الثلاثاء، 14 يونيو 2011

سؤال شائك: أي إسلام نتبع ونطبق؟!… عصام تليمة

علق أحد الإخوة القراء، على مقالي السابق (التطرف العلماني والتحرش بالمادة الثانية)، بسؤال كالتالي:
لا أتفق مع رأي الكاتب أن من يريدون تعديل المادة الثانية، إما إنسان يجهل الإسلام، أو إنسان يعادي الإسلام، لماذا لا يصدر طلب التعديل (وليس الإلغاء) من إنسان مسلم محب لدينه، ولكنه يجد النص الحالي غير عملي؟ أي تفسير للشريعة سنتبع في المسائل الغير متفق عليها، والتي يحق الاجتهاد فيها؟ مثلا حق المرأة وغير المسلم في الترشيح لانتخابات الرئاسة، وحق المرأة في تولى منصب القضاء أو أي مناصب قيادية؟ أرجو من الكاتب الإجابة على هذا السؤال.


وهو سؤال، يسأله كثير من الكتاب الليبراليين والعلمانيين، عندما يطالب الإسلاميون بتطبيق الشريعة، أو أنهم يؤمنون بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وقد تساءل أكثر من كاتب عن أي إسلام تدعون إليه، وأي إسلام سنطبق ونتبع؟ والنماذج كثيرة، فهل سنطبق الإسلام الوهابي، أم السلفي، أم الإخواني؟ النموذج السعودي، أم النموذج الطالباني في أفغانستان، أم النموذج السوداني، وما أكثر النماذج؟

وهنا ينبغي أن نفرق بين أمرين كثيرا ما يحدث فيهما خلط كبير، ولذا يساء إلى الإسلام من خلال تجارب أهله، نجحت أم أخفقت، ينبغي علينا أن نفرق بين: الإسلام، والفكر الإسلامي:
فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تكفل الله بحفظه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهذا الوحي له عند المسلم مكانته، من التقدير والتقديس والاحترام والاتباع، وهو يمثل أهم الثوابت التي تتفق عليها الأمة الإسلامية. وهذا الوحي ينقسم إلى قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وقطعي الثبوت ظني الدلالة، فالقرآن الكريم كله قطعي الثبوت، ولكن ليست كل آياته قطعية الدلالة، بمعنى أن كثيرا من آيات القرآن الكريم، عند التأمل فيها والتدبر لها، تعطي أكثر من معنى، مثلا، قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) المائدة: . فالنص آية لا خلاف على ثبوتها، ولكن الخلاف في حرف واحد من كلمة، الباء في رؤوسكم، هل الباء هنا للتبعيض، ومن هنا يأخذ بعض الفقهاء بأن بعض شعرات من الرأس تجزئ، ومنهم من يرى أن الباء زائدة، والتقدير (وامسحوا رؤوسكم)، والمطلوب مسح كل الرأس. ومنهم من يرى أنها للإلصاق، وهكذا، والوحي هنا يترك مساحة كبيرة لعمل عقل الفقيه المسلم، وتأمله وتقليبه النظر في النص. وكثير من النصوص ليس قطعي الدلالة، لتجتهد الأمة في فهمه، ممثلة في أهل الاختصاص فيها، في كل ما يجد لها من قضايا.

أما الفكر الإسلامي: فهو فهم المسلمين وعلمائهم لهذا الوحي، فكل رأي لإمام من الأئمة ـ فيما هو مختلف فيه ـ يعد فهما منه لهذا الوحي، وليس ملزما للأمة، ولا مقدسا لديها، قابلا للأخذ والرد، ولذا وجد في أمتنا مذاهب فقهية متعددة، لها قدرها واحترامها، ولكنها ليست موضع تقديس، بل موضع أخذ ورد، ومساحة الأخذ منها والترك كبيرة جدا.
إن الإسلام الذي يرجع إليه، وندعو إليه هنا، هو: الإسلام في ثوابته لا في متغيراته, فلا مانع أن نختلف في المتغيرات، لكن لا يمكن الاختلاف في الثوابت, وهي تمثل الجسم الرئيس للأمة، والمحور الأكبر في وحدتها، إنه إسلام الفضائل الكبرى التي لا يختلف فيها، والأصول والكليات، من حيث العدل، والحرية، والشورى، وإقامة حياة كريمة للناس، ومنع الموبقات والمحرمات، وما سماه فقهاؤنا القدامى من الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وأضاف بعضهم: حفظ النسل. وهي أمور لا يختلف فيها المسلم في فهمه للإسلام مصري عن غيره، أما مساحة الاختلاف فيما يختلف فيه، فهي مساحة تركها الإسلام لكل بيئة ومناخ، تأخذ وترجح ما يناسبها منه، بأدوات الترجيح المعلومة للعلماء، والتي يراعي الإسلام في هذه الترجيحات عند تساوي الأدلة، البيئة والزمان والمكان، وذلك ليصلح تشريعه لكل إنسان في كل زمان ومكان.

وقد اجتهد العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في وضع ثلاثين معلما للوسطية الإسلامية، تمثل مرجعا مهما يمكن الرجوع إليه، فالإسلام الذي ندعو إليه هو إسلام يدعو إلى:
1ـ الدعوة إلى العلم الراسخ، والفهم الشامل والمتوازن للإسلام. 2ـ الإيمان بمرجعية القرآن والسنة. 3ـ تأسيس العقيدة على الإيمان والتوحيد.4ـ التقرب إلى الله بالعبادات ظاهرة وباطنة. 5ـ تزكية النفس بمكارم الأخلاق. 6ـ الدعوة إلى الله بالحسنى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.7ـ ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية. 8ـ احترام العقل بجوار الوحي. 9ـ تجديد الدين من داخله، والاجتهاد من أهله في محله. 10ـ الدعوة إلى فقه جديد، فقه في الكون، وفقه في الدين، من نحو: فقه سنن الكون، وفقه مقاصد الشرع، وفقه مآلات الأفعال، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف، والفقه الحضاري، وفقه التغيير، وفقه المجتمع.
11ـ إنصاف المرأة وتكريمها، والحفاظ على فطرتها. 12ـ العناية بالأسرة وتوسيعها. 13ـ تكوين مجتمع صالح متكافل. 14ـ الإيمان بوجود الأمة الإسلامية ووحدتها والولاء لها. 15ـ إقامة الدولة العادلة. 16ـ تجنب تكفير الناس وتفسيقهم. 17ـ تقوية اقتصاد الأمة، وإقامته على أسس إسلامية. 18ـ الإيمان بضرورة التعددية الدينية والسياسية، والتعارف والتسامح بين الشعوب. 19ـ إنشاء حضارة العلم والإيمان. 20ـ الرقي بالفنون وتوظيفها في خدمة رسالة الأمة. 21ـ عمارة الأرض وتحقيق التنمية ورعاية البيئة. 22ـ السلام مع المسالمين، والجهاد ضد المعتدين. 23ـ العناية بالأقليات الإسلامية في العالم. 24ـ رعاية حقوق الأقليات الدينية في مجتمعاتنا الإسلامية. 25ـ تبني منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة. 26ـ رعاية سنة التدرج في الإصلاح والدعوة وسائر سنن الله. 27ـ الموازنة بين الثوابت والمتغيرات. 28ـ وضع التكاليف في مراتبها الشرعية (فقه الأولويات). 29ـ ضرورة الإصلاح والتغيير. 30ـ الانتفاع بتراثنا الغني بما فيه من علوم وفنون وآداب.

تلك ثلاثون معلما وضعها رائد من رواد الوسطية الإسلامية في عصرنا، وهو الشيخ يوسف القرضاوي، وشرحها في كتاب كامل له بعنوان: (فقه الوسطية الإسلامية والتجديد)، أدعوك وأدعو كل مهتم بالأمر لقراءاتها. وقد اجتهدت في اختصارها قدر الاستطاعة، ولا يغني اختصاري عن العودة للشرح الأصلي.
أما المسائل التي ذكرها السائل الكريم، وكأنها معضلة كبرى، ستقف أمامها العقلية الفقهية الإسلامية، فليس صحيحا، من قوله: عن تولي المرأة المناصب والقضاء، فهل سنعدم أن نجد في تراثنا الفقهي من قال بتولي المرأة القضاء والمناصب؟! وجد من فقهائنا كابن حزم من أجاز، ومن أجاز أن تتولى القضاء فيما يجوز أن تشهد فيه. وهي مسألة ناقشها الفقهاء المعاصرون واختلفوا فيها، ولنا أن نأخذ من آرائهم ما نأخذ ونرجحه.

أما مسألة تولي غير المسلم الرئاسة، فهي ليست معضلة كما تتصور، ويتصور البعض، لأن الحكم عقد بين الأمة والحاكم، وكان عقد الأمة منذ سنة 1 هجرية إلى سنة 1924م، كان يلزم بأن يكون الحاكم مسلما، وارتضاه الجميع مسلمون وغير مسلمين، وعندما سقطت الخلافة الإسلامية، قام على تحرير الأوطان أهل الوطن جميعا، مسلمون وغير مسلمين، فسقط العقد القديم، وجاء عقد جديد، بني على أساس المواطنة، فمن جاءت به صناديق الانتخاب قبلناه حاكما، وفق العقد الجديد الذي ارتضيناه جميعا.
إن على كل ذوي التوجهات الإصلاحية في المجتمع السعي إلى دولة المؤسسات التي يصبح فيها الحاكم مجرد منفذ للدستور، وحامي للقانون، وحارس للقيم، بحيث يكون كأشبه بمن يملك ولا يحكم، أو هو ترس في آلة كبيرة هي المؤسسات الحاكمة، لا تتوقف عنده أَزِمَّة الأمور في الدولة، بحيث يصبح الفرد الذي يتصرف في كل أمر، وبيده كل شيء، بيده يعدل أو يظلم، يكبت الحريات أو يهبها. ونحرص على توافر الضمانات التي تمنع استبداد الحاكم أو ظلمه، والتي تحفظ على الأفراد والمؤسسات حقوقها وصيانتها، وتحفظ على الحاكم مكانته وتعينه على أداء رسالته. 


وليترك للشعب قراره، عن طريق صناديق الاقتراع، وليختر من يلبي له مصلحته العامة، ويحفظ عليه كيانه وحضارته وتقدمه، وليرض الجميع بما تأت به صناديق الاقتراع الحر، الذي لا يشوبه شائبة تزوير ولا تلاعب. وليكن من يكون من تأت به صناديق الاقتراع، رجلا كان أو امرأة، مسيحيا أو مسلما، أو علمانيا أو ليبراليا، أو كائنا من يكون، المهم: أن نوجد نظاما يلتزم به الجميع، ويشرف على تنفيذه الرئيس المنتخب، ويجد على رقبته سيف رقابة الجماهير، وأعينهم المفتحة، فإن أصاب: شكروه، وإن أخطأ قوموا خطأه عبر قنوات التقويم الشرعية والقانونية.


إن المعيار الذي ينبغي علينا أن نوليه الاهتمام في المناصب في الدولة: هو الكفاءة، كفاءة من نوليه المنصب، أنى وجدناه طالبنا به.
هذا ما لدي من إجابة على سؤالك، وأرجو أن أكون أجبت عنها، وعمن يتساءل نفس سؤالك، وأترك التعقيب لمن يحب التعقيب علميا على ما ذكرت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق