الأحد، 7 ديسمبر 2014

إشكالية الطرح السياسي للإسلام.. قراءة متجددة (1-2)... نصر عارف


تعتبر إشكالية الطرح السياسي للإسلام موضوعا شائكا ومعقدا لما فيه من مخاطر ومزالق كثيرة؛ لأنه يتعرض للبنية الفكرية للحركات الإسلامية المعاصرة.

وقد ارتبط الطرح السياسي للإسلام بمرحلة ما بعد الخلافة متمثلا في التركيز على السياسة كمدخل للإصلاح، أو فلنقل نظرية التغيير الاجتماعي من أعلى، من الدولة ومن خلال امتلاك السلطة والسيطرة على النظام السياسي الذي يعد مفتاحَ التغيير في المجتمع.

وسوف نتناول هذا الموضوع بصورة متدرجة عبر خطوات أرجو أن تكون منطقية في ترتيبها، وأن تؤدي إلى الفهم الأمثل لهذه القضية، دون التركيز فقط على نقد الحركات الإسلامية المعاصرة، أو نقد المدخل السياسي للإصلاح، أو نقد الطرح السياسي للإسلام؛ لأن النقد في ذاته لا يؤدي إلى وظيفة ما لم نحلل لماذا حدث ما حدث؟ وفي أي ظروف؟ حتى نتفهم أولا، ثم ننتقد ثانيا.


النقطة الأولى: تعتبر الفترة من عهد محمد علي إلى الآن فترة ثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة عما سبقها؛ نظرا لحالة الانقطاع المعرفي والتاريخي مع التراث، وبدء حقبة ومرحلة جديدة تختلف عن سابقتها، اتسمت بالتقليد والاقتداء والافتتان بالغرب؛ مما أدى إلى ما أطلق عليه مالك بن نبي “القابلية للاستتباع”، أو “القابلية للاستعمار”.

العقلية الحدية.. والثنائيات المتناقضة

في هذه المرحلة اكتسبت العقلية الإسلامية مجموعة من الصفات، منها:

    أنها أصبحت عقلية أحادية واحدة أو قطبية ثنائية؛ أي إنها لا ترى في الأمور إلا شيئا واحدا، وافتقدت القيمة الوسطية فلا ترى الأشياء إلا على شكل حديات: مع أو ضد، واحد أو الآخر، وبدأت تنظر إلى أحد المداخل، أو أحد الحلول، أو إحدى الوسائل، وتغفل عن الوسائل الأخرى، مع أن المجتمع في ظواهره معقدٌ ومتشابك؛ فلا يمكن الفصل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني، إلا أن يكون الفصل بالتحليل بمبضع الأستاذ وفي قاعة الدرس فقط.

وقد أدت هذه العقلية الواحدية الحدية الطرفية إلى فكرة الثنائيات المتناقضة: فإما دين أو دولة، وإما أصالة أو معاصرة، وإما حداثة أو تقليدية، وإما سلفية أو صوفية.. فهناك ثنائيات لا نهاية لها على الرغم من أن واقع الحياة ليس كذلك، بل هو كل متصل.

العبث بالمفاهيم.. عربية المبنى غربية المحتوى!

    وحدث خلل آخر هو خلل في المفاهيم ؛ فالمفاهيم التي أصبحت تستخدم في الواقع الإسلامي – والعربي بصفة خاصة – مفاهيم  عربية المبنى أو عربية اللفظ، ولكنها غربية المحتوى. وحدثت عمليات من الملء والتفريغ لهذه المفاهيم تستحق الدراسة والرصد.

وأضرب مثالا بمفهوم الدين؛ فهو – كما ورد في اللغة العربية وفي اللغات السامية جميعا – يشمل السياسة، ويشمل الاقتصاد كما في الإقراض والاقتراض، ويشمل الحساب والعقاب كيوم الدين، ويشمل الخضوع والإذعان، ويشمل الاستقرار كما في المدنية، ويشمل مجموعة من المعاني تعني نمطا حياتيا متكاملا، فيه الاقتصادي والاجتماعي والديني والأخروي والعمراني وكل ما هو داخل في المعنى اللغوي لمفهوم الدين.

هذا الفهم للدين الذي كان يحيط بذلك المعنى الشامل تغير اليوم، فأصبحنا الآن نتكلم عنه ونضعه في صورة ثنائية: الدين والسياسة، وأنهما اثنان، بينما هو الأصل وفرعه؛ فالسياسة فرع عن الدين بمعناه الواسع.

وقد حدث لمفهوم السياسة مثل ما حدث للدين؛ فالسياسة تعني – كما يعرفها ابن القيم – “أخذَ الناس إلى الصلاح، وإبعادهم عن الفساد”، أو هي “جلبُ المصلحة ودرء المفسدة”.

يقول ابن عقيل – أحد فقهاء الحنابلة – “لو أنك تقصد أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع؛ فهذا غلط وتغليط للصحابة. السياسة هي أي فعل يكون فيه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يفعله الرسول، ولو لم يرد فيه نص قرآني”. هذه هي السياسة؛ فهي فعل اجتماعي عام.

وأطلقت السياسة في التاريخ الإسلامي على كل ما يتعلق بأمور التهذيب والتربية والإصلاح والتكوين؛ فنجد كتبا تتكلم عن سياسة الخيل تعنى بأمور تدريب وتمرين الخيل حتى تكون خيلا مهذبة ومدربة، وأطلقت على سياسة الصبيان، ولابن سينا كتاب عن سياسة الصبيان، وهناك كتب أخرى تحمل عنوان “سياسة الموردين” بالنسبة للطرق الصوفية. إلى أن كُتب في مصر كتاب للدكتور مصطفى كساب عام 1870م اسمه “سياسة البقر” يتكلم عن سلوكيات البقر في الطب البيطري.

فلفظة السياسة كانت تعني هذا المعنى الواسع المتسع الذي يشمل التهذيب والتربية والإصلاح، ومن ثم لم تكن السياسة هي الدولة، وإنما كانت السياسة هي الفعل الاجتماعي أكثر من كونها هي الدولة.

الأمر نفسه حدث أيضا مع كثير جدا من المفاهيم؛ فلا نكاد نجد مفهوما من المفاهيم المحورية في حياتنا الثقافية إلا وقد عبث به هذا العبث الذي أحدثه الفكر الأوروبي كمحتوى لثقافتنا المعاصرة رغم بقاء العربية لغة لتلك الثقافة.

أصبح الإنسان العربي يتكلم عن لفظة الدين أو السياسة أو الحضارة أو أي ألفاظ أخرى وفي ذهنه يكمن المعنى الأوروبي.

    إننا كثيرا ما نقرأ التاريخ الإسلامي قراءة غير صحيحة فنتهمه بالكثير ونحن لا نفهم مفاتيح وشفرات فك هذا التاريخ. نحن نتعامل مع التاريخ الإسلامي وفي أذهاننا المجتمع بتنظيماته الحالية الآن، ولكن المجتمع في ذلك الوقت كانت له معادلة أخرى، عناصرها مختلفة، والعلاقة بين عناصرها تلك مختلفة، ونسب تلك العناصر أيضا مختلفة.

من تاريخ الطبقة الحاكمة.. إلى تاريخ المؤسسات

لنأخذ – مثلا – العلاقة بين الدولة والمجتمع.. نجد التاريخ الإسلامي يشهد حالة وجود دولة ضعيفةٍ جدا ومجتمعا قويا جدا؛ فقد كان المجتمع هو المعمل الذي ينتج الحضارة، والدولة هي طبقة هامشية في المجتمع لا تؤثر عليه كثيرا؛ بمعنى أن نقاط التماس بين حياة الإنسان العادي والدولة في حياته اليومية نقاط قليلة؛ فهو لا يحتك بالدولة إلا عندما يدفع الضريبة أو المكوس، أو عندما يقع في جريمة توقعه تحت القانون، وفيما عدا ذلك فهو حر.

أما اليوم فإننا نعيش في دول تربط الإنسان من جميع أعضاء جسده بخيوط تتعلق بها في النهاية بشكلٍ أو آخر؛ فلا يأكل إلا بالجمعية التعاونية، ولا يشرب إلا بالتموين، ولا يفكر ولا يتعلم ولا يتطبب ولا أي شيء آخر إلا عن طريق الدولة. هذه الصيغة لم تكن كذلك دائما؛ فالمجتمع هو الذي كان ينشئ هذه المؤسسات التي تستحق أن يُركز عليها وتُفهم.

فالأوقاف مثلا هي مؤسسةٌ إسلاميةٌ أساسية في هذا المجتمع، وكانت لها أنواع عديدة ومتعددة غطت كل الوظائف الاجتماعية، وهذه الأوقاف الأهلية وُجدت واستمرت وكانت تعطي للمجتمع استقلالية في مواجهة الدولة، وتجعل دور الدولة هامشيا إلى أن ألغيت في مصر عام 1953م، وفي العراق والشام عام 1960م أو قبلها، وأصبحت ملكا للدولة.

والحسبة – كمثال آخر – انتشرت إلى أن كان هناك 124 مؤسسة اجتماعية تطبق عليها الحسبة، ولكل مؤسسة تنظيم داخلي شبيه بنمط الشركات والمؤسسات المعاصرة التي كانت تدار داخليا دون هيمنة من الدولة، وتتعاون مع الدولة في الوقت نفسه؛ فلكل حرفة شيخ للحرفة؛ ينظم العمل بها، ويضع قواعدها، ويصبح وسيط تعاون بين الدولة والحرفة؛ يطبق القواعد، ويعاقب المخالف، ويحافظ على الجودة واستمرار كفاءة السلعة وقيمتها.. الخ. فالحسبة كانت تعتبر الهيئة الرقابية على هذه الوظائف؛ مما يعكس أن هناك 124 فرعا ومؤسسة نقابية أو صنفا من الأصناف الاجتماعية في المجتمع لا تتدخل فيها الدولة لم تنشئه الدولة ولم تكن تديره.

هذا بالإضافة إلى مؤسسات التعليم جميعا، وبالإضافة إلى الفعل الاجتماعي العادي، وبالإضافة إلى عدم ملكية الدولة لأي شيء في المجتمع؛ فلم تكن هناك ملكيات للدولة فيما يتعلق بالصناعة أو بالزراعة أو بالتجارة.

وظل النسق الاجتماعي الإسلامي محافظا على نمطه المتوارث، وهو أنه دولة لها دور محدد هامشي جدا في المجتمع، يقابلها مجتمعٌ قويٌ صحيح في ذاته. فإذا انحدر وضعف جسده؛ فإن ذلك الضعف يكون تلقائيا وليس بعامل قهر أو عن طريق إضعاف الدولة له. ولتأكيد هذه الفكرة نستطيع أن نقول: إن لحظات انحدار الدول في التاريخ الإسلامي لم يصاحبها انحدار في المجتمعات؛ مما يعني أن كلا منهما له خط صيرورة وتطور مستقل؛ فعندما انحدرت دولة المماليك في مصر وانهارت عسكريا أمام الأتراك أخذ الأتراك الصناع المصريين لبناء حاضرة الدولة العثمانية؛ فمعنى هذا أن المجتمع قوي رغم ضعف الدولة وانهيارها، وهكذا.

فإذا أردنا أن نرصد تاريخ الإسلام فلا ينبغي أن نرصد تاريخ الطبقة الحاكمة أو القصر السلطاني أو القصر الأميري ومن يحيط به كما فعل كل مؤرخي الإسلام من الطبري وابن كثير وابن الأثير. بل إذا أردنا أن نفهم المجتمع فلا بد أن ندرس تاريخا ثالثا هو تاريخ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام، وكيف كان يدار المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، ولعل ما أضافه الأمير شكيب أرسلان على كتاب “حاضر العالم الإسلامي” يمثل مقدمة في هذا الشأن؛ ذلك أنه ركز على التاريخ الوسيط ما بين تاريخ الطبقة الدنيا وتاريخ الطبقة العليا، وقدم تاريخ المؤسسات الاجتماعية أثناء الفترة المحيطة بالحملة الفرنسية وما قبلها وما بعدها.

تغول الدولة مع استنبات المفهوم الغربي!

    ومع عصر محمد علي بدأ استنبات مفهوم الدولة الغربي في العالم الإسلامي؛ ففي عام 1805 أُلغيت مؤسسة الحسبة إلغاء كاملا، ثم أُلغي المماليك كقوة اجتماعية، ثم ألغيت نقابة الأشراف كقوة اجتماعية أيضا، ثم ألغي شيوخ الطوائف، وألغيت هيئة العلماء، وطرد محمد علي الشيوخ إلى دمياط، وحدث نوعٌ من الاحتكار للسلطة في يد الدولة. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الدولة تتغول على المجتمع.

ففي عام 1812م تم وضع يد الدولة على جميع الأراضي الزراعية، حتى أصبحت الدولة تملك ملكية الرقبة، والفلاح يملك حق الانتفاع، ثم بدأ محمد علي في بناء الصناعة المصرية التي تملكها الدولة، وبدأ في بناء المدارس والكليات التي تملكها الدولة، وبدأ ينشئ كلية الطب والمستشفيات التي تملكها الدولة.

بتعبير آخر: بدأت تنشأ دولةٌ على شاكلة الدولة الغربية الرأسمالية التي تتحكم في المجتمع بدرجةٍ أو أخرى، وتطورت بعد ذلك إلى نموذج وصورة من الدولة مختلفة عن النمط المتوارث، تتبعها علاقة بين الدولة والمجتمع تختلف عن النمط المتوارث، وأصبح المجتمع ضعيفا والدولة قوية، حتى تحكمت الدولة في كل شيء، وخرجت عن نمط علاقتها السابقة بالمجتمع.

ومنذ ذلك الوقت بدأت الإشكالية التي نتكلم عليها الآن وهي إشكالية الطرح السياسي، أو أولوية المدخل السياسي للإصلاح أو اعتباره المدخل الوحيد. ومع هذا النمط من انقلاب العلاقة بدأت تظهر في المجتمع المسلم ظاهرة جديدة، وهي أن الدولة تعني القوة وتعني السلطة والسيطرة والتحكم؛ فأصبح المفهوم أو التعريف الإسلامي للسياسة غير ذي معنى؛ لأنها كانت عِلْمَ مصلحة وأصبحت علم قوة.

وبدأت بعد ذلك تظهر في المجتمع المسلم أنماط من الحركات والمنظمات هي نسخ وتقليد للحركات والمنظمات الغربية، سواء على مستوى الدولة أم على مستوى المجتمع؛ فالدولة تنقل المؤسسات الغربية كما هي، والمجتمع يفعل المسألة نفسها حين يحاول أن يقاوم هذا النقل بنقل ما يضاد هذه المؤسسات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق