السبت، 12 يناير 2013

المراجعات ضرورة للفرد والجماعة... د. حسن يوسف الشريف

من أسباب النجاح القويّة للفرد والجماعة هى المراجعات سواء كانت بالنقد الذاتي أو طلب النصيحة، وهو ما يسمى عند البعض بـ”التفكير فى التفكير”، ويعني أنه ليس كل أفكارك التى اقتنعت بها وإن كانت صحيحة وقد طبّقتها فقد لا تنجح ولا تكون صوابًا كل الوقت، فكم من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين وأئمة المذاهب قد تتغير فتواه (رأيه فى المسألة) أكثر من مرة فالإمام أحمد بن حنبل يرد عنه فى المسألة أكثر من رأي والشافعي في “القديم” وفي “الجديد” من مذهبه، وهكذا أحكام الفقه وقضايا الاجتهاد والسياسة الشرعية تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأماكن والزمان والعرف، فالمراجعات المضبوطة لفهم الواقع وفهم الشرع مع الخبرة والبصيرة تفيد في نجاح العمل وانتقاله إلى المناسب للشرع والمصلحة بتغير الظروف والأحوال، ولا نركز فقط على أهمية العقل المفكر والإرادة الفاعلة كأسباب للنجاح بل لابد معهما من إضافة أهمية المراجعات أو “التفكير فى التفكير” سواء فى المناهج أو الخطط أو الأهداف أو الوسائل أو غيرها لتحقيق الإرادة الناجحة، فمن علامات النجاح والوعي محاسبة النفس، كما جاء فى الحديث “الكيس من دان نفسه”.

إنّ تذكرنا, أي إحضار أفكارنا الماضية ذات القناعة وإعادة التفكير فيها مع زيادة الخبرة والمعارف, ربما نخرج بأفكار جديدة تفيد فى تجديد الأفكار القديمة بالإضافة أو الحذف منها، وهذا هو طريق الحكمة كما يذكرها الإمام الحسن البصري رضى الله عنه “ما زال أهل العلم يغدون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون العقول حتى نطقت بالحكمة” (ابن القيم – مفتاح دار السعادة، ص200).

والعقلاء والناجحون لا يخافون النقد، والدعوات والمذاهب يجب أن تحرص على ذلك بل تطلبه وتقيم المؤتمرات أو الجلسات لذلك بل ويشترك فيها خصومها إذا أمكن والحرص على حضور المخالفين والمعارضين لها، فلابد أنه سيكون هناك فوائد، من أقلها أن يعرف الآخر أننا لا نحجر على الرأي الآخر بل نسمعه باحترام وإن خالف وجهة نظرنا، ولن نحرم من فائدة هذا النقاش ولن يحرم الآخر، فلربما تزداد خصوبة أفكاره أو بعض أفكارنا، وكما يقول الإمام ابن القيم “لقاء الرجال لقاح العقول”.

يقول العلامة الرافعي: “إنّ العقل يؤمن بأنه لا ثقة فى رأي إلا بعد تمحيصه ونقده، وأنّ النقد الحقيقي للرأي ليس هو الذي يأتي من أنصاره ومعتنقيه، وإنما هو النقد الذي يأتي من المعارضين له والمنكرين عليه”، ويقول أيضًا: “وقد يستغرب بعض الناس من انفراد القرآن من دون الكتب السماوية والأرضية، حيث انفرد وتحدى الخلق جميعًا، وأثبت هذا التحدي فى أكثر من موضع فيه، بل وتحداهم تحديًا قويًا واتهمهم بالعجز إذا لم يقبلوا التحدي”، ومن هذا المسلك القرآنى قال: “وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني، ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها، وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة، معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى فى إعجازه، فسما بالحجتين معًا، وذلك هو المبدأ الأول لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حقتت إلا الانتصار فى معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحاره فيها لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقوم الميزان العقلي في هذه الإنسانية”، وقال أيضًا: “كل شيء فإنما صحته وتمامه فى معارضته ونقده”.

إنّ النقد مثل جهاز التنفس وهو هام جدًا للصحة، كما هو مضاعفة لقوة الرؤية فى الطريق إلى العمل، لذا يقول الدكتور عبدالكريم بكار فى كتابه “تكوين المفكر”: “النقد هو الرئة التى تتنفس بها الأمة، وهو المصباح الذي يضيء لها الطريق، وهو لا يؤذي إلا الحالات المريضة، ولا يتضايق منه إلا من لديهم نوع من الإعوجاج أو التفريط”.

وقد يكون النقد أو النصح وسيلة للتحذير من أخطاء خطيرة نعيش فيها ولا نشعر بها، أو فتن مضلة أو مضرة لا يُحسن اكتشافها فى بداياتها إلا العلماء الموفقين، يقول سفيان الثوري: “الفتنة حين تدبر يعرفها كل الناس، ولكن حين تقبل لا يعرفها إلا العالم”.

ولقد راجع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فى الكثير من المواقف، مثلما حدث فى بداية معركة بدر لتحديد أرض المعركة, وتدخل المراجعات هنا تحت باب النصيحة “إنما الدين النصيحة” وهى تهدف إلى زيادة الخبرة والفائدة من وراء أي إنجاز بشري.

وتشمل المراجعات الأفكار والآراء والسلوك والمواقف التى يتبناها الفرد أو الجماعة أو المؤسسة ولابد من وجود القناعة عند الجميع – قادة أو أتباع – لأهمية المراجعات، وإذا لم توجد القناعة فلابد من إيجادها، لأن ضعف المراجعات أو اختفائها هو خطر يهدد وظيفة المجتمع البشري فى الحياة وهى تحقيق العمران وإقامة العدل.

وكما تتعدد وسائل المراجعات من محاسبة النفس “النقد الذاتي” أو تقديم النصيحة أو طلبها أو الشوري أو الحوار أو المناظرة أو الدراسات والبحوث المشتركة والفردية فكذلك يختلف الموضع والشأن الذي تتم فيه، كأن يكون سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا…، ونوع النشاط المناسب ونتائجه أو عاقبته من نجاح أو فشل، أو من خير أو شر، والتوقع المستقبلى لما سيقع من فرص أو تحديات ستوثر على حركة أداء النشاط يقول الدكتور بكار فى “تكوين المفكر”: “تحتاج الأمم دائمًا إلى من يفحص لها مساراتها، ويتحسس مآلات أعمالها، ومن يمد لها قرون الاستشعار فى جوف المستقبل حتى تضبط إيقاع حركتها اليومية برؤيتها المستقبلية، وهذه المهمة العظيمة من المهام الجوهر للمفكر، بل إن المفكر يكاد يكون المؤهل الوحيد للقيام بذلك”.

ويبنغي ألا تقف حدود المراجعات عند: أين الخلل؟ لاكتشاف السلبيات والعيوب، بل لابد أن تمتد لتشمل كل نواحى نجاح الإنجازات كمًا ونوعًا وسرعةً.. كما ينبغي ألا تقف المراجعات عند حد اكتشاف “العلة” بل لابد أن تمتد إلى حد اكتشاف “الدواء”.. لأن تحقيق صحة البدن لا يقف عن اكتشاف المرض فقط بلا لابد من تحديد “الدواء” القادر بإذن الله على تحقيق “الشفاء” من هذا المرض.

وبهذا تفيد المراجعات بعد أن نتحقق بها – قناعة وسلوكًا – في المساهمة الفعّالة فى سيرنا فى طريق النهضة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق