الخميس، 10 يناير 2013

فمن للدعوة إذن؟ (3-2) ..مصطفى كمشيش


تحدثت فى المقال السابق عن دخول الإخوان والسلفيين وغيرهم بحر الحياة الحزبية المتلاطم أمواجه, وقد رأينا خلافات وانشقاقات وتنافسات وملاسنات بينهم ومع غيرهم بسبب الحزبية، وصلت فى بعض الأحيان إلى الشجار وإلقاء الأحجار وإراقة الدماء, كما كان الحديث عن الالتباس فى مفهوم شمول الإسلام (وهو مفهوم صحيح), حيث حدثت المشكلة حينما ظن بعضهم أن الشمول يعنى القيام بكل الوظائف, وهذا يناقض فكرة جوهرية تتعلق بأن أى جماعة عاملة على الساحة إنما هى جماعة من المسلمين.. حيث يتبقى أدوار ووظائف ومهام لباقى قوى المجتمع ومؤسساته تساهم فى (تحقيق الشمول), وتحدثت عن بعض أضرار التصاق العمل الحزبى بالدعوي.
كيف جنى الحزبى على الدعوى؟
فى العمل الحزبى يكون التنافس والتحالف والتراجع وغير ذلك.. فحين صرح الإخوان بأنهم لن يترشحوا على أكثر من 25% من مقاعد مجلسى الشعب والشورى تغير ذلك, وحين صرح د.بديع (بعد ثورة 25 يناير مباشرة) بأن وجود رئيس إخوانى لمصر فى هذه الفترة خطر على أمن مصر, فوجئنا بعدها بتقديم الجماعة مرشحًا للرئاسة, وحين خرجت الجماعة للتظاهر ضد وثيقة السلمى فى 18/11/2011 وجدنا أن الدستور قد تضمن أكثر مما تظاهروا لرفضه!!
ينما تقول مؤسسة الرئاسة إنها لن تطرح مشروع الدستور للاستفتاء إلا بعد تحقيق توافق معتبر, فوجئنا بتحديد موعد الاستفتاء يوم أن تسلمه الرئيس, وسمعنا أن القانون يلزمه بذلك, وحينما أقال الرئيس النائب العام, رأى القضاة أن القانون لا يسمح له بذلك, وحينما أصدر الرئيس الإعلان الدستورى غضب كثير من القضاة.. ثم تم التراجع عنه..
الدعوة والوفاء بالعهود
قد يكون ذلك مفهومًا ومعتادًا فى العمل السياسى الحزبي, لكنه يقدح بل ويخصم من الرصيد الدعوى القائم على قيم مستقرة كاحترام الصدق والوفاء بالعهود, فمرجعيتنا الإسلامية تجعلنا نقلب الصفحات لنتأمل هدى المصطفى (صلى الله عليه وسلم).. 
فى صحيح مسلم – كتاب الجهاد والسير - باب الوفاء بالعهد – من حديث حذيفة بن اليمان قال: ["ما منعنى أن أشهد بدرًا إلا أنى خرجت أنا وأبى حسيل, قال: فأخذنا كفار قريش, قالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده, ما نريد إلا المدينة, فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه, فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر, فقال: انصرفا.. نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم"]..
ياالله, أفى هذا التوقيت يا رسول الله؟ وأنت بحاجة لكل جندي؟ وفى أجواء حرب قد تطير فيها الرقاب وتراق الدماء؟.. فكيف كنت فاعلاً يا سيدى فى ظروف أسهل.. وفى خلاف بين بنى الأوطان, وليس بين إسلام وكفر؟.. ألا تلاحظون أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال : نفى لهم بعهدهم.. ولم يقل: فِيَا لهم بعهدكما؟.. لقد اعتبر أن عهدهما قد أصبح عهده هو, وأنه ألزمه هو..
من هنا, قال علماؤنا فى السياسة الشرعية: أهمية احترام العهود والمواثيق.. ومن هنا صار العُرف أن تتعهد الحكومات المتعاقبة باحترام الاتفاقيات التى أبرمتها الحكومات السابقة.. وقد تكون هذه الاتفاقيات مع بنى صهيون مثلاً.. فكيف بالاتفاق مع بنى الأوطان؟..
الآثار السلبية على العمل الدعوى..
حين يعود الداعية الى مسجده وشارعه وجيرانه يدعوهم إلى الله سيتذكرون مواقفه الحزبية التنافسية بإنجازاتها وعثراتها, بنجاحاتها وإخفاقاتها.. كيف يحدثهم عن الكذب وعن خلف العهود.. كيف يقول لهم: ترفقوا مع من بال فى المسجد.. وسيذكرونه بأنه لم يترفق مع مخالفيه فى الرأى على صفحات التواصل الاجتماعى!!
الداعية يريد الخير للمدعو.. لا يريد أن يقهره ..أو يغلبه ..لماذا؟ لأنه محل نظره واهتمامه ويسعى لجذبه إلى دائرة التدين والالتزام.. هل يتوقع من يهاجمون غيرهم (بسبب الحزبية) أن يستجيب الناس لهم؟.. أن يثقوا فى فكرهم؟.. هل يكتفى الداعية بقوله: هذا علمانى.. إنه شرير.. هذا ليبرالى.. هذا ناصرى.. وهكذا.. وكأنه يتعالى على الناس بتصنيفه إياهم.. الدعاة لا يسعون إلى (إخراج) الناس من دائرة الدين، بل (بإدخال) الناس إلى دائرة التدين, أرأيتم كيف جنت الحزبية على نقاء الدعوة وصفاء مقاصدها؟
أرأيتم كيف يخرج الإسلاميون من استحقاق انتخابى لاستحقاق آخر, فمن للدعوة إذن؟
لقد دار حوار بينى وبين أحد كبار القيادات الإسلامية وهو صاحب عدة مؤلفات, قلت له: ألا تخشى على الدعوة من هذا الزخم السياسى والحزبى؟ فقال: قد لا نكون بحاجة للجماعة حين تقوم مؤسسات الدولة بواجباتها, فينصلح التعليم والصحة وهكذا, فقلت له: قد يكون هذا صحيحًا حينما يكون حجم المقاومة للمشروع الإسلامى فى حدوده الدنيا.. لكن المقاومة مازالت كبيرة, ومن ثم فالحاجة إلى تغيير المجتمعات مازال قائما, وقد علمتنا الأيام أن التغيير لا يأتى من خلال حاكم أو دستور أو سلطة, لا يأتى من أعلى الهرم لقاعدة الشعب, هذه وسائل هامة لكنها مُساعدة, فالتغيير الحقيقى يتحقق بتربية الناس, والتربية تحتاج إلى دعاة ومربين وصبر وقدوات..
لذلك يبقى السؤال مطروحًا: فمن للدعوة إذن؟..
وللحديث بقية…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق