الخميس، 21 يونيو 2012

“خدعوك فقالوا” … أوهام الوصاية العسكرية بمصر … محمد بريك


مقال كتبه الباحث الرائع المتخصص محمد بريك في 28 ديسمبر 2011 ديسمبر الماضي و لم يلق آذانا صاغية حينها…. فهل يلقى الآن الآذان و القلوب و العقول الواعية قبل فوات الأوان…
———————————————–
رزايا النظام الذي خضعت له مصر في العقود السابقة كثيرة .. ومنها تجفيف فرص الوعي الاستراتيجي وغلق مصادر المعلومات في شئون الأمن القومي والدراسات الاستراتيجية؛ بل حتى إجهاضه لأي محاولة أكاديمية لبناء قواعد بحثية محترمة – هي ضمانة أساسية- لتطوير القابلية الاستراتيجية لأي دولة.

ومن أهم المساحات المعرفية والتجريبية الغائبة عن الخبرة المصرية – والعربية عموما - ملف العلاقات المدنية العسكرية.. مع أهمية هذا الملف القصوى كركيزة لأي بناء أو تحول ديمقراطي وكذلك لتدشين مؤسسات تعنى بملف الأمن القومي فاعلة ومعالجة الاحتكاكات الناشئة بين السلطة السياسية المدنية والمهنية العسكرية.

وبسبب هذا الخواء المعرفي الهائل – حتى وسط المتخصصين – كانت تفجؤنا من حين لآخر تصورات سياسية أقل مايقال عنها أن تجافي أبسط قواعد التحول الديمقراطي والعلاقات المدنية العسكرية المستقرة معرفيا وتجريبيا، بل حتى تطعن في ماهية (الديمقراطية) ذاتها. بعض النخب الأكاديمية مثلا طرحوا بعد سقوط مبارك بفترة وجيزة فكرة (النموذج التركي – مجلس الأمن القومي) كبديلا سياسيا مناسبا لمصر .. والأنكى – أنهم عدّوا هذا ضمن النماذج (الديمقراطية) ! 
مع أن الديمقراطية لاتعني عزل الممارسة السياسية عن الوصاية العسكرية فقط؛ بل أن تكون الممارسة العسكرية خاضعة للقيادة السياسية المنتخبة والرقابة البرلمانية .. فما الديمقراطية إلا تمكين للشعب من انتخاب سلطاته وتحديد صلاحياتها والعلاقات بينها والقدرة على محاسبتها.
وإن كان هذا قد حدث من مختصين في السياسة ، فإن هناك بعض التصورات والمقولات التي تنتشر الآن في الساحة المصرية تهيئة لزرع نموذج الوصاية العسكرية كفيلة بإرسال أي مطّلع على هذا الجانب المعرفي الهام لأقرب مشفى لرعاية الحالات الحرجة !
وبالطبع – فإن الأطراف المشتركة في التفاهم على مخاض هذا النموذج البائس هي من وراء إطلاق هذه الدعاوى لتسويقه شعبيا وسياسيا أو كوسيلة لخداع الذات والأتباع.

مشكلة الثورة واحتواؤها:
تحدثنا منذ شهور عدة عن الاستراتيجية المختارة لاحتواء الثورة المصرية وأنها ترتكز على ركنين أساسيين: استيعاب الأطراف السياسية المشاركة – خصوصا الإسلاميين – للقبول بنفس محددات النموذج السابق في الترتيب الإقليمي وسياسات رأس المال العليا وكذلك قبولها بوجود وصي عسكري – وهو الركيزة الثانية.

السبب ببساطة أن الثورة المصرية إن تنجح فهي زلزال إقليمي وتأسيس لمشروع قومي حقيقي .. وأن الأمريكي وكذلك الكتلة الصلبة الباقية من النظام المباركي عندها من المحركات والأدوات للتحرك بشدة نحو هذا الاحتواء. وهذه القاعدة غفلت عنها القوى السياسية في مصر وفشلت في قراءة بديهية في السياسة الداخلية وسياسة القوى العظمى – كما وصفها نعوم تشومسكي.. ونتج عن هذا الفشل التسليم المبكر للمجلس العسكري بإدارة المرحلة الانتقالية ،ثم تفويت فرص متعاقبة لإصلاح هذا الخطأ آخرها الجولة الثورية السابقة في نوفمبر.. 

ولو علمنا أنه في وضع أي دولة من الدرجة الثالثة فإن الخطر الأساس أمام إكمال التحول الديمقراطي هو المؤسسة العسكرية وعزلها عن التدخل في الشأن السياسي المدني (وهذه قاعدة أخرى أقرها من تناول دراسات التحول الديمقراطي كستيبان وبراوزسكي وتشميطر وفالنزويلا– وأكدها فشل 55 حالة تحول ديمقراطي منذ البدء في الموجة الديمقراطية الثالثة في 1974).. فإن تسليم هذه المؤسسة العسكرية بعلاقتها المتشابكة الخارجية والداخلية إدارة المرحلة ودون حسم ملفات هيكلة الداخلية وترتيب البيئة السياسية والاتفاق على العقد الاجتماعي الناشيء بها .. فتلك سقطة بالغة لابد أن يتوب مقترفها علنا.
الثورة لاتكتمل وتتيح لمرحلة سياسية ونهضوية مقبلة إلا بتفكيك مراكز القوة الأساسية للنظام السابق ، ولو عندنا مراكز لايمكن تفكيكها كالمؤسسة العسكرية – وإلا ندخل في حرب أهلية – فإعادة هيكلة العلاقة بينها وبين النظام الديمقراطي الناشيء أمر حتمي ولايمكن تحقيقه وهي من تدير المرحلة.

وحل مشكلة المؤسسة العسكرية في التحول الديمقراطي لايتم دفعة واحدة ؛ ولكن على مرحلتين: الانتقال الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية. 
  • في الانتقال الديمقراطي (وهو مرتبط بالحالة الثورية) لابد من تنحية العسكر عن الشأن السياسي، ومنعهم من إدارة أي جهاز مخابرات معني بالشأن المدني، وتحريم المحاكمات العسكرية، والنص الدستوري على خضوعها للقيادة السياسية المنتخبة والرقابة البرلمانية. وبالطبع فإن التسوية مع العسكر قد تشمل إعفاءه من العقاب على جرائمه السابقة ولكن أن تكون نتيجة تفاوضية يتنازل لأجلها ولاتعرض عليه هدية منذ البدء.
  • بدون هذه المتطلبات – لايمكن التقدم في مرحلة (تثبيت الديمقراطية) وهي الإخضاع (الفعلي) للقيادة السياسية والرقابة البرلمانية وإعادة هيكلة البنى الداخلية ومنظومة القيم الفاعلة لتقبل النسق الديمقراطي وليتناسب مع السياسة الدفاعية الناشئة وإعادة تدوير مساحات الامتيازات المجتمعية والاقتصادية بما يمنع وجود ما يسميه فالنزويلا في دراسته ب(النطاقات المحجوزة).
ويرى نارسيس سييرا وزير الدفاع الأسباني في مرحلة تثبيت الديمقراطية 1980 –1990 في دراسته الرائعة (الإصلاح العسكري في التحول الديمقراطي) أن عدم تحقيق الحد الأدنى في مرحلة الانتقال الديمقراطي والدخول سريعا في المباراة السياسية والتنافس بين القوى السياسية لايؤدي إلا لانتكاسة مرحلة التحول الديمقراطي برمتها.

لايمكن تنحية العسكر إلا بالضغط السياسي الثوري.. وإلا فلن يسلم، وإلا بتوافق وطني كامل على شكل الدولة وحدود العقد الاجتماعي وبالأساس وضعية المؤسسة العسكرية في النظام الديمقراطي.. وإلا فيمكن للمؤسسة العسكرية توسعة الاستقطاب الأيديولوجي والمصلحي والتنقل من طرف لآخر بغية تصوير نفسه ملجأ حماية للبعض وموطن صفقة للبعض الآخر لتعزيز المكتسبات.

ماتخبئه الأيام المقبلة:
وما تترشح عنه الأنباء المتعاقبة البدء الفعلي في تجسيد نموذج الوصاية العسكرية ويتواجد الإخوان كـ (شاسيه) مدني في ظل ترحيب أمريكي عارم. وكما تحدثنا في مقالنا السابق (الثورة والعسكر والإخوان.. مابين النموذجين الباكستاني والتركي) أننا نحكي عن نموذج هجين. الملفات السيادية للعسكر والخدمية للإخوان..
وبالطبع فالمؤسسة العسكرية لاتود لأسباب عديدة الحكم بشكل مباشر ولكن لابد لها من (دسترة) وضعها.. والصيغة المرجحة هي مجلس للأمن القومي على أن تبقى الكتلة الصلبة من العسكر والمخابرات في خلفية المشهد حاضرة.. ومهم أن يتم اختلاق وسيلة تنفيذية للإدارة المباشرة لوزارات الداخلية والإعلام والأمن، وهذا قد يتم عبر رئيس موال يتم تقليل صلاحياته لصالح العسكر ولكن يحتفظ بحق تشكيل الوزارات، أو بالمتابعة الدءوب وهندسة السبيكة التنفيذية التي تنشأ في كل مرة.

صناعة الأوهام لخداع الذات وتخدير الأتباع:
لوعلمنا أن القوى السياسية – وخصوصا الإخوان – كانت تطرح سياسيا ولأتباعها (أملا) سياسيا وحيدا وهو تنحية العسكر واستلام السلطة الكاملة منه.. وبهذا الأمل أمكن تبرير كل خروقات المسار السياسي السابق بدءا من فك الثورة بعد التنحي والقبول بإدارة العسكر للمرحلة الانتقالية، ثم الاستقطاب الأيديولوجي والتعجيل بالانتخابات مع مايمثله هذا التعجيل من مشكلات خاصة بالتوافق وكتابة الدستور في وجود العسكر، والانسحاب من الحالة الثورية خصوصا الأخيرة والتي شهدت حوادث استفزت الحس القيمي والإنساني دون طائل تحريكي، وأخيرا – رفض مبادرة تسليم السلطة لرئيس البرلمان المنتخب وتعجيل الرئاسة قبل الدستور. فأن تأتي بعد كل هذا المخاض العنيف فتقبل بنموذج الوصاية العسكري فهو مأزق حقيقي تحاول من خلاله استخدام وسائل الدفاع الفرويدي والتلفيق السياسي.
  • أولى هذه الأوهام أن هذا هو المتاح ولايمكن التحرك في مسار غيره.. والحقيقة – أن هذا غير صحيح ؛ فلطالما كانت الفرص تترى وتتيح بناء تكتل سياسي مدعوما بحالة ثورية مكتملة (كانت هناك حالة ثورية شبه مكتملة بالفعل بدون الإخوان في نوفمبر الماضي) .. وكذلك مبادرة تسليم السلطة لرئيس البرلمان وقد لاقت قبولا حتى من خصوم الإخوان السياسيين ،ولكن رفضها الإخوان لأنها تخالف حدود المتفق عليه ولأن الإخوان – كأي جماعة إصلاحية – توجل من حالة التصلب الثوري الكامل.
  • ثاني هذه الأوهام أن الحسم الثوري ليس ممكنا بسبب الوضع الجيواستراتيجي والاقتصادي والذي قد يدفع لتدخل إسرائيلي مثلا أو عقوبات اقتصادية أمريكية.. وهذا طرح مفجع.. خصوصا إن علمنا المأزق الاستراتيجي الهائل الذي يحياه الإسرائيلي بخصوص الملف الإيراني وأذرعته، وأن كل الحسابات الإسرائيلية بعد تفجر الثورة المصرية كانت تقدر سنينا لإعادة بناء القدرة التعبوية الإسرائيلية وتغيير العقيدة القتالية وتعديل منظومات التسليح واستيعابها.. والإسرائيلي نفسه يقدر أن نظاما معاديا في القاهرة أمامه سنون أطول للوصول لحالة تهديد وجودي. أما الأمريكي، فإنه أحرص من الطرف المصري على إبقاء حبال مصالحه وعدم شدها لآخر وتر. وكذلك فلقد تحدثنا من قبل أن بناء منظومة ثورية للأمن القومي لها طريقة لاتشعل خط الصراع ولكنها تستفيد بكل الأدوات المتاحة للممانعة وتوفير بيئات النهوض الاستراتيجي وأن المقدمة الوحيدة للتحرك المتدرج في هذا الإطار هي تنحية العسكر عن الشأن السياسي.
  • ثالث الأوهام هو الإدعاء أنه لابد من التفاوض والوصول لتسويات مع العسكر – خصوصا مع الإخوان القوة البرلمانية ذات الأغلبية. ولكن مايتم مع قوة سياسية بمفردها وقد خاصمت الحالة الثورية هو أسوأ صيغ التفاوض. التفاوض لايكون ثنائيا ولكن توافق وطني هو الذي يقوده. والتفاوض لابد أن يتم تحت حرارة الحالة الثورية المكتملة وإلا فلن يحدث التنازل المطلوب. والتفاوض لاتقبل نتيجته إلا بالوصول للحد الأدنى السابق ذكره – وليس حالة هي أسوأ من النموذج التركي (على الأقل الحكومات التركية المتعاقبة كانت تدير بعض الملفات السيادية كالداخلية والإعلام ولها مظلة وزارية في جانب القضاء).
  • رابع الأوهام وأخطرها أن نموذج الأمن القومي من الممكن التعامل معه تدريجيا واستنساخ النجاح الأردوغاني.
يحاول البعض المقارنة بين مجلس الأمن هذا وبين مثيله في أمريكا مثلا .. وتلك مزحة سخيفة. فالمجلس الأمريكي – كما نص مرسوم إنشائه في 1947 – ماهو إلا مجلس استشاري وتنسيقي خاضع للرئيس ويغلب عليه المدنيون الذين يختارهم الرئيس وفي نظام سياسي (متشدد) في إخضاع المؤسسة العسكرية للرئاسة والبرلمان ويعتمد على خطوط متوازية في سلسلة القيادة العسكرية لاتتجمع إلا عند الرئيس ووزير دفاعه.

أما النموذج الذي يغلب عليه العسكر ويديرون به وبغيره الملفات السيادية فهذا دفن لمرحلة التحول الديمقراطي برمتها وتكريس للتبعية السياسية والاقتصادية – فضلا عن تجفيفه لقدرة الدولة الاستراتيجية على إدارة أي صراع سياسي أو عسكري مقبل.
والأكثر تسطيحا من ذلك هو الحديث عن النموذج الأردوغاني .. مع أن نجاح أردوغان (الجزئي) كان نتيجة مخاض عسير بلغ أربعة عقود حدثت فيها ثلاثة انقلابات، وفي ظل أوضاع شديدة الخصوصية في الحالة التركية تتمثل في تقدم البنى الاجتماعية والسياسية التركية، وعدم وجود افتراق بين أردوغان والعسكر على تعريف مهام وأهداف الأمن القومي، وملف الاتحاد الأوروبي الذي مثل حشدا شعبيا وسياسيا فريدا ودفع في سيل الإصلاحات، ووجود الظهير الخارجي غير المعادي لأردوغان.. بل إن الأمريكي إليه أقرب كما ظهر في ضغطه على حزبه في 2003 للسماح بدخول القوات الأمريكية العراق وسط تململ الجيش ورفض الحزب.. وأخيرا – النجاح الاقتصادي والاجتماعي الداخلي على يد أردوغان والذي كانت يده بالفعل مطلقة في كل الملفات الاقتصادية وأغلب السياسية.. ولأنه في يده الأمن والادعاء – استطاع أن يمهد بحرق سياسي (قضية أركون) يتبعه بدء التنازل.

ولكن هل يمكن حتى البدء من الآن وسلوك طريق متدرج حتى لو أخذ عقودا ؟ كما يشير سييرا في دراسته – لايمكنك تحجيم امتيازات العسكر وإخضاعهم فعليا عبر مسار خطي متدرج إلا بعد تنحيتهم عن أي شأن سياسي مدني ووجود وزن سياسي أعلى دستوريا وفعليا للمؤسسة المدنية. بدون هذا .. فإن المؤسسة العسكرية لابد وأن تستخدم الأدوات التي في أيديها لقلب الطاولة.
وهذا يوضح عقم طرح بعض الإسلاميين أن التدرج ومحاولة اختراق الكيانات السيادية والعسكرية والتغلغل بها كفيل بحسم النضال السياسي .. ومرد هذا الوهم نسيان أن الخصم لايبقى متفرجا ولكنه يأخذ احتياطات دفاعية ؛بل وهجومية كذلك. في دولة الوصاية لايقبل العسكر بكيان سياسي مدني قوي ولذلك .. فوسائل التحجيم السياسي والأمن والتفخيخ الداخلي والحرب الإعلامية سواء بحدها الهاديء أو العنيف تبقى حاضرة .. وهذا ماحدث في 1954 مع الإخوان ..

قد تختلف درجة البطش لاختلاف كثير من السياقات ولكن يبقى المنطق التاريخي فاعلا .. من يتفاهم مع العسكر على حساب التوافق الوطني الدائم لبناء نظام ديمقراطي كامل يخسر بالتأكيد ويكتوي بنار من تخلص من بقية الخصوم.. وحينها – لن ينفع ترديدات مقولات الزمن الغابر (أكلت يوم أكل الثور الأبيض) أو الثورة – في عرف الأمثال هذا يجوز!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق