الاثنين، 28 أكتوبر 2013

الجيش مؤسسة أم دولة ؟.... مقال لـ " مصطفى النجار "



فى مصر يوجد لدى الشعب مقدسان هما الدين والجيش، العقل الجمعى للمصريين يرفض المساس بهما بأى حال، ولا يغفر لأى شخص مهما كانت رمزيته إذا أساء لهما، قدسية الدين لدى المصريين باختلاف درجات تدينهم خط أحمر وتعقبها قدسية الجيش التى تشكلت فى وجدان كل مصرى كمؤسسة وطنية مهما اختلف مع قياداتها حينا فإنه يستطيع الفصل بين رمزية المؤسسة وبين خلافه مع بعض قياداتها.

 يرى عموم المصريين أن الجيش هو العمود الفقرى لمصر وإذا سقط تسقط مصر تلقائيا ورغم فترة حكم مبارك البائسة التى أجهدت كل مؤسسات الدولة وأضعفتها إلا أن المؤسسة العسكرية ظلت المؤسسة المتماسكة التى استطاعت ملء الفراغ الذى أعقب سقوط مبارك ومهما كان أداء المجلس العسكرى فى هذه الفترة الانتقالية سيئا إلا أنه استطاع الوصول بمصر الى بدء أول انتخابات لم يتم فيها التزوير كالعادة ورغم ما أفرزته صناديق الانتخابات من وصول الاخوان للسلطة واساءتهم لادارة البلاد التى أدت الى سقوطهم السريع عقب مظاهرات 30 يونيو وتحرك الجيش لانهاء حكمهم وبدء مرحلة انتقالية جديدة إلا أن التاريخ سيسجل للجيش المصرى إدارته لأول انتخابات بلا تزوير فى تاريخ مصر الحديث (استفتاء دستورى – البرلمان بغرفتيه – الرئاسة) رغم أية ملاحظات هامشية على العملية الانتخابية.

 وقعت مصر خلال الفترة الماضية بين فريقين من المتطرفين تجاه فهمهم لدور المؤسسة العسكرية:
  • الفريق الأول (فريق التفكيك): يرى ضرورة تفكيك المؤسسة وبناءها من جديد على أسس مختلفة.
  • والفريق الثانى (فريق دولنة الجيش): الذى يبالغ فى دور المؤسسة وصلاحياتها بما يجعلها فى النهاية دولة داخل الدولة، وكلا الفريقين مرفوض ورؤيتهما تضر بالوطن.
حين وضع الاخوان دستورهم كتبوا فيه موادا خاصة بالجيش اعتبرها الكثيرون تمنح للمؤسسة العسكرية مزايا خاصة لا تتسق مع معايير العلاقات المدنية العسكرية المتعارف عليها عالميا فى الديموقراطيات وفاقت الصلاحيات الموجودة فى دستور 71 وجاءت مؤخرا تعديلات لجنة العشرة لترسخ ذلك وتضيف عليه وانتهى الأمر بتعديل مادة وزير الدفاع الذى لا يستطيع رئيس الجمهورية (رأس السلطة التنفيذية) تعيينه بل يسميه المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولا يوجد مثيل لهذه المادة الجديدة فى أى دستور بالعالم!

أتفهم حالة الخوف التى أفرزتها فترة حكم الاخوان لدى قادة المؤسسة العسكرية الذين يخشون من أن يتم اختيار أحد المتقاعدين أو عسكرى مسيس أو شخص لا ينتمي للقوات المسلحة قائدا لها وهو ما يهدد استقلالية المؤسسة ومهنيتها، ويبدوا المبرر ظاهريا مقبولا لكن القضية أكثر تعقيدا من ذلك بكثير وتحتاج الى بعض التفصيل.

 أولا : التحول الديموقراطى الكامل هو هدف ثورة 25 يناير بموجاتها المختلفة وضبط العلاقات المدنية العسكرية هو أحد مفاتيح التحول الديموقراطى فى أى دولة وهو مفيد للطرفين بل قد يكون المستفيد الأكبر منه هو المؤسسة العسكرية نفسها كما سيتضح، لذلك علينا أن نعود للمعايير العالمية والضوابط التى يجب أن تحكم هذه العلاقة ومنها :

1 - وضع إطار دستورى و قانوني و مؤسسي لتنظيم متابعة ورقابة المؤسسات السياسية المدنية المنتخبة علي المؤسسة العسكرية.
2- خضوع موازنة الإنفاق العسكرى لرقابة البرلمان المنتخب بطريقة تحفظ الأمن القومى وسرية المعلومات.
3- حق القيادة السياسية المدنية المنتخبة (رأس السلطة التنفيذية) فى تعيين وزير الدفاع (أحد ممثلى السلطة التنفيذية) والقيادات العليا وترقية وإقالة القيادات العسكرية.
4 - منع مشاركة العسكريين – طوال فترة الخدمة - في الحياة السياسية سواء بالترشح في الانتخابات أو التصويت حفاظا على عدم التسييس وعدم فتح الباب لدخول الصراع الحزبى والسياسى للجيش بما يهدد وحدته.

 ثانيا: التمييز بين الاستقلالية المؤسسية والاستقلالية السياسية:  بعض من يرفعون شعار استقلالية المؤسسة العسكرية المطلق لا يميزون بين (الاستقلالية المؤسسية) وتعنى الاستقلال المهنى والفنى للجيش نظرا لطبيعة عمله القتالية الاحترافية والتى لا يمكن قبول التدخل فيها من قبل المدنيين و (الاستقلالية السياسية) التى قد تشير إلى رفض الجيش للمراقبة المدنية من السلطة المنتخبة ومؤسساتها ليتحول الى سلطة موازية أو مؤسسة فوق دستورية، والكارثة التى نحن بصددها الأن هى محاولات دسترة الاستقلالية السياسية للمؤسسة العسكرية وهو ما لم يحدث فى أى دستور بالعالم ولا فى تاريخ مصر الدستورى على الاطلاق.

 ثالثا: لا يثق العسكريون فى المدنيين وكفاءتهم بشكل عام وهناك حساسية فطرية تجاه حجم التبعية للسلطة المدنية المنتخبة ولكن الحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين الرقابة المدنية على القوات المسلحة مع الحفاظ على استقلالها المهني والاحترافي، بمعنى أن تحافظ على وحدتها التنظيمية وقدرتها على إمتلاك القرار الداخلى بالكامل دون تدخل في العملية السياسية وهذا هدف منظومة العلاقات المدنية العسكرية التي تحقق صيغة متزنة تساعد المؤسسة العسكرية على القيام بدروها الوطنى فى تناغم كجزء من مؤسسات الدولة.

رابعا: الواقع الحالى الذى خرج من لجنة العشرة – اعتماد على دستور الاخوان – والذى يبدو أن لجنة الخمسين للأسف ستمرره رغما عنها كما هو بلا تغيير يقول الأتى:
  •  أبقت المادة 171 على شرط تعيين وزير الدفاع من بين ضباط القوات المسلحة كما هو الحال في الدستور المعطل (وهو أمر منطقى الأن)، وأضافت تسمية المجلس الأعلى للقوات المسلحة لوزير الدفاع في سابقة خطيرة لم تعرفها حتى دساتير الدول الديكتاتورية.
  • أبقى تعديل المادة 173 على النص المقابل في الدستور المعطل من مناقشة موازنة القوات المسلحة في مجلس الدفاع الوطني فقط، بعيدا عن البرلمان صاحب الحق الأصيل في هذا الشأن ولم تفرق المادة بين الميزانيات المتعلقة بالتسليح والتدريب والتطوير (وكان يمكن حصر حق مناقشتها للجنة خاصة بالبرلمان نظرًا لعنصر السرية)، بخلاف الميزانيات الإقتصادية للقوات المسلحة الخاصة بالمشروعات الإقتصادية (انشاءات – مصانع – خدمات محطات بنزين ونوادى ..الخ) والتي تدر دخولا وأرباحا لها ومثلها مثل كل المؤسسات كان يجب إخضاعها لكافة الأجهزة الرقابية في الدولة دون تمييز.
  • تكريس سيطرة العسكريين على مجلس الدفاع الوطني (بما له من صلاحيات واسعة) خاصة اذا تم الغاء مجلس الشورى ومن ثم إلغاء عضوية رئيسه بمجلس الدفاع الوطني، حيث أصبح التشكيل يضم 14 عضوا، منهم 8 عسكريين و5 مدنيين و1 شرطة.
  • مادة المحاكمات العسكرية ستظل كما هى لتعطى "ظهيرًا دستوريًا" لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري خاصة مع عدم وضوح وصعوبة تحديد الحالات المستحقة للمحاكمات العسكرية من المدنيين مما يجعل المطالب بمنع المحاكمات العسكرية للمدنيين مطلقا مهدرة (رغم الاقتراح المنطقى – الذى تم تجاهله - بتخصيص دوائر قضائية مدنية خاصة للفصل فى القضايا المشتركة بين العسكريين والمدنيين).
خامسا: يخطىء من يتعامل مع الجيش المصرى كمؤسسة عسكرية فقط نظرا لأن الجيش فى مصر يشارك فى مجالات متعددة بخلاف الواجب العسكرى التقليدى، فهو مؤسسة اقتصادية واجتماعية تشارك تقريبا فى أغلب النشاطات اليومية التى تؤثر على حياة المواطن المصرى.

 نلتقى جميعا على الرغبة فى الحفاظ على مؤسستنا العسكرية واستقلالها المهنى – مهما اختلفت وجهات نظرنا فى تحقيق ذلك – ومن هذا المنطلق يجب أن نعلم أن الدول لا تُبنى على مخاوف مؤقتة والدساتير المحترمة لا تُكتب وفقا لمخاوف مؤقتة، لا يمكن أن تظل تجربة الإخوان السيئة فى الحكم هى المبرر لكل استثناء يخالف قواعد التحول الديموقراطى أو الحقوق والحريات، وكل استثناء اليوم – تحت ظرف خوف مؤقت ومرحلى – نجعله جزءا من دستورنا هو خطيئة فى حق الأجيال القادمة وخطيئة فى حق الثورة التى تهدف لبناء ديموقراطية كاملة.

 نحن جميعا كمصريين فى تحدى، إما أن نختار الانحياز للديموقراطية بشكل كامل وإما أن نقوم بعمل نموذج ديموقراطى تفصيل على مقاس البعض وأهواءهم ليمثل فى النهاية مسخا مشوها للديموقراطية نتيجة مخاوفنا ووساوسنا التى خرجت من التجربة السابقة.

 قد يقول البعض هذا واقعنا ولا بد من التدرج نحو السير فى تحقيق الديموقراطية ولكن هذا منطق مغلوط، فماذا ننتظر لتحقيق الديموقراطية بعد ثورة تبعتها عدة موجات ثورية كلها تهدف لبناء دولة ديموقراطية حقيقية وليست شكلية.

 ألم تكفى الدماء التى سالت لألاف المصريين لتمهيد الطريق للديموقراطية، لا يغترن أحد بحالة التأييد والحشد التى قد توحى له بأن هناك إجماع على ما يريد، كتلة الرفض أكثر بكثير وإن صمتت حينا وعلت أصوات أخرى احتلت المنابر الاعلامية، ليس من مصلحة أى طرف أن يصطدم بهذه الكتلة التى تفهم جيدا معنى الديموقراطية وتناضل من أجلها وليس لديها ما تخسره.

 من يخاف على جيش مصر يجب أن يحميه من التسييس والتحزب ومن التصارع الداخلى على منصب وزير الدفاع الذى سيحدث عاجلا أم آجلا – إذا تم إقرار المادة الخاصة بطريقة تعيينه بهذا الشكل - لأنها طبيعة بشرية لا يمكن أن ننزعها عن نفوس البشر، لا يجب أن نترك الوطن لمجموعة من المطبلين الذين يرفعون شعار الوطنية الزائفة ويزايدون على العقلاء الذين ينظرون لتداعيات المستقبل ويرون أن المؤسسة العسكرية قد تمضى بهذه الطريقة الى مصير مظلم قد يعيد -لا قدر الله- زمن النكسات.

 لا تعالجوا الخطأ بخطيئة ولا تجعلوا جيش مصر مسرحا لصراعات داخلية ستبدأ حين يصبح منصب وزير الدفاع خارج اختصاصات رئيس الجمهورية المنتخب، الجيش اليوم على قلب رجل واحد لكنه غدا قد يصبح على قلوب عدة رجال كل واحد فيهم سيرى فى نفسه الأفضلية ليشغل منصب القائد العام وسندخل فى مأساة سببها أننا قررنا أن نتجنب مخاوف محتملة فصنعنا خوفا محققا.

 سيحمى جيش مصر التزام الشفافية فى الإنفاق سواء كان عسكريا (مع مراعاة السرية ومقتضيات الأمن القومى كما أسلفنا) أو اقتصاديا عاما ليقدم نموذجا فى الشفافية والنزاهة لكل مؤسسات الدولة وهكذا يجب أن يكون جيش مصر.

 فليحمى الجيش الديموقراطية عبر انخراطه تحت مظلتها واحترام أصولها وعدم إعادة مصر للوراء تحت تأثير خوف مؤقت لا ينبغى أن يظل الوطن مرتهنا له.

 لا أخشى على مصر من العسكريين بقدر ما أخشى عليها من المدنيين المتعسكرين الذين يزينون الإفك لصانع القرار وسيتركونه حين يغرق كما تركوا من قبله.

 من يقوم بازدراء الشعب ووأد أحلامه فى الحرية والديموقراطية الكاملة لن يمكث طويلا وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليس كل دستور كُتب سيبقى ومهما ظن بعض الواهمون أن الأرض طابت لهم فستنبئهم الأيام أن إرادة الشعوب الحقيقية لا يغالبها أحد إلا سقط، وبقيت الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق