الجمعة، 29 أبريل 2016

الحرية : مدخل إلى الخريطة المفاهيمية...... هبة رءوف عزت


برز مفهوم الحرية في القرون الأخيرة ليتقدم على رأس قائمة المفاهيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للحداثة ومشروعها، وهو مفهوم يخاطب الإنسان في كينونته. وللوهلة الأولى قد يبدو مفهوم العدالة أكثر ارتباطا بالموازين والعلاقات الموضوعية، في حين يوحي مفهوم الحرية- ظاهريا- وكأنه مفهوم يتعلق بالإرادة ويرتبط بالذاتية. لكن الحرية أيضاً تواجه قيودا وتستلزم "تحرراً" من الشروط المحيطة بالحالة الإنسانية، ويظل الوقع الأول للكلمة على الأذن موحيا بالذات والوعي والاختيار.


خريطة المفاهيم القرآنية:
يبدأ العقل المسلم وعيه بالمفاهيم والمعاني من كتاب الله، فهو منطلقه المعرفي وبوصلته المفاهيمية، والبحث عن المعنى لا يستلزم تطابق اللفظ وإنما استكشاف حقل الدلالة، فإذا كان لفظ الحرية هو المعبر عن معاني الإرادة والكرامة والاختيار فإن البحث عن المعاني المقابلة والألفاظ المعبرة عنها يغدو نقطة البدء والانطلاق.

في كتاب الله والخبرة النبوية الحرية تقابل العبودية، ولا يُستخدم اللفظ للتعبير عما نقصده اليوم بالحرية من حيثها كونها إرادة الاختيار والقدرة على إنفاذه في شتى جوانب حياة الفرد أو الجماعة (حين نتحدث عن الحريات العامة مثلا)، بل نجد ألفاظاً أخرى تتسق مع منظومة الرؤية الإسلامية الكلية للكون والعالم والخلق والمعاد.

وقبل أن نتعرض لتلك المفاهيم يستوقفنا أنه في الفكر الغربي في جذوره اليونانية كانت الحرية أيضاً تقابل العبودية، ولم يكن للعبد مكان ولا مكانة في الترتيب الاجتماعي ولا حق في المواطنة والمشاركة. أما في التصور الإسلامي والخبرة النبوية فقد كانت العبودية مكانة قانونية ولم تكن حائلا دون التمتع بالحقوق الأساسية ولا المكانة الاجتماعية ، حيث كانت الوظيفة العقيدية للدولة وتأسيسها على المساواة الأصلية بين البشر والموالاة الإيمانية بين المسلمين الذين تجمعهم مساحات العبادة في المسجد والجهاد ميزاناً يجعل للعبد والحر حقوقاً تكاد تقارب التساوي وإن اختلف الوضع القانوني الذي يمكن الخروج منه بالمكاتبة أو العتق.
فما هي المفاهيم التي يمكن أن نؤسس عليها رؤية الإسلام للإرادة والاختيار؟

الفطرة والخيرية والحق والحدود:
أول هذه المفاهيم هو مفهوم الفطرة، فإذا كانت الحرية بمعناها المعاصر تكفل للإنسان "التحقق الذاتي" وتضمن له التجانس مع نفسه دون ضغوط أوإكراه، فإن الإسلام يقدم له تصوراً عن "نفسه" تلك.. نشأتها وسياقاتها وطبيعتها، لذلك فجدل الحرية لا ينفك عن جدل الطبيعة الإنسانية، والمنظومات الفكرية المختلفة تتفاوت في تعريفها للجبر والاختيار باختلاف نسبة الإنسان فيها للطبيعة وللخلق الأول. لا غرابة إذاً أن تحتاج الحداثة لفكر داروين كي يحررها من قصة عرض الأمانة على السموات والأرض وتحمل الإنسان لها بالاستخلاف وخلق آدم وحوار الحكمة من خلقه الذي دار بين رب العزة والملائكة والصراع بين آدم وابليس وكيف علم الله آدم الأسماء ثم ابتلاه ثم تاب عليه وهدى ومسيرة بني آدم على الأرض.
احتاج الأمر لأسطورة التطور ولفكرة العقد الاجتماعي كي يتم تأسيس الإرادة الإنسانية على مرجعيتها الذاتية مقابل إلزام الله للمؤمنين بكلمة التقوى..وكانوا أحق بها وأهلها. ولذا تصبح الفطرة هي منطلق الحرية حيث أن غايتها هي تحقق الإنسان وهذا لا يكون إلا بالعودة إلي  فطرته وأداء رسالته وتحقق بشريته في علاقتها بالربانية : "ولكن كونوا ربانيين".

لا نتعجب إذاً من أن الخروج بالحرية من هذه الفطرية يعني بالضرورة نسبية الأخلاق، إذا أن مجافاة الحقيقة وهجر الشريعة لا يترك مجالاً إلا للهوى، وبالتالي كان نمو منظومة نسبية الأخلاق مسألة تابعة ومنطقية لمن أنكر الألوهية والنبوة وترك العقل وحده يقرر الخيارات ويضع الحدود والمسارات.

فما هي ركيزة الحرية في التصور الإسلامي وبأي لغة يمكن فهمها؟
يبدو مفهوما الحق والحدود ركيزتين لفهم الإرادة الإنسانية والاختيار، فما من حرية إلا ولها سياج من حق لك أو عليك، لله أو للعباد،والحدود هي نقاط الوقوف والانتهاء. فلم يستخدم القرآن لفظ الحدود لوصف العقوبات كما هو شائع، بل العقوبة نتيجة للتعدي على حد وتجاوزه.

ونجد أيضاً مفهوم الحُكم، فالحرية  في الفلسفات الوضعية هو حُكم الفرد على حاجاته وتحققها، وهو منفك عن حُكم الله. والحُكم نتيجة لميزان ومنطق عقلي يهديه الوحي أو يستبد به الهوى، ولم يكن-مرة أخرى- مقصود الحكم في اللفظ القرآني إلا ذلك رغم أن الشائع أن الحكم هو السلطة، وما هي إلا أصل عن فرع، والقرآن لا يستخدم لفظ حكم لوصف السلطة والسلطان بل يستخدم لفظ المُلك. الحُكم إذا هو منطق النظر للأمور وقياس أصلها وعواقبها، والحرية في التصور الإسلامي جذورها وأصلها ثابت في حُكم الله وفرعها في سماء العقل واجتهاده في النظر والفهم والتدبر والفقه.

مفهوم آخر يقترن بتصورات الاختيار وسعته أو ضيقه هو مفهوم الخيرية، فالإرادة والفعل التي يتحرك في سياقها الإنسان غايتها الخيرية، ومنطلقها مكارم الشيم، فالرسالة المحمدية غايتها إتمام مكارم الأخلاق، ودستور الأخلاق في القرآن هو ترشيد للسلوك الإنساني كي لا "يطغى"، وتأديب وتهذيب للإرادة كي لا تستجيب لنوازع البغي والعدوان. فإرادة الإنسان وحكم الله أُطُر ضابطة ، وكرامته وتحققها نابعين من تلك الموارد الصافية. ولا يكتمل العدل إلا بأن يكون هناك يوم آخر كي يكون البقاء للأصلح..لا للأقوى- دنيا ثم آخرة.

الإيمان والتقوى:
أين يكمن الاختيار إذا؟ سؤال هام ومهم . يكمن في المشيئة الأصلية لاختيار الدين: إيمان أم كفر. من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ثم: لكم دينكم ولي دين.
لذلك لا يمكن تحليل المفاهيم إلا في سياق دينها، إيمانا كان هذا الدين ومنظومة وحي ونبوة أم منظومة كفرية لا تؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله..ولا اليوم الآخر.

تبدو الحرية في الرؤى الوضعية هي الحركة بغير قيود والانطلاق بغير حدود، ثم الحديث عن موازنة ذلك مع حريات الآخرين. تأتي نظريات النسبية وتروح نظريات النفعية والبراجماتية ، ويظل ضابط الإرادة في الرؤية الإسلامية هو التقوى، تلك التقوى التي قد تجعل الإنسان يترك حتى حقه أو يتفضل ببعضه تأليفا للقلوب أو تلطفا بالأفئدة.
الحرية في الفكر الوضعي قديمه وحديثه تبدأ من الفردية، النظر للإنسان في تفرده وقيامه بنفسه ولنفسه. وهذا أمر معتبر كفلته منظومة الحقوق في الإسلام، من حيث خصوصية القرار والمساحات والمسئولية والمحاسبة، بيد أن التفكير في الفردي موصول طوال الوقت بالتفكير بصيغة الجمع، ومنطق الجماعة، في توازن دقيق لا يترك أحدهما يطغى على الآخر.
ميزان هذا التوازن هو التقوى، مهما بلغت منظومة الحقوق والقضاء من الإحكام، فالقيّم على حكم الله هو تقوى المؤمن لا إحكام المؤسسات والقواعد.
من هنا تبرز حفاوة الإسلام كما ذكرنا بالبنيان الأخلاقي للمسلم، تماسكاً.. وتزكيةً وارتقاءً.

الحرية والحداثة: مراجعات
لو تأملنا في مكونات منظومة الحداثة فكريا وعمليا نجد أن مقوماتها الأساسية هي :

  • العلمانية التي تفصل الدولة عن الدين والأخلاق
  • العقلانية المنفكة عن الغيب والوحي
  • الصناعية وما بعد الصناعية في الاقتصاد
  • المدينية في العمران البشري
  • عولمة السوق 
  • سيادة العلوم الطبيعية على الفلسفة والعلوم الإنسانية.
لا يمكننا فهم التحولات الراهنة في مفهوم الحرية إلا لو أدركنا منظومة معقدة ومتشابكة من العناصر.

فهل تحرر الإنسان بتأسيس الدولة القطرية الحديثة التي وصفها برتراند راسل بأنها استبدلت سلطة الدولة بسلطان الله؟ هل تحرر بالقوانين التي اختارها الإنسان لتحكمه وأبى أن ينزل على "حُكم" الله؟ هل حققت الحداثة بهذين الأمرين ما وعدت به من أمن وسلام عالمي كي تنتهي الحروب الدينية ويبدأ عهد الاستقرار؟ (الذي كان ذروة عصر الاحتلال والاستيطان للشعوب الأخرى).
هل حررت المنظومة الرأسمالية الإنسان وحققت له احتياجاته كي "يختار" ما يشاء أم فرضت عليه ما هو متاح في السوق واستبدت بحريته حين نشرت ثقافة الاستهلاك وقرنت المكانة بالمادة والملكية.

هل أتاحت مساحات المدن الحديثة والكوزمزبوليتانية في مرحلة العولمة للانسان الانعتاق من المجتمع الزراعي أو البدوي "التقليدي".. "الأبوي".. "المتخلف"؟
وأخيرا وليس آخرا هل أعطى العلم بمنتجاته المختلفة للإنسان الحرية أم صاغ صوراً جديدة من العبودية، وهل أطلقت الآلة للإنسان قدراته الكامنة ومهاراته الاجتماعية أم قيدتها لحد الضمور؟
وماذا فعلت الآلة والتكنولوجيا بالفطرة، والعقلانية في الروح، والفردية بالحس الجماعي؟

ليس هذا استخفافا بدورات العمران والحضارة البشرية ولا بالمنجز الذي حققه العقل الإنساني في حركته في التاريخ، وليس ركوناً لوضع التخلف ولا ثقافة تأبى التجدد وتستعصي على النهضة، لكنها أسئلة تضع الحرية في سياق أكثر تعقيدا بل وتضع الحريات العامة نفسها في إطار الهيمنة التي تمارسها الدولة الحديثة عبر تشريعاتها وأجهزتها وقوانينها وأسواقها وتوظيفها للتكنولوجيا في الرقابة والسيطرة على الفرد وكل ما يتعلق به من معلومات وحركة وخيارات.

لسنا في حاجة لبيان كيف يؤثر الفقر على الحرية، ففي هذا مجلدات مكتوبة ورؤى معلومة، ولا كيف تنزع تكنولوجيا الاتصال خصوصة الانسان وتسمح بانتهاك أدق أسراره، ولا كيف تغير تلك العوالم الالكترونية بعضا من فطرته وعلاقته هو بذاته.
وإذا كنا قد ذكرنا أن الحرية لا تنفك عن جدل الطبيعة الإنسانية وتعريفها في علاقتها بالكون والغيب فلا نندهش من حركات العودة إلى الطبيعة والخروج من أسر السوق والتكنولوجيا وحركات الدفاع عن البيئة في مواجهة إفساد الإنسان لها بما يصادر خيارات حقيقية تتعلق بالحرية ليس فقط لهذا الجيل بل لأجيال قادمة.

اليوم في الغرب جدل صاعد حول الطبيعة الإنسانية ذاتها، يلزَمنا أن نتابعه لأنه سيؤثر في إعادة تعريفنا لمفاهيم الحرية والعدالة.
وعينا أن نتذكر ونحن نعيد قراءة المفاهيم أن لها خرائط وأنها مصدر لمعنى الوجود وللسلوك، وأن تعقد الواقع وارتباكه نتاج لمفاهيم، وأن عالم تجديد المفاهيم وإصلاحه هو مفتاح النهضة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق