الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

تحوّلات الحراك "الإخواني" في مصر..... خليل العناني


أكثر من عام مضى على بداية "الحراك الميداني" لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، قتل فيه مئات واعتقل آلاف، ومَن تبقوا مطاردون أو لاجئون أو في المنفى. وعلى الرغم من ذلك، لم تنجز الجماعة شيئاً في سبيل تحقيق هدفيها الرئيسين: إسقاط الانقلاب واستعادة السلطة.


خلال هذا العام، حاولت الجماعة استثارة المجتمع و"تثويره"، لينتفض معها، ويشاركها حراكها، ويدفع عنها القهر والظلم، ولكن، من دون جدوى. ولم تفلح سياسات التعبئة النفسية والحشد "الطهوري" والخطاب الإعلامي في تغيير قناعات كثيرين بأن الجماعة تمثّل "طليعة" ثورية، يمكنها استعادة ثورة 25 يناير. بل على العكس، ازداد يقين بعضهم بأن الجماعة تخرج من أجل نفسها ومطالبها فقط. وفي الوقت الذي يستعذب فيه بعض جمهور "الإخوان" الخروج في تظاهراتٍ متواصلة، باتت أشبه بالطقس اليومي المتكرر، فقد تحوّل الأمر، بالنسبة للبعض الآخر، إلى "ملحمةٍ" جهادية، ومعركةٍ حتمية، لاستعادة "حلم الشرعية الضائع".

ومع استمرار عملية القمع والقهر الممنهج لـ"الإخوان" من جهة، والإصرار على المواجهة والاستمرار في الحراك، من جهة أخرى، ثمة تحولان مهمان شهدهما "الإخوان" في الشهور الماضية، على مستوى الخطاب والحركة. فقد أصبح الخطاب الإخواني، خصوصاً الموجّه إلى القواعد، خطاب "محنة" بامتياز، يجري فيه استعراض كل المفردات الدوغمائية المغلقة، كالمفاصلة (والمفاضلة أيضاً) العقائدية والسياسية، والتطهّر والجهاد والتضحية، وذلك في استحضار واضح لأدبيات وفقه المحنة الذي ساد في الخمسينيات والستينيات.
هذه المفردات وغيرها باتت تملأ الفضاء الإخواني الافتراضي والواقعي، ويجري تسويقها داخل الصف الإخواني، من أجل رفع الهمم ومواجهة التململ، والحفاظ على التماسك التنظيمي، وضمان استمرار الحراك "الإخواني" في الشارع.
وهي مفرداتٌ أنتجها الإحساس الكبير بالاضطهاد والظلم والقهر، تغذّيه مشاعر الكراهية والانتقام والتخلّص من الوضع القائم بأي شكل، ويجري ترويجها كمحاولة نفسية تعويضية، تساهم في عمليات التعبئة والحشد.
ويبدو هذا الخطاب أكثر رواجاً وجاذبيةً داخل الأوساط الريفية (خصوصاً في محافظات الدلتا وسيناء) وبعض أطراف الحواضر والمدن (المطرية، حلوان، ناهيا، صفط اللبن، فيصل... إلخ)، وبعض المدن والمراكز في الصعيد (الفيوم، بني سويف، المنيا... إلخ)، وهي أماكن لا يزال يتمتع فيها "الإخوان" بقدرٍ من الحضور الحركي والاجتماعي.

ويعتمد هذا الخطاب على فكرة "النصر الإلهي" الموعود الذي سيحدث، آجلاً أو عاجلاً، وتكريس فكرة أن ما يحدث ما هو إلا ابتلاء واختبار وتمحيص "للمؤمنين الصابرين المرابطين"، في محاولةٍ معتادة ومكرّرة من "الإخوان" للنكوص وغضّ الطرف عن المراجعة والمحاسبة وتصحيح الأخطاء والاعتراف بالمسؤولية عمّا آلت إليه الأمور. وهو الخطاب الذي يلوم ويقذف كل مَن يختلف مع الجماعة، ولو كان ينتمي إلى مظلتها، مثلما حدث مع حزب الوسط، بعد انسحابه من تحالف دعم الشرعية. ويزيد من الأسى انخراط رافضين للانقلاب في التنظير والتسخين، وتشجيع هذا الخطاب "المحنوي". في حين تحوّل بعضهم إلى رموز و"قيادات" في الفضاء الإلكتروني، تستغل حماسة الشباب وكراهيتهم الوضع الراهن، من أجل الاستمرار في التعبئة والحشد، بغضّ النظر عن النتائج والمآلات. وتصبح الدعوة للمراجعة وإعادة التفكير سبباً للتخوين، واتهاماً بالتفريط والتنازل.

على المستوى الحركي، يتوهّم "إخوان" كثيرون بأن ما يقومون به، الآن، "حراك ثوري" سوف يفضي إلى ثورة شاملة، لن تبقي ولن تذر. بل يعتقد كثيرون منهم أن الحل في إشعال "ثورة إخوانية" أو "إسلامية"، بالتمرد والعنف. ويحاول بعضهم استحضار تجارب أخرى، كما حدث في دول أميركا الوسطى والجنوبية وفي إيران، وذلك في سوء قراءة للتاريخ وخلط للوقائع، هدفه إقناع الذات الإخوانية بأي شكل.

لذا، يجري الانتقال تدريجياً، وبدون وعي، من مربع السلمية الشاملة والحقيقية إلى "السلمية الإيجابية"، أو "الحراك النوعي" الذي يستبطن العنف، بشكل أو بآخر، أو من خلال ما تسميه بعض قيادات ومنظري الجماعة "الحراك المبدع"، وفق شعار: "ما دون الرصاص فهو سلمية"، والذي هو في الحقيقة مجرد تبرير وانزلاق أوّلي باتجاه العنف، تحت غطاء إسقاط الانقلاب. وقد تجسّد ذلك واضحاً في أثناء إحياء الذكرى الأولى لمذبحتي "رابعة" و"النهضة"، من إحراقٍ لمقرات وأقسام الشرطة، والأحياء، وإحراق حافلات النقل العام ومحطات الكهرباء، وقطع الطرق في المناطق الحيوية.. إلخ.

في ظل هذا التحوّل، باتت "القوة" وليست "الدعوة" السبيل الناجع والطريق الوحيد للتعامل مع الوضع الراهن. ويجري الاحتفاء بـ"إنجازات" تنظيم مجرم مثل "داعش"، في محاولة للإلهام والتعويض النفسي عن الشعور بالهزيمة. هذا التحوّل في "الحراك الإخواني"، يكشف عن عدة أمور جديرة بالرصد، أولها أنه من الواضح أن مَن يدير المشهد الإخواني ليست القيادات التاريخية للجماعة، بل قيادات الصفين الثالث والرابع، أو مَن يعرفون بالقيادات الميدانية الوسيطة، خصوصاً الموجودة في مصر، بالتعاون والتنسيق مع قيادات في الخارج.

ومن الملفت، أيضاً، أن هذه القيادات الميدانية بات لديها تأثير ودور مهم وحيوي في صناعة القرار الإخواني، خصوصاً في ما يتعلق بالنشاط الاحتجاجي، وأدواته وأساليبه وأهدافه، ويبدو أن ثمة قبولاً أو صمتاً من "إخوان الخارج" على هذا الدور المتزايد، إما لعدم وجودهم على الأرض، وبالتالي افتقادهم للشرعية الحركية، أو تخوّفاً من حدوث انقسام تنظيمي داخل الجماعة قد يفقدها قواعدها ومؤيديها. ثانيها، من الواضح أن ثمة إحساساً متزايداً بالقوة والشرعية لدى القيادة الميدانية، ما يعطيها حرية أوسع في الحركة وإدارة التنظيم ميدانياً. وخطورة ذلك أن هذه القيادات تبدو مدفوعةً بمشاعر الكراهية والانتقام، وليس بخطة ورؤية استراتيجية واضحة. وثالثها، يبدو أن ثمة جنوحاً متزايداً داخل بعض القواعد الإخوانية باتجاه "الردكلة" و"التمرّد"، ليس فقط على الواقع، وإنما أيضاً على الخطاب التقليدي للجماعة الذي يقوم على فكرة الإصلاح التدريجي.

لم ينزلق الإخوان، على الأقل حتى الآن، إلى العنف المؤدلج والمؤسسي الذي يحاول النظام جرّهم إليه، بيد أن مدّ الخط على استقامته واستمرار الخطاب الراهن للجماعة على حاله، سوف يدفع إلى الوقوع في مثل هذا الخطأ الجسيم. صحيحٌ أن السلطة لا تتورّع عن قمع أي حراكٍ سلمي، سواء للإخوان أو لغيرهم، بيد أن اللجوء إلى العنف خياراً استراتيجياً من شأنه أن يوفر غطاءً سياسياً ومبرراً اجتماعياً وأخلاقياً لعنف الدولة، وحينها ستكون نهاية الفكرة والتنظيم.
-----------------------------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق