الخميس، 23 ديسمبر 2010

حرية الفكر 2-2…. د/ محمد الاحمرى


عصر الفكر الإسلامي
ليس صحيحًا أن نقول بأن العصر الإسلامي الأول عصرًا لجانب واحد من جوانب التفكير والعمل, فلا نقول بأن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هو زمن للنص بلا فكر, ولا زمن للفكر بلا نص, بل هو العصر الذي تكامل فيه العقل مع النص, فهو زمن النص وزمن الفكر, لا عداء ولا خصومة, ولا مدرسة للرأي تختصم مع مدرسة الحديث, ولا فريقان يروج كل منهما لأتباعه أو لفريقه ويسخر من الآخرين, وما نراه في زماننا من صراع مصدره الجهل والهوى, بين المتخاصمين, فمتى كان الدين خصمًا للعقل, ومتى تصور المسلم الانفصام بين الأمرين إلا بدوافع المشكلات الكلامية المتأخرة, وهي نتاج لمشكلات لا حل لها, ولا نتوقع أنها قادرة على ذلك, فلم تجلب للماضين خيرًا فأنى لها أن تجلبه لنا! ولا تزيدنا إلا حيرة, ولا نستفيد منها إلا انزواء في زوايا الكلام المذموم, وغربة عن التأثير والمنفعة من الوحي ومن الحياة الجارية.
 
فأزهى عصور الفكر الإسلامي هي العصور الأولى للإسلام, الذي تجلت فيها الاجتهادات والمدارس والأعمال والفرق, عصور محاولة فهم النص ومحاولة تطبيقه, عصور تجاوب الأمة مع كتابها دون حواجز من التاريخ, ولا عوائق من الفلسفات الأخرى, ولا عوائق جمود من داخل المجتمع.
 
ثم تتنوع العصور وتعلو القدرات وتسقط ويوجد في كل زمن رجاله القادرون على الصياغة والتجديد, ويسمى كل عصر بأبرز جوانب النبوغ فيه, أو جوانب الانهيار.
 
ولا يمكننا أن نقول أن تاريخ ثقافتنا الإسلامية ومدارسها التي تعددت واختلفت منذ نهاية العصر الراشدي إلى الآن ليست مدارس فكرية, ولا أن نقول أن مدرسة محددة ليست فكرية, والأخرى فكرية, ليس لأن الموقف هذا فيه كثير من الاعتباط, وتكلف زعم العصمة لمن يرى فكرته علمًا فقط, ولكن لأن ما عدا النص فهو فكر, بدءًا من طريقة التعامل مع النص, وأسلوب استيعابه, وطريقة تقديمه, وجميع مدارس الفقه وأصول الفقه, وأسس النظر في النصوص إنما هي إعمال للعقل بأدواته, في التعامل مع النص.. ومن هذه الأساليب ما انضبط مع الزمن وقامت قواعده, وتيسرت تطبيقاته فأصبح أشبه بالعلم, ومنها ما هو قابل للأخذ والرد, ولم تسلم بعد تطبيقاته من نظر, وهو ما بقي في أذهان الناس فكرًا, وكلما اتسعت دائرة المفكر فيه من هذه العلوم والقواعد كلما عاد نشاط الفكر ونضج العلم, وتخلص من أوهام حسبها ذات يوم علومًا قطعية منتهية.
العقيدة والفكر
ما هي المسائل العقدية وما هي المسائل الفكرية والفرق بينهما؟ وما الذي يجعل مسألة الإمامة, والمسح على الخفين, والمتعة, وخلق القرآن, والعلاقة بين النقل والعقل, ومسألة القبور, من الحاكمية أو خارجها؟ وهل لمرور الزمن أثر في إدخال بعضها للاعتقاد وتأجيل البعض؟
وقبل التفصيل في هذا من المهم أن نعلم بدور النص كهاد ومسيطر على وضع الأحكام النهائية, وهذا النص يحكم به شخص على شيء أو فكرة خارجه, وحكمه مهما يكن متأثر بحال من يصدر الحكم وحال المحكوم فيه.. تحقيق المناط وتنقيح المناط.. فهناك عملية بشرية طويلة من بدء الأمر إلى منتهاه منفصلة عن النص ومتأثرة بالشخص الذي يؤمن أو لا يؤمن على حكم الله.
ثم الوهم الذي يقع في عقول الناس بأن المعلومة مجردة هي أول شيء وآخره, هذا وهم لا يقره الشرع ولا يشفع له الواقع, فقد يعلم المسألة غير المؤمن, وقد يحفظ النص من هو ضعيف الفطنة, قاصر الفهم, ضعيف الاستنباط, وهذه العلل تعتور من يقول أو يقول عنه الناس أن عنده علم.. ولهذا كانت هناك حاجة ملحة لمعرفة قدرات العالم فيما سوى استحضار النص.
إن بحث العقائد وتطورها وتطور مناقشاتها والخلاف حولها في عصر الإسلام الأول ما هو إلا دلالة على جسارة العقل المسلم, وشجاعته, ورغبته الجامحة في ارتياد المجهول, ومصاولة المخالفين, وما جاء مفكر طموح منصف مصيب إلا كان مقابله منحرف في الاعتقاد, أو مخالف في السلوك؛ فالعقائد قصة العقول النابهة, والمتوثبة المهتدية والضالة على السواء.
مسائل الاعتقاد بين الثبات والتغير
نعلم أن مصطلح كلمة عقيدة مصطلح لاحق متأخر, جمعت تحته مسائل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته.. وقد تظهر في بعض الأزمنة مسائل تهم الناس وتمس معرفتهم بربهم وكتابهم ونبيهم, فتحتاج هذه المسائل إلى وضع الإجابات اللازمة, ويسابق علماء الأمة إلى شرح هذه الجوانب, وبيان الحق فيها, وبحسب علاقتها بالشرع وعلاقتها بالحياة الفكرية والسلوكية للأمة تأخذ مكانها, ومن هذه المسائل مسألة خلق القرآن, وقبل ذلك مسائل التشيع والخوارج, وقبلها الإمامة.
ثم فيما بعد رأينا الباقلاني يضيف مسائل الإمامة لبحث في العقيدة ويبين عذره في ذلك, وظهرت في عصر ابن تيمية مسائل نقد الشيعة, ومسائل العقل والنقل وغيرها, وقد واجه هذه المسائل بطريقة علمية فكرية, وأخذت هذه المسائل طريقها لكتب السلف تعرف وتنتقد وتؤيد.. وهل نخرجها من مسائل الاعتقاد لتأخر زمانها؟ ونعتبر ما عداها لتقدم زمانها.. أم أنها تكتسب الشرعية عندما تلاقي القبول وتكون صحيحة وتتأسس للأجيال السابقة.. ومن هذه القضايا قضية الفكر مثلاً, فهناك مسائل كالشمول والموقف من عقائد وممارسات كالديموقراطية سوف تكسب فيما بعد مكانًا عقديًا مهمًا, كما نالت مسائل بعض العلماء كابن باز وغيره مكانة, ومسألة الولاء والبراء مكانة, سوف يكون مهمًا ويستخدم ويؤثر ما دام الناس يعانون الخضوع لغيرهم من المذاهب الأخرى.
ومسألة الإمامة لولا الخلاف مع الشيعة والخوارج لكان للموضوع شكل آخر.. إن علمًا من أشرف ما توصل له الفقهاء المتأخرون بدأه الجويني, ثم الغزالي, ووضحه وقعده وشرحه الشاطبي, أصبح من النظريات الجامعة في أصول الفقه وفهم مقاصد الشرع.. وقال هؤلاء بما لم يقله أحد قبلهم, أي بلا سابقة خاصة في هذا. وهكذا مسائل عديدة منها الإجماع وفهم الشافعي فيه, وغيره.. مما انتقد في زمانه, ثم قُبل عند المتأخرين.
الفقه والفكر
الفكر يشمل الاجتهاد الفقهي في المسائل الفقهية والعقدية وغيرها, لأنه على تعريفنا السابق منسجم معه, ويرى هذا كُتاب معاصرون. (5) وقد كان الضعف الفكري عند المسلمين من أهم الأسباب التي أوهنت الأمة, وجعلت ذريتها نهبًا للفرق والمذاهب المنحرفة من داخلها أو من خارجها, وسبب ذلك أن انتصار السنة على المعتزلة والفلاسفة, أشاع الثقة وجو الانتصار, فلم يعودوا يأبهون بهذه الانحرافات, ثم الجو السياسي الذي كان بعيدًا عن المعرفة زمن خلفاء العباسيين في العصر الثالث ثم ما تلاه, من تعاقب أمم أعجمية بدوية على الحكم كالترك, أضعف الثقافة الفكرية والمذهبية ولم يعد بالإمكان إلا دراسة ما تمت دراسته, وشرحه واختصاره, بينما تنموا المدارس المنحرفة وتعبث بالعقول والأفهام, واتجه الاهتمام للفقه, وتُرك أو ضعف كثيرًا الاهتمام بالملل والعقائد بعد ابن حزم, حتى جاء ابن تيمية ولاحظ هذا الخلل الكبير, من إقبال الناس على الفقه وترك الميدان الفكري والسلوكي للفرق المنحرفة, وأحس بكفاءته في مواجهة هذه الانحرافات, فانبرى لها.
واسمعه يقول لتلميذه الحافظ البزار بعد أن سأله عن ذلك: "الفروع أمرها قريب ومن قلد فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه, وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية, والملاحدة القائلين بوحدة الوجود, والدهرية, والقدرية, والنصيرية, والجهمية, والحلولية, والمعطلة, والمجسمة, والمشبهة, والراوندية, والكلابية, والسلمية, وغيرهم من أهل البدع, قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال, وبان لي أن كثيرًا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية, الظاهرة العلية على كل دين, وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم, ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة مقبلاً على مقالاتهم إلا وقد تزندق, أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده.فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه على كل من يقدر على دفع شبههم, وأباطيلهم, وقطع حجتهم, وأضاليلهم, أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم, ذبًا عن الملة الحنفية والسنة الصحيحة الجلية". (6) 
وما كان لابن تيمية أن ينصر عقائد الملة وهو ضعيف المعرفة بالثقافة الأخرى المختلفة والمنحرفة, بل تمكنه من عقائد الكفر وملل الضلال ورده عليها, هو الذي أعطاه هذا الوزن في دين الإسلام, وإلا فكم من نابغة قصر فكره وعقله ومعارفه في علوم قليلة, ومذاهب قريبة, فلم يقدر له أن يعي العالم المحيط, ولم يقدر له أيضًا أن ينصر عقيدته كما يليق بقدرته, بل القدرة متوقفة أصلاً على المعرفة.
ومعرفة الدين نفسه مختلفة عند من له إلمام معرفي واسع ومن لم يكن له هذا الإلمام المعرفي, فمعرفة الدين وثيقة الصلة بغيرها, وعقل الإنسان ليس جمادًا, بل هو أخذ ورد مستمرين وتجاوب مع ما حوله, فهذه المعارف التي قد تبدو لقصير النظر بعيدة عن الدين ليست كذلك, فالمعارف الدينية ليست أمرًا ونهيًا فقط, بل هي أدلة للمعرفة تتطلب السعي لغيرها وفهم ما عداها وما يحيط بها في سبيل تطبيق ووعي بها أكبر, ثم لكل فهم واسع أثر أكبر على معرفة الإسلام.. ومن انفتق ذهنه واتسعت معرفته لن يستطيع إعادته لحجم أقل ولمقدرة أضيق وإن تمنى ذلك, فلنجعل من المعرفة الواسعة عمقًا ورافدًا وسلاحًا يجعل معارفنا في الدين أكثر مضاءًا.. وتلمسنا للطريق أهدى بهدي كتاب الله وسنة رسوله ثم بتجارب القرون ورصيد المعارف المتطورة.
وهذا موقف يوافقنا فيه كبار عقلاء الشيعة, فيرى مرتضى المطهري: "أن أحد أسباب ضعف المسلمين هو ضعف الاهتمام بالعلوم العقلية" (7) لذا فقد ألزم نفسه الاهتمام بهذه الجوانب.. ويرى أن من يدافع عن الإسلام عليه أن يتسلح بالثقافة الإسلامية, والإطلاع على الثقافة الأجنبية, وتعزيز وإكمال منهجية الاجتهاد, ولا يعني هنا الاجتهاد الفقهي. (8)
وقد جد في زماننا من الفرق والمذاهب والآراء ما يقف الجمع عاجزًا عن استيعابه فضلاً عن مواجهته. وفي كل يوم تصب في آذان المسلمين بدعة, وتواجههم تحديات غير سابقة, وكل هذا يستوجب نفيرًا متدربًا منفتحًا جادًا صادق النية راسخ المعرفة بدينه يتجه لشيء من هذه المدارس لا يقول كلمة خطأ, ولكن ليفهم ويقر النفع ويرد عن ثقة.
كثرة أخطاء المفكرين
لماذا يخطئ المفكرون أكثر من غيرهم؟
إنها حقيقة أن للمفكرين أخطاء تتجاوز أخطاء غيرهم, ولكن لو عرفنا سبب ذلك لكنا أكثر احترامًا لهم وتمجيدًا لعملهم, فمن أسباب ذلك إن كنا قبلنا, أن المفكر هو الذي يعايش زمانه ويراقبه وينقده ويصلحه. 
- أولا: لأن الموضوعات التي يعالجها المفكر تكون غالبًا مما لم يدرج عليه النقاش في عصور سابقة, ولم يتدارسوه في كتب ومساجد وجامعات ويصلوا فيه إلى جواب حاسم, بل هو يواجه حوادث ومؤثرات معاصرة له, ينظر في حسنها وأقربها لدينه فيأخذ به, ويراقب سيئها فيبدي عيوبه ويحذر منه, وقد لا يجد له سلفًا في المسألة المطروحة لأنه لم يسبق أن عرضت من قبل.
- ثانيًا: أنه في لحظة المواجهة يكون في زمن صناعة الموقف الإسلامي من النازلة, وزمن صناعة الموقف الفكري غير زمن استقرار الرد, فنحن في زماننا لا نعاني من مشكلة صياغة رد على المعتزلة, إذ نقف على قمة جبل من المادة المتوفرة والتي لا تحتاج إلا فتح كتاب وقدرة على استذكار الأدلة, ولكننا لو عدنا لزمن صناعة الموقف من حوار المعتزلة ودرسنا مرحلة المحنة لوجدناها محنة للعلماء أنفسهم, ولعلمهم, ولعقولهم, ولقدراتهم, ولمهارات الحوار وصناعة الموقف, ثم محنة لهم أنفسهم فيما بينهم وما اختلفوا عليه, فتوتر العلاقات والهجر بين رجال من خيرة الأمة آنذاك, ليس مما يمكن المرور السطحي عليه, ثم أثر هذا الخلاف بين علماء السنة الذين لم يكونوا معتزلة على تفصيلات الموقف, واللوم الذي وجهه بعض علماء الأمة للإمام الجليل أحمد وموقفه ممن خالفه ليس مما يسهل على المنصف تجاهله, ولا يفهمن أحد من سياقي هذا تخطئة أحمد, ولكني أذكر بصعوبة بناء موقف فكري في نازلة ما أسهل أن تعجب بسياق كتاب الحيدة على جمال صياغته وقوة حجته وجمالها, ولكن هل فكرت في بناء وزمن بناء تلك الحجج؟ علينا أن نفكر في المرحلة الفكرية قبل أن يصبح الأمر عقيدة مسلم بها بين أهل السنة.. واكتمل بناء الفكرة والتدليل عليها وترتيب أصولها حتى سهلت على المتأخرين الذين يقولون إنها حجج علمية واضحة سهلة السياق والإقناع!
وهكذا صياغة ابن تيمية لموقفه من المغول وكتبهم ونظام حكمهم, وموقفه من شيخه الذي درج في شبابه على تمجيده باعترافه هو ابن عربي ثم بنائه لنقض أسس شيخه وهدمها.. وهكذا موقفه من بناء شبكة أفكاره تجاه ما سبق وما لحق من نوازل الفكر في زمنه.. ومجده إنما جاء من معالجته ومقدرته الفكرية إن قلنا أنها شيء غير فقهه الشرعي.. إن بإمكان القارئ أن يبحث في كتاب المغني عن ترجيح ودراسة لأقوال الفقهاء, ولكن ابن تيمية العظيم في تاريخ الإسلام هو المفكر. ومحمد بن عبد الوهاب بنى مدرسته الفكرية لمواجهة الانحراف المعاصر له, وليس الأثر والخلود له فقيهًا, ولكن داعية, مجدد, مفكر, مصلح, ومساهماته الفقهية لا تكاد تذكر.
وصياغات مفكرين معاصرين ومصلحين مؤثرين، مهما كانت الملاحظات عليهم، كانت مهمة في صياغة الجواب الإسلامي على الانحراف من داخل المجتمع الإسلامي وخارجه.. فهذا المودودي عالج مسائل العقل والنقل ومسائل المعاصرة وتأليه الخبرة البشرية, وكان له دوره العظيم في مواجهة القومية وأفكار المستعمرين التي كانوا يمررونها على المسلمين ومنها القاديانية, والموقف من الجهاد ومكان الحكومة في الدين. وأعطى سيد قطب دورًا كبيرًا لتطوير الحجاج مع الخطوط العلمانية المنحرفة وكان لكتبه من الدور العاطفي وإعادة الثقة بالدين، ما جابز به ابن الجوزي في زمنه.
والدور الذي قام به مالك بن نبي, وهو دور يبحث عن طريق لتحريك مفاهيمه, فرغم قرابة ثلاثين عامًا من وفاته إلا أن آراءه في مسائل القابلية للاستعمار, وشروط النهضة لم تزل مادة فكرية محفزة على الوعي والتفكير, وبناء موقف حضاري إسلامي, وهل له أخطاء؟ ليس هذا طريق حديثنا, ولكن لو لم يعمل لم يخطئ.. فمراقبته ومعرفته الكبيرة بالمجتمع الغربي وفكره ومعرفته بكثير من أصول الإسلام, وحميته لدينه وأمته, وحرقته الصادقة, جعله هذا كله ينجز أعمالاً فكرية هادية تستحق الاهتمام والدراسة.. نعم هناك كثيرون جدًا لا يخطئون؛ لأنهم لا يغامرون بمواجهة فكر, ولا يغامرون بتعلم قضية مهمة, ويكتفون بحفظ ما هو محفوظ ومعروف للجميع ويطلقون نيران النقد على من تعلم دينه وواجه أنواع الغزو التي لا يدركونها. 
- ثالثا: صعوبة واتساع القضايا الفكرية التي يواجهها المفكر المسلم المعاصر, فإذا كان التمكن في علوم الشريعة يحتاج فيه دارسه إلى كل هذا الجهد رغم استقرار مؤسساته, فكيف بعواصف الفكر العالمي التي تجتاح الأمة, بجذورها الفلسفية الضاربة في أعماق عديدة وتستنصر بالعلوم المعاصرة والأدب والتاريخ والطب.. لكم كنت أستغرب أن أجد أن نظرية داروين ذات أبعاد سياسية, واقتصادية مرتبطة بنظرية مالتوس في مسائل السكان, ومرتبطة بقضايا الانتداب والعنصرية, وأن مسائل فرويد ذات أعماق تاريخية واجتماعية ضاربة في ُينا, وأن الشيوعية أفادت أوربا اجتماعيًا, تلك الدول التي لم يحكمها الشيوعيون.
إن كمية المعلومات والفلسفات والممارسات والتاريخ والاجتماع تقف عائقًا دون استكمال رؤية فكرية متكاملة ومفيدة, والحاجة الكبيرة لتمكن المفكر من دينه وأصوله يمثل تحديًا كبيرًا لبناء هذه القدرة على الفهم والتوعية, ولهذا علينا قبول التقصير لاستحالة الكمال, واتساع الأمر عن قدرة المفكر والعالم والأفكار أن نجمعها في شخص.
أولوية الفكر
في المجتمع الذي يقل فيه العلماء الشرعيون ويوجد مفكرون مؤثرون, من المهم جلب التوازن للبيئة وسد الفراغ, فما يقوم الأمر على جانب دون الآخر.. وإن ساد فن الفقه ولم ينتشر الفكر كان الخطر كبيرًا من أن تغيب كثير من مبادئ الدين وأسسه ومعالمه ومواقفه العقدية والسلوكية, وقد يلتزم الناس طقوسًا وقواعد بلا روح تدين, وإن انتشر الفكر دون العلم كانت الصراعات المذهبية والفلسفية كبيرة, وكان احتمال تمزق المرجعية الفقهية والسلوكية مشكلة, وترنحت القوانين والشرائع في شتى الآفاق. وقد يصرف العمل والمشاغل الإسلاميين عن تقدير المواقف والمتطلبات الفكرية للمرحلة, وهذا أسوأ ما يجرون له فسيجدون العمل يذهب هباء لأنهم لا يعرفون مرادهم, ولا يقدرون خصومتهم وولاءهم, ولا يرتبون مواقفهم الفكرية ولا يعرفون أي المواقف أولى بالإتباع وأيها أولى بالابتعاد, إنه لا يشغل عن الفكر شاغل في مراحل الصياغة والتغيرات والمتابعة. وإنك لتجد للإسلاميين عشرات المساجد يتقاتلون عليها والمؤسسات الخيرية ومشاريع المال والاستثمار وخدمات الدعوة, ثم لا تجد لهم مؤسسة فكرية تقوم بصياغة أفكارهم ونشرها وتصويبها وإجراء الحوار والتعديل والتصويب فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق