الثلاثاء، 20 مارس 2012

أعرفه أكثر من ذاتي ! …………. إسلام هجرس



أعرف عبدا من عباد الله يولد الليلة للمرة الثانية والعشرين : لا يخالف نواميس البشر ؛ فيعترض على سرعة العد وبطء النوال : لكن نواميس البشر تخالف ناموسه الشخصي ؛ فتغرس في وعائه من الطفولة نقاءها ، ومن الشباب حماسته وشغفه بحياة غير ودودة ، ومن الشيخوخة همها واحتمالها … هكذا يعرف عن نفسه (كما أخبرني) .
*
أعرف عبدا من عباد الله ينهي صفحة من صفحات عمره كاتبا ؛ فتردها له الذكرى قارئا ، ويختم حلقة من حلقات حياته منتجا ومؤديا ومخرجا ؛ فيكررهها له الأثير مشاهدا وناقدا .
*
أعرف عبدا من عباد الله تعلم في الحياة في بضعة شهور ما لم يتعلمه في خمس قرن من الزمان ، فصار احتفاله بالميلاد الجديد ملحمة تليق به وحده ، وبخاصته وحدهم ، وبالقبح والجمال وحدهما ، وبالموت والحياة وحدهما ! ماذا بقي إذن ممن لن يحتفل معه وبه ؟! ربما بقي فقط ألا يفكر في من بقي أو ما بقي !
*
أعرف عبدا من عباد الله علـَّمه القرب جمال الحب ، وعلمه البعد حقيقة الحب ، فصنع في القرب ما سماه "أغلى الأحباب" ، وفقد في البعد "أغلى الأحباب" اسما ، ليكسب الحقيقة ، لم يكن مغفلا حين قرب إليه من اكتشف أنه لا يستحق ؛ فالخير مِن الخيِّرين سبيل ومشاع للقريبين والبعيدين ، لكنه خسر الكثير حين لم ينتبه إلى أمه ، وكسب الكثير حين سألها عبر العنكبوتية ذات يوم : هل في قلبك غضب مني قد يكون حائلا بيني وبين تحقيق ما أريد ؟ فقالت له : رغم أن الكلام معك كان لا يوصل إلى (عقاد نافع) وأنك متفلسف أكثر من الطبيعي ، لكنني أشهد أنك الوحيد الذي لم يَعلُ صوتـُه عليَّ ، وأنك سندي في الحياة ، وأنك "أغلى الأحباب" …
فرق كبير بين أغلى الأحباب هناك وهنا .
*
أعرف عبدا من عباد الله خسر قلبا أعز عليه من روحه ، ليفتح الله له كل القلوب ، ويحبب فيه كل من يقابله ، حتى تلاميذ وتلميذات الصفوف الأولى الذين تدرس لهم المعلمات كانوا يطلبونه بمجرد لقاء واحد معه ، وكأنهم وجدوا فيه شيئا ليس في الآخرين ، وكأنه تعويض الله الأحلى والأطيب والأحن دائما ، 
تعلـَّم كل الثنائيات والمتناقضات التي يفرضها الواقع ، لا الثنائيات التي يلجأ لها البلاغيون ليصنعوا محسنا بديعيا اسمه الطباق أو المقابلة ، فخلف البعد قرب ، وخلف الإغلاق فتح ، وخلف الفقد وجود ، وخلف الموت حياة ، حتى أصبح يتفائل بالمحن لأن التأمل الزماني أو المكاني .. الفطري أو المفتعل : سيتفتق عن منح عظيمة ، حكمة لا تـُعَلـِّمُه إياها الفلسفات ولكن تعلمه إياها الصدمات والوعكات .
*
أعرف عبدا من عباد الله دعا ربه من كل قلبه فلم يستجب الله له ، وانتحر بأقصى ما يستطيع من طرق فعذبه الله بمحاولة الموت لكنه لم يقتله ،،، ظنها في البداية كارثة كونية ، ثم اكتشف أنها فرصة جديدة للحياة ، 
قرأتُ في مذكراته دعاء حزينا يفيض بالرجاء ، استجاب الله ما وراءه من حب للخير والحياة ، ولم يحقق مضمونه الحرفي ؛ فكان ما شاء الله أجمل كما هو الأجمل دائما .
"
اللهم إن في قلب عبدك وفي قلب أمتك مضغتين تهفوان إلى إلفهما في غير معصيتك فاجمع بينهما قريبا على طاعتك
اللهم إنه لم يخلق الحب إلا أنت ولم يرزق عباده بالحب إلا أنت فاجعله نعمة لا نقمة واجعله سقيا وريا لا عطشا وظمأ
اللهم أنت تعلم ولا أحد يعلم إلا أنت وأنت تقدر ولا يقدر سواك فافعل بنا ما ينقذنا مما نعاني وما يكون خيرا لآخرتنا ودنيانا
اللهم إن حبنا إياك قد جمعنا قبل أن يجمعنا حبنا إيانا فاجعل هذا الحب بركة تحل علينا وطمأنينة تغمرنا ودفئا يضمنا وسكينة تملؤنا وصبرا يحملنا على كتفيه حتى تهب أحلامنا أرضا وأقداما ، وبيتا يجمعنا بين جنبيه حتى يكون لنا بيت فنحبك فيك ونعبدك فيه بالحب
اللهم إننا نشهدك وأنت الأعلم أن بين ضلوعنا ما لو أطلقناه في غابات الأرض لأحرقها عن آخرها وما لو صببنا عليه كل بحار الدنيا ما زادته إلا اشتعالا وليس لنا حيلة في ما لم نخلق بيدينا إلا أن نستعين بك ونتقوى بحولك وقوتك ؛ فلا تخذلنا ، ورقق لنا قلوب من جعلت أرواحنا بأيديهم فهم عبيدك كما نحن عبيدك
اللهم إنهم لا يقولون ولا يحكمون وإنما هي كلمة أنت قائلها على ألسنتهم فاجعلها بردا وسلاما على قلوبنا
اللهم إن للساعات والدقائق والثواني آلاما لا يعلمها إلا أنت فاخلق لنا من لدغ عقاربها شفاء لا يعلمه إلا أنت ، أو شفاء نعلمه ونتمناه وليس كبيرا على قدرتك التي خلقت السماوات والأرض في ستة أيام
اللهم كم دمعة لم تمسحها يد لحبيب وكم فزعة لم يطمئنها وجهه ولا صوته فكن يدنا التي نمسح بها وكن ملاذنا واطمئناننا واجعل من أبوتنا وأمومتنا ليتمنا كفالة
اللهم آنس وحشتنا واملأ وحدتنا بذكرك ورقنا إلى قمة حبنا لك وإيماننا بك كما رقيتنا إلى قمة حبنا لنا وإيماننا بنا
اللهم إننا لا نجرؤ على أن نعصيك بعد أن ذقنا حلاوة قربك لكن النار اشتدت علينا ولا نستطيع إلا أن نسألك أن ترزقنا بقوتك قوة القرب والتوحد
اللهم إن الدنيا لن تخسر شيئا إذا قضيت علينا - وما أعدلك في كل حال - ألا نتزوج لكننا سنخسر كل شيء فإن أمرت بذلك فأذن لنا أن نترك الدنيا كما تركتنا ولا تطل بقاءنا فيها واجعل لقاءنا عندك في ساعة واحدة وفي لحظة واحدة حتى لا نتعذب بالبعد ثم الفراق
اللهم إني لا أخجل بين يديك مما ليس عيبا فلو كان الحب شرا أو سبة لما عرفناك بالحب ولا عبدناك به .
اللهم إن في القلوب أضعاف ما نبوح به إليك وفي رحمتك أضعاف ما نتمني وأنت عليم بما بنا وقدير على ما نشاء إذا شئت فاستجب فأنت أهل لذلك ولسنا أهلا إلا لضعفنا وحاجتنا أو قوتنا بك واستغنائنا عمن سواك إنك على ما تشاء قدير
"
ومر الوقت ، ولم يتحقق له الحلم ، لكن لم يمت أحد ولم يتمنَّ أحد أن يموت ، ليثبت الواقع حكمته الأقوى من كل عواطف الصادقين ومن برود الآخرين .
*
أعرف عبدا من عباد الله يعرف الآن قدْر نفسه بعدما تحقق من قدر الآخرين الغالين أو التافهين ، ويعامل نفسه باحترام أكبر وبحب أعمق .. حبٍّ يجبره على حب من يستحق فقط ، وعلى تقدير من يستحق فقط .. يشكر لنفسه أن ما أودي به سابقا ليس الخبث والأنانية ، وما سينقذه لاحقا ليس الاحتيال وسوء المقصد .
*
أعرف عبدا من عباد الله لو مات الآن ، فتراثه لن يساوي جزءًا من ملايين من حلمه الكبير ، ولن يقبل على الله إلا بذنوب عظيمة وطاعات قليلة ، لكن عُدَّتـَهُ فيما سيأتي من زمن أنه ترك في الكثير من القلوب حبا كبيرا صادقا ، يجعله راضيا عن حياته ، وطامعا في رحمة الله .
*
أعرفه معرفة أكبر من معرفتي بذاتي
***
إسلام هجرس 
ليلة 21/3/2010م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق