الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

د. أحمد كمال أبوالمجد يكتب عن: دور العقل فى تطبيق الشريعة الإسلامية (2 ـ 2)

القيمة العليا الكبرى لمبادئ الشريعة

أنها تفتح باب الاستجابة الواعية الراشدة لرعاية المصالح المتجددة

فى نهاية هذه الدراسة نقدم ملاحظتين مهمتين نرى أنه من شأنهما تقريب المواقف التى شرحناها وعن طريق بيان الآثار العملية المترتبة على الفهم الواضح لمعانى الكلمات التى اشتمل عليها نص المادة الثانية من دستور 1971 والتى يتجه النظر ــ أو أحد النظرتين على الأقل ــ إلى إبقائها على حالها دون تعديلها تعديلا من شأنه أن يخلق «مواضع» جديدة للخلاف والشقاق والتصادم فى جيل لا يكاد يستمتع بشىء أكثر من استمتاعه بالحروب الأهلية، ولا يكاد يعجز عن شىء عجزه عن «الصبر على قتال العدو والإصرار على التفوق عليه» وعلاج ذلك كله واقع على أكتاف الحكام أصحاب القرار فى مؤسسات الدولة وعلى أكتاف النخبة التى نسميها أو تسمى نفسها «النخبة المثقفة» وهى نخبة وصف القرآن آحادها بوصف «الرجل الرشيد» ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا «الرجل الرشيد» الذى صار ــ بيننا ــ أندر من «الكبريت الأحمر» كما يقول المثل العربى.

الملاحظة الأولى:
أننا نرى أن الإشارة إلى «أحكام الشريعة» لا تضيف جديدا على الإطلاق اللهم إلا الاستجابة ــ غير الجائزة ــ لأوهام الذين لا خبرة لهم ولا دراية بأمور التشريع.. فالأحكام فى المصطلح الأصولى الفقهى هى «خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، طلبا أو نهيا أو تخييرا أو وضعا»، وهى إشارة يفهمها حق الفهم أهل الاختصاص بالعلوم الشرعية… أما المبادئ فهى ما يسميه بعض علماء الأصول القواعد الكلية وهى المبادئ العامة الحاكمة للتشريع فى «فروع التكليف» فى الفروع والجزئيات ومن القواعد الكلية التى نعبر عنها اليوم «بالمبادئ العامة» ما يلى: 
                ● ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
                ● التابع تابع.
                ● المشقة تجلب التيسير
                ● درء المفاسد مقدم ــ عند الترجيح ــ على تحقيق المنافع.
                ● من استعجل الشىء قبل أوانه عوقب عليه بحرمانه.
والقيمة العليا الكبرى لهذه المبادئ أنها تفتح باب الاستجابة الواعية الراشدة لرعاية المصالح المتجددة.. وهذه الرعاية هى جوهر التجديد الذى يرتفع به الحرج ويتحقق اليسر الذى أراده الشارع سبحانه لعباده «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، وتخرج به الأمة كلها خاشعة القلب مرفوعة الرأس رائدة لنهضة ثقافية وحضارية تقود بها موكب البشرية كله إلى الرحمة والسماحة والرفق وتحقيق سلام عالمى لا أمل فى تحقيقه فى ظل حضارة مادية تضع «الشىء» «فوق الإنسان» جاعلة شعارها العملى الذى تمارسه فى عدوانية متوحشة شعارها يقول «اقتله قبل أن يقتلك، واقطع رأسه قبل أن يقطع رأسك»، أما نحن المصريين ونحن العرب ونحن المسلمين فإن سلوانا جميعا وشعارنا الذى ينبغى أن يملأ عقولنا وقلوبنا وأن يحدد مواقفنا مع بعضنا البعض ومع جميع شعوب الأرض نستمده من قول الله سبحانه «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وهى ركن الأركان فى الحكمة الإلهية من بعث الرسل والأنبياء «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

الملاحظة الثانية:

إن النصوص مهما أحكمت صياغتها لن تحقق ــ القصد من وراء تشريعها إلا إذا جرى تطبيقها فى بيئة ثقافية تؤمن بالقيم الإنسانية الكبرى التى جاءت النصوص لتطبيقها.. وهذه هى الثورة الثقافية السلمية التى تسعى لتحقيقها، فتعالوا نرفع أصابعنا عن آذاننا وأن ننشغل بعيدا عن الملاسنات والمصادمات ننشر ثقافة الخير والعفو والتسامح وأن يردد كل واحد منا لدعاة الشقاق والصدام مقالة رسول الله (ص) حين دعاه داعٍ إلى أن يدعو على المشركين فأجابه إجابة نحتاج اليوم إلى التأسى بها «إنى بعثت رحمة ولم أبعث لعانا».

وبعد.. فهذا كله رأى.. دفع اليه الحرص على ألا تتوه قضية تطبيق الشريعة الإسلامية تحت ركام جدل طويل.. وألا يُخَير المسلمون بين موقفين متطرفين جعل الله لنا سعة فى التوفيق بينهما..

كما دفع إليه الحرص على أن يكون خطونا على طريق الإسلام خطوا موفقا رشيدا تظلله السماحة، ولا يعكر صفوه ضيق الصدر أو ضيق الأفق.

وقد يكون ضروريا ونافعا أن نُذكِّر المشاركين فى الحوار الدائر حول «تطبيق الشريعة» وأن نضع بين يديهم جميعا أن الفقه الإسلامى فى شأن منهج تطبيق الشريعة الإسلامية فى عصرنا ثلاثة أنواع، لا يمكن الاستغناء عن واحد منها:
  • أولها: فقه المقاصد الذى يكشف عن «الهدف القائم» وراء كل حكم شرعى.. وهو كشف يشمل «الحكمة» من التشريع الجزئى، كما ينتقل بعد ذلك من الحكمة إلى العِّلة التى يعرّفها علماء أصول الفقه الاسلامى بأنها «الوصف الظاهر المنضبط الذى يترتب الحكم على وجوده» بحيث يدور معه الحكم وجودا وعدما» ويعبر علماء الأصول عن حالة زوال العلة بأنه «انخرام» أو ثغرة لا يقوم مع وجوها الحكم التكليفى.
  • ثانيها : فقه الأولويات، سواء كانت أولويات شرعية مردها المكانة الشرعية النسبية للمصالح التى يسعى الحكم إلى رعايتها أو جسامة الضرر الذى يسعى الحكم إلى تجنبه وغنى عن الذكر أن هذه الأولويات يرصدها ويحددها «أهل الذكر» من علماء أصول الفقه، أو من خبراء السياسة، ومن قراءتهم جميعا وقراءة المشهد المحيط بتطبيق أحكام الشريعة، إمتثالا لقوله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» ((النحل: 43)).
  • ثالثها: فقه العواقب والمآلات وهو فقه قائم على القراءة الموضوعية الدقيقة للواقع المجتمعى.. سعيا إلى تصور النتائج الطيبة التى تترتب على تطبيق النصوص الجزئية والمخاطر والعواقب السيئة التى قد يؤدى إليها ــ فى حالات بعينها ــ ذلك التطبيق، وهذا النوع الثالث يقترب مما يسميه علماء السياسة المعاصرين «علوم المستقبل» Futurology، وقد تجاوز هذا العلم الجديد منهجه الذى بدأ مزيجا من تحليل الواقع وتخيل المستقبل ليصبح علما بالغ الأهمية يقوم على تحليل الظواهر المجتمعية على اختلافها تحليلا علميا ومتقنا يدخل فى حسابه حجم الظاهرة، واتجاه حركتها وسرعة تلك الحركة، ثم إقامة بناء افتراضى لصورة المستقبل وعناصره فيما هو آت من الزمان، وجدير بمراكز البحث فى مجتمعاتنا العربية أن تتابع هذا المنهج وأن تدرب الساسة والعلماء عليه تدريبا علميا وعمليا منتجا.
كم كنا نتمنى أن يكون هذا القدر من الدراسة متاحا لكل من يشارك فى وضع الدستور الدائم لمصر، وفى حراسة وترشيد السعى لتطبيق الشريعة تطبيقا يحقق العدل ويحمى الحرية، ويعزز المصالح المشروعة لكل من تطبق عليهم أحكام الشريعة.. وأن يبتعد عن ساحة هذا الجهد المشكور من كانت كل حصته من العلم نية طيبة وأمنية حسنة فى أمور تحتاج إلى دراسة متأنية أو معرفة متراكمة، وتخصص ضرورى.. وهى أمور وشروط لا تغنى عنها سوانح الخواطر المتعجلة فى أمرٍ له أثره الكبير على أوضاع الناس جميعا آحادا ومجتمعين، وهو أثر يتجاوز الحاضر داخلا بالأمة كلها ــ على كف الزمن ــ إلى المستقبل بمراحله كلها.

ولعل خير ما نقترب به من ختام هذا الجزء من هذا البحث أن نضع بين جميع المشاركين فى السعى لتطبيق الشريعة الاسلامية فى مصر نزولا على نص المادة الثانية من الدستور ــ كلمات حكيمة هادية ــ قدمها الفقيه الحكيم شمس الدين ابن القيم فى مقدمة كتابه «الطرق الحكيمة» حيث عقد فصلا عنوانه «المصلحة» واصفا إياه بأنه «مقام صعب ومعترك ضنك، وأنه مزلة أقدام ومضلة أفهام فرَّط فيه أقوام فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا بذلك على أنفسهم وعلى الناس طرقا كثيرة من طرق الحق والخير ظنا منهم أنها تنافى الشريعة، ولعمر الحق أنها لم تناف الشريعة، ولكنها نافت ما فهموه هم من الشريعة، والذى أحدث لهم ذلك نوع تقصير فى معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر».. ثم يختم ابن القيم هذه الكلمات الحكيمة الواعية بعبارة واضحة نحتاج جميعا إلى تذكرها هذه الأيام يقول فيها «أعلم أن الشريعة عدل كلها وقسط كلها ورحمة كلها، وأن كل مسألة خرجت من العدل إلى الظلم ومن القسط إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل».

وتعبيرا عن هذا المنهج العلمى الرشيد جاءت الكلمات الهادية التى تركها لنا رسول الله (ص) يُمجِّد بها «اتفاقا» تم فى صورة حلف تعاهد على احترامه عددٌ من أهل الرأى والحكمة قبل بعثة النبى (ص) وقد تعاهد المشاركون فيه على نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف والضرب على يد الظالم ــ يقول الحديث «لقد شهدت فى دار ابن جدعان حِلفا ما أحب أن لى به حُمر النعم، ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت» وهذه الكلمات الهادية تذكرنا من جديد بأن الشرائع ليست حروفا ولا نصوصا جامدة، ولكنها انفتاح على الحكمة وسبيل للإصلاح الراشد وأن «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها» ــ وهو عين المعنى الذى تشير إليه الآية الكريمة «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق