الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

بلال فضل يكتب: جماعة الأمر بالإحباط!


 فرحت بشدة عندما حكى لى التفاصيل، وعندما شعرت أن فرحتى مبالغ فيها سألته: هل ما تحكيه أمر عادى وأنا الذى أبالغ فى تقديره أم أنه فعلا يستحق الفرحة؟ استغرب سؤالى وقال لى إن ما حكاه يعتبر أمرا تشهده عائلته لأول مرة منذ وعت على الدنيا.

أخوه الأكبر يشعر بالسعادة لأن مديرية التعليم الأزهرى أخيرا قامت بتعيين عدد كبير من الخريجين الذين توقف تعيينهم لفترة طويلة، والمزارعون فى بلدته سعداء، لأن معاملة موظفى الزراعة تحسنت كثيرا عن ذى قبل، والشرطة لم تعد تعامل الناس معاملة العبيد كما كانت تفعل، ومسؤولو المستشفى المتهالك الإمكانيات أصبحوا يبذلون جهدا إضافيا فى إرضاء الناس وشرح موقفهم لهم، أما أخوه الذى يمتلك كذا أوتوبيس لنقل الركاب بين المراكز فى محافظتهم الصعيدية، فقد كان يوم تجديد رخص الأتوبيسات بالنسبة له يوما أغبر، ليس فقط لكم الرشاوى التى كان يجبر على دفعها عيانا بيانا، بل لحجم العنت والإذلال الذى كان يلقاه وهو يفعل ذلك واضطراره لكتم مشاعر الغضب العارمة التى تتملكه، فقد دفع من قبل ثمن التعبير عن غضبه عندما جعلوه يلف على أكثر من محافظة بزعم أن أوراقه أرسلت خطئا إليها، لذلك لم يصدق نفسه هذا العام عندما لم يطلب أحد منه مليما، ولم يتعامل معه أحد بجلافة تفوق المتوقع من موظف كاره لعيشته، وحصل على حقه بالأصول وفى وقت قياسى، لدرجة أنه أصر قبل مغادرته المبنى على أن يدفع خمسين جنيها كإكرامية للموظفين الذين تمنعوا بدلال لم يفهمه فى البداية، ليخرج من المبنى وهو يعتبر أن إيمانه بالثورة وانحيازه لها لم يكن عبثا، وأخذ يطوف على كل من يعرفه ليبشرهم بما عاشه وشاهده.

لن تقرأ عن هذه الواقعة أبدا فى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمشمومة، لأن الصحافة تنشر الأخبار السيئة فقط طبقا لمدرسة (عض الرجل الكلب)، كنت ستقرؤها فى الصفحة الأولى فقط لو جرت على النحو التالى «مواطن يقتحم وحدة مرور بالصعيد ويطلق النار على الموظفين لكى يحصل على تراخيص ليست من حقه»، وكنت ستقرأ مئة مقال تعقيبا عليها من كتاب لم يكونوا يرون فى حكم مبارك لمصر أمرا يدعو للخجل، ولم يكونوا مشغولين سوى بنيل رضا أغوات مبارك وخصيانه لكى ينالوا منصبا صحفيا أو يقوموا بتأمين فيلا أو حتة أرض عشان العيال، بعد الثورة أصبحوا جميعا ثوريين، ومع أهداف الثورة ومطالبها، لكنهم فى نفس الوقت لا يكفون عن نعى الخراب الذى حل بالبلاد والانفلات الأمنى المفزع وانهيار أخلاق الناس، ربما يكون أحدهم قد عاد من الخزنة لتوه لكى يصرف مكافأته التى ينالها من مؤسسة خاسرة حتى الأذقان، لكنه يجلس ليكتب مقالة ضد مشاعر الطمع التى تجعل المدرسين والأطباء وعمال المصانع وموظفى النقل يطالبون بحقوقهم، بدلا من أن يطالب القائمين على أمور البلاد بأن يحتضنوا الناس ويتحدثوا معهم بشكل يشعرهم بالأمل والمسؤولية فى نفس الوقت، ويتوقفوا عن التعامل معهم بسياسة العين الحمراء واليد الحديدية والأصابع الخارجية.

كنت أسهر قبل أيام مع أصدقاء فى شارع المعز لدين الله، جلسنا على قهوة تتدفق البهجة فى جنباتها، قام بعض الرواد لكى يسألونى السؤال المعتاد «مصر رايحة على فين والبلد بتولع والثورة عملت لنا إيه؟»، قلت لهم: «فى كل ما قرأته عن تاريخ البلاد اللى بتولع لم أجد من قبل بلدا بتولع وأهلها يسهرون حتى الثانية صباحا وهم ميتون على روحهم من الضحك، وأم كلثوم تلعلع من حولهم، والمشاريب والمأكولات نازلة على ودنه، ومحلات الذهب والأنتيكات تحيط بهم آمنة مطمئنة». لم أكن أقول لهم ولا لك إن الدنيا ربيع والجو بديع، بالعكس أنا أؤمن أن البلد فعلا يمكن أن «تولع بينا» لو لم نوقف فورا نشاط جماعة الأمر بالإحباط والنهى عن الانتخابات التى أصبحت الأكثر انتشارا وتنظيما فى مصر..
فى كل شارع فى بلادى صوت الإحباط بينادى.. انظر حولك وستجد ثوارا يولولون على الثورة التى اتخطفت وضاعت وراحت فى ستين داهية.. ظلوا يحلفون بأن الانتخابات لن تعلن مواعيدها فلما أعلنت بدؤوا يتحدثون عن حتمية تزويرها.. ستكتشف أنهم يعتقدون أن هذا الشعب الذى ضحوا بحياتهم من أجل أن يريد، عندما تأتى فرصة أن يريد سيختار لنفسه الشر ويرفض الخير.. إلى جوارهم ستجد مستفيدين من النظام السابق وموالسين له وحالمين برجوعه لا يتوقفون عن بخ سموم الإحباط فى وجوه الناس.. كلما وجدوا سلبية أو مصيبة كانت موجودة ومتجذرة فى واقعنا أخذوا ينفثون سمومهم وهاتك يا نفخ فى نغمة آدى اللى خدناه من الثورة.. وهؤلاء أيضا ويا للعجب يشتركون مع بعض الثوار فى السعى المحموم لتأجيل الانتخابات وتعطيلها بدعوى الخوف على البلاد ودماء العباد.
ومع كل هؤلاء ومن أجل بروزة كل هؤلاء يعمل إعلام قذر يخدم على مصالح مموليه، ويزيد من الإحساس بالفوضى والفتنة، ويتبارى فيه الكل لإظهار نفسه أنه الأكثر بطولة، إما لغسل تاريخه السابق أو لتكريس بطولته الحالية، إعلام اختزل الثورة فى وجوه مكررة ملها الناس وكفروا بها وبما تقوله، وأهدر فرصا عديدة لكى ينقل للناس روح التحرير التى صنعها وحافظ عليها مواطنون عاديون لديهم أحلام وخيال ورؤية، ومع ذلك خاصمتهم الشاشات إما عن عمد وتآمر أو جهل واستسهال..
كل هذا بالطبع كان يمكن أن لا تكون له قيمة لو كانت هناك قيادة حكيمة حاسمة تدير البلاد، لكن البلاد للأسف ابتليت بقيادة متخبطة بطيئة تصر على استخدام أسلحة قديمة فاسدة، بدلا من أن تنشغل بضبط الأسعار وفرض الأمن وتحسين معيشة الناس بقرارات بسيطة ملموسة، لكن ذلك كله ولحسن الحظ لم يعد يعطى جماعة الأمر بالإحباط والنهى عن الانتخابات أرضا جديدة كما كان يحدث سابقا، بل على العكس جعل الكثير من المتشككين فى جدوى الانتخابات يتزايد إدراكهم أن حياة المصريين لن تتغير تفاصيلها إلا إذا انتقلنا فورا من حكم تمام يا افندم إلى حكم مدنى منتخب لن يسمح لهم الشعب بأن يخوفوه ممن سيحكمه فيه، لأن الشعب كما أراد وأطاح بحاكمه الفاسد الظالم، سيحاسب حكامه الجدد وسيراقبهم وسيطيح بهم عبر صناديق الانتخابات إن أخفق، ومن أجل تحقيق ذلك الحلم الذى شارفنا على الإمساك به بإذن الله، لم يعد الملايين ينزلون إلى الميادين، ومن أجله يصبرون على جار السو، ومن أجله سيضحون ثانية إن جرؤ أحد على المساس به.
تحيا مصر، بس نديها فرصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق