الاثنين، 29 أكتوبر 2012

الدستور والشريعة الإسلامية — وائل غنيم

 جدل كبير يحدث الآن في المجتمع حول مواد الدستور، ولقد شاءت الأقدار أن أكون مطلعا وحاضرا وشاهدا على الكثير مما يدور من نقاشات داخل وخارج الجمعية التأسيسية وكذلك الأفكار التي تطرحها الرموز الوطنية من الأزهر وقيادات التيار السلفي والإخوان المسلمون والتيارات الليبرالية والقومية واليسارية والمستقلون غير المحسوبين على هؤلاء أو هؤلاء. وقد وجدت بعد هذه الرحلة أن هناك الكثير من المعاني يجب أن تصل للشارع المصرية لأنها قد تغير من مسارات النقاش. ولعلمي مسبقا أن هذه القضية هي شديدة الحساسية عند الكثيرين، فأرجو أن يكون النقاش هادئا وعاقلا نستفيد منه جميعا. 

(-) نصت المادة الثانية في دستور مصر ما قبل الثورة على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وبالرغم من الخلاف الذي يدور في الشارع بين التيار الإسلامي (الذي يرى أن هذه المادة شكلية وتفريغ للشريعة من مضمونها) والتيار المدني (الذي يرى أن هذه المادة كافية وتؤدي المطلوب منها من تحقيق مقاصد ومبادئ الشريعة الإسلامية) إلا أن هذا الخلاف ينقصه الكثير من التفاصيل التي من حقنا جميعا أن نطلع عليها. وسأحاول في هذه المقالة توضيح بعض من هذه التفاصيل.

(-) تُعرّف المحكمة الدستورية العليا "مبادئ الشريعة الإسلامية": بأنها الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالاتها والتي لا يجوز معها أي اجتهاد. وقد أوضحت المحكمة الدستورية في حكمها في إحدى القضايا المحالة لديها ما يلي: "لا يجوز لنص تشريعي، أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالاتها، باعتبار أن هذه الأحكام هي التي يكون فيها الاجتهاد ممتنعا، ولا يتغير مفهومها بتغير الزمان والمكان". [مقتبس من أوراق القضية رقم 29 لسنة 1994]

(-) تُحدد المحكمة الدستورية العليا ضوابط "الاجتهاد": بأنه ينحصر في الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو دلالتها أو بهما معا. وأنه يجب أن يكون واقعا في إطار الأصول الكلية للشريعة، متحرّيا لمناهج الاستدلال على الأحكام العملية، وكافلا صوت المقاصد العامة للشريعة الإسلامية". [مقتبس من أوراق القضية رقم 5 لسنة 1996]

(-) هذه التعريفات وللأسف لا يعرفها الكثيرون من أبناء التيار الإسلامي، وبل ويعتقد بعضهم ويردد أن المحكمة الدستورية هي رأس حربة "محاربة الدين" كما سمعت من بعضهم، وهذا وللأسف نتيجة أن أغلبنا كمشاهدين لهذه المعارك النخبوية (لنخبة لا تقرأ إن قررنا إحسان الظن بهم أو تخدع جماهيرها إن قررنا إساءة الظن بهم), لم يطلع على الكثير من أحكام المحكمة الدستورية السابقة، والتي يظهر فيها جليا كيف أن المحكمة تدرس مختلف القوانين دراسة فقهية مستفيضة وتحكم بالفعل بعدم دستورية القوانين إذا وجدت المشرع قد خالف قطعي الدلالة وقطعي الثبوت في الشريعة الإسلامية أو أن اجتهاداته لا تقوم على المناهج العلمية الفقهية المعتبرة.

(-) الدساتير تحدد المبادئ العامة التي يقوم على أساسها المشرع بصياغة القوانين (والمشرع في الدولة الحديثة هو مجلس الشعب المنتخب من الشعب). ولا تتناول الدساتير الأحكام التفصيلية التي قد تتغير بتغير الزمان والمكان أو تفاصيل مكانها القوانين، لأنها تترك هذا الأمر للمشرع واجتهاده. وإلزام المشرع (مجلس الشعب) بأحكام تعتمد على مذهب معين أو رأي فقهي معين هو أمر لا يستقيم ديمقراطيا وكذلك لا يستقيم شرعا وإلا لما كنا نرى في الإسلام مذاهب الأئمة الأربعة أحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرها من المذاهب الفقهية. 

(-) الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع هي أن تطبيق الشريعة يكون عبر عدم مخالفة قوانين الدولة للشريعة خاصة وأن في عصرنا الحديث الكثير من الأمور المستحدثة التي لم تكن موجودة في تراثنا الفقهي الإسلامي، وبالتالي يكون ذلك بالأصل مسؤولية المشرع وليست مسؤولية من يكتب الدستور. فالمشرع هو الذي يصدر القوانين، والمادة الثانية الموجودة في الدستور بشكلها الحالي لا تقتصر على الحث على الاسترشاد بمبادئ الشريعة الإسلامية فقط بل إنها تمنع مخالفة المشرع لكل ما هو قطعي الدلالة والثبوت في الشريعة الإسلامية، وتفتح له الباب لتطبيق ما يراه هو مناسبا.
فعلى سبيل المثال: قد تقرر الأغلبية البرلمانية في مصر تمرير قانون ما يقوم على المذهب الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في قضية متعلقة بالزواج أو الطلاق أو نفقة الطفل أو تطبيق الحدود، وقد يعارضهم البعض في قرارهم ولكن يبقى أن هذا القانون سيتم تمريره إذا وافقت أغلبية مجلس الشعب عليه، وستحكم المحكمة الدستورية العليا بدستوريته إذا طعن أحدهم عليه، وذلك لأنه يقوم على اجتهاد علمي وشرعي ولا يخالف مواد الدستور. وهنا (كأي مجتمع ديمقراطي يكون للناخبين الحق في تقييم ما يقوم به المشرع وإبداء الاعتراض عليه بطرق سلمية). وإذا أدى تمرير هذا القانون لإلحاق ضرر بالمجتمع وتم بالفعل تمريره، فالمتوقع أن المجتمع سيعاقب الأغلبية البرلمانية بعدم انتخابها مرة أخرى وانتخاب غيرهم لتصحيح الأوضاع.

(-) تعرض الكثير من أبناء التيار الإسلامي قبل الثورة لعزل قهري (عبر الاعتقال والمطاردة والمنع من التعيين) وانعزال اختياري (عبر فقدان الثقة في المجتمع وتفضيل الانعزال عنه) مما أدى لعدم انخراطهم في المناصب العليا لإدارة الدولة وغياب التجربة العملية لديهم في علاج مشاكل المجتمع من على قمة الهرم (عبر القوانين والتشريعات) بالرغم من محاولاتهم الدائمة لعمل ذلك عبر قاعدة الهرم (عبر التبرعات والمساعدات).
أدى هذا إلى انحصار أفكارهم في دائرة "النظريات" التي تُنَاقش على منابر المساجد، مما فتح بابا كبيرا لعدم تقدير الأمور بقدرها وغياب الوعي والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد وأولويات المجتمع المترتبة على أي قرارات، كما جعل بعض تلك النظريات تمثل حاجزا كبيرا عند أبناء التيارات المصرية الأخرى وأدت أيضا لرفع درجة العداء بين هذه التيارات في معركة الدستور، فرأينا التيار الإسلامي يراها "حربا ضد الإسلام ممن يكرهون شرع الله" من ناحية، والتيارات الأخرى تراها "حربا لفرض الاستبداد والسيطرة من تجار الدين" من ناحية أخرى. 

(-) كتبت بعد انتخابات الرئاسة مباشرة نصيحة لأبناء التيار الإسلامي، أن يعرفوا أن مصر دولة واحدة من مصادر قوتها هو التنوع الثقافي والفكري بها، والدول المتقدمة في العالم اليوم تشترك أغلبها في اختلاف ثقافات وأفكار أبناء شعوبها. وقد رأينا هذا التنوع جليا هذا في الجولة الأولى للانتخابات، حيث حصل المرشحين من خارج التيار الإسلامي على ما يزيد على 65% من أصوات الناخبين بل وحتى الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح انتخبه الكثيرون ممن هم مثلي ولا يحسبون على تيار الإسلام السياسي. وبالتالي فهل يمكن اعتبار ذلك مؤشرا على أن الشعب لا يريد الإسلام ولا يريد الشريعة، بنفس المنطق الذي يتحدث به بعض أبناء التيار الإسلامي على أن فوزهم بنسبة تتجاوز 67% في انتخابات مجلس الشعب هو الدليل الأكبر على أن الشعب يريد الإسلاميون في الحكم ولا يريد غيرهم؟ 

(-) الحقيقة في أن فوز التيار الإسلامي في الانتخابات التشريعية الأولى ليس دليلا على أنهم يمثلون 67% من الشعب، بل له الكثير من الأسباب منها: أن الشعب لا زال في بداية تجربة الديمقراطية، والتيارات الإسلامية هي الأكثر تنظيما وتواجدا على الأرض منذ سنوات طويلة، والأحزاب الناشئة أضعف تنظيما وحشدا وتمويلا منها ولم يكن باستطاعتها تقديم بديل مُقنع للشارع، وأخيرا وهذا هو الأهم: لم يجرب الشعب سوى الحزب الوطني على مدار عقود طويلة، وبالتالي فهو الآن في مرحلة التجربة للتعرف على قدرة كل فصيل في تحقيق ما يعد به الناخبين. وقد لحظنا تغيرا كبيرا في انتخابات الرئاسة مقارنة بانتخابات مجلس الشعب، حيث أن قائمة الحرية والعدالة في الانتخابات التشريعية حصلت على 10 ملايين صوت انتخابي، بينما حصل الدكتور محمد مرسي في الجولة الانتخابية الأولى على خمسة ملايين صوت فقط، فهل نفسر ذلك بأن شعبية الاخوان انخفضت إلى النصف؟ أو أن الشعب لا يريد انتخاب المرشح "الوحيد" الذي سيطبق الشريعة على حد تعبير أحد الدعاة المشهورين والذين رافقوا د. مرسي في كل جولاته الانتخابية في المرحلة الأولى؟ 

(-) إن استئثار التيار الإسلامي برؤية أحادية لمستقبل الوطن وتصوير هذا الأمر على أنه "هو دين الله"، واتهام غيرهم والمختلفين معهم بتهم مثل "كراهية شرع الله"، و"مخالفة الدين"، والرغبة في "نشر الانحلال والانفلات الأخلاقي في المجتمع"، بل والكفر في بعض الأحيان (راجعوا فتوى الشيخ مازن السرساوي بأن من يوافق على مادة المبادئ في الدستور بشكلها الحالي فهو آثم آثم آثم ويصل لدرجة الكفر)، سيؤدي في النهاية للإضرار بمصلحة هذا الوطن الذي عانى عبر عقود طويلة من الاستبداد والقهر، ويعاني اليوم من أزمات اقتصادية تتطلب وعيا حقيقيا ورغبة في الوصول إلى حلول تعالج من أزمة الثقة ولا تجعل رؤية مستقبل الوطن هو حكر على تيار بعينه. فنحن جميعا شركاء في هذا الوطن، وعلى الدستور أن يحقق الحد الأدنى من التوافق بيننا، ونترك الخلافات للقوانين فمن يحصل على الأغلبية يشرع القوانين التي يراها مناسبة، ومن يعارضهم عليهم السعي للفوز بثقة الأغلبية وتغيير هذه القوانين.

(-) ليتذكر الإخوان المسلمون أن د. مرسي رئيس الجمهورية لم ينجح إلا بأصوات هؤلاء المصريون الذين لم يعطوه أصواتهم في الجولة الأولى لعدم اقتناعهم بما قدمه الحزب أو الجماعة أو الرئيس، ولكنهم قرروا اختياره في الجولة الثانية بعد أن سمعوا وعوده بتحقيق التوازن في الجمعية التأسيسية وبدفع حزب الأغلبية للدفع لدستور يعبر عن مختلف التيارات المصرية ولا يحتكر رؤية مستقبل الوطن، وبمشروع وطني جامع لكل المصريون. وأن عدم الوفاء بتلك الوعود في هذه اللحظة التاريخية سيعمق من الشرخ ويزيد من أزمة الثقة ويهدد مستقبل سفينة الوطن.

(-) أخيرا: يحتاج أبناء التيار الإسلامي والتيارات المدنية كل بنفس القدر أن يتذكروا أن هذه الثورة ما قامت إلا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذه هي في حقيقة الأمر الأولويات الحقيقة للمجتمع في هذه اللحظة التاريخية، وهي بالضرورة أيضا من مقاصد الشريعة الإسلامية. فنحن نعيش في مجتمع يعيش 40% تحت خط الفقر، مجتمع أكثر من 35% لا يعرف القراءة والكتابة، ويعاني أكثر من 50% من أبنائه من أمراض مزمنة في ظل خدمات صحية متردية، ويعاني أكثر من 30% من شبابه من البطالة. مجتمع مقدم على أزمة اقتصادية حقيقية في ظل ديون سابقة تجاوزت التريليون (ألف مليار جنيه!) جنيه مصري تدفع عليها مئات المليارات من الفوائد سنويا تستهلك 25% من الموازنة العامة للدولة، وفي ظل العجز الشديد في موارد الدولة، والذي لا سبيل لإصلاحه سوى بتحقيق استقرار سياسي يشجع مناخ الاستثمار ويفتح الآفاق لنهضة حقيقية تقود الأمة لتحقيق أحلام وطموحات أبنائها. 

عيش - حرية - كرامة إنسانية - عدالة إجتماعية
وائل غنيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق