الثورية، والتوافق الوطني بين القوى، وصيغة حد أدنى من الإنجاز وتدرج في بقية الملفات حين نتعامل مع المؤسسة العسكرية )وطبيعة مرحلة التحول الديمقراطي وأولوياتها، وطبيعة الوصاية العسكرية ودرجاتها بدءا من التدخل المباشر في توزيع مصادر السلطة أو الوصاية على أحد المساحات الوظيفية للدولة بمعزل عن السلطة المنتخبة (تنفيذية وتشريعية) والقضائية.
 وأقول أني أحكي في هذين الشقين (صلاحيات الرئيس وشكل النظام السياسي - وضعية المؤسسة العسكرية)  تحديدا دون غيرها من ملفات الدستور لقناعتي بأهميتهما المفصلية من ناحية وأن موقفي تجاههما كاف جدا لتصويتي ب (لا) كبيرة إذا تم إقرار هذه المسودة وإذا أقرت محكمة القضاء الإداري شرعية الجمعية التأسيسي في القريب العاجل، وكذلك بسبب الاختصاص ورغبتي في الحديث عن الدائرة التي أهتم بها وأحسب أني أمتلك مقدماتها المعرفية ، وإلا فإن النقاش الدستوري يتطلب درجة من الشمول والاختصاص والتمكن لاأحسبني أحوزها.

 وسأعتمد في تناولي على آخر مسودة ظهرت بموقع الجمعية التأسيسية (يوم 14 أكتوبر) - وتجدونها على هذا الرابط، وسيتم عزو المواد المناقشة لهذه المسودة برقم المادة
أولا – صلاحيات الرئيس وخداع المصطلحات (هل نحن مقبلون على نظام رئاسي أم برلماسي أم برلماني)؟!
الفكرة الأساسية لمسودة هذا الدستور تعتمد على النظام البرلماسي وهو الذي يوزع الاختصاصات التنفيذية بين رئيس الدولة وبين الحكومة (البرلمانية). وصحيح أننا حين نقسم النظم السياسي لثلاثة أنظمة رئيسية (رئاسي وبرلماني وبرلماسي) فنحن لانحكي عن جزر منعزلة ولكننا نحكي عما هو أشبه بمخروط قوس قزح.. أي أنه في داخل النظام الرئاسي هناك ألوان قد تقترب من البرلماسي وأخرى يتوسع فيها دور الرئيس كرأس السلطة التنفيذية، وفي البرلماسي هناك ألوان تقترب من الرئاسي وأخرى تقترب من البرلماني.. صحيح كل هذا – ولكن هناك خصائص واضحة في كل نظام لابد أن تنضبط بها المصطلحات.
مثلا – النظام البرلماسي يعتمد على ركيزتينتوزيع دوائر الاختصاص بين الرئيس والحكومة، ودور البرلمان في تشكيل الحكومة.. وهذا مالم أستطع اكتشافه في مسودة الدستور.
1-       لايوجد بالدستور توزيع واضح للاختصاصات ولكن يظهر فيه أن الرئيس هو المسئول التنفيذي الأول بالدولة، مع وجود تفويضات لمن تحته كعادة النظام الرئاسي مثلا. في النظام الفرنسي أو الفنلندي على سبيل المثال يكون اختصاص الرئيس في دائرة الأمن القومي والسياسة الخارجية والدفاعية، ويكن اختصاص الحكومة دائرة التنمية والسياسة الداخلية. ولقد حاولت المسودة التي قدمها بيت الحكمة محاكاة ذلك، وكذلك كان حديث بعض قيادات حزب الإخوان عن محاكاة النموذج الفرنسي قبل أن يكون لهم مرشح. طبعا هذه القضية لابد أن (ينص عليها) وتظهر في دور الرئيس في تعيين بعض الوزراء في مقابل الآخرين. والمادة 156 تزيد الأمر غموضا ولايتضح فيها توزيع الاختصاص ولكن تجعل الرئيس المسئول التنفيذي الأول وتشاركه الحكومة .. تنص على (أن يضع الرئيس السياسات العامة للدولة، ويشرف على تنفيذها، بالاشتراك مع الحكومة).
2-      نحن أمام صلاحيات رئاسية قريبة جدا للنظام الرئاسي ..
أ‌-        أخطر شيء هو في تشكيل الحكومة  مادة 145  تنص على أن يكلف الرئيس رئيسا للوزراء بتشكيل الحكومة – دون أن تشير أن المكلَّف لابد أن يكون من حزب الأغلبية –في خلال ثلاثين يوما ثم التقدم للبرلمان لأخذ موافقة الأغلبية، فإن رفض البرلمان (البرنامج) – مع أن الرفض قد يكون للبرنامج أو الأشخاص المكلفين بالوزارة – تتم إعادة الكرّة مرة أخرى، ثم يكون امام الرئيس خيارات أ يشكل الحكومة بناء على (اقتراح) مجلس النواب، أو يقوم بحل البرلمان!!
بصراحة موجعة – أني أعتبر أنه من التدليس أن نسمي هذه المادة المركزية تعبيرا عن النظام البرلماسي؛ بل هي نظام أقرب للرئاسي.
وقد يتساءل أحدنا: إذا كان البرلمان هو من سيقر أو يرفض الحكومة أليس من الممكن أن نعتبرها (حكومة يشكلها البرلمان بأغليته)؟ قطعا لا.. وللتبسيط – فهذا لأمرين:
 الأول – جعل حل البرلمان في نهاية المحاولة الثالثة يمثل رادعا سياسيا قويا للبرلمان لإجباره على الموافقة.
الثاني – ان القدرة التفاوضية لرئيس الحكومة وحزبه –حتى لو لم يكن اغلبية  – في ظل هذه المادة لتشكيل حكومة أعلى كثيرا من قدرة حزب الأغلبية إذا أحب ان يرفض رئيس حكومة ليس منه في تشكيل ائتلاف رافض!وهذا بالطبع يجعل لرئيس الجمهورية الحق في تشكيل الحكومة من حزبه حتى لو يحز حزبه على الأغلبية البرلمانية.. هكذا بوضوح
ب‌-     مادة 149 تنص على أن للرئيس حق تعيين الموظفين العسكريين بالدولة وحق عزلها. وهذه مشكلة حقيقية وتخالف العرف الديمقراطي وليس فقط العرف البرلماسي. وظائف القيادة العسكرية في الدولة بالأخص – دونا عن بقية الوظائف المهنية - يمُنع على الرئيس الاستفراد بتعيينها خشية تسييسها (إذا كانت المؤسسة العسكرية ضعيفة في موازين القوى أمام الرئيس امتلكها وسيسها لحسابه كما عشناه عقودا، وإذا كانت قوية فرضت عليه صيغتها الذاتية للتعيينات والترقيات كما في باكستان..). ولهذا نرى النموذج الأمريكي – وهو نظام رئاسي يقترب من البرلماسي – لابد فيه من تصديق البرلمان على  اختيار القيادات العسكرية، بل لابد من تصديق مجلس الشيوخ على كشوف الترقيات العسكرية دون القيادية، وهذا لخصوصية المؤسسة العسكرية (احتكار العنف المسلح) وإمكانية تهديدها للنسق الديمقراطي ( في حال امتلاك الرئيس أو حزب ما لها، أو في حال فرضها لرؤيتها الذاتية على السلطة التنفيذية).
ج- مادة 183 .. هي تحاكي صلاحيات نظام مبارك في تعيين أعضاء ورئيس المحكمة الدستورية ولاتشترط تصديق البرلمان! (النموذج الأمريكي المفروض أنه رئاسي ولكنه يشترط موافقة البرلمان على اختيار أعضاء المحكمة العليا).
د - هي مادة خطيرة نقلها رئيس لجنة الأمن القومي بالجمعية الدستورية في برنامج يسري فودة (حلقتان متتاليتان) عن أحقية الرئيس في استدعاء القوات المسلحة لحفظ الأمن الداخلي بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني، وهي أكثر مافي حديثي اليوم خطرا. ولقد فشلت في أن أجد هذه المادة أو مافي موضوعها في مسودة الدستور المنشورة 14 أكتوبر.. وهناك ثلاثة احتمالات:
·         الأول - أنها موجودة (مزنوقة في حتة) وغابت عن نظري، وأتمنى من كل حاد بصر أن يشير إليها.
·         الثاني - أنها من ضمن المواد التي لازالت تحت النظر وسيتم إخراجها بعد حين (يامسهّل).
·         الثالث - أنه تم إلغاؤها.. وهذا خطير - لأن ترتيب هذه المسألة هي أهم مايجب النص على طريقته بالدستور. ولايترك للقانون أو التشهي. لماذا المادة بالنص السابق الإشارة إليه - أو إلغاء الحديث عن الموضع دستوريا - خطير.. لأن هذه أهم أدوات الاستبداد والاستخدام المسيّس من قبل الرئيس للجيش في ضبط الوضع الداخلي لصالحه. ولأنه لامناص أن يكون القرار مناصفة بين الرئيس وبين أغلبية برلمانية مريحة (قد تصل لحد الثلثين)، وليس توافقا بينه وبين الجيش كما تقول المادة، بل أنه أحيانا يتم اشتراط موافقة رأس السلطة القضائية على هذا الاستدعاء في حال غياب البرلمان أو حتى في وجوده كحيطة دستورية أكبر حين يكون أمامنا واقع سياسي شديد السيولة وقريب عهد بالاستبداد ولم تعتد مؤسساته السياسية على التمييز والفصل بين ماهو مهني وماهو سيادي.
ماأختم به هذا الجزء شيء في غاية الطرافة – والإيلام – في ذات الوقت!
 من الواضح الآن أننا نحكي عن نظام رئاسي (أو شديد القرب من الرئاسي) وإن أطلق بعضنا عليه (برلماسي) تجوّزا أو تحريفا - لتخفيف وقعه على أسماع الأتباع والخصوم السياسيين والحالة الشعبية، مع أن قوانا السياسية لو اتفقت على شيء فيما يتعلق بالدستور طيلة عام ونصف بعد الثورة فهو على جعل النظام ليس رئاسيا.

 وأنا ليس عندي مشكلة شخصية أن يرى من يتحكم بأغلبية الجمعية التأسيسية أن هذا النظام أو ذاك هو الأصلح بشرطين: أن يدلل لنا على المنطق خلف اختياره ثم لنا الخيار بعد ذلك أفرادا وشعبا، وأن يكون واضحا ومستقيما معنا في توصيفه.
 كذلك - ربما ظهرت لحزب الإخوان مسودة أو اكثر للدستور حين لم يكن لهم مرشح وكانت لهم الأغلبية البرلمانية (يناير - فبراير …) ، وكذلك تحدث بعض قياداتهم عما يرونه في الدستور المقبل، وأشاروا أنهم يريدون تبني النظام البرلماسي ومتابعة النموذج الفرنسي، ولكن حين قرأنا هذه المسودة وتابعنا كلام هؤلاء القيادات للإعلام وجدنا أنهم يختارون نظاما أقرب للبرلماني وإن سموه برلماسيا.. في هذا النظام ماعلى الرئيس إلا أن يختار من تقدمه له الأغلبية البرلمانية ولكنه لايتدخل في تعيين وعزل الوزراء (على خلاف النموذج الفرنسي الذي يحق للرئيس فيه تعيين رئيس الحكومة ولكن لايمكن عزله إلا بإسقاط الحكومة والبرلمان معا، أما الوزراء فيحق له التدخل في تعيينهم وعزلهم).
 والتباين الشديد بين خيارات الإخوان حين كان لهم أغلبية برلمان وحين أضحى لهم رئيس وسقط البرلمان بخصوص النظام الأمثل لمصر.. هو مثال عملي لما يسميه متخصصوا السياسة بتضارب المصالح  Conflict of interests ، وأن منهج إنشاء الدستور المصري كان لابد أن يبطل هذا التضارب قدر الإمكان.

 وليس في حديثي هذا نعاية على خيار الشعب أو رفضه بخصوص جعل انتخابات البرلمان والرئاسة قبل صنع الدستور، ولكنه توضيح حقيقة في الوعي السياسي والدستوري من واجبي إبانتها، وأن النظام السياسي لدولة وإنشاؤه أخطر كثيرا ويتطلب درجة من التوازن والاستقامة أعلى من أن ترتهن لمصالح حزب أو مجموعة أحزاب وتتأرجح مع تأرجح حظوظها السياسية بين فترة وأخرى.
ومن المهم أن نشير إلى بديهية ديمقراطية: أن ماأطرحه هنا هو وجهة نظري  – كمواطن وله بعض التخصص في دائرة السياسة والاستراتيجية – فيما أراه موادا كارثية في هذه المسودة –لدستور مصر بعد الثورة - التي يتم طرحها الآن للنقاش المجتمعي والسياسي، وأنه لو أقرّ القضاء الإداري شرعية الجمعية التأسيسية، ثم تحولت هذه المسودة الأولية لمسودة نهائية وتم عرضها للاستفتاء دون تغيير بنيوي في مواد صلاحيات الرئيس ووضعية المؤسسة العسكرية، فإني سأقول (لا) كبيرة ، وهذا حقي السياسي والدستوري، ولكن ما إن يوافق عليها الشعب تصبح (دستور جمهورية مصر العربية).
 وهذه الحلقة نخصصها لمناقشة وضعية المؤسسة العسكرية بمسودة الدستور ،وأود أن أطرح أربع ملاحظات هامة قبل تناول هذا الموضوع الشائك وموادة المفصلة.

    أولا - العلاقات المدنية العسكرية وغياب التأسيس المعرفي:
 من أهم وظائف الدستور أنه يضبط العلاقات بين مكونات الدولة وسلطاتها ومؤسساتها، وكما ذكرنا سابقا أن الخيارات الدستورية تنتج من تلاقح تصورنا (المثالي) لما ينبغي تكون عليه هذه العلاقات أولا مع تصوراتنا حول المرحلة السياسية والخبرة التاريخية القريبة والبعيدة السياسية والدستورية وحول الهواجس والمآلات وحول التسويات الناشئة بين جماعات الضغط والمصالح داخل المجتمع.
 المشكلة في باب العلاقات المدنية العسكرية – وهو باب معرفي ضخم له مقاربات سياسية واستراتيجية واجتماعية – أنه لاتوجد في بلدنا قاعدة معرفية وأكاديمية تتيح للنقاش السياسي والمجتمعي في مسائل الدستور وأي مسائل أخرى أن ينطلق من تصورات معيارية واضحة (أي ماهو الوضع المثالي).
في هذا الوضع تسود أحيانا بعض الأغلوطات والخرافات عن وضعية القوات المسلحة داخل الدولة..
البعض قد يقول أن المؤسسة العسكرية قد تحمي النظام الدستوري، أو أنها مسئولة عن الأمن القومي (الأمن القومي ده بتاع العسكر)، أو أن لها استقلالية وحكم ذاتي خاص بها، أو أن ميزانيتها لايمكن الرقابة عليها لأنها سرية وهذا هو الأصل في كل دول العالم حتى أمريكا وإسرائيل، أو أن السلطة التنفيذية لها الحق في تعيين القيادات العسكرية، أو أن مجلس الأمن القومي – حتى لو بتواجد عسكري كثيف وخصائص تنفيذية ووصائية – موجود في دول العالم الديمقراطي وغيرها..
وللأسف – كان النظام السابق مُصرا لعقود على منع بناء وتوفر هذه البنى الأكاديمية والمعرفية،  بل حرم المدنيين من الاقتراب من الشئون الاستراتيجية (والاستراتيجية تختلف عن المستوى العملياتي والتكتيكي العسكري أو حتى استراتيجية العمليات، ولكنها تختص بكيفية الاستخدام السياسي للقوات المسلحة وسائر مصادر القوة). ومعروف دوافع النظام السابق، ولكن وجود وفرة مدنية تتخصص في هذه المساحات هو ضرورة أكدتها التجربة الأوروبية مابعد الحرب العالمية الثانية – وحتى التجربة التركية الحديثة – لتأكيد الهمينة المدنية على القوات المسلحة.

 ثانيا - النموذج الديمقراطي والخصوصية في مرحلة التحول  الديمقراطي 
 في التوصيف الديمقراطي للعلاقات المدنية العسكرية فإن هذه العلاقات يمكن فهمها بالنظر إلى أربع دوائر وظيفية بالدولة:
1.       مساحة التنافس السياسي على توزيع مصادر السلطة.. وهذه دائرة يحرم على القوات المسلحة التدخل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، ومنطق النظام الديمقراطي هو الفصل بين من يحمل السلاح وبين مستوى السلطة.
2.       والدائرة الثانية هي دائرة الحالة المدنية عموما ودولاب الدولة غير السياسي، وهذه الدائرة الأصل فيها عدم تدخل القوات المسلحة بها لعدم إفساد مهنية الجيش وعدم تسييسه .. إلا في حالة طارئة ومؤقتة (ليست كوتة ثابتة مثلا في التعيينات المدنية، أو وضع اقتصادي مستقل ودائم) وتحت إشراف مدني كامل وبشكل متوازن بين (السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية) حتى لاتستخدم الجيش إحدى السلطات أو الفصائل لتحقيق أهداف سياسية بحجة اضطراب الأوضاع.
3.       وتأتي ثالثا دائرة الأمن القومي.. وهي دائرة تتناول التهديدات الوجودية لوظائف الدولة ووسائل التصدي لها، ولأن هذه التهديدات وكذا الوسائل أوسع كثيرا من الشأن العسكري فإن المؤسسة العسكرية تشترك مع بقية مؤسسات الدولة في تعريف التهديدات ووضع الاستراتيجيات تحت سيطرة كاملة للمدنيين (السلطات الثلاث كل باختصاصه).
4.       وأخيرا تأتي الدائرة الرابعة المعنيّة بالشئون العسكرية وإدارة الدفاع وتشمل ملفات تعيين أدوار القوات المسلحة والسياسة والاستراتيجية العسكرية ومنظومات التسليح والمواد وشئون الأفراد.. وهذه الدائرة هي موطن الاختصاص للقوات المسلحة كمؤسسة مهنية وليست سلطة، ولذلك فهي تابعة للمستوى السياسي بأنواعه الثلاث (تنفيذي وتشريعي وقضائي) ومهم أن ينشأ التمايز بين ماهو مهني وماهو سياسي في هذه المساحة وألا يتوغل طرف على طرف منعا لتسييس المؤسسة العسكرية أو تغولها السياسي.
 وفي مرحلة التحول الديمقراطي تنشأ مشكلة مزدوجة – أولها في خطر المؤسسة العسكرية وممانعتها للتحول الديمقراطي (لأنها في الأغلب تتورط في ملفات فساد وانتهاكات في ظل النظام السابق وتخشى من المحاسبة، كما أنه قد تنشأ لها مصالح مؤسسية واقتصادية مستقرة خارج إطار السلطة المدنية المنتخبة، وكذلك يكون عندها تصور أبوي للدولة وأمنها القومي وترى القوى السياسية الجديدة مهددة لهذا التصور)،
وثانيها في إمكانية تسييس المؤسسة العسكرية بذاتها والإضرار بها مهنيا لأن مرحلة التحول الديمقراطي تقضي بإعادة هيكلة المؤسسة وبناء أعراف جديدة ولو تم هذا في ظل سيطرة فصيل فإعادة الهيكلة والتأسيس قد تتم بشكل غير متوازن – فضلا أن الإسراع في جعل الهيمنة المدنية فاعلة على مساحات الشئون الاستراتيجية والعسكرية قد يضر بها لنقص الخبرة والبنى المعرفية والفنية.
 ولهذا يقسم مختصوا العلاقات المدنية العسكرية وضعية العلاقات المدنية العسكرية في التحول الديمقراطي لمرحلتين:
·         الأولى هي الانتقال – وفيه يكون منع المؤسسة العسكرية من التدخل في الدائرة السياسية الأولى ويكون تقرير الهيمنة دون غبش بالدستور لأنه وثيقة حاكمة وممتدة،
·         والثانية مرحلة تثبيت الديمقراطية وفيها تتم إعادة تعريف الأدوار والاستراتيجيات وتطوير العقيدة القتالية والبنى التنظيمية وضبط معايير الترقي وتغيير المناخ الداخلي.. وهكذا.
على أنه ينبغي علينا الإشارة أن هناك فارقا نوعيا بين التحول الديمقراطي كما حدث في أسبانيا وأمريكا اللاتينية ودول شرق أوروبا وبين حال الثورة (التي يحدث فيها خلخلة سريعة لبنى النظام)  يلزمنا بالإسراع في تركيب الهيمنة المدنية في الثانية.. لأن حال الثورة تمثل زخما شعبيا وسياسيا دافعا يمكن الاستفادة به، ولأن مراكز النظام الساقط يكون قد استفزازها وتخوض معركة وجود ولابد من تصفيتها والإسراع في إعادة ضبط العلاقة مع مالايمكن تفكيكه (كالمؤسسة العسكرية).

  ثالثا - مسار احتواء الثورة،و إعادة تدوير العلاقات المدنية العسكرية
المميّز لثورة 25 يناير أنها جمعت بين نموذجي الثورة والتحول الديمقراطي، وخيّمت عليها ظلال الانقلاب العسكري.
الجيش حين أخذ قراره بعدم الاستجابة لأوامر النظام بالتدخل لفض التظاهرات الشعبية كان مدفوعا بعدة عواملالأول عامل المصلحة المؤسسية المباشرة حين أدرك أنه أمام حالة ثورية متفاقمة وليس مجرد تظاهرات عفوية،
وكذلك بنيته الوطنية كان من شبه المستحيل دفعها للاصطدام المباشر مع الحالة الشعبية (مالم تكن هذه الحالة تبدو فئوية ومشيطنة) وإلا تفككت..فالجيش المصري ليس جيش مرتزق كالليبي أو طائفي كالسوري وأهو أكثر تعبيرا عن البناء المجتمعي من الجيش اليمني الذي حدثت به انشقاقات بالفعل،
كذلك فالجيش ليس مؤهلا بحكم عقيدته القتالية ومنظومات تسليحه وقواعد اشتباكه وتدريبه على الفض غير المميت للتظاهرات الشعبية (فقط سلاح الشرطة العسكرية قد يكون مناسبا) وعلى هذا فتدخله (كأن يضرب دانة مدفع في ميدان التحرير كما قال أحد الجنرالات من قبل) يدفع الحالة الشعبية لمزيد استفزاز واحتقان،
وهناك عامل المصلحة الوطنية – كما يراها الجيش – سواء في رفضه لمشروع التوريث أو في عدم ثقته في القوى السياسية المعارضة
وأخيرا لاننسى العنصر الخارجي (الأمريكي) وله تأثير ناتج من معونة عسكرية تقدر ب 1.3 مليار دولار سنويا وتشابك مع مستويات القيادة والتدريب، والأمريكي قد حسم خياره منذ 29 يناير 2011.
كل هذه العوامل دفعت الجيش للتدخل الإيجابي بعدم الاستجابة لمبارك والضغط عليه، وكذلك – الرغبة في إدارة المرحلة الانتقالية بشكل يمكن به احتواء الثورة أن تحدث تغييرات فيما يراه الجيش يضر بمصالحه المؤسسية أو المصلحة الوطنية بما فيها العلاقة مع الأمريكي والتوجه الاستراتيجي لمصر في حركتها بالإقليم – وخصوصا العلاقة مع إسرائيل. وهذا كان منطق الأمريكي كذلك – في مساعدة حالة الثورة المصرية للتطور لشكل (ديمقراطي) وفي نفس الوقت الإبقاء على المحددات الاستراتيجية لنظام مبارك في العلاقة مع الأمريكي، والموقف من إسرائيل، والسياسات الاقتصادية العليا.
وهذه المعادلة لاتتم إلا بالتفاهم مع أبرز القوى السياسية التي لها قواعد شعبية، وفي نفس الوقت دفع المؤسسة العسكرية لتكون (وصية) على الخيارات الاستراتيجية العليا تلك عبر شكل دستوري مناسب (نموذج مجلس الأمن القومي التركي) – غير أن المجلس التركي كان وصيا على العقيدة الكمالية، أم المصري فيكون وصيا على الخيارات الاستراتيجية الأساسية.
لم يكن مطروحا عند المؤسسة العسكرية – ولاحتى الأمريكي – أن ينشأ حكم عسكري صريح – هذا وضع لايقره العالم الآن ولايقبل به الإقليم ولايمكن احتواء حالة ثورية قامت لأجل الديمقراطية بهذا النموذج، ولهذا فكان لابد للمجلس العسكري أن يسلم السلطة (رسميا).. أما نموذج الديمقراطية المنقوصة (المنتوج الشعبي يحكم فقط بعض مساحات الدولة وليس كلها) فهو نموذج لطيف وتكرر في اكثر من 30% من حالات التحول الديمقراطي من 74 حتى 99 كما أشارت باربرا جديس في دراسة لها.
 لاداعي لتناول تفصيليا ماحدث في عام ونصف سابق ومامر من فورات ثورية وانتهاكات،في ظل تفاهمات وصيغ تسوية بين العسكر والقوى السياسية وأبرزها الإخوان وغيرهم (التعديلات الدستورية، الفترة ماقبل وثيقة السلمي، وثيقة السلمي المعدلة، وثيقة عنان، البحث عن مرشح توافقي، قبول مجلس أمن قومي وصائي به كثافة عسكرية)، ثم تصاعد الصراع بين العسكر والإخوان (الخلاف حول حكومة الجنزوري، ورغبة المؤسسة العسكرية في توسيع صلاحيات الرئيس بالدستور الناشيء)، ثم الإعلان الدستوري المكمل وقانون مجلس الدفاع الوطني قبل إعلان فوز د مرسي المرشح الإخواني.
 العلاقة بين العسكر والإخوان وصلت لمرحلة أن القيادة العسكرية كانت عازمة على إقصاء الرئيس الإخواني عبر طرق أهمها سيطرتها على الدستور  وإضافة نص إعادة الانتخاب به. صحيح أن مايريده العسكر من الدستور من وضع وصائي على المستوى الاستراتيجية وعدم خضوع للرقابة كان ممكن أن يقبله الإخوان، ولكن الإقصاء هذا خارج السياق.
 ولهذا – رأى الصف الثاني بالقيادة العسكرية أن مصالح الجيش الأساسية لاتقتضي الدخول مع الإخوان والرئيس في معركة تخسر فيها المؤسسة كثيرا من هيبتها وشرعيتها الشعبية، وأنه بالإمكان خروج دستور يحفظ للمؤسسة العسكرية ماكانت تأمله من وضع – على الأقل ماتوصلت إليه وثيقة السلمي المعدّلة، بالإضافة لخروج آمن؛ بل مشرف. وعلى هذا فتنحية طنطاوي وعنان كانت خطوة إيجابية بالطبع، ولكنها لم تكن كما حاول الإخوان تصويرها تنحية للعسكر وإخضاعهم للدولة المدنية.. بل هناك ملفات عديدة شائكة أهمها وأكثرها إلحاحا وحسما - للمفارقة وللأسف – الدستور.

 رابعا - التناول الدستوري للعلاقات المدنية العسكرية
 -       تحليل العلاقات المدنية العسكرية أوسع كما ذكرنا من المساحة الدستورية، لأن الدستور هو شق واحد في شبكة ترتيب وهو في الأغلب انعكاس لموازين القوى ومهيّء لتطور أوضاعها على أعلى تقدير، ولكن هناك عوامل أخرى كبنية المؤسسة العسكرية وتماسكها وشبكاتها المجتمعية والاقتصادية والسياسية ومدى ارتباطها بالأجهزة الأمنية والمخابراتية وبيروقراطية الدولة، وحالة القوى السياسية ومدى توافقها على مسائل إخضاع القوات المسلحة للهيمنة ودورها الإيجابي أو السلبي في الوصول لعقد اجتماعي ونظام سياسي له شرعية، والدور الخارجي بالطبع، وحالة الاستقرار الأمني الداخلي والإقليمي.. وهكذا.. ولهذا فنجد دولة كباكستان تمارس المؤسسة العسكرية دورا وصائيا على المحددات الاستراتيجية ومستوى الأمن القومي وعلى تعيين قيادتها ووزير الدفاع المدني (عسكري سابق) دون أن ينص على ذلك الدستور، ودون مجلس أمن قومي به كثافة عسكرية وله دور وصائي.. والنموذج الباكستاني مٌلهم للسياسة الخارجية الأمريكية - حيث كانت السفيرة الحالية المصون.لكننا بسبب ضغط اللحظة سنركّز على الشق الدستوري ماأمكن،
ومعاييز الإنجاز في الشق الدستوري ثلاثة أمور:
  1.     تقرير تبعية القوات المسلحة للمستوى التنفيذي السياسي (كقيادة سياسية)، والتشريعي (سياسات ورقابة وموازنة ودور في تعيين القيادات)، والقضائي (وحدة النظام القضائي بالدولة ووجود محكمة عليا مدنية فوق كل المستويات).. وأن تكون هذه التبعية بشكل يوازن بين السلطات الثلاثبحيث لاتستفرد السلطة التنفيذية بالجيش فيمكنها تسييسه.
  2.  تحريم وجود أي دور وصائي للمؤسسة العسكرية سواء عبر تقرير وصاية مباشرة، او عبر مجلس أمن قومي به كثافة أو أغلبية عسكرية وله أدوار تنفيذية ووصائية على أخذ القرار السياسي والتشريعي.
  3. لو هناك ملفات مرتبطة  بتغيير النظام العسكري مثلا فإما أن يتم تقريرها بشكل ديمقراطي أو ترحيلها للقانون، ولكن يحرم (تحصين) الشكل غير الديمقراطي لها دستوريا.
تجربة عملية في مختبر الدساتير
ندخل في الجد :) إني أدعو الجميع أن يقوموا معي بهاتين التجربتين:
الأولى مقارنة وضعية المؤسسة العسكرية في دساتير 54 و71 و(المسودة الحالية) ويقيسوا (حجم) تناول المؤسسة العسكرية و(طبيعته)..
ونقارن مثلا بين تطور مادة مجلس الدفاع الوطني.
 دستور 54، مادة 185
"ينشأ مجلس للدفاع الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويبين القانون نظامه واختصاصه،ويستشار هذا المجلس في اتخاذ التدابير الدفاعية وفي إعلان الحرب وعقد الصلح"
دستور 71، مادة 182
" ينشأ مجلس يسمى "مجلس الدفاع الوطني" ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظرفي الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويبين القانون اختصاصاته الأخرى."
طبعا اللمّاح سيكتشف أن وظيفة مجلس الدفاع تم تضخيمها من وظيفة استشارية إلى وظيفة اختصاص بالنظر وهي توصيف يشي بقصر النظر في مسائل الأمن القومي على المجلس وإلزامية هذا النظر. أي أن المجلس تحول لأعلى جهة سلطوية تنظر في هذا الشأن.
 الآن - نرى مسودة دستور مصر بعد الثورة التي قامت على النظام شبه العسكري ونادت بالحرية والديمقراطية، والتي يُشاع أنها تخلصت من حكم العسكر للمرحلة الانتقالية.




مسودة دستور 14 أكتوبر 2012، مادة 196
 "ينشأ مجلس للدفاع الوطنى ، يتولى رئيس الجمهورية رئاسته ، ويضم فى عضويته رئيسى مجلسى البرلمان ورئيس الوزراء ، ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة ورئيس أركان القوات المسلحة وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوى ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات العسكرية والاستطلاع.
و(يختص بالنظر) فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ، ومناقشة موازنة القوات المسلحة على أن تدرج رقما واحداً فى ميزانية الدولة ، ويجب أخذ رأيه فى مشروعات القوانين المتعلقة بالقوات المسلحة ."
الأقل لماحة سيكتشف بسهولة حجم التحول الحادث! تحدثت المادة عن التشكيل (لتحصنها دستوريا فلايمكن تغييرها إلا بعد 10 سنوات)، وجعلت التواجد العسكري كثيف (نتناول هذا بالسف)، وحافظت على الوظيفة المتضخمة والملتبسة، وأضافت لها وظائف أخرى (نناقشها) بالأسفل.
 التجربة الثانية:
 نقارن بين وضعية مجلس المؤسسة العسكرية بوثيقة السلمي (المُعدّلة) وقانون مجلس الدفاع الوطني (الذي أصدره طنطاوي في نفس يوم الإعلان الدستوري المكمّل ولم يلغه د مرسي حين ألغى الإعلان!) ويقارن بينهما وبين المسودة –
 مسودة السلمي المعدّلة
"وأن ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع والأمن القومي الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، كما يختص بنظر ميزانية القوات المسلحة، على أن يتم إدراجها رقما واحدا في موازنة الدولة، ويحدد القانون تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي واختصاصاته الأخرى، ويعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد أخذ رأي مجلس الدفاع والأمن القومي وموافقة مجلس الشعب"

 قانون مجلس الدفاع الوطني الصادر بتاريخ 18 يونيو 2012






 سنجد تقاربا يصل لدرجة المطابقة في بعض التعبيرات. وتقارب من تشكيل مجلس الدفاع الوطني لطنطاوي مع تخفيض العسكريين قليلا
 وهنا تسائل نفسك سؤالا هاما:
إذا كان مايريده العسكر لوضعية المؤسسة العسكرية بالدستور قد تم إقراره (بل تم رفع قانون مجلس الدفاع الوطني إلى مستوى الدستور ليتم تحصينه لعشر سنوات!)  فلم كان النزاع إذن؟ ومامنطق الإعلان الدستوري المكمل؟ أليس لكي يضمن العسكر وضعيته بالدستور كما هو حاضر الآن؟ نعم – ولكن لشيء آخر كذلك وهو تضمين الدستور إعادة انتخابات الرئاسة، وهذا مانجح تغيير القيادة العسكرية بتجاوزه وبتوافق مع المؤسسة العسكرية ذاتها.

 ملاحظات على المواد التفصيلية
 مادة 198 بالمسودة - الجمع بين القيادتين العسكرية والسياسية
وظيفة وزير الدفاع وهي بالأصل وظيفة سياسية والقائد العام للقوات المسلحة وهي المنصب العسكري الأرفع وهذا يقود لخلل كبير سياسيا واستراتيجيا.
سياسيا – فإن هناك فرصة عالية إما لتسييس الجيش إذا ضعف الوزن السياسي للمؤسسة العسكرية في مقابل الفريق المتغلب على السلطة التنفيذية، أو لتدخله في ملفات السياسة التفصيلية إن حدث العكس، كما أنه يسبب عدم استقرار الوضع القيادي العسكري للجيش؛ إذ يتغير مع كل حكومة.
واستراتيجيا ففضلا أنه يشغل وقت واهتمام القيادة العسكرية بدولاب العمل التنفيذي اليومي للدولة ومجلس الوزراء،فإنه يقود: إما أن تتغلب الرغبة السياسية على التقدير العسكري في حال سيطر الرئيس على وزير الدفاع (كما حدث في 73 وقاد للثغرة)، أو العكس إن استقوى وزير الدفاع على الرئيس ويسمي مايصفه الاستراتيجيون بعسكرة الاستراتيجية (أي تغليب الخيارات العسكرية في مساحة استراتيجية الأمن القومي) أو تكتكة الاستراتيجية (أي تغليب النفَس التكتيكي والعملياتي على الاستراتيجي ويضعف من قدرة الدولة على استخدام الأداة العسكرية بشكل سياسي).

بالطبع الجمع بين القيادتين لم يكن موجودا قبل ثورة يوليو، وكان أول من قام به عبدالناصر لضمان السيطرة على الجيش بأن جمع المنصبين لعامر وسط اعتراض من آخرين، ثم في 1962 - رفع عامر لمستوى القائد العام ونائب القائد الأعلى، وتحته يأتي وزير الدفاع (!) وهذا التشوّه في منظومة القيادة السياسية والعسكرية متسبب بشكل أساس في نكسة 67 كما أشار الجمسي وأمين هويدي، ثم عاد الوضع ثانية للجمع بعد النكسة حتى يومنا هذا.أنا أقدّر أننا نحتاج المؤسسة العسكرية بذاتها أن تدرك أهمية الفصل، وأنه قد تمر فترة يكون الحل العملي أن ينشأ وزير دفاع مدني (عسكري سابق) حتى تتوافر القدرات الفنية عند المدنيين، وستبقى وزارة الدفاع ذات العنصر المدني فترة من الزمن تحاول أن تطوّر نفسها وهيمنتها على القوات المسلحة وقد تصل الفترة لعقد كامل (كما في تجارب أسبانيا وأمريكا اللاتينية) .. ولكن - إن لم تقبل المؤسسة العسكرية الآن فقد تقبل غدا أو بعد عام حين تدرك أهمية الفصل في ظل نظام سياسي ديمقراطي متقلب. مانُحرّمه - أن نقرّ هذا الوضع البائس ونحصّنه دستوريا! 

 مجلس الدفاع الوطني - مادة 196 ، ومادة 152
 فكرة أن ينشأ مجلس أمن قومي، أو مجلس دفاع وطني، ظهرت في أمريكا بمرسوم 1947 للأمن القومي حين ظهرت الحاجة لمجلس أشب ببيت خبرة للحكومة ليناقش أنواع ودرجات التهديدات للأمن القومي والاستراتيجيات المقترحة ويقدم كل هذه الخيارات لصانع القرار ليتخذ قراره من بينها، وأحيانا تأتي له استشارات من الكونجرس كذلك. وأغلب الدول بدأت تتبنى هذا النمط ولكن هناك ثلاثة شروط أساسية تتفق مع النموذج الديمقراطي لهذا المجلس: أن يكون استشاريا ولالبس في هذا، وأن يكون من المدنيين بالإضافة لمستشار عسكري وآخر مخابراتي، وألا يرتبط بسلسلة القيادة العسكرية أو السياسية (أي لاتتنزل منه المهام العسكرية أو السياسية). وهذه دراسة تتناول الموضوع بتفصيل مع عرض لنماذج متعددة






 وتبعا لهذا - كان مجلس الدفاع الوطني المصري - بغض النظر على مدى جديته (أصبح شيئا صوريا منذ السادات).. وصدر قانون مجلس الدفاع الوطني لعام 68، واستمر حتى تنحي مبارك، وتشكيله كان الرئيس ووزراء الوزارات السيادية والخدمية الهامة (ليس فيه محل لرئيس البرلمان لأنه معين للسلطة التنفيذية) ووزير الدفاع ومدير المخابرات، ويمكن للرئيس توسيع قاعدة حضوره.
 وحين نقارن تشكيل مجلس الدفاع الوطني المرفق بالمسودة، نجد أن التشكيل بالمسودة عبارة عن:سبعة عسكريين، ستة مدنيين منهم الرئيس، مدير المخابرات (عسكري في الحالة المصرية)، وزير الداخلية (مسئول أمني)
 طبعا ممكن أن نختلف هل هذا المجلس عبارة عن أغلبية مدنية أو عسكرية طفيفة، أم تعادل. لكن هناك قاعدة هامة في تفسير سلوك هذه المجالس وهل تميل منتوجاتها ناحية العسكر أو المدنيين: التواجد الكثيف للعسكر مع المدنيين - ليس بشرط أن يكونوا أغلبية مريحة أو طفيفة - على نفس المستوى السلطوي عند اتخاذ القرار يقهرهم. ولهذا فتركيب مجلس الأمن القومي التركي قبل أردوغان (حين كان وصيا على تركيا) كان: خمسة عسكريين، وخمسة مدنيين منهم الرئيس، ووزير دفاع مدني.

 أما الصلاحيات فهي أسوأ من الصلاحيات التي نصت عليها وثيقة السلمي المعدّلة لزيادة أخذ الرأي في بعث القوات للخارج وتحصين التشكيل:
 - يبقى المجلس (مختصا بالنظر)  في شئون تأمين البلاد وسلامتها
  1.  لايوجد نص الآن على رقابة برلمانية سواء على الموازنة أو الميزانية، ولكن (مناقشة) (للموازنة) في مجلس أغلبيته تنفيذيون وعسكريون على نفس المستوى. والفرق دقيق بين الموازنة والميزانية.. الموازنة هي تصور إحدى الوزارات لحجم الإنفاق المستقبلي ولابد للبرلمان أن يقرها، أما الميزانية فهي المراقبة على الإنفاق ولاحديث عنها هنا. وحين تذهب الموازنة رقما واحدا للبرلمان فهو لايستطيع أن يعدّل بها أو يحدد مدى موضوعيتها لأن التعديل يرتبط بمناقشة البنود التفصيلية.
  2. تبقى مادة أن المجلس يجب أن يؤخذ رأيه في التشريعات، ويزيد عليها أن يؤخذ رأيه في الحرب وإرسال القوات المسلحة للخارج.
والنص على (أخذ الرأي) هو عتبة سياسية لابد لمتخذ القرار أن يمر بها، ومع مجلس غالبيته عسكرية فهي تؤول إلى قهر متخذ القرار ذاته. الدستور التركي قبل أردوغان كان فقط يشير أن يبعث مجلس الأمن القومي وجهات نظره للحكومة، ولكن مآل ذلك كان الوصاية بوضوح.. ولهذا حين أتى اردوغان استغل ضغط الاتحاد الأوروبي لينص على الرأي الاستشاري وأن الحكومة هي صاحبة الحق في الأخذ بآراء المجلس من عدمه.
 في هذا الرابط النصوص الدستورية التركية عن مجلس الأمن القومي قبل وبعد أردوغان.




 ماأود أن أختم به الحديث عن وضعية المؤسسة العسكرية بالدستور أمران ذكرتهما في الحلقة الأولى - يمكنكم مراجعتها - عن احتكار الرئيس لتعيين الموظفين العسكريين (القيادات) في معزل عن البرلمان وهذا يقود إما للوصاية العسكرية عليه واستدامتها أو للتسييس، والثانية - هي المادة الكارثة في حضورها وغيابها معا بخصوص حق استدعاء الجيش لحفظ الأمن الداخلي.
 هناك مادة كذلك لم أعلق عليها لأنها مبهمة ونحتاج لنرى المذكرة التفسيرية لها.. مادة أن هناك مجلس أعلى للقوات المسلحة. النقطة المبهة هي من يكون (رئيس) هذا المجلس، لأنه لو كان القائد العام ووزير الدفاع فهذا كابوس.
ولاأعرف كذلك مافائدة النص على هذا دستوريا إن كان رئيس الجمهورية هو رئيس هذا المجلس، لأن القيادة العامة للقوات المسلحة تتسمى تلقائيا باسم (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) حين يحضرها الرئيس!

  الخلاصة
وضعية المؤسسة العسكرية بالدستور هي عثرة ديمقراطية ضخمة في سبيل تحول ديمقراطي، ومسودة الدستور للأسف هي نتاج تفاهمات بائسة واعتبارات فئوية سقيمة.
ربما يكون موقف الإخوان مفهوما من هذه الوضعية منذ عام كامل، ولكن لماذا تقبل بعض القوى والرموز المدنية بهذه الوضعية؟! أقول لكم - خوفا من سيطرة الإخوان على الجيش. ولكن الفقر المعرفي في هذه المساحة حرم هذه القوى من إدراك وسائل أكثر ديمقراطية لمنع تسييس الجيش واختراقه، كجعل المسائل الهامة (سواء قرارات أو سياسات أو تعيينات) يشترط لها أغلبية ثلثي البرلمان، وإشراك السلطة القضائية في مسألة استدعاء الجيش للوضع الداخلي، أو في فترة غياب البرلمان.
 وهذه لينكان لتصورات قدمتها من قبل -وهي منشورة- حول صياغات أمثل لوضعية القوات المسلحة بالدستور.
 أفكار أولية حول وضعية العسكر بالدستور






 صيغة لي نشرها د معتز عبدالفتاح في مقال له






صيغة مقترحة لوضعية المؤسسة العسكرية بالدستور






 تدوير العلاقات المدنية العسكرية وإرهاصات النموذج المصري






 شكرا على صبركم على هذه التطوافة الشاقة، وأحسب أني حاولت الاجتهاد فيها ماوسعني - سواء أصبت أم أخطأت.
————————–
د محمد بريك
باحث دكتوراة في الاستراتيجية العسكرية - جامعة ريدينج - بريطانيا
ماجستير الاستراتيجية العسكرية - جامعة ريدينج
استشاري عيون وزميل كلية الجراحين الملكية لطب العيون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق