الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010

تديين الممارسات السياسية… إسلام عبد التواب

لا جدال في أن السياسة جزءٌ لا يتجزَّأ من الإسلام، وأن محاولة فصلها عنه هي تخريبٌ لهذا الدين يُحكَم بخروج صاحبها - صاحب محاولة الفَصْل - من الإسلام بالكلية؛ فالله - عز وجل - أنكر على بني إسرائيل إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض؛ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 85- 86].
لا شك في ذلك، ولكن هناك خلطٌ واضح في مفهوم شمول الإسلام للسياسة عند كثير من الفصائل الإسلامية التي تمارس السياسة ترشيحًا وانتخابًا بالإضافة إلى المجالات الدعوية التي تمارَس الدعوة فيها، هذا الخلط يتمثَّل في تديين الممارسات السياسية، فالسياسة كمفهوم عام جزءٌ من الإسلام لا ريب، ولكن الممارسات السياسية للأفراد والجماعات - كقرار خوض الانتخابات والترشيح لها، وحشد الحشود، وإنشاء حزب يمثِّل هذه الجماعة أو تلك - كل هذا من الممارسات لا ينطبق عليه الحكم ذاته؛ فهي مجرَّد ممارسات قد تكون صوابًا أو خطأً، وهي على كل حال ليست دينًا يُتَعَبَّد به.
ومن أهم وأخطر صور هذا التديين:
- حشد هذه الجماعات والفصائل لأعضائها والمنتمين إليها، والدوائر المحيطة بهم للممارسات السياسية؛ كالانتخابات باسم الدين، والعبادة، وأحيانًا العقيدة، بل الإصرار على خوضها باعتبارها دينًا وعبادةً لا يجوز التراجع عنها والتخاذل فيها.
 
- فقد يكون مفهومًا أن يتمَّ حثُّ أعضاء الجماعة على تسجيل أنفسهم ودعوة المحيطين بهم لذلك في السجلاَّت الانتخابية؛ من أجل السعي للإصلاح، وكذلك تقديم الجماعة أو الفصيل لبعض المرشَّحين من أجل ذات الهدف، ولكن أن يتمَّ ذلك تحت زعم أن هذا واجب ديني - وبعضهم يَصِل بها إلى أن خَوْضَ الانتخابات عقيدة لديه - فهذا خطأ وخطر عظيم.
 
- ورأينا أفراد بعض الجماعات عندما قرَّرت الجماعة خوض الانتخابات يخوِّف الناس من عدم الذهاب للإدلاء بأصواته بقول الله - تعالى -: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم} [البقرة: 283]، واقتنع الناس وذهب كثيرٌ منهم للإدلاء بصوته، ولكن في الانتخابات التالية رَأَتْ تلك الجماعة مقاطعة الانتخابات لانعدام فُرَص الإصلاح في رأيها، وأخذ أعضاؤها يطلبون من الناس مقاطعة الانتخابات، فكيف يستقيم هذا في فهم العقلاء؟!
إن خوض الانتخابات هو مجرَّد ممارسة سياسية، ووسيلة يسعى بها المسلم للإصلاح عندما يجد أن هذه الوسيلة قادرة على أداء المرجوِّ منها، ويمكن من خلالها الوصول للهدف وهو الإصلاح، وتطبيق شرع الله - تعالى - وكذلك عندما يجد في نفسه - أو تجد الجماعة في نفسها - قدرةً على دفع استحقاقاتها دون تنازُل عن الثوابت.
- كل ذلك دونَ اعتبار هذه الوسيلة عبادةً ولا غايةً في حدِّ ذاتها، فضلاً بالطبع عن أن تكون عقيدة يدين بها لله - تعالى، فقد تكون تلك الوسيلة ليست وسيلة وحيدة، بل هي بديل وسط اختيارات متعددة؛ فما الذي يلزمنا بها وحدها؟!، وقد تتحوَّل الانتخابات والعضوية في المجالس النيابية والنقابات إلى غاية في نفوس الأفراد، أو في سياسات الجماعات؛ فتضل عن الغاية الحقيقية وهي إرضاء الله، وعن الهدف الحقيقي وهو إقامة الشرع، وقد تكون الانتخابات - في حقيقتها - وسيلة للطغاة يؤيِّدون بها باطلهم؛ فيزوِّرونها لتحجيم أعداد الإصلاحيين الناجحين، فيصيرون بلا مخالب ولا أنياب، عاجزين عن منع الظلم والإفساد والمنكر الذي تمرِّره الأنظمة تحت أعينهم وأنوفهم، ولا يستطيعون له ردًّا؛ فيكونوا مشاركين لأصحابه، وقد تكون تلك الانتخابات وسيلة الأنظمة الباغية لإشغال المُصْلِحين عن أهدافهم الحقيقية في إصلاح المجتمعات، وتربيتها على منهج الله؛ بإغراقهم في القضايا السياسية الفرعية، ودهاليز السياسة التي تستغرق جهودهم، بينما تذهب جهودهم سُدًى كمَن يحرث في البحر؛ لأن النُّظُم السياسية الحالية مبنية على فساد في الأساس.
 
- تُصِرُّ تلك الجماعات على خَوْض جميع الانتخابات، رغم معرفتها اليقينية - باعتراف قادتها - أنها لا تستطيع، ولن يُسمَح لها بالمشاركة في صنع مستقبل بلادها، وهي في ذات الوقت لا تقبل المساومات على مبادئها، فلِمَ إذًا الإصرار على المشاركة غير الفعَّالة ولا المجدية؟!
قد تؤثِّر تلك المشاركات السياسية على الوجهة التربوية الداخلية للجماعات؛ فتوجِّههم جميعًا نحو السياسة، وبعيدًا عن التربية والدين والإيمانيات، فتصير الخسارة فادحة.
إذا كان كلُّ ذلك واردًا، فكيف نجعل من تلك الوسيلة - الممارسات السياسية المختلفة - عبادة وعقيدة، ونقوم بتديينها؟
هل لتحميس أفراد الجماعة للمشاركة؟ أم لتحميس جمهور الشعب؟ أم هو خليطٌ بين هذا وذاك؟
وكيف لو رأت تلك الجماعة مقاطعة 
الانتخابات في وقت آخر - كما ذكرنا سابقًا - فهل يتحوَّل الواجب إلى حرام؟! وعلى أيِّ أساس من الدين أو العقل؟!ولو رأت الجماعة أن تخوض الانتخابات في بعض الدوائر دون بعض، فهل تكون آثمةً بعض الإثم؟!
وهل لو خالف فصيل إسلامي هذه الجماعة في الرأي، ورأى أن المشاركة السياسية في هذا الوقت أو ذلك القُطْر عبثٌ وغير مجدية فهل يكون على ضلال؟!
أم أنَّ الأمر كله حسابات سياسية قد نتَّفق أو نختلف عليها، دون أية علاقة للمسألة بالدين والعقيدة؟!
هذا مثالٌ واضح وفاضح لتديين الممارسات السياسية في حياة كثير من الأفراد والجماعات الإسلامية، وهو مما لا يتوافق مع المنهج الإسلامي.
فهناك ما نستطيع أن نعبِّر عنه أنها تصرُّفات دنيوية حتى بنصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء وهم يُلقحون النخل، قال: ((لَوْ تَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ لَصَلُحَ))، فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يُلَقِّحُوهُ، فَخَرَجَ شِيصًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ((مَا لَكُمْ))، قَالُوا: تَرَكُوهُ لِمَا قُلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا كَانَ شَيءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْر دِينِكُمْ فَإِلَيَّ))[1].
فإذا كان هذا مقبولاً في حق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكيف نقبل مِمَّن هو دونه - فردًا كان أو جماعة - أن يجعل من اختياراته السياسية وممارساته فيها دينًا وعقيدةً يأثم من يخالفه فيها، أو يتخلف عنه.
وبعدُ:
فهذه دعوة لجميع الجماعات الممارِسة للسياسة ولأفرادها لمراجعة تلك الأفكار، وأسأل الله - تعالى - أن يجعلها دعوة خالصة لوجهه الكريم، وأن يتقبَّلها منِّي؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
 
ـــــــــــــ[1] مسلم 4/1836 حديث رقم :2363.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق