الاثنين، 12 سبتمبر 2011

من قراءة الكتب إلى قراءة الكون::: بقلم : د.هبة رءوف عزت

تداولنا ونحن في مطلع العمر قوائم عديدة للكتب التي ينبغي على الداعية إلى الله أن يتزود بمعارفها، ويتعلم قواعد الدعوة منها، سواء في المجالات الشرعية أم الثقافة الإسلامية العامة، بالطبع تضمنت تلك القوائم بعضًا من كتب التاريخ، وموسوعات جغرافيا العالم الإسلامي، وبعض كتب الأدب والشعر الإسلامي.

لكن أحدًا لم يرشدنا لتعلم اللغات، أو إجادة فن من فنون الحياة التطبيقية، أو الاطلاع على كتب أهل العقائد الأخرى، والفلسفات المعاصرة. 

كان الاهتمام باللغة العربية يجُبُّ ما سواه، وملأنا الرءوس بالمعارف والمعلومات، لكن افتقرنا لمهارات االذكاء الاجتماعي والنفسي والعاطفي، ولم نشتبك مع مقولات الآخرين، إلا عبر كتبنا نحن، نرد عليهم نقطة بنقطة، وحجة بحجة، دون أن نتعلم فقه الجدل ذاته، وأدب الحوار وجهًا لوجه.. ونتدرب على الصبر والحكمة. 

وأحسب أن من أهم جوانب ثقافة الداعية أن يكون في المقام الأول رحالة، فمسيرته في الدعوة هي رحلة يقطعها في الحياة، بين نقطة الميلاد ومآل الموت، لكن الرحلة يجب ألا تكون مقامًا للدعوة في ذات المكان، يتوالى عليها الزمن دون أن تتبدل، بل أمرنا الله بالسير والنظر، وجعل لنا في السفر رخصًا في العبادات، منَّة ورحمة منه، وأوصانا بالعباد والبلاد والأمكنة، وأورثنا الخلافة مسئولية وأمانة. 

 فالسفر مدرسة الدعاة؛ لأنه يعينهم على مشاهدة آيات الله، من اختلاف الألسنة والألوان، والعادات والطباع، والمجتمعات والثقافات، ويعلمهم التواضع، والإنصات، والـتأمل، ويربطهم بالطبيعة، ويُربيهم على التوكل على الرزاق اللطيف، ويُشعرهم بالأمن في جنب الله، لا في كنف العشيرة، وحماية ذوي القربى، ثم هو مسافة ينظرون من بعدها على علاقاتهم مع الأهل والولد، ويعودون وقد تعرفوا على ذواتهم أكثر، قبل أن يكونوا قد تعرفوا على العالم الواسع المحيط بهم. 

 

حملتني أقدار الله لبلاد شتى، من أقصى شرق الأرض لغربها، ومن شمالها لجنوبها، فتعلمتُ أن اللغة الأم للبشر كافة هي بسط الوجه، ابتسامة صادقة، وبشر في الوجه، يفتح لك القلوب الموصدة، وإن جهلت اللغة فلك في الإشارة البسيطة والحركة الرفيقة سبيلٌ. 

  • وتعلمت أن الناس يتشاركون في نفس الهموم، فتجمعهم على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، الفقر في كل البلاد واحد، يُذل النفوس، ويَكسر الهمم، والمرض واحد، يؤلم الجسد، ويستدعي الرفق والرحمة، والميلاد واحد، مصدرًا للبشرى، ومدعاة للاحتفال بقدوم الوافد لعالمنا، والموت واحد، فراق وحزن وأسى.  
  • تعلمتُ أن الناس أسرى ثقافاتهم، نستطيع أن نردهم للفطرة لو فهمنا مفاتيح كل ثقافة لنرتب عليها أولويات الدعوة، ورأيت كيف اختلت الأولويات لدى إخوة من الدعاة، فصدوا عن سبيل الله، بدلا من أن يكونوا أئمة يهتدي بهم الناس.  
  • تعلمتُ أن المرأة في كل المجتمعات تعاني من مظالم تتشابه في كثير منها، وأن سبل الإنصاف قد تضل بالبعض، لكن يبقى العذر واحد، والتقصير على من ملك الحل فبخل به، وقصر في الدعوة إليه، وأن مهمتنا هي أن نرد الناس لفطرة التراحم والمودة، لا أن نطالبهم بما لا يُطيقون، ونحملهم أمورًا تحكمها عاداتنا نحن فقط، وما أنزل الله بها من سلطان.  
  • تعلمتُ أن كل الأقليات تلجأ للحيلة، فالتقيَّة ليست سِمة مذهب، بل هي شرط البقاء للأقليات، وتبقى مسئولية الأغلبية الإنصاف والقسط، والعطف والتراحم.  
  • تعلمتُ أن سنن الله لا تحابي أحدًا، وأن عواقب من قبلنا تتزامن مع واقعنا، فهي ليست أمور الماضي، بل العاقبة هي المآل، وأن مآلات أقوام سبقونا على دروب شتى أولى بالانتباه؛ كي لا نسير على نفس الطريق فنزِلَّ، أو نتخذ سبيلا غير سبيل الهدى مخالفة وكبرًا فنضل، فالحق وسط، وأمتنا أمة الاستقامة، لا الغلو ولا التفريط، وتبني منهجها على ميزان الفرقان، لا على محض مخالفة الآخرين، وقد تتقاطع دوائر، لكن يظل المشرب والمقصد هو التوحيد للمسلم، واحترام إنسانية البشر كما أمر الله، رغم أنفنا.. وأَنفَتِنا. 
  • تعلمتُ أن هناك قارات كاملة لا تعرف عن المسلمين والإسلام إلا القليل، ولَعُنا بالغرب أنسانا الشرق، وقدرتنا على زيارة الشمال شغلتنا عن الجنوب، فكنا كما وصف الله في سورة عبس وتولى، سعينا لمن أعرض، وبغى، وناصبَنا العداء، وأعرضنا عمن يشاركنا المعاناة والمظلمة، ويشاطرنا الهموم والتطلعات، ويواجه نفس التحديات، ويرافقنا على سبيل التحرر والنهضة، وإن اختلفت الرؤى والمذاهب. 
  • تعلمتُ أن الفرد قد ينوب عن أمة، وأن الانطباعات الأولى قد تدوم، وأن كل حركة في الغربة تُحسب عليك أو لك، وأن المسلم بالبر والفضل أولى، وأهلٌ. 

 تعلمتُ دروسًا لم أجدها في الكتب، وفهمت أمورًا - في كتاب الله، وهدي نبيه- لم أسمعها في المساجد، ولم يذكرها لي شيخ أو إمام. 

سيروا..وانظروا.. 

وتأملوا وتدبروا.. 

وكونوا عباد الله، في أرض الله..

 

فما من موضع يسجُد فيه العبد إلا شهد له يوم القيامة، وما من أرض قطعها، لا يبتغي إلا الشهادة على العالمين، بخلق المسلم، وهدي الذكر والسنة، إلا رزقه الله بكل شبر فيها الأجر والثواب. 

الكون كتاب مفتوح، ينتظر من يقرأ سطوره..

 فسِر، وانظر… واقرأ..!.

 ــــــــــــــــــــــــــــ

 * مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق