الجمعة، 17 يونيو 2011

من يحمى الدولة المدنية؟….. وحيد عبد المجيد

الدولة المدنية هى القضية الأولى على جدول أعمال قسم كبير من النخبة السياسية الآن، ففى مرحلة انتقال إلى مصر جديدة حرة وعادلة، تكون مسألة الدولة ونوعها ومقوماتها حاضرة بالضرورة.
ولكن الطبيعى فى هذه الحالة أن تكون ديمقراطية الدولة هى مركز الاهتمام، فقد كانت الديمقراطية هى الغائب الأكبر على مدى عقود، ولكن الانشغال بمدنية الدولة يفوق الحرص على ديمقراطيتها لدى البعض، ويثير ذلك السؤال عن الأصل والفرع فى العلاقة بين ديمقراطية الدولة ومدنيتها، فلا يمكن أن تكون الدولة ديمقراطية إلا إذا أقيمت على أساس مدنى، ولكن الدولة المدنية قد تكون ديمقراطية أو لا تكون، فكثير من الدول الشمولية والاستبدادية تعتبر مدنية من حيث إنها ليست دينية ولا عسكرية، ولكنها يقيناً ليست ديمقراطية.
وعندما تكون الدولة المدنية ديمقراطية فهى تعتمد على حماية الشعب باعتباره المصدر الوحيد للشرعية فيها. والشعب هنا يعنى أفراداً وأحزاباً وجماعات وليس كتلة واحدة صمَّاء، وهذا الشعب المتعدد والمتنوع هو الذى يحمى دولته المدنية التى تقوم على إرادته الحرة. ولا تحتاج الدولة المدنية، بهذا المعنى، إلى حماية الجيش، بل تحرص كل الحرص على عدم توريطه فى أى صراعات سياسية لكى يتفرغ لدوره العظيم فى حماية الوطن.
إن الجيوش، الوطنية ذات التاريخ المشرف والتقاليد المحترمة، مثل الجيش المصرى، تحمى أوطانها ولا تتدخل فى الحياة السياسية إلا إذا فُرض عليها ذلك فرضاً فى لحظات استثنائية يصبح هذا التدخل فيها واجبا وطنيا فتؤديه وهى تترقب اليوم الذى تنتهى منه.
ولذلك يخطئ من يطالبون بأن ينص الدستور الجديد على حماية الجيش الدولة المدنية، إنهم يخطئون فى حق الجيش وفى حق الدولة فى آن معا. أما الخطأ فى حق الجيش فمرده إلى إثقاله بمهمة لا تدخل فى نطاق دوره وقد تشغله ولو جزئياً عن مهماته الكبرى فى مرحلة اضطراب إقليمى آخذ فى الازدياد، وفى ظروف تفرض التفرغ لما يمكن أن يحدث من تطورات فى الصراع العربى- الإسرائيلى، كما أن تحميل الجيش مهمة تعتبر سياسية فى المحصلة ينطوى على خطر توريطه فى صراعات ينبغى أن يبقى دائما فوقها.
وأما الخطأ فى حق الدولة المدنية من جراء إسناد مهمة حمايتها إلى الجيش فهو يعود إلى ما قد يعنيه ذلك من عدم ثقة فى الشعب، فى حين أنه لا يمكن الحديث عن مثل هذه الدولة إلا إذا كان هو المصدر الوحيد للشرعية فيها والقادر على حمايتها.
وإذا لم نثق فى قدرة شعبنا على ذلك فهذا يعنى أننا نقيم دولة مدنية على أساس هش، ولكنه قد يعنى ما يعتبر أخطر من ذلك، وهو أن بعض أنصار الدولة المدنية لا يعنيهم أن تكون ديمقراطية بمقدار ما يهمهم ألاّ تكون دينية. وإذا كان الأمر كذلك تصبح الدولة المدنية التى يريدونها إعادة إنتاج للسلطة السابقة لكن بدون فسادها الذى فاق الخيال وبوليسيتها التى أحلّت جهاز أمن الدولة محل الدولة. غير أنه بدون ديمقراطية تقوم عليها هذه الدولة المدنية ويحميها الشعب، لا شىء يضمن عودة الفساد والحكم البوليسى مجددا.
والحال أن فى إمكاننا تجنب كل هذا الخطر وعدم توريط الجيش فيما ينبغى أن يبقى فوقه إذا شرعنا فى التفاهم على مقومات الدولة المرغوبة وتحديدها بوضوح فى وثيقة توافقية عبر حل وسط يقوم على تنازلات متبادلة، وعندئذ سنكتشف أن الخلاف ليس بالحجم الذى يبدو لنا حين نختزله فى سجال حول عناوين عامة وتراشق بالشعارات وتربص متبادل.
وهذا هو ما يجرى نقاش حوله الآن بين عدد من الأحزاب والقوى السياسية للتوافق على وثيقة باتت صيغتها النهائية قريبة، فإذا اكتمل هذا المسعى فلن تكون هناك حاجة لدى بعضنا لأن يبحث عن حماية خارج إطار مؤسسات الدولة المدنية وآلياتها والشعب الذى هو المصدر الوحيد لشرعيتها، ولا أن يقتدى بتجربة تنحسر عمليا كل يوم فى بلدها. فقد عُهد إلى الجيش بحماية الدولة العلمانية فى تركيا حين لم تكن ديمقراطية. وعندما تحولت هذه الدولة إلى الديمقراطية، وأصبح الشعب هو مصدر شرعيتها، أخذ الوضع يتغير على الأرض.
وإذا كان هذا التحول ينطوى على تغيير فى طابع الدولة التركية، فهو يتركز فى الحد من غلوائها العلمانى ولكنه لا يمكن أن يؤثر فى مدنيتها المستمدة من ديمقراطيتها وامتلاك شعبها القدرة على المحاسبة والتغيير، وهذا هو ما تشتد حاجتنا إلى إدراكه: إن الدولة الديمقراطية التى تستمد شرعيتها من الشعب لا يمكن إلا أن تكون مدنية، فهذا الشعب هو الذى يحمى مدنية الدولة مادامت ديمقراطية تستمد شرعيتها منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق