الاثنين، 27 يوليو 2009

مختار نوح يكتب فى ذكرى رحيله الثالثه: أحمد نبيل الهلالي .. أسطورة «القديس» التي لا تموت أبدا



كانت قضية سياسية كبري تلك التي وكلت فيها في أواخر السبعينيات... وكان المتهم فيها أجنبيا عن مصر وقد ظهر علي شاشات التليفزيون وهو يعترف بأنه ارتكب ذلك الجرم الذي أسند إليه... وبينما أنا أشاهد اعترافات المتهم تسلمت خطاباً من نيابة أمن الدولة العليا يفيد أن المتهم قد اختارني للحضور معه أمام نيابة أمن الدولة العليا التي كانت في ذلك الوقت في شارع زكي الموازي لشارع سوق التوفيقية وكانت نيابة أمن الدولة تشغل شقة صغيرة لا تزيد مساحتها علي مائة وخمسين متراً مربعاً..
وربما كان ذلك بسبب «قلة الشغل» في ذلك الوقت... إذ لم تكن الدولة حريصة علي ظلم العباد في ذلك الوقت بالقدر الرهيب نفسه الذي يحدث في هذه الأيام.

وبالفعل حضرت التحقيقات وخرجت وأنا أضرب أخماساً في أسداس... فالقضية من النوع الثقيل... والمتهم «إيراني» الجنسية... والاعترافات متلاحقة.... وآثار التعذيب واضحة علي المتهم... وهي علامات حرق لأعقاب السجائر في بطن المتهم والمصيبة الكبري أن الضابط الصغير الذي قام بتعذيب المتهم وقتئذ وجعل من جسده «طفاية سجاير» كان ابنا لرئيس جهاز مباحث أمن الدولة في ذلك الوقت بما يعني أنه رجل مسنود بسور من حديد أما المحامي الذي تم اختياره... فقد كنت متخرجاً في كلية الحقوق ولم يمر علي تخرجي أكثر من خمس سنوات منها سنة قضيتها في أداء واجب التجنيد... وسنتان في التدريب علي المحاماة... وكان الحل في مكتبة نقابة المحامين فرحت أبحث عن حل مشكلتي بين دفات الكتب فالجناية التي تم مواجهة المتهم بها كانت عقوبتها الإعدام...
فجلست أطالع أوراق الكتب وقد جلس أمامي أحد عمالقة المحاماة وهو الأستاذ أحمد نبيل الهلالي... الذي كنت أعرف عنه فكره اليساري... والعجيب أنه هو الذي اقترب مني وقطع المسافات التي بيننا وكانت أهم المسافات هي غربتنا الفكرية وكنت أعاني علامات الالتزام الديني المتأخر بما يصاحبه أحياناً من جمود... وعداء مستحكم لبعض الأفكار الأخري وبما يترتب علي ذلك من ابتعاد عن الآخر وتحصين النفس بالأسوار الحديدية حتي لا تداخلها الأفكار الغريبة... أو هكذا كنا نعتقد...

إلا أن سحر الأستاذ الهلالي... وحديث الأستاذ محمد علوان عن الهلالي وهو الذي علمني المحاماة.. قد سهلا لي مهمة الاستماع إليه فبدأت في عرض مشكلتي... التي تخلص في القضية التي تكبرني وتكبر قدراتي وقدرات جيلي... فقد كانت علاقة الدولة المصرية بإيران في أسوأ حالاتها... وفكرة تصدير الثورة الإيرانية كانت تسيطر علي مخاوف السياسة المصرية حتي شعرت أن حبل المشنقة سوف يلتف علي عنق المتهم الإيراني ثم يلتف علي عنقي من بعده... إلا أن الله قد جعل لكل عسر يسراً... فكان التيسير علي يد «الهلالي » ...
ولا أعرف ما الذي دفعه إلي أن يقرأ معي كل أوراق القضية وكانت تزيد علي ألف وستمائة صفحة... قرأناها في أربعة أيام... ثم بدأ في كتابة أهم النقاط في خطة الدفاع... في كلمات وعناوين.. بخط كبير إذ لا تحتوي الصفحة التي يكتبها الهلالي إلا علي عشرين كلمة علي الأكثر وبعبارات واثقة كان يؤكد أن التعذيب الذي أكده التقرير الطبي إن لم يستبعد الاعترافات تماماً فسوف يساهم في تخفيف الحكم وبدأت أخطو مع الهلالي خطواتي الأولي... حتي كان يوم الحكم...

وكانت الدائرة الجنائية برئاسة المستشار سيد الخشن وهو رجل معروف بحزمه وبعدله في الوقت ذاته... فدخلت إلي المحكمة وكانت خالية تماماً إلا من محام وحيد... كان قد سبقني في الحضور... فكان هذا المحامي هو الأستاذ العملاق أحمد نبيل الهلالي.... وإذ تعجبت من وجوده في الجلسة فظللت أسأل عما إذا كانت له قضية في ذات الجلسة من عدمه فعاجلني بالإجابة... بأنه جاء ليستمع إلي مرافعتي... ولم أكن لأتخيل وقتئذ أن يكون الهلالي بمثل هذا التواضع... وبمثل هذه التضحية النبيلة بوقته وجهده وأضلني ظني إذ أوحي إليّ بأن هذه المبالغة في الأدب والتواضع ربما يكون وراءها مغنم أدبي لشخص الهلالي أو أن يكون مقدمة لدعوة فكرية إلي منهجه الاقتصادي...
المهم أن مرافعتي قد انتهت إلي طلب البراءة... وبالثقة نفسها التي طلبها مني «الهلالي» واستعرضت أدلة التعذيب وطالبت المحكمة بمحاكمة الضابط الصغير ومحاكمة والده الذي بسلطته فعل ذلك... وكنت التفت بين الوقت والآخر إلي «الهلالي» فاستمد منه الثقة وهو يبتسم ابتسامة الواثق المنطلقة من وجهه الرقيق... بل الرقيق جداً... ومن عينه التي يشع منها الحضور والذكاء ومن قسمات جبينه العريض الذي تتزاحم خيوطه مع حركة حاجبيه إلي أعلي... حتي انتهت المرافعة... لكن «الهلالي» لم يغادر القاعة إذ آثر أن يبقي معي حتي حكمت المحكمة بسجن الإيراني لمدة خمس سنوات أو سبع سنوات فقط وهو ما لا أتذكره تحديداً... لأجد أثر الفرحة في مصافحة الأستاذ الهلالي للتلميذ الصغير وهو يبشرني بمستقبل واعد...

ولم أفارق الهلالي منذ هذا الوقت أبداً... ولمدة خمس سنوات متصلة لكنها لم تكن مصاحبة «صداقة» بالقطع وإنما كانت مرحلة استثمار للوقت في مصاحبة عملاق من عمالقة القانون... أستفيد منه... ولا أفيده... فليس عندي ما يأخذه... ثم كانت قضية «الجهاد الصغري» في عام 1979 بعد قضية إيران مباشرة وكان عدد المتهمين فيها يزيد علي المائة وكنت أحمل وكالة من الكثيرين فيها فلجأت إلي المناضل الكبير نقيب المحامين الأسبق الأستاذ عبد العزيز الشوربجي... الذي كان يعاني ضعفاً في الإبصار في ذلك الوقت فساعدني قدر جهده ثم أخبرني بأنه سيرسلني إلي أستاذ كبير... وأنه هو الذي يملك نواصي هذه القضايا... وكانت المفاجأة أن أرسلني مرة أخري إلي العملاق النبيل الأستاذ «الهلالي» لأبدأ معه صفحات جديدة من التلقي والتعلم... وليشاركني حمل عبء المتهمين.. بل ويحمله عني وأنا أستمع إليه ومعي نفر غير قليل من المخلصين وأتعجب من تواضعه ومن فرط نضاله من أجل قضايا الإنسان المصري وحقوقه... وكانت هذه البدايات التي أكملت فيها الخطوات بفضل دفعات هذا الرجل... العملاق في مهنته... وفي خلقه أيضاً.

ثم كان أن فكرت مع نفر قليل من المحامين في أن نصدر نشرة غير دورية نخاطب بها المحامين ونشرح فكرتنا الإسلامية... علي أن تكون صادرة من النقابة العامة وبدأنا نحسب أسماء المعارضين لها في مجلس نقابة المحامين... أو من نعتقد أنه سيعارضها... فكان أول الأسماء المتوقعة علي كشف المعارضين لنا هو اسم الأستاذ «الهلالي» وذلك لاختلافه الفكري معنا علي الأقل فقلنا لا مانع فليوافق ثلاثة وعشرون عضواً من المجلس وليرفض نشرتنا الإسلامية اسم واحد منهم... وكنا نقصد بالاسم الرافض هو اسم الأستاذ أحمد نبيل الهلالي...
وتقدمت بالطلب إلي مجلس نقابة المحامين في عام 1979 ... وكانت النتيجة موافقة عضو واحد علي إصدار النشرة الإسلامية المعنونة باسم «الدفاع الإسلامي» ورفض هذه النشرة باقي الأعضاء بلا استثناء... وكان العضو الوحيد الذي دافع عن هذه النشرة هو الأستاذ أحمد نبيل الهلالي.... فكان موقفه هو بداية الانكسار للجمود في داخل الفكر المتحجر لدينا... وأخص نفسي بذلك.... فلم تكن أغراض الرجل تكمن في مصلحة لذاته... وإنما تكمن في مصلحة الإنسان المصري وحقه في أن يفكر ويعتقد ويعترض ويثور ويغير واقعه متي أراد... لقد دافع الهلالي عن حقي في الفكر رغم مصادرتي لحقه في ذلك الوقت...

من هنا كانت البداية... فاستمرت مصاحبتي للعملاق.. الذي كانت تتناثر الروايات عنه في كل مكان.... حتي أصبحت كالعجائب التي ترويها الأساطير... فتارة يحكون عن ثروته التي تخلي عنها والتي ورثها عن أبيه رئيس وزراء مصر الأسبق وتارة يحكون عن تطوعه للدفاع عن الإنسان المصري في يناير1959 وفي السبعينيات ثم في نهاية السبعينيات كان اعتقاله بسبب مظاهرات الشعب المصري في 18 يناير من عام 1979 ... لكن الهلالي لم يكن يحكي عن نفسه أبداً... وإنما كان الناس حول بطولاته يتندرون ويتسابقون....
 ولم تنقطع دروس الهلالي التي يلقيها كلما سار في طريق أو جلس مع فريق أو ألقي بها في مؤتمر أو تناثرت منه الدروس بحكم محبة الكثيرين ومحاولتهم تقليده إلا أن تواضعه لا يمكن لأحد أن يقلده والأصعب من ذلك أن تحاول تقليد تجرده وبساطته فقد كان يحمل نفساً لا علاقة لها بالمباهج، ولا تستهويها الأموال... وهذه النفس تنافس غلاة الصوفية في زهدهم... وتزاحم الرهبان في تخليهم عن الحياة وتذكرنا بالدعاة الأوائل في حبهم للتضحية وهوان الحياة عليهم... فلم يكن يدافع عن الكادحين من برجه الذهبي وإنما كان يدافع عنهم بالانضمام إلي حياتهم وبأن يفرض علي نفسه بساطة العيش... وأن يدفع معهم ثمن المبادئ سواء بسواء...

ثم كان أن زاملته في مجلس نقابة المحامين في عام 1985 فقد كان هذا المجلس غنياً بالأفذاذ... وكان غنياً أيضاً بالصراعات السياسية... فقد ولد هذا المجلس بعد صراع مع الرئيس الراحل أنور السادات والذي أصدر قراراً بحله ثم عين مجلساً مؤقتاً إلا أن مجلس النقيب أحمد الخواجة- رحمه الله- عاد علي أجنحة أحكام القضاء وبعبقرية الدكتور الفقيه محمد عصفور -رحمه الله- والذي انتزع حكماً بعدم دستورية أي قانون أو قرار جمهوري يصادر علي الحريات النقابية أو يفرض علي أبناء المهنة مجلساً معيناً... وتم إعادة الانتخابات بعد إزاحة المجلس المعين لينتخب المحامون ذات المجلس الذي فرض السادات عليه الحراسة لنقابة المحامين وقد حوي بين الأعضاء «أحمد نبيل الهلالي » ... لكننا دائما كنا نراه الأعلي في القامة... والأكثر أدباً عند اختلاف الرأي وقد خلا وجهه من الانفعال عند الاختلاف وخلت نفسه من البغضاء والشحناء... وقبل أن أعرف أن المحامين قد أطلقوا عليه لقب «القديس» كنت أسميه كذلك وكنت أحدث نفسي عن سر هذا الخلق الفريد عند الاختلاف في الرأي وسر هذا التواضع لرجل هو بمقياس العصر... وكما يقولون.. حسيباً نسيباً ذو عرق وجاه... ومع ذلك فلم يكن الهلالي يري نفسه كذلك....

وكانت المرحلة الثانية مع الهلالي حينما قدمني إلي المجتمع الدولي... في حماية حقوق الإنسان... وقد كنت أصغر أعضاء مجلس نقابة المحامين في هذا الوقت سناً وأقلهم شأناً أو تاريخا... وكان مكتبي في ذلك الوقت لا يزيد علي حجرتين من شقة مكونة من أربع حجرات ويشاركني في الحجرتين الأخريين زميل لي وفي أجنحة هذا المكتب المتواضع كانت أول زيارة للعملاق «أحمد نبيل الهلالي» في مكتبي... وكان بصحبته وفد من منظمة العفو الدولية... أرادوا اللقاء بالمحامي الذي يهتم بحقوق الإنسان علي حد تعريف الأستاذ نبيل لصفاتي أمامهم... وكان الاهتمام بمناقشة ما يحدث للمتهمين المحبوسين علي ذمة قضايا تحمل الفكر الإسلامي وقضايا الإخوان المسلمين... وكذلك أحوال المعتقلين... وفي كل مرة كانت شخصية «الهلالي» تؤكد نفسها أمامي فمثل هذا الاهتمام لم يصدر حتي من كثير من المعنيين بالشأن الاسلامي... ومثل هذا الاهتمام بأمر تعميق خطواتي في مجال حقوق الإنسان لم يكن ليحصل علي اهتمام كثير من المقربين لشخصي...
إنك إذن تستطيع أن تقرر أن الهلالي كان يعيش للإنسان ولخدمة فكر الإنسان... أياً كان هذا الفكر الذي يسكن وجدان مخالفيه... وكان أن تعددت اللقاءات في المؤتمرات والمنظمات ومازال يدعمني حتي وصلني اختيار أمين عام منظمة العفو الدولية في ذلك الوقت «إيان مارتن» لشخصي كمراقب بالمنظمة ومنحني شهادة تقدير هي الأعلي فيما حصلت عليه من تقدير أعتقد وبكل يقين أن الهلالي كان يسكن خلف هذا التقدير..بل لعله أراد أن يجعل من هذا التقدير حافزاً لي لمواصلة الطريق.

واسمح لي أيها القاريء أن أقفز بك إلي كلمة ألقاها «الهلالي» في أحد المؤتمرات التي كانت تنظمها «لجنة فلسطين» في عام 1988 وهي إحدي لجان حركة «الإخوان المسلمين» .. وقد حضر المؤتمر آلاف من شباب الإخوان وشيوخهم وقليل من أصحاب الفكر القومي المستقل.. وكان المؤتمر الذي نظمته «لجنه فلسطين» في نقابة المحامين وكانت كلمة نبيل الهلالي أمام هذه الآلاف التي كان يصعب عليها أن تستمع لغير الكلمة واللسان الإسلامي إلا أن نبيل الهلالي واجه المجتمع السياسي والإسلامي منه بالمرض الحقيقي الذي نعاني منه فقال ما نصه:-

«إن الوقت لا يتسع للشعارات المذهبية ولا للأفكار الإيديولوجية وإنما يجب أن نتحد جميعاً من أجل فلسطين، فهي الهدف السامي الذي لا نختلف عليه وأي حديث غير حديث مقاومة الاحتلال الصهيوني هو حديث إضعاف لقضايانا المصيرية»

ثم أتي موعد كلمة المستشار «مأمون الهضيبي» المرشد السابق للإخوان المسلمين- رحمه الله- وضجت القاعة بالهتافات ذات اللفظ الإسلامي فاستوقفهم المستشار الجليل -رحمه الله- قبل أن يتمادي بهم الهتاف قائلاً: «إن ما قاله الأستاذ نبيل الهلالي يجب أن ترقي إليه جميع الأفهام » ...

إن المرء ليتعجب إذ كيف تضيع أمة وبها مثل هؤلاء الرجال وكيف تعود قامتها إلي السماء إذا كانت الأيام تضن علينا بأمثالهم... فلا تكررهم... وكلما أخذت منا عملاقاً بخلت علينا بالشبيه... لقد أنشأ «الهلالي» مكتباً للمحاماة ثم خصصه لحماية حقوق العمال... وحقوق الإنسان المصري المطحون... ثم تبعه آخرون في إنشاء مكاتب مماثلة وكانت أيضاً في بدايتها لحماية ذات الأهداف... إلا أنك تستطيع زيارة مكتب «الهلالي» بعد عشرات السنين من تكوينه ونضاله... فتراه وكأنك تركته بالأمس... بسيط كصاحبه ولا يمكنك أن تفصل بين الفكرة وبين الأستاذ فهو يعمد إلي بساطة الأشياء فيتناولها... ويبعد عن أي محاولة للتمييز أو الارتقاء الطبقي... وكأن الأثاث الذي احتواه المكان يعانق «الهلالي» في بساطته... ويزاحمه في تواضعه.

ويمكنك أيضاً في الوقت ذاته أن تزور مكاتب من سار علي ذات الدرب مقلداً... أو محاولاً أن يقلد منهج «الهلالي» في الدفاع عن الإنسان المصري...إلا أنك سوف تقف صامتاً أو تعود من حيث أتيت فأمامك لافتة تؤكد لك أن الاستشارة ليست مجاناً وأن الدفاع عن المظلوم وصاحب الرأي لم يعد مجاناً وإنما عليه أن يدفع الكثير لمن ظلموه ولمن يدعون أنهم سيرفعون عنه الظلم أيضاً وهذه الأتعاب والغنائم التي يجنيها أصحاب الشعارات الكاذبة ليست ثابتة... وإنما تتضاعف بقدر تضاعف قيمة الأثاث وأسعار السلع في مصر المحروسة... وإذا ما تقابلت مع صاحب المكان فقد يجرك فنجان القهوة المرصع بالذهب في أن تعيد تفكيرك في الاعتماد علي صاحب هذا المكتب متي كنت من المعدومين الذين يبحثون عمن يناصرهم إيماناً بقضيتهم... المهم أن حال الكثيرين من الذين بدأوا مع الهلالي وهم يدعون ذات السلوك قد تغير حالهم... وتطور إلي الرغد وحياة الترف... وبعضهم تحول إلي سكني القصور... وبالقطع لا أري في ذلك عيباً ولا اتهاماً... ولكننا في الوقت ذاته لابد وأن نري شيئاً مقابلاً وهو عطاء الهلالي الدائم للإنسان المصري دون مقابل ودون أن يكلف المظلوم حتي عناء الشكر... فهل يصدق المرء أن يقابل رجلاً مثل الهلالي يبيع مباهج الحياة ليعيش بثمنها غيره....؟!

وإذا كنت قد رويت لسيادتكم بعض اللقطات حول إتصالي بهذا العملاق من خارج الأحداث إلا أني لست نداً له حتي أدعي صداقته... ولم ارتفع إلي مستوي التتلمذ علي يديه إلا أنني مع ذلك أكاد أجزم بأن مصاحبته قد غيّرت في نفسي الكثير وأني لم أجد تفسيراً حتي لأصغر وأدق الأمور فهو مثلاً لا يملك إلا ذلك «البالطو» الوحيد الذي كان يرتديه في كل شتاء... ولم يمتلك السيارة الفاخرة ولا غير الفاخرة طيلة حياته...
فقد كنت أتعجب في حياتي لحال اثنين أولهما كان المستشار الشهير عبد الغفار محمد والذي حكم في قضية «الجهاد الكبري»... فذلك الرجل الذي سطرت يداه حكماً تاريخياً في القضية رقم 462 لسنة 1981 دافع فيها عن حقوق الإنسان المصري وأثبت ما وقع علي المتهمين من تعذيب ثم دافع عن القانون وكتب حكماً قضائياً أدان فيه من أدان وقضي ببراءة العشرات وطالب بإحالة ضباط التعذيب إلي المحاكمة دون أن يخضع لسطوة إنسان أو سلطة حاكم أياً كان... ومع ذلك... كنت أشاهد هذا العملاق حتي عام 1980 وهو رئيس لدائرة جنائية يتزاحم مع الناس من أجل أن يستقل وسيلة مواصلات ويتهامس متودداً مع سائق التاكسي حتي يوصله إلي بيته...
وتسابق مع هذا النموذج الرائع من نماذج بلدنا ذلك العملاق «أحمد نبيل الهلالي» .... وهو المحامي العالمي والذي لو أراد كنوز الدنيا لدعاها وستأتي إليه راغمة.. ومع ذلك تجده ومعه ابتسامته يحرص علي أن يكون كسواد البشر... اختياراً منه لمنهج حياة... فأعجز الكثيرين حتي في مجرد تقليده، ذلك أن التبسط في العيش والتواضع والتسامح ورقة الطبع هي صفات لا يكتسبها الإنسان بمجرد قرار يصدر منه ولا حتي بمجرد رغبة في إتباع أحكامها وأوامرها ولو كان الأمر قد صدر من كتاب مقدس... فلا يمكنك أن تعيش هذه الصفات إلا أن تطوع نفسك وتدربها عليها... ثم تقودها إلي أن تعشق حياة... تلك صفاتها ثم ... يمتلئ الوجدان بيقين الاقتناع بصحة هذه الحياة وسلامتها....

وأنا لا أعرف عمر «الهلالي» يوم أن وافته المنية يوم 2006/6/18 في أحد المستشفيات المصرية لكني أشعر من خلال تاريخه النضالي أنه ربما يكون قد اقترب من الثمانين عاماً... علي الأقل لأن بدايات الخمسينيات كانت تشهد نضاله... حتي في زمن الخوف والصمت الناصري والذي كان الموت هو ثمن المعارضة للنظام السياسي وقتئذ ومع ذلك كان نبيل الهلالي يعارض ثورة يوليو فيما أبرموه من اتفاقيات مع بريطانيا في عام 1954 ... رافضاً أي نوع من الوصاية حتي تحقق الجلاء في عام 1956 .... ومع ذلك لم يسلم من الاعتقال لمرات علي فترات الثورة المتباينة وفي عهود كل جمهورياتها ولا يمكنك أبداً أن تشعر بهذه الأعوام الثمانين وأنت تتحدث مع الهلالي بعد أن تخطي كل هذه السنين بل تراه يسبقك في السير.... ويتقدمك في الصفوف وتعتمد عليه ولا يعتمد عليك.
وقد وقفنا جميعاً نستمع إلي مرافعته في قضية حديثة نسبتها أجهزة الأمن لليسار المصري علي أنها تنظيم شيوعي كبير... تري أن «نيابة أمن الدولة العليا» لم تقدم للمحاكمة إلا متهماً وحيداً كان يمارس معارضته للنظام علي «الكمبيوتر» مستخدماً ذلك العدو الجديد للأنظمة الشمولية وهو «النت» ورغم وجود العشرات من المحامين إلا أن أغلبهم كان يترافع لإظهار ذاته فلا تصل كلماته إلي القلوب حتي خرج علينا العملاق«الهلالي» بأعوامه التي اقتربت من الثمانين ليفتتح فصلاً جديداً من فصول محو الأمية السياسية ولنعتمد عليه من جديد لانتزاع حكم البراءة...

تري ... هل لهذا الحديث من نهاية؟! أعتقد أن الحديث عن نبيل الهلالي هو حديث بلا نهاية... وأدعو من كانوا من المقربين منه أن يعيدوا الأمل في نفوس هذا الجيل بأن يذكروا لهم مآثر ذلك العملاق ..أما أنا فإني أحب أن تكون نهاية هذا المقال هو اعترافي بخطأ لم أكن لأحب أن أتذكره، فضلاً عن أن أذكره ذلك أني لم أمنح «الهلالي» شيئاً من المساعدة أو التأييد طوال صحبتي له..فقد عارضت «الهلالي» في كل وقت بينما وقف هو بجانبي في كل وقت وحتي كان خوضي لانتخابات نقابة القاهرة الفرعية للمحامين عام 2005 ... فرأيته يعلن رأيه بتأييدي نقيباً للمحامين رغم وجود العديد من المرشحين اليساريين... علي منصب النقيب... إلا أنه أخبرني أنه قد اختارني وهو يعلم أن واقعاً سياسياً مثل الواقع الذي نعيشه جميعا لن يوافق حكامه أبداً علي وجودي... ولكننا نختار بقناعتنا... وهم يستبدون بطغيانهم وقد صدق لأن الانتخابات ألغيت بالفعل من أجل مرشح وحيد كان يعتقد أن من حقه أن يتقدم إلي الترشيح كسائر البشر ومع ذلك.. قام العملاق بطباعة ورقة صغيرة ووزعها علي المحامين ليعلن فيها أنه اختارني لنقابة المحامين....و كان هذا التأييد رغم معارضتي الدائمة له هو درسه الأخير لي إذ علمني أن الاختيار يكون لمصلحة وطن وليس لمصلحة شخصية أو حزبية...

نعم .. لقد تعلم علي يديه الكثيرون وأخذ كل إنسان منه ما يحتاج... إلا أن أهم درس لي هو أن علمني... كيف أحترم الآخر... وأتعامل واتفق معه من أجل الإنسان وحقوق الإنسان وأن أدافع عن حرية شعب مازال في الأغلال...صحيح أني لن أرتقي إلي مثل هذا العملاق لكن حسبي أن أقلد فعله ولو كان تقليداً باهتاً... رحمك الله أيها العملاق القديس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق